عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 03-01-2009, 08:18 PM   #9
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

ودار الفلك دورته..وجاء حزيران آخر ….ليشهد انتصارنا، بعد أن شهد انكسارنا.

ففي 20 حزيران من عام 1268 تبدل الحال في الوطن العربي. فلم يكن على مسرح الأحداث ملك دمشق، وملك حلب، وأمير الموصل، وأمير حماة، وأمير أنطاكية، ولا الخليفة في بغداد ، ولا الخليفة في القاهرة…..لم يبق هؤلاء، وإنما جاء رجل واحد، هو الظاهر بيبرس، وقاد الأمة العربية من جديد.
وسجل التاريخ في ذلك اليوم أن أنطاكية قد سقطت على يد العرب فقتل من أهلها وحاميتها ستة عشر ألفا، وسبي ما يبلغ ماية ألف، بيع بعضهم في أسواق مصر، "وغنم العرب أموالا طائلة، وأحرقت أنطاكية وقلعتها، ولم تنهض المدينة بعد ذلك".
ومن العبارات الحلوة التي تركها لنا التاريخ عن سقوط أنطاكية بيد الظاهر بيبرس أنه بلغ من كثرة الغنائم والأسرى "أن قسمت النقود بالطاسات، وأنه لم يبق غلام إلا وله غلام .

وفي الثلاثين من شهر تموز، عاد البطل بيبرس إلى القاهرة، بعد هذا النصر المؤزر، عودة وادعة متواضعة من غير أن تعج بأقواس النصر أو تضج بالمواكب والهتافات، ليقول التاريخ إن الظاهر بيبرس "قد حمل عن الناس كلفة الزينة".

الوضع الآن كالتالى :
خلافة عباسية في بغداد، وخلافة فاطمية في القاهرة، وإمارات عربية شتي في ديار الشام، ومعهم السلاجقة الأتراك المسلمون، وهؤلاء بدورهم انقسموا على أنفسهم، وأصبحوا يعرفون بسلاجقة الروم وسلاجقة فارس .
وفي تلك الحقبة التعيسة، كان الإفرنج، قد احتلوا أنطاكية. وما أن فرغوا من قتل أهلها، وتدمير قلاعها، ونهب ذخائرها وأموالها، حتى شب الخلاف بين أمراء الإفرنج، لمن تكون أنطاكية من يحكمها، ومن يكون أميرها….هل يكون بوهيموند، أم ريموند ؟

واشتد الخلاف بين أمراء الإفرنج الطامعين…ووصلت أصواتهم إلى الخليفتين في بغداد والقاهرة، والى الملوك والأمراء في حلب ودمشق والموصل وغيرها من ديار الشام والعراق، ولكنهم "تقاعدوا عن الجهاد"، كما قال مؤرخو العرب، كما سيقولون بعد جيل أو جيلين، عن حكام العرب في القرن الواحد والعشرين ..

وبدأ زحف الإفرنج، في تلك الأيام الماطرة العاصفة، يستهدف بيت المقدس، وكان عليه أن يجتاز بقية أرض الشام أولا، قبل أن يصل إلى فلسطين، خاتمة الزحف والمطاف.
والمواطن العربي يعرف هذه الأجزاء من الوطن العربي، مدينة مدينة، وقرية قرية، سواء كان مقيما فيها أو زائرا إليها، أو دارسا عنها، ولا بد أن يثيره العجب والغضب كيف سار زحف الإفرنج خلال البلاد (لبنان وفلسطين) في يسر وسهولة، كأن الأمر نزهة سياحية أكثر منها غزوة استعمارية!!

وفي 23 أيار تجاوز الإفرنج صرفند وصور، وهما آخر المدن اللبنانية جنوبا، إلى أن وصلوا إلى عكا، القلعة التاريخية الشهيرة، فاستسلمت لهم من غير قتال.
وفي 26 أيار واصل الإفرنج زحفهم واحتلوا حيفا وارسوف ثم قيسارية.
وفي أول حزيران، احتل الإفرنج الرملة واللد- وهنا اجتمع أمراء الإفرنج في مجلس حربي ليتشاوروا في أمر الزحف على بيت المقدس…الهدف الذي تطلعت إليه أوروبا منذ خطب البابا أربانوس، في كلرمنت بفرنسا داعيا إلى غزو الديار المقدسة.

والى هنا فقد انتهت النزهة السياحية التي بدأت من اللاذقية في سوريا، إلى الرملة في أواسط فلسطين، رحلة استغرقت خمسة أشهر, ولم تتجاوز أصابع اليد، كما يقول عامة الناس الذين لا يجمعون ولا يطرحون!

