عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 25-06-2007, 12:39 AM   #98
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(27)

تتم الولادات عند حيوانات البراري، بطريقة تختلف عما هي عليه عند الحيوانات (الداجنة) التي تتعايش معنا، فالولادات عند حيوانات البراري محكومة بكمية المفاجئات التي قد تتعرض إليها أنثى الحيوان أثناء وضعها لمولودها، فقد يكون هناك حيوان كاسر من وحوش البراري من يتربص بلحظة الولادة، ليحولها الى غنيمة، ووليمة في نفس الوقت، ضاربا بعرض الحائط أشكال اللوعة والحسرة عند الأم التي تلد بعد معاناة الحمل نفسها، وقد لا يوفر الأم إن لم تجتهد في التواري والهرب من فتك الفاتكين، فقد تلتحم بعض أجزاء الأم مع أجزاء من لحم وليدها في بطن أو بطون تلك الوحوش المفترسة ..

وعلى الوليد أن ينهض بعد ولادته، ويبدأ بالركض، ومجاراة والدته حتى ينعم بحمايتها له .. كذلك تفعل الطيور، فما أن يطير (الفرخ) من العش، فإن عليه أن يتوقع انتهاء حياته في أول محاولة طيران، كما عليه أن يستفيد من المهارات التي تم (زقه) بها مع ما ناولته أمه من غذاء..

في المجتمعات البدائية، يتم شيء قريب من ذلك، ففي قبائل (تشمبولي) وقبائل (آرابيش) في غينيا بيساو، يُعهد لأطفال بعمر سبع سنوات بالقيام بتربية من هم بعمر شهرين فما فوق، لذلك لا يزيد عدد أفراد تلك القبائل، وهي مهددة بالانقراض، إن لم تكن انقرضت، فأخبارها أتت من خلال ما دونته عنها (مرجريت ميد) قبل نصف قرن .. وانقراضها يكون مشابه لانقراض بعض أصناف الظباء التي أخل بأعدادها كل من الوحوش الضارية، إضافة للإنسان..

عند (الغجر) وبعض المجتمعات البدائية، لا يكون هناك مراجعة دورية، للعيادات المختصة بالطفل والمرأة الحامل، ولا تكون هناك ولادات في مستشفيات مختصة، ولا يكون هناك برامج للقاحات متسلسلة، بل تتم الولادة، على أيدي من تزعم بأنها أكثر خبرة ودراية في شؤون الولادة، وبأدوات وظروف متواضعة جدا، خالية من التعقيم ومواد الإسعافات الأولية .. وقد تتم الولادة والمرأة راكبة على ظهر حمار، أو وهي تقوم بحلب بقرة، أو توليد بقرة، فتتم الولادتان في آن واحد ..

لم تكن (العتيقة) في وضع أكثر رقيا مما ذكرت، فالأطفال نتاج غير مضمون، وغير نهائي، فالتهيؤ لفقدانهم، كان يحتل مكانا واسعا، ولا يكون هناك مفاجئة من ضياع الطفل أثناء الولادة، أو بعدها بأيام أو شهور، ويبقى كذلك حتى سن سبع سنوات، وأحيانا حتى (يخط شاربه) في موقع احتمالية الاختفاء من الحياة، فإن فلت من مرحلة الولادة، قد لا يفلت من الحصبة أو مرض (ما أدري ماله) .. أي لا أعرف ماذا جرى له حتى توفي، وهي إجابة الوالدة عندما تفقد ابنها، وتسألها أختها أو جارتها : ماله؟ .. فتجيب : (ما أدري ماله) رضعته، وناغيته وضحك ونام، ولم يفق.. وقد يكون مرض (ما أدري ماله) هو التهاب سحايا، أو مرض ينتج عن مسببات (ما أدري ما هي) .. وأحيانا تنتهي التحليلات بإرجاعها للإصابة ب (العين) .. فتروي الوالدة: أن فلانة قد مرت بها بعد العصر، وكان الطفل على صدري، والحليب ينزل من (دلاغمه) فشهقت وما صلت ع النبي ..

وقد ينجو الأطفال، ولكن ماذا يعني؟ .. إنهم سيبقون يكابدون حتى يدخلون في نمط آخر من المكابدة، فتكون سنين ربيع حياتهم كربيع العتيقة، ففي كل بلاد العالم تقسم السنة الى أربعة فصول، إلا في العتيقة، فتقسم الى فصلين، صيف حار جاف، وشتاء بارد جاف! .. وتأتي عينة من الربيع، تُعرض على أهل العتيقة، فما أن يقبلوا بها، حتى تختفي.. تماما كسنين فرح أهلها ..

كنت تمر من جنب طفل يجلس جنب بوابة دار أهله، يبكي على طريقة (أم كلثوم) بالغناء، يقنن نبرة البكاء حتى تطول لساعات، وقد تراه يمسك حجرا ويطرق به حجرا آخرا، ويولول (إلا.. إلا .. إلا .. آه) ويبقى على هذا اللحن، وتعود إليه بعد ساعات، وستجده، مواظبا صبورا، على بكاءه، فتجاربه بالبكاء، علمته التفنن بها .. وقد يسكت لفترة ليراقب (جندبا) يقفز من مكان لآخر، أو طابور نمل، فيلهيه هذا المشهد عن مواصلة عمله .. لكنه سينتبه في النهاية، أنه في مهمة أكثر قدسية من تلك العبثية، فيشغل (زاموره) .. (آه .. إلا.. إلا)

لم يكن هناك من ينتبه إليه، فقد يكون قد طلب خبزة، أو بيضة، أو شيئا ما، ولا يوجد هناك إمكانية لتلبية طلبه، أو يكون قد تجاوز في طلبه، فأراد أن تضع والدته قليلا من السكر على خبزة مدهونة بالزيت، فرفضت والدته، لمعرفتها بأن التساهل بتلك المسألة سيجعل نظام التموين مختلا ..

كان هناك من الأطفال، من يتباهى بشيء، أي شيء، فقد يخرج الى الشارع بماعون صغير فيه عينة من الطعام النادر، وهي لحظات نادرة أيضا، ويقوم بالأكل أمام أترابه ليضطهدهم، فقد يكونوا قد عملوا ذلك به سابقا، ويتوقف الأطفال، ويقتربون منه ويقولون له: (إطعم) أي أعطنا قليلا منه، فلا يجيب، بل يبقى يتلذذ بمارقبة لعب و حركة (زور) خصمه الذي أوحى له بفكرة الاضطهاد وكانت تلك الحركات تسمى (حرقنة) ولا أدري من أين أتوا بجذرها اللغوي، وقد تكون من (حرق) والنون للتوكيد و (المقاهرة) ..

وقد تتم حركات (الحرقنة) بين الأخوة أنفسهم، فقد يخفي أحد الأخوة حصته من بعض الحلويات الصلبة (قوم، فيصلية، كعكبان)*1 وبعد أن يتيقن من أن أخوته قد أتوا على حصصهم، يخرج قطعة من التي أخفاها ويقوم بمصها أمامهم، لتدور المشاكل من إيقاد تلك الفتنة! .. وتبدأ موجات بكاء كالتي عهدناها.

هناك أشكال أخرى من (الحرقنة) تتم عند بعض الأطفال من أبناء الأسر الأقل فقرا (وليس الموسرة) .. فيشتري أهلهم لهم (كرة مطاطية) ببعض قروش، وقد يشتروها لأن طفلهم هذا وحيدا. فيأتي الطفل (يطب) بالكرة أمام أترابه من الحي فيتزلفون لديه وهم يعلمون أن ليس لديه صفات قيادية، وليس هو بالطفل المحبوب، حتى يلاعبهم بها، وإن (زعل) منهم أخذ كرته وانصرف .. فيعودون الى ألعابهم الأقل كلفة .. ولكنها أكثر خشونة .. فيضربون حجرا مسطح بحجر مكور، وأحيانا (يطفر) أحد الأحجار على ساق أحدهم، فيجرحها ولكنه لا يشتكي، ولا يبكي، وإنما تلحظ والدته أثناء حمامه الأسبوعي، أن هناك بقعا زرقاء على سيقان ابنها، فتسأله عن سببها، فينسى من أين منشأها، فهي كثيرة ومتشابهة. وكثيرا ما كنا نرى طفلا يضع بين رجليه رمحا من قصب وثبت برأسه قطعة قماش ويتعامل مع ذلك الرمح وكأنه حصان ..ولكن الطفل هو من يصهل وليس الحصان ..

أما البنات فكن يحظين بلعبة صنعتها عجوز في الدار، من عظام حنك الجمل وكستها بقطع ملونة من قماش، زادت عن تفصيل ثوب لأحد أفراد الأسرة، أو تضع عودين متصالبين وتكسيهما بقطعة قماش، وتضع (زرا) مقطوع من معطف قديم ليكون رأسا ووجها لتلك اللعبة التي تضع خصلة من شعر بنت عليها لتكون بمثابة شعر للعبة .. أو تجلس البنات الصغار، يضعن خرزة في كومة من تراب، من بين مجموعة من كومات مشابهة، لتقوم أخرى، بمعرفة أي تم إخفاء الخرزة، أو أنهن يضعن خمس قطع من الحصى المكور والمصقول نوعا، يحضرنهن من الوديان، فيرمينهن ويلقفنهن وفق أسس بسيطة للعبة ..

هذا نمط من طفولة العتيقة ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس