عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 09:01 PM   #4
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
Post

3- كيف فكر فلاسفة الألمان في فلسفة التاريخ تحت مظلة ابن رشد!
انتهى ابن رشد من مناقشة الإشكالات المنطقية التي تعترض القول بأزلية "العقل الهيولاني" إلى تقرير أن العقل الذي يسمى بهذا الاسم هو بمثابة "المكان" للمعقولات النظرية، ويعني التصور الذي تعطيه الفلسفة البرهانية –فلسفة أرسطو- عن الكون. ومعلوم أن المكان والمتمكن فيه يشكلان كلا واحدا، وبالتالي فليس العقل الهيولاني هو وحده أزلي، بل المعقولات النظرية أيضا أزلية. والمعقولات النظرية ليست شيئا آخر غير الفلسفة، وبكلمة أوضح المعرفة "العلمية" بحقيقة الوجود. والقول بأزلية العقل الهيولاني وبخلود الفلسفة بهذا المعنى، يستلزم خلود الإنسان، لأن المعرفة "العلمية" بحقيقة الوجود هي من اختصاص الإنسان، ولكن لا الإنسان كفرد بل الإنسان كنوع، الإنسان الذي يتحدد بقولنا: "حيوان عاقل". فهو إنما يكون "عاقلا" بحصول المعقولات فيه.
كيف يمكن تصور ذلك؟
كان ابن رشد قد أدلى قبل خوضه في مسألة العقل برأي طريف في مسألة الوجود التي كان النزاع فيها بين الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين يدور أساسا حول ما إذا كان العالم قديما أزليا، وهذا رأي الفلاسفة، أم أنه حادث مخلوق من عدم كما يقول المتكلمون؟ وفي رأي ابن رشد أن العالم ككل لا يمكن أن يقال فيه إنه حادث لأن ما نعرفه ونشاهده هو أن العالم مسرح للكون والفساد génération et corruption: أشياء تتكون وأخرى تفسد، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نحكم بذلك على عالم السماء لأنه ليس موضوعا لمشاهدتنا، وبالتالي فأليق شيء بالعالم ككل، أن يقال عنه –يقول ابن رشد- لا إنه قديم ولا إنه حادث، بل إنه "دائم الحدوث"، أو إنه في "حدوث دائم".
وقد طبق ابن رشد مفهوم "الحدوث الدائم" على مسألة العقل التي أثرناها أعلاه فقال: إنه إذا كان القول بأزلية العقل الهيولاني وأزلية الفلسفة يؤديان إلى القول بخلود النوع الإنساني، فإنه لا شيء يمنع من قبول ذلك، خصوصا إذا فهمنا الخلود على أنه الحدوث الدائم. وهكذا يمكن أن نفترض أن "المعمورة" لا تخلو من إنسان يكون عن إنسان عن إنسان الخ، كما يكون الحصان عن حصان الخ. وإذا كان الربع الجنوبي من الأرض خاليا من السكان كما يقال، فالأرباع الأخرى لا تخلو من النوع البشري، خصوصا وقد ثبت أن الإقليم المعتدل (حوض البحر البيض المتوسط) صالح لسكنى بني الإنسان؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلما كان الوجود البشري يقتضي قيام صناعات طبيعية بها يستقيم وجوده، فمن الممكن أن نتصور وجود صناعة الفلسفة ملازمة لوجود الإنسان. أو ليست الفلسفة نظرا عقليا، والعقل هو ما يميز الإنسان؟ أليست الفلسفة هي البحث عن الحقيقة، وهذا نزوع ملازم للإنسان؟ ويذهب ابن رشد إلى أبعد من ذلك فيقرر أن التقدم في الفلسفة، أي في فهم العالم، ممكن من حيث أن الناس يمكن أن يتعاونوا على ذلك، وأيضا من حيث أن الخلف يستفيد مما يتركه السلف، وبعبارته هو: إن "دور السلف هو أن يكون معينا للخلف" في التقدم على صعيد المعرفة.