وقد يعجب المواطن العربي كيف استطاع الإفرنج أن يحققوا تلك الانتصارات في مدة وجيزة، ومن غير مقاومة تذكر، وكأنما خلت البلاد من أهلها وحُماتها، أو كأنما الأمة العربية التي وصلت إلى إسبانيا وفرنسا، قبل قرنين، قد اندثرت أو حجبت، وأصبحت أثراً بعد عين!

ولكن التاريخ، أبو العظات والعبر، يؤكد ولا يمل أن يؤكد، أن عوامل التجزئة والانقسام والخيانة كانت السبب الأول والأخير في سقوط الوطن العربي بهذه السرعة، مدينة بعد مدينة، وقلعة بعد قلعة.
ونحن لو شئنا التحديد، لقلنا والتاريخ معنا يقول، أن الخلفاء والملوك والأمراء هم الذين ألحقوا بالأمة العربية تلك الهزيمة النكراء، وما جلبت على الوطن العربي من خراب ودمار، وذل وعار.

غير أنه من واجب الإنصاف للأمة العربية الماجدة، على صعيد جماهيرها وشعوبها، أن نستذكر بكل إباء وشمم، أن المقاومة العربية للإفرنج كانت ضارية وباسلة حيث كانت تتيسر لها أسباب المقاومة…. ذلك أن الإنسان العربي مقاتل من الطراز الأول حينما يجد السلاح بين يديه، وحين تتهيأ له الفرصة المواتية….
والتاريخ يشهد، وهو خير شاهد، أن وقعات كثيرة شجاعة نشبت بين الشعب العربي والإفرنج، من أنطاكية في شمال الشام إلى الرملة في قلب فلسطين، وتكبد الإفرنج خلالها خسائر فادحة في الرجال والعتاد والأموال. وكان من نتيجة ذلك أن عاد كثير من الإفرنج إلى ديارهم، وفقد كثيرون آخرون عزمهم وحماسهم.
ومن هذه الوقعات الشهيرة أن أهل "عرقة" ، وهي مدينة صغيرة تقع شمال طرابلس قد صمدت أمام هجمات الإفرنج صمودا رائعا، فقد استبسل أهلها في الدفاع عنها وصمدوا أمام جموع الإفرنج، على غير تكافؤ في العَدد والعِدد، رغم ما حصل عليه الإفرنج من الخيرات الوفيرة في إقليم طرابلس ، وما وصل إليهم من التموين عن طريق البحر. ولم يسع الإفرنج إلا أن يفكوا الحصار عنها، وأن يستأنفوا زحفهم إلى أواسط فلسطين، وبقيت عرقة ثابتة صامدة .

ومن المواقف الرائعة، أن أهل حلب قد استماتوا في الدفاع عن مدينتهم العريقة .. و تلك الوقفة الرائعة التي وقفتها معرة النعمان حين أحاط الإفرنج بها من كل جانب، وهب أهلها للدفاع عنها بكل ما ملكت أيديهم، ولم يستطيع الإفرنج اقتحامها إلا على جثث الآلاف من المقاتلين البواسل .. وليس لنا أن ننسى وقعة جريئة أخرى قام بها أهل صيدا، فقد تعرضوا لقوات الإفرنج وهي في طريقها إلى فلسطين، وأنزلوا بها خسائر فادحة، كما تحمل أهل صيدا أضراراًَ كبيرة في مزارعهم وبساتينهم.

وكان البيت الفاطمي ذروه الخيانه العربيه الاسلامية في تلك الحقبة من الزمان…..فالخليفة الفاطمي الذي ينتسب إلى الرسول العظيم، وهو صاحب الدعوة الرفيعة إلى الجهاد، كان "متقاعدا عن الجهاد" حسب تعبير جميع المؤرخين المسلمين الذين تركوا لنا هذا التعبير الشاجب الغاضب .

هذا مع أن قوات الإفرنج التي كانت تتصدى للمدن العربية في بعض الغزوات، لم تكن تتجاوز في تقدير المؤرخين الغربيين، ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة ويا لخزي الخلفاء والأمراء والملوك والرؤساء.
لقد انتصر الإفرنج في نزهة سياحية من اللاذقية إلى الرملة، في بضعة أشهر، في عهد ملوك متخاذلين، وأمراء متقاعدين، وخلفاء متقاعسين. وانتصرت إسرائيل، في ما يشبه النزهة السياحية، وفي أيام معدودات، في أعوام 1948، 1956، 1967 ,وفي عهد ملوك متقاعدين ورؤساء متقاعسين، وبهذا يبدو جليا أن الأسباب هي الأسباب، مع اختلاف في الأسماء والألقاب…

وما أشبه الليلة بالبارحة..
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس