الموضوع: إرادة الحياة
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 17-02-2011, 05:40 PM   #1
القعقاع بن عمرو
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Feb 2005
المشاركات: 990
إفتراضي إرادة الحياة


إرادة الحياة

(الشاعرالتونسي ابو القاسم الشابي)

إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ *** فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي *** وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ *** تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ *** مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
كَذلِكَ قَالَـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ *** وَحَدّثَنـي رُوحُـهَا المُسْتَتِر

وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ *** وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر

إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ *** رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ *** وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ *** يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
فَعَجَّتْ بِقَلْبِي دِمَاءُ الشَّبَـابِ*** وَضَجَّتْ بِصَدْرِي رِيَاحٌ أُخَر
وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ **** وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر

وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ *** : " أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"

"أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ *** وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ *** وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ *** وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ *** وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِي الرَّؤُوم *** لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ *** مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر!"
وفي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الخَرِيفِ *** مُثَقَّلَـةٍ بِالأََسَـى وَالضَّجَـر

سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ *** وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر

سَأَلْتُ الدُّجَى: هَلْ تُعِيدُ الْحَيَاةُ *** لِمَا أَذْبَلَتْـهُ رَبِيعَ العُمُـر؟
فَلَمْ تَتَكَلَّمْ شِفَـاهُ الظَّلامِ *** وَلَمْ تَتَرَنَّـمْ عَذَارَى السَّحَر
وَقَالَ لِيَ الْغَـابُ في رِقَّـةٍ *** مُحَبَّبـَةٍ مِثْلَ خَفْـقِ الْوَتَـر
يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَابِ *** شِتَاءُ الثُّلُوجِ ، شِتَاءُ الْمَطَـر
فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ *** وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر
وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ *** وَسِحْرُ الْمُرُوجِ الشَّهِيّ العَطِر
وَتَهْوِي الْغُصُونُ وَأَوْرَاقُـهَا *** وَأَزْهَـارُ عَهْدٍ حَبِيبٍ نَضِـر
وَتَلْهُو بِهَا الرِّيحُ في كُلِّ وَادٍ *** وَيَدْفنُـهَا السَّيْـلُ أنَّى عَـبَر
وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ *** تَأَلَّـقَ في مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر
وَتَبْقَى البُـذُورُ التي حُمِّلَـتْ *** ذَخِيـرَةَ عُمْرٍ جَمِـيلٍ غَـبَر
وَذِكْرَى فُصُول ٍ ، وَرُؤْيَا حَيَاةٍ *** وَأَشْبَاح دُنْيَا تَلاشَتْ زُمَـر
مُعَانِقَـةً وَهْيَ تَحْـتَ الضَّبَابِ *** وَتَحْتَ الثُّلُوجِ وَتَحْـتَ الْمَدَر
لَطِيفَ الحَيَـاةِ الذي لا يُمَـلُّ *** وَقَلْبَ الرَّبِيعِ الشَّذِيِّ الخَضِر
وَحَالِمَـةً بِأَغَـانِـي الطُّيُـوَر *** عِطْرِ الزُّهُورِ وَطَعْمِ الثَّمَـر

"ويًَمشيْ الزَّمانُ، فتنموْ صُروفٌ *** وتذْوي صُروفٌ، وتحْيا أُخَر

وتُصبحُ أحلامُها يَقْظةً، *** مُوَشَّحةً بغُموضِ السَّحر
تُسائِلُ: أينَ ضَبابُ الصَّباحِ، *** وَسِحْرُ المساءِ؟ وضوْئُ القَمر؟
وَأسْرابُ ذاكَ الفَراشِ الأنيقِ؟ *** ونَحْلٌ يُغَنيْ، وغَيمٌ يَمُرّ
وأينَ الأشِعَّةُ والكائِناتُ؟ *** وأينَ الحياةُ الَّتي أنْتظِر
ظمِئتُ إلى النُّور، فوقَ الغُصونِ! *** ظمِئتُ إلى الظِلِّ تحْتَ الشَّجر!
ظَمِئتُ إلى النَّبْعِ، بَيْنَ المُروجِ *** يُغَنّين ويّرْقُصُ فَوْقَ الزّهَر!
ظَمِئتُ إلى نَغَمَتِ الطُّيورِ، *** وهَمسِ النَّسيم، ولَحْنِ المَطر!
ظَمِئتُ إلى الكونِ! أيْنَ الوُجودُ *** وأنَّي أرَى العالَمَ المنتظر
هو الكَوْنُ، خَلْفَ سُباتِ الجُمود *** وفي أثفُقِ اليَقَظاتِ الكُبَر"

وَمَا هُـوَ إِلاَّ كَخَفْـقِ الجَنَاحِ *** حَتَّـى نَمَا شَوْقُـهَا وَانْتَصَـر

فصدّعت الأرض من فوقـها *** وأبصرت الكون عذب الصور
وجـاءَ الربيـعُ بأنغامـه *** وأحلامـهِ وصِبـاهُ العطِـر
وقبلّـها قبـلاً في الشفـاه *** تعيد الشباب الذي قد غبـر
وقالَ لَهَا : قد مُنحـتِ الحياةَ *** وخُلّدتِ في نسلكِ الْمُدّخـر
وباركـكِ النـورُ فاستقبـلي *** شبابَ الحياةِ وخصبَ العُمر
ومن تعبـدُ النـورَ أحلامـهُ *** يباركهُ النـورُ أنّـى ظَهر
إليك الفضاء ، إليك الضيـاء *** إليك الثرى الحالِمِ الْمُزْدَهِر
إليك الجمال الذي لا يبيـد *** إليك الوجود الرحيب النضر
فميدي كما شئتِ فوق الحقول *** بِحلو الثمار وغـض الزهـر
وناجي النسيم وناجي الغيـوم *** وناجي النجوم وناجي القمـر
وناجـي الحيـاة وأشواقـها *** وفتنـة هذا الوجـود الأغـر

وشف الدجى عن جمال عميقٍ *** يشب الخيـال ويذكي الفكر

ومُدَّ عَلَى الْكَوْنِ سِحْرٌ غَرِيبٌ *** يُصَـرِّفُهُ سَـاحِـرٌ مُقْـتَدِر
وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء *** وَضَاعَ البَخُورُ ، بَخُورُ الزَّهَر
وَرَفْرَفَ رُوحٌ غَرِيبُ الجَمَالِ *** بِأَجْنِحَـةٍ مِنْ ضِيَاءِ الْقَمَـر
وَرَنَّ نَشِيدُ الْحَيَاةِ الْمُقَـدَّسِ *** في هَيْكَـلٍ حَالِمٍ قَدْ سُـحِر
وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ *** لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ *** فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ

القعقاع بن عمرو غير متصل   الرد مع إقتباس