***
عندما وصلت في قراءتي لكتاب ابن رشد المعروف بـ"الشرح الكبير لكتاب النفس" إلى هذه النقطة تذكرت المساجلة التي قامت بين المفكرين الألمانيين الكبيرين، هردر وكانط، حول التصور الذي ينبغي أن تنبني عليه "فلسفة التاريخ"، وقد كانا بصدد تشييدها. كان كانط قد كتب في نوفمبر من سنة 1784 مقالة بعنوان "فكرة من أجل تاريخ عام من منظور كوني" عرض فيها وجهة نظر جديدة في التاريخ تقوم على فكرة التقدم -وهي الفكرة التي تأسس عليها الفكر الأوربي منذ ذلك الوقت- فقال: إن التقدم يسري عبر التاريخ بخطى بطيئة ولكن متصلة، وأن هذا التقدم يتم على مستوى قدرات الإنسان الأصلية وأنه لا يظهر بصورة صريحة في الفرد بل هو يتحقق في النوع الإنساني".
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان معاصره وصديقه هردر قد شبه الحياة الإنسانية بالكائن الحي الذي وُضع تصميمُه بحيث يتمكن من خلق كائنات عليا تنمو من داخله، فانتقد كانط هذا التصور وقال عنه إنه يحمل جميع عيوب "الفلسفة التأملية" التي يتجاوز طموحها حدود العقل الإنساني.، فرد عليه هردر منتقدا فكرته حول التقدم الذي قال عنه إنه "يتحقق عبر النوع الإنساني" فكتب يقول في كتابه "أفكار من أجل فلسفة لتاريخ البشرية" (1785):
"إذا قال شخص بأن ما يجب تربيته ليس الإنسان الفرد بل النوع البشري فهو بالنسبة لي يقول كلاما لا معنى له، فالجنس والنوع مفهومان مجردان لا يتحقق لهما وجود إلا في الأفراد"، ثم أضاف، وهذا ما يهمنا هنا، فقال: "ينبغي أن لا نترك فلسفتنا للتاريخ تقوم بمغامرة على شعاب فلسفة ابن رشد". وعلى هذا النقد رد كانط موضحا وجهة نظره، مؤكدا أنه لم يكن يقصد أن النوع يتحقق بصفة كاملة في الفرد، وإنما يقصد أن الفرد البشري يمكن أن يتقدم تدريجيا ويقترب من أن يتحقق فيه النوع، ولكن دون أن يتحقق يوما تحققا كاملا. ثم ختم بالقول: "ومهما يكن فإن سوء التفاهم، الذي أبرزناه في المقطع السجالي أعلاه، لا يعدو أن يكون أمرا تافها، والأهم من ذلك هو خاتمة المقطع التي نقرأ فيها قوله (=هردر): "ينبغي أن لا نترك فلسفتنا للتاريخ تقوم بمغامرة على شعاب فلسفة ابن رشد".
واضح أن كلا من هردر وكانط يحيلان هنا إلى نظرية ابن رشد في خلود النوع الإنساني التي شرحناها أعلاه. إنهما يريدان أن يكون موضوع فلسفة التاريخ هو التاريخ البشري الحي الذي يصنعه الأفراد. أما "التاريخ" العام" أو الكوني الذي يتحدثان عنه فيجب أن لا يفهم منه "النوع" الذي هو مقولة فلسفية، مجردة، لا وجود لها في الواقع، بل المقصود هو الإنسانية في تاريخها المشخص عبر القرون والأجيال.
والغالب على الظن أن هذين الفيلسوفين الألمانيين الكبيرين، الذين كانا يفكران في هذه المسألة تحت مظلة ابن رشد، لم يطلعا، أو على الأقل لم يستحضرا نظرية ابن رشد التي يقرر فيها إمكانية قيام المدينة الفاضلة في عالم الإنسان المشخص، عالم التاريخ: تاريخ الأجيال. ذلك أن فيلسوف قرطبة قد اعترض على أفلاطون الذي عبر عن يأسه من إمكانية قيام المدينة الفاضلة ما دام رؤساؤها يجب أن يكونوا فلاسفة، وما دام الناس لا يسلمون الحكم للفلاسفة. لقد عقب ابن رشد على هذه النتيجة اليائسة، في الشرح "المختصر" الذي كتبه لـ"الجمهورية"، فقال معترضا على أفلاطون: "يمكن أن نربي أناسا بهذه الصفات الطبيعية التي وصفناهم بها ومع ذلك (=إلى جانب ذلك) ينشأون وقد اختاروا الناموس العام المشترك الذي لامناص منه لأمة من هذه الأمم من اختياره، وتكون مع ذلك شريعتهم الخاصة بهم غير مخالفة للشرائع الإنسانية، وتكون الفلسفة قد بلغت على عهدهم غايتها. وذلك كما هو الحال في زماننا هذا وفي ملتنا هذه. فإذا ما اتفق لمثل هؤلاء أن يكونوا أصحاب حكومة [حكم ]، وذلك في زمن لا ينقطع، صار ممكنا أن توجد هذه المدينة " الفاضلة".
أعتقد أنه لو اطلع هردر وكانط على هذا النص لما ألحَّا ذلك الإلحاح على أنه "ينبغي أن لا تبقى فلسفتنا للتاريخ على طريق الفلسفة الرشدية". فالطريق الرشدية في "المدينة الفاضلة" طريق تاريخي يقوم على الإيمان بالتقدم التدريجي الذي قال به كانط، كما يتفق مع هردر في أن ما يجب تربيته ليس النوع البشري بل الإنسان الفرد: أعني أناسا مشخصين، كما هو الحال "في زماننا هذا وفي ملتنا هذه"، كما يقول ابن رشد. ويمكن أن يذهب المجادل إلى أبعد من ذلك فيرى فكرة التاريخ العام عند كانط تنتمي هي الأخرى إلى فضاء "المدينة الفاضلة" وليس إلى النظرة التاريخية: فـ"التقدم" الذي جعل منه كانط القانون العام الذي يحكم حركة التاريخ، يجب أن يؤدي في نظره إلى قيام دولة عالمية واحدة أو جمعية دول يتحقق بها السلام على الأرض.
***
أنا لا نقصد الدخول في جدال حول هذا الموضوع الذي ربما ينتمي إلى ذلك النوع من"الماضي" الذي يجب أن نحرر منه نظرتنا للمستقبل. ومع ذلك فإن هناك سؤالين هامين لابد من طرحهما :
أما السؤال الأول فيمكن صياغته كما يلي: ألا يعبر إلحاح كل من كانط وهردر، على ضرورة تجنب "طريق الفلسفة الرشدية" في تشييد فلسفة للتاريخ، عن نوع من الرغبة في تجنب النظر إلى الماضي بوصفه يحكم المستقبل، باعتبار أن "طريق ابن رشد"، أي الميتافيزيقا أو "فلسفة الوجود"، تمثل الماضي، وأن "فلسفة التاريخ" تمثل المستقبل؟
وأما السؤال الثاني فيمكن التعبير عنه بالقول: لقد قرر ابن رشد أنه من الممكن تشييد المدينة الفاضلة على غير الوجه الذي ذكره أفلاطون وأعطى مثالا على ذلك، فلماذا لم يذهب إلى حد القول: "ينبغي أن لا تبقى مدينتنا الفاضلة على طريق الفلسفة الأفلاطونية"، على غرار الموقف الذي اتخذه كل من هردر وكانط من "طريق الفلسفة الرشدية"؟ وإذا نحن أردنا استعمال مفهوم رائج في عصرنا أمكن أن نصوغ هذا السؤال كما يلي : لقد دعا كل من هردر وكانط إلى تدشين قطيعة ابيستيمولوجية مع ابن رشد، فلماذا لم يدعُ ابن رشد إلى تدشين قطيعة مماثلة مع أفلاطون، وبالتالي مع الفكر اليوناني؟
يجب القول ابتداء إننا لا نقصد من القطيعة الإبيستيمولوجية غير شعور الباحث أو المفكر –أو من يدرس فكره- بأن المرحلة التي يمثلها بمنهجيته ورؤاه –في الحقل العلمي الذي يعمل فيه- تشكل في تاريخ هذا الحقل نقطة اللارجوع non retour. إن هذا يعني أن كلا من هردر وكانط كانا يشعران أن تطور المعرفة –ويتعلق الأمر هنا بالمعرفة التاريخية ولنقل بالوعي التاريخي بالأحرى– قد بلغ في عصرهما نقطة يشعر المرء معها بانفصال المستقبل عن الماضي. وبالتالي فالحاضر في مثل هذه الحالة ليس عبارة عن نقطة اللقاء التي يتصل عندها المستقبل بالماضي، اتصال حلقات السلسلة، بعضها مع بعض، كما هو الشأن في الأحوال العادية، بل إن الحاضر، في حال القطيعة، ويمكن أن نقول في حال الطفرة التاريخية باصطلاح الماركسية، هو النقطة التي تقوم فيها بداية جديدة تدَّعي لنفسها الجدة التامة والأصالة والاستقلال.

يتبع
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس