عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 10-01-2009, 04:58 AM   #104
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

أَيْ بنيّ إنّ نسيم الدنيا وروح الحياة أفضل من أن تبيت كظيظا] - البخلاء للجاحظ.

[أَيْ بُنَيّ]: أيْ: إحدى أدوات النداء. وقد استعملها الأب في ندائه لابنه وهو يوصيه، ومن الطبيعي إذاً، أنْ يكون النداء بها في هذه الحال للقريب. على أنّنا ذكرنا أنّ سيبويه أجاز استعمال أدوات النداء، ما عدا الهمزة، للبعيد والقريب.

· قال صاحب الزنج يخاطب حرفة التعليم، ويدعو عليها، وكان في أوّل أمره معلّماً:

أيا حِرْفَةَ الزَّمْنَى(16) أَلَمَّ بكِ الرَّدَى أَما لي خلاصٌ منكِ والشَّمْلُ جامِعُ؟

[أيا حرفةَ الزَّمنى]: استعمل من أدوات النداء: [أيا]، وأتى بالمنادى: [حرفة...] منصوباً. وذلك أنّ المنادى يُنصَب إذا كان بعده مضاف إليه، والمضاف إليه هنا هو: [الزمنى]. فالنصب إذاً على المنهاج.

· ودونك مثالاً آخر يطابق استعمالَ صاحب الزنج، مطابقةً تامّةً، وهو قول المجنون:

أيا حَرَجات الحيّ حيث تحمّلوا بذي سَلَمٍ، لا جادكنّ ربيعُ

فقد دعا على حرجات الحيّ!! كما دعا صاحب الزنج على حرفة التعليم!! واستعمل من أدوات النداء: [أيا]، وأتى بالمنادى: [حرجاتِ] منصوباً (جمع مؤنث سالم ينصب بالكسرة) على المنهاج، وذلك أنّ المنادى يُنصَب إذا كان بعده مضاف إليه، وهو هنا: [الحيّ].

· قال أرطاة بن سُهَيَّة: (الحيوان 3/391)

أَزُمَيْلُ، إني إنْ أكن لك جازياً أَعْكِرْ عليك، وإنْ ترُحْ لا تَسبِقِ

إنّي امرؤٌ تجد الرجالُ عَداوتي وَجْدَ الرِّكابِ من الذُّبابِ الأزْرَقِ

[أَزمَيْلُ]: أداة النداء هنا الهمزة. ومن المجمع عليه أنها لنداء القريب. ولكننا لا نراها في البيت إلاّ للبعيد البعيد. وذلك أنّ المقام هنا مقام تهديد ووعيد، وشعرُ التهديد والوعيد، لا يكون بين خصمين إلاّ وبينهما من البعد مسافة نفسية ومكانية، لا يصحّ وصفها بالقرب. فتأمّل!!

وقد ضمَّ الشاعر آخر المنادى: [زُمَيلُ]، على المنهاج. وذلك أنه علم مفرد، والعلم المفرد إذا نادته العرب، ضمّتْ آخره.

· قال تعالى: ]يا عبادِ فاتّقون[ (الزمر 39/16)، وقال: ]يا عبادِيَ الذين أسرفوا[ (الزمر 39/53)

أداة النداء في الآيتين هي هي: [يا]، والمنادى فيهما هو هو. ولكن حُذفت ياء المتكلم من المنادى الأول، فقيل: [يا عبادِ]، وثَبتتْ في المنادى الثاني مفتوحةً، فقيل: [يا عبادِيَ]، فدلّ هذان الشاهدان على جواز الوجهين.

هذا، على أنّ من القراءات القرآنية ما تُسَكَّن الياء فيه هنا، فيتحصّل من ذلك جواز وجوه ثلاثة: [عبادِ - عباديَ - عباديْ].

والقاعدة: أنّ الاسم الصحيح الآخر، إذا كان مختوماً بياء المتكلِّم، جاز فيه وجوه، منها: حذفُ الياء والاكتفاءُ بكسر ما قبلها، وإثباتُها مفتوحةً، وإثباتها ساكنةً. فيقال مثلاً: [يا أصدقاءِ - يا أصدقائيَ - يا أصدقائيْ]. وقد اجتزأنا في البحث بهذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها هنا، وإنْ كان في اللغة وجوهٌ أخرى، منها على سبيل المثال قلب الياء ألفاً، وشاهده قوله تعالى: ]يا حسرتا على ما فرّطتُ في جَنْب الله[ (الزمر 39/56)، على أنّ الأصل: [يا حسرتِي].

