عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 10-08-2007, 11:09 PM   #107
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

إخضاع المخزون المعرفي لنظم تتدخل في أداء العقل

لا يستطيع كائن من كان أن يحكم على المستوى العقلي لشعب وفق حالة سياسية معينة أو حالة تقنية تتعلق بكمية براءات الاختراع التي يسجلها أبناء ذلك الشعب أو الأمة، أو كمية الكتب ورسائل الأبحاث التي تُنسب الى أبناء تلك الأمة أو الشعب، فالأسود والأفيال تلغي كثيرا من خصائصها الطبيعية عندما تخضع لإرادات مدربيها في (سيرك)، أو عندما تعيش في حدائق للكسب السياحي والتجاري عليها ..

ولو تساوت الظروف السياسية والمدنية لكل شعوب الأرض، لكانت الأحكام المطلقة على الحالة العقلية لتلك الشعوب والأمم مختلفة عما هي سائدة عليه الآن، ولكانت فرص الإنتاج التقني والعلمي والحضاري، مختلفة عما هي عليه. ولكن سيبرز هنا تساؤل هو ما الذي يمنع تلك الشعوب والأمم من أن تنتزع فرصتها التي تأخذ بها دورها في النشاط الحضاري بكل أشكاله، أليس للمستوى العقلي العام لأفراد تلك الشعوب والأمم دور فيما هي عليه؟ وهو تساؤل وجيه ومهم في نفس الوقت .. واكتسابه وجاهته آتية من إعطاء الحالة المدنية باعتبارها مؤشرا للنشاط الكلي لعموم أفراد الشعب وما ينتج عنه من هياكل تنظم عطاء ذلك الشعب بما فيها مؤسسات الدولة والمجتمع المدني .. واكتسابه أهميته قادمة من أنه فيما لو تم حل هذا اللغز سنقترب حينها من التمهيد للدخول في الكيفية التي سيقوم بها العقل (الكلي) للشعب في أدائه للخروج مما هو فيه من حالة مترهلة مقززة، تثير سخرية من هم خارج هذه الأمة، وتجعل أبناء الأمة أنفسهم يحسون بانعدام وزنهم وعبثية دورهم العالمي..

يحاول بعض المفكرين العرب الإجابة عن تلك التساؤلات، بإرجاعها للنظم المعرفية التي تكون بمثابة رافعة تحمل ما يعرض عليها لتدخله لمختبر يحدد نوعية المعروض وصنفه وكيفية التعامل معه.. وهذه المسألة كونها تقبل الخضوع الى انتسابها لأمة أو شعب، فهي تقبل الخضوع ـ بكل تأكيد ـ لتطبيقها على الأفراد، حيث يطرح كل فرد يوميا كميات هائلة من الأسئلة على نفسه: هل أصمت .. هل أتكلم .. هل أقبل .. هل أشتري .. هل أبيع .. هل أهاجر .. هل أنتحر .. هل وهل .. ثم يتخذ ما يراه مناسبا وفق الإجابات التي يضعها لنفسه، وفق ما قاس عليه من مواقف متشابهة ..

أما في الأمة والشعب ذي الحضارة، فإن التناوب بالأجوبة على الأسئلة قد وصل من خلال ما تبقى من تراث مكتوب أو متناقل بين النخب الثقافية والسياسية والدينية والعلمية .. حقا، أن ليس هناك علما مطلقا، أو رأيا مطلقا، أو موقفا نهائيا في أي مسألة من تلك المسائل، فلا النظريات السياسية في العالم قد توقفت عند حد، ولا النظريات العلمية في العالم قد توقفت عند حد، فكل يوم نرى أجيالا جديدة من أصناف العلاجات البشرية وأجيالا من أجهزة الحاسوب والطائرات والآلات الخ .. كما كل يوم نرى مجتهدا في تفسير القرآن وتأويل الأحاديث، وتفسير العلمانية والاشتراكية والديمقراطية، يختلف مع من سبقه من مفسرين ولكنه يؤسس خلافه على ما قبله، يجاوره ولا يعاديه يرتكز عليه ويدعي أنه متفوق عليه ..

كل هذا يحصل وفق نظم معرفية ثلاث كما ركز عليها الفيلسوف محمد عابد الجابري، ( العرفاني والبياني والبرهاني) .. ونسب النظام العرفاني لشعوب شرق آسيا من الهند والصين واليابان وغيرها، والتي مفادها بأن هناك علاقة خفية بين ما يقوم به الإنسان مع السلطة والقوة الخفية للأبراج والكواكب، ولا زالت الصين تسمي العقود والسنوات والقرون بأسماء تلك الأبراج والكواكب، فهذا عقد العقرب وهذا عقد القوس وهذه السنة الفلانية الخ ..علما بأن النظام الرسمي للدولة يفترض أن ينتمي لبيئة مادية شيوعية، لا تعطي وزنا لمثل هذا الكلام!

أما النظام البرهاني الذي يسير عليه الغرب (بشكل عام) فيطلق العنان للخيال العلمي وما يرتبط به من نمو رياضي في تتابع الجدلية الحياتية، فتنعكس تلك المحاكمة على الأداء الفلسفي منذ بدايات وجوده قبل حوالي 25 قرنا، ثم ينعكس على طبيعة الأبنية والاختراعات فنمط أبنية الكاتدرائيات والكنائس وما يتعلق بها من إضافات شاهقة. تتناغم مع نمط ناطحات السحاب الحالية .. كذلك كان النشاط العلمي يصب في نفس الاتجاه فاختراع التلفون و بحوث الفضاء تنسجم مع هذا النظام المعرفي، ولم تقف نوعية الديانة أو الإلحاد عائقا أمام تلك الأنشطة، فتشابهت عند الروس والأوربيين الغربيين والأمريكان بغض النظر عن الانتماء الطائفي (أرثوذكس، بروتستانت، كاثوليك) ..

في حين كان النظام المعرفي البياني، وهو النظام السائد عند العرب (المسلمين) منهم بالذات، والذي لم يلتزم به المسلمون الآخرون من غير العرب، قوامه اللغة والفقه .. فقد غطى هذا النظام معظم أنشطة العقل العربي سواء من العرب أو من المسلمين من غير العرب الذين كانوا ينتهجون نفس منهج العرب المسلمين في التعاطي مع أنشطة العقل المختلفة .. فعالم الفلك وعالم الطب والرياضيات والحديث و التاريخ والفلسفة، لن يتخلوا عن الالتزام بهذا النهج (البياني) إطلاقا، فهم إن تحدثوا عن سبب من أسباب الأمراض، لن ينسوا تدخل الله عز وجل في تقدير ذلك السبب، وإن كانوا في صدد تقييم رسالة دكتوراه، فقد تسقط تلك الرسالة إن لم تكن متقنة من حيث اللغة، حتى في عصرنا الحديث .. فكان تلازم الفقه واللغة من مميزات النظام المعرفي البياني ..

ولو تعرض أحد أبناء الأمة العربية في عصرنا الحاضر، لطارئ مرضي أو جنائي، فإن أي مراقب متوسط الثقافة سيلاحظ بسهولة تداخل الأنظمة المعرفية الثلاثة على سلوكه وتعاطيه مع الموقف الذي يتعرض له .. فالمريض يذهب لأخصائي (طبيب) ويعرض حالته عليه، وهي حالة تلتقي مع نتاج النظام البرهاني. فإن لم يستفد من تكراره لمراجعاته، فإنه لن يتوانى عن مراجعة شيخ يقرأ عليه بعض الأوراد أو الآيات أو غيرها ، ويطمئنه بأن العمر محدود وأن المرض هو ابتلاء يتعرض إليه المؤمن لامتحان إيمانه من خلال صبره، وهو نشاط ينتمي للنظام المعرفي البياني. ولكن هناك من يذهب الى عراف يعلم بالسحر والفلك والنجوم ودورها بالتأثير على ما في داخل المرء من مرض وغيره، ومن يقلب محطات التلفزيون سيجد من بين مائة محطة أربع أو خمس محطات تتعامل مع الأبراج، وتنصح السائلين بالسفر أو إلغائه أو تأجيله، كما تنصح بإلغاء مشروع اقتصادي أحيانا! .. وهذا يتعلق بالنظام المعرفي العرفاني.

نحن أمة متوسطة، اختلطنا بكثير من أبناء الأمم وتثاقفنا معهم وتبادلنا الكثير من معارفهم فاختلطت معارفنا ونظمنا المعرفية مع الكثير من الأمم .. فلذلك لا غرابة أن ترتج رؤانا ويرتج عطاؤنا العقلي ويتصف بعدم الثبات ويصعب تصنيفه من خلال ما يُطرح من نشاطات عقلية مختلفة .. وكوننا في حالة من عدم الثبات وفي حالة من التراجع الحضاري والانكسار النفسي .. فلا شك أن المطالبة بالعودة الى الالتزام بالنظام المعرفي البياني هي التي ستطفو على السطح بعد كل حالة انكسار .. وستكون المقالات أو الردود على المقالات أو التحليل السياسي أو التحليل الاقتصادي والاجتماعي متسمة في أغلب الأحيان بسمة المطالبة بالعودة للالتزام بالنظام المعرفي البياني ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس