عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 21-11-2006, 11:53 AM   #36
محمد العاني
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,538
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
صدق الله العظيم
من سورة المائدة الآية (32)

بعد احتلال بغداد بعدّة أيام، بدأت الأسواق تُفتح من جديد و محلات الخدمات و المخابز كذلك. حيث أن الناس بدأوا يُحسون شعوراً كاذباً بأن أسوأ ما يُمكن أن يحدث قد حدث فعلاً في أيام المعارك الضارية و انتهت أيام المُعاناة.
خرجتُ يوماً من البيت لأذهب إلى الأسواق القريبة من بيتنا لشراء بعض الحاجيات. و في طريقي مررت على صديقٍ لي يعمل في محل حلاقةٍ لأسلم عليه لأنني لم أره منذ بدء الحرب، فإذا بي أرى جنوداً أمريكيين يجلسون في محل الحلاقة ينتظرون دورهم في الحلاقة...!!!
كانت تعليمات القيادة الأمريكية واضحةً مع القوات الأمريكية و خصوصاً "الشرطة العسكرية" و ليس المارينز هو بتشكيل صداقاتٍ مع الناس و تقديم أنفسهم كمحررين منقذين للبلد. كان الأطفال يجلسون بجانب الأمريكان في محل الحلاقة و يلمسونهم ليتأكدوا أنهم كائنات أرضية و ليسوا كائنات فضائية.
بعد ذلك في طريق عودتي إلى البيت مررت بالمخبز الذي يقع وراء بيتنا مباشرةً فوجدتُ سيارة للقوات الأمريكية واقفة أمام المخبز و أحد الجنود واقفاً في الطابور بانتظار دوره لشراء الخبز العراقي. يالَبرائتهم..
إذا كانت بغداد قد احتُلّت فإننا لم نعلم بعدُ من مات و من لم يمُت في هذه الحرب. فكنت كلّما أسمع صوت الباب ارتعش رعباً لأنني أكاد اوقن أنه قد أتى بخبر سئ عن شخصٍ عزيز أو صديق مقرّب. و كذلك كان..
جاء أحد أصدقائي إلى بيتنا وهو يبكي..تسارعت دقّات قلبي و جفّ حلقي و لم أستطع الحِراك..لم أستطع أن أفعل شيئاً غير أن أقول كلمة واحدة:"مَـن؟؟". فأجابني صاحبي وهو يُكفكفُ دموعه إنه "هشام" صديقنا منذ ايام المدرسة الثانوية..!!
أن ترى الكثير من الناس يموتون أمامك هو أمرٌ مُرعب..و أكثر رُعباً منه أن ترى أناساً بعمرك يموتون. فذلك يجعلك تُدرك أنه كان من الممكن أن تكون أنت.
هشام (رحمة الله عليه) كان من ألطف و أرقى الناس الذين مرّوا علي بحياتي حتّى هذه اللحظة. كان قد تخرّج من الجامعة مُهندساً مدنيّاً و بدأ بإكمال دراسة الماجستير قبل الحرب بستة شهور. و كان قد خطب بنتاً معه في الجامعة و كان ينوي الزواج بها بعد أن يُكمل الماجستير..إلا أنه لم يُكمل الماجستير و لم يتزوج..يا تُرى لماذا؟؟
لأنه كان و أبوه و أخوه في سيارتهم في طريقٍ يُسمى شارع الزيتون و هو أحد الشوارع الذي يرتبط بمجمع القصور الرئاسية (المسماة حالياً المنطقة الخضراء). مرّوا في هذا الشارع بنفس الوقت الذي حدث فيه الإنزال الأمريكي على مجمع القصور الرئاسية. و إحدى دبابات الأمريكان ضربت قذيفة على سيارتهم إلا أن القذيفة أخطأت السيارة و انفجرت بجانبها، فجُرح هشام و السيارة لم تعد تعمل..فنزل ابوه و اخوه من السيارة و هم يصيحون به لينزل من السيارة و يركض وراءهم إلى الأشجار المُجانبة للشارع..إلا أن إصابته و انفجار القذيفة بجانب الباب الذي بجانبه حال دون فتح الباب و نزوله قبل أن يُقرر جُندي أمريكي أن يُطلق النار عليه من سلاح "البيكيتا" الموحود فوق إحدى المدرعات الأمريكية ليُمزّق جسده بعددٍ هائلٍ من الإطلاقات و أبوه على بُعد عدّة أمتارٍ منه لا يستطيع أن يفعل شيئاً.
لم يستطع أبو هشام و أخوه من أن يأخذوا جثته من السيارة إلى بعد خمسة أيام. ذلك بسبب الحرب الضارية التي نشبت في تلك المنطقة. فظلّ جسد صديقي في السيارة التي صارت فيها ثقوب الإطلاقات أكثر من الثقوب في قلبي..

كانت أم هشام و أخته خارج بغداد في أحد بيوت اقاربهم و لم يُخبرهم أبو هشام بما حدث لهشام. و عادوا إلى بيتهم في بغداد في نفس اليوم الذي ذهبنا فيه أنا وصاحبي لنُعزّي أبي هشامٍ و أخوه...
ولا كلمات تستطيع أن تصف ما يحدث للأم عندما تعلم أن ابنها البكر قد قُتل..و بتلك الطريقة الوحشية.
__________________
متى الحقائب تهوي من أيادينا
وتستدلّ على نور ليالينا؟

متى الوجوه تلاقي مَن يعانقها
ممن تبقّى سليماً من أهالينا؟

متى المصابيح تضحك في شوارعنا
ونحضر العيد عيداً في أراضينا؟

متى يغادر داء الرعب صبيتنا
ومن التناحر ربّ الكون يشفينا؟

متى الوصول فقد ضلت مراكبنا
وقد صدئنا وما بانت مراسينا؟
محمد العاني غير متصل   الرد مع إقتباس