· ]يا جبالُ أَوِّبِي معه والطير[ (سبأ 34/10)

في الآية مسألتان، هما:

1- [يا جبال]: منادى: مضموم الآخر، على المنهاج في النداء. وذلك أنّ العربي يضمّ آخر المنادى، إذا قصد منادىً معيّناً (نكرة مقصودة).

وقد يسأل سائل: كيف تكون كلمة [جبال] منادى معيّناً، والنداء موجّه إلى الجبال كلّها، لا جبل منها دون جبل؟

ونجيب: الله تعالى قادر على أن ينادي الجبال والسهول والبحار... فيأمرها أنْ تؤوِّب (أي: تُرجِّع التسبيح)، ولكنْ لما كان المراد هاهنا توجيه النداء إلى الجبال خصوصاً (لأسباب بلاغية)، دون كل ما في الطبيعة من مناديات، عومِلت معاملة المقصود بالنداء، (نكرة مقصودة).

2- [والطير]: الواو هنا حرف عطف، و[الطير] لها قراءتان: ضمُّ الآخر وفتحه [الطيرَُ]. وقراءة الضم هي ما نبتغيه هنا، وبها قرأ يعقوب وعبيد بن عمير والأعرج وآخرون كثيرون(17). وينطبق عليها قولُنا في البحث: [قدّرْ قبل التابع (يا) محذوفة]. فكأنك تقول هنا: [يا جبالُ أوّبي معه، ويا أيتها الطيرُ أوّبي معه أيضاً]. وإنما سُبِق المنادى بـ[أيتها]لأنّ الاسم المحلى بـ[ألـ]إذا نودِيَ، أُتِي قبله بـ[أيها أو أيتها] حُكْماً.

· ]قال ابنَ أمَّ إنّ القوم استضعفوني[ (الأعراف 7/150)

في الآية مسألتان: الأولى حذف أداة النداء، إذ الأصل: [يا ابن أُمَّ]. وحذف أدوات النداء جائز استغناءً، كما يقول سيبويه. والمسألة الثانية: لا تتعلق بالمنادى نفسه، أي: [ابن]، وإنما تتعلق بما بعده، أي: تتعلق بالمضاف إليه، وهو كلمةُ [أُمّ]. وذلك أنّ نداء ابن الأمّ (الأخ) يجوز فيه وجوه: [يا ابنَ أُمَّ - يا ابن أُمِّ - يا ابنَ أُمّيْ]. وفتح الميم في الآية، وجهٌ منها. وقد ورد الوجه الثاني في آية أخرى هي: ]يا ابنَ أمِّ لا تأخذ بلحيتي[ (طه 20/94) حيث جاءت الكلمة فيها مكسورة الميم، فدلَّ هذان الشاهدان على جواز الوجهين. لكنْ يجوز في اللغة وجه ثالث أيضاً - وإنْ كان قليل الورود - وهو: [يا ابنَ أُمّيْ]. ومنه قول أبي زبيد الطائي، يرثي أخاه (الكتاب - هارون 2/213):

يا ابنَ أُمّيْ، ويا شُقَيِّقَ نفسي أنتَ خلَّفتني لدهرٍ شديدِ

ومن المفيد أن نذكّر هنا، بأنّ حكم [ابن الأمّ وابنة الأمّ وابن العمّ وابنة العمّ] في النداء سواء، وأنّ كل ما يجوز في نداء الأول منها، يجوز في الثلاثة الأخرى.

· قال زهير بن أبي سلمى (الديوان /180):

يا حارِ لا أُرْمَيَنْ منكم بداهيةٍ لم يَلْقَها سُوقةٌ قَبْلي ولا مَلِكُ

[حارِ]: منادى رخّمه الشاعر فحذف حرفه الأخير، والأصل قبل الترخيم: [يا حارثُ]. ومتى رخّمتَ فحذَفت، جاز لك وجهان:

الأوّل: أن تضمّ آخر المرخّم، كما كنت تضمّ آخره قبل ترخيمه، فتقول هنا: [يا حارُ] كأن حرف الراء هو آخر الكلمة، وأنك لا تنتظر مجيء الثاء بعده.

والوجه الثاني: أن تنطق آخره، كما كنت تنطقه قبل ترخيمه فتقول: [يا حارِ] كأنك تنتظر مجيء الثاء من كلمة [حارِث]. وقد اختار الشاعر - كما رأيتَ - الوجه الثاني.

ومن ذلك أيضاً قول امرئ القيس، وقد استعمل في النداء الهمزة فقال:

[أَحارِ ترى برقاً أُريكَ وميضَهُ]

فقد رخَّم كلمة [حارِث] كما رخمها الشاعر في البيت السابق، ونطق آخرها كما كانت تُنطَق قبل الترخيم (الديوان /24).

· قال امرؤ القيس (الديوان /12):

أفاطمُ مهلاً، بعضَ هذا التدلُّلِ وإنْ كنتِ قد أزمعتِ صَرْمِي فأَجْمِلي

[أفاطمُ]: في ندائه فاطمةَ مسألتان، الأولى: أنه استعمل الهمزة. والهمزة لنداء القريب. ويعرو النفسَ شيء من الإنكار، أن تكون فاطمة هجرته أو كادت، وأزمعت صرمه أو كادت، ثم تكون قريبة منه، بحيث تخاطَب بما تخاطَب به المُحِبَّةُ المصافية المُدانية. وكتب الصناعة تدافع عن رأيها في هذا القرب البعيد!! بأنه قربٌ نفسيّ، فتُسكتك ولا تُقنعك.

والمسألة الثانية: أن الشاعر رخّم كلمة [فاطمة]، فحذَفَ تاءَ التأنيث فقال: [فاطم]، وجواز حذف هذه التاء من آخر كلّ اسمٍ يراد ترخيمه، قاعدة لا تتخلّف. ثمّ إنه ضَمَّ آخرَه فقال: [فاطمُ]،كمن لا ينتظر مجيء التاء. وذلك أحد وجهين جائزين في الترخيم. وأما الوجه الثاني فأن يَنطِق آخرَه،كنُطقه له إذا كان ينتظر مجيء التاء فيقول: [فاطمَ].

· قال الأبجر (المغنّي) للأحوص الشاعر، يشتمه ممازحاً (الأغاني4/245):

[أَيْ زِنديقُ ما جاء بك إلى هاهنا؟].

[أَيْ زِنديقُ]: أي: أداة نداء، نودي بها القريب. و[زنديقُ]: منادى ضُمَّ آخره على المنهاج. وذلك أنه موجَّه إلى منادى بعينه، مقصود من دون كل زنديق آخر. وهو ما يسميه النحاة: [نكرة مقصودة]. وما كان كذلك فالعربيّ يضمّ آخره إذا ناداه.

· قال عَبِيدُ بن الأبرص، مستخفّاً بتهديد امرئ القيس لبني أسد، إذ قتلوا أباه (الديوان /122):

يا ذا المخوِّفُنا بمقتلِ شيخه حُجرٍ، تَمَنِّيَ صاحبِ الأحلامِ

المنادى في الأصل هو[المخوّف]، ولكنْ لما كان شرط نداء الاسم المحلّى بـ[ألـ]، أن يُؤتى قبله بـ [أيّها للمذكر وأيتها للمؤنث] أو [اسم إشارة]، أتى الشاعر - كما ترى - باسم الإشارة: [ذا]، فتوصّل بذلك إلى نداء المحلّى بـ [ألـ]، على المنهاج.

· قال طرفة (الديوان /32):

ألا أيُّها ذا الزاجريْ أَحْضُرَ الوغى وأنْ أشهدَ اللذاتِ، هل أنتَ مُخلِدي

المنادى في البيت، اسمٌ محلّى بـ [ألـ] هو [الزاجر]، ولكنّ المحلّى بـ [ألـ] لا ينادى إلاّ إذا أُتي قبله بـ [أيّها للمذكر وأيتها للمؤنث] أو [اسم إشارة]. وقد أتى الشاعر باسم الإشارة على المنهاج، لكن لما كان العربي قد يجمع الأداتين المذكورتين:

[أيها + ذا] في نداء المحلّى بـ [ألـ]، أتى بهما معاً كما ترى في هذا البيت: [أيّها + ذا = أيّهذا]، على المنهاج.

· قال عبد يَغوث بن وقاص الحارثي، وكان أسيراً في يدي أعدائه

(الخزانة2/194):

فيا راكباً، إمّا عَرَضتَ فبلِّغَنْ ندامايَ مِن نَجران ألاّ تلاقِيَا

[يا راكباً]: يا: أداة نداء، و[راكباً]: منادى منصوب. وإنما نُصب لأنّ نداء الشاعر موجّه إلى كلّ راكب - لا راكب معيّن - آملاً أن يسمعه أحدهم فيُبلغ قومَه ما هو فيه، فيعملوا على فكاكه. وإذ كان هذا شأن المنادى هاهنا، ولم يكن مقصوداً معيّناً دون سواه، فقد استحق النصب، على المنهاج، لأنه نداءُ غيرِ معيّن (نكرة غير مقصودة).



* * *

عودة | فهرس


--------------------------------------------------------------------------------

1- تَجمَع كتبُ الصناعة النداءَ والاستغاثة والتعجب والندبة في بحث واحد، على ما بينها من الافتراق. فالندبة - مثلاً - ليست نداءً، ولا أساليبها أساليبه، ولا تراكيبها تراكيبه إلخ... وقد آثرنا الأخذ بالمنهجية العلمية، ففصلنا بين هذه البحوث!!

2- قيل: [هَيا] أداة نداء قائمة بنفسها، وإنما هي لغةٌ في [أيا]، كما قال ابن السكّيت.

3- بين [العَلَم والاسم] - في بحوث اللغة - فرق. فالعَلَم: ما سمّاك به أهلك عند ولادتك، والاسم: ما ليس بفعل ولا حرف.

4- قد يجمعون الأداتين في نداء المحلّى بـ [ألـ] - وهو قليل - فيقولون: [يا أيّها ذا الرجل].

5- يسميه النحاة: نكرة غير مقصودة.

6- يسميه النحاة: نكرة مقصودة.

7- توابع المنادى: هي ما يكون بعد المنادى، نعتاً أو بدلاً أو توكيداً أو عطفاً.

8- لا يظننَّ ظانٌّ أننا نقمش هذه المفردات والمصطلحات قمشاً، بل كلّ كلمة منها لها شروحها وتفاصيلها.

9- بتعبير آخر: قدِّرْ بعد المنادى [يا] محذوفة. أو قدّر بين المنادى وتابعه [يا] محذوفة.

10- يجيزون أيضاً في هذه الصيغة فقط، دون غيرها من صيغ النداء الأخرى، نصبَ المنادى والتابع معاً، أي: [يا خالدَُ بنَ سعيد].

11- ليس للمنادي خيار هاهنا، فالمعرَّف بـ [ألـ] لا ينادَى إلا إذا سبقته [أيها] في التذكير، و[أيتها] في التأنيث.

12- تنطبق هذه الوجوه الثلاثة على نداء الأب والأمّ، إذ هما في النداء سواء. فيقال: [يا أبِ = يا أبيَ - يا أبيْ] و[يا أُمِّ - يا أُمِّيَ - يا أُمّيْ] فضلاً على وجوهٍ ثلاثة أخرى مقصورة عليهما، هي: [يا أبَتِ - يا أبَتَ - وعند السكت: يا أبَهْ]، و[يا أمَّتِ - يا أمّتَ - وعند السكت يا أمّهْ].

13- حُكم ابن الأمّ، وابنة الأمّ، وابن العمّ، وابنة العمّ، في النداء سواء. فاجتزأنا بنداء ابن الأمّ إيجازاً.

14- كأنك إذ تقول [يا فاطمَ] تنتظر أن تأتي التاء بعد الميم: [فاطمَة]، أو تقول: [يامالِ] تنتظر أن تأتي الكاف بعد اللام [مالِك]. ولذلك يسمّون هذا الصنف من الترخيم: [لغة من ينتظر].

15- يسمّون هذا الصنف: [لغة من لا ينتظر].

16- الزَّمْنى: جمعُ زَمِن، وهو المريض الذي يدوم مرضه زمناً طويلاً.

17- مجمع البيان 8/379. وذكر أبو حيّان ممن قرأ بالضمّ سبعة قرّاء وجماعة من أهل المدينة [البحر المحيط7/263].
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس