عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 09:03 PM   #5
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
Post

4- الوعي التاريخي ... بين فلاسفة أوروبا وفلاسفة العرب

وإذا نحن أردنا أن نعبر بلغة أبسط قلنا إن الفرق بين "طريقة ابن رشد" و"طريقة هردر وكانط"، هو أن الطريقة الأولى –أعني الرؤية التي تقدمها للعالم- كانت تقوم على الاعتقاد في أن الحقيقة توجد في "الماضي" أساسا، عند أرسطو -أو أفلاطون لا فرق- أما المستقبل فهو مجرد امتداد للماضي، وما قد يحصل فيه من تقدم لن يكون سوى شرح وتكميل، وفي أحسن الأحوال تطوير لما تقرر في الماضي. وواضح أن هذه النظرة كانت مستوحاة من استعراض أحوال الماضي و"الحاضر" وهي أحوال بقيت متشابهة في جميع المجالات، فلم تحدث طفرة علمية ولا صناعية ولا ثورة سياسية، تجعل من غير الممكن استمرار حضور الماضي بكل بنياته في الحاضر. وبالعكس من ذلك الطريقة الثانية، طريقة هردر وكانط ومن سار على دربهما. فهؤلاء كانوا يرون أن الحقيقة توجد في "المستقبل" وليس في الماضي، وذلك هو مفهوم "التقدم" في فلسفة التاريخ عند كانط خاصة، هذا المفهوم الذي سيضع هيجل مكانه فكرة "المطلق".
غير أن "اللغة الأبسط" لا تعبر دوما عن الحقيقة بإخلاص، ذلك لأن الواقع المشخص هو دوما على درجة ما من التعقيد، وكلما بدا بسيطا كان أكثر تعقيدا. والحق، كما يقول باشلار، أن البسيط هو المبسَّط! نقول هذا لأننا إذا فكرنا مليا في الدعوى المبسطة السابقة سنجد أن أهم ما يميز "طريق الفلسفة الرشدية" عن طريق "فلسفة التاريخ الكانطية" هو غياب التاريخ، وبالتالي "الماضي" في المنظور الفلسفي الرشدي أي اليوناني، وفي المقابل حضوره حضورا قويا مهيمنا في المنظور الكانطي أي الأوربي الحديث!
وهكذا فبالنسبة للمنظور اليوناني: التاريخ شيء مزعج وغامض. إنه، كما يقول رويسن، مصدر قلق لهذا الفكر: ذلك لأن التاريخ بالنسبة لفكري اليونان هو صيرورة تجري في الزمن. والصيرورة والزمن تقلقان الروح اليونانية لأنها ترى فيهما مزيجا غامضا من الوجود واللاوجود، بينما كان همها الأول البحث، وراء ذلك، عما هو ثابت أزلي، عن أصل الوجود ومبدأه (مادة الأيونيين، وجود بارمينيد، ذرات ديموقريط، مثُل أفلاطون، المحرك الأول عند أرسطو).
ومعروف أن اليونان كانوا يتصورون الزمن على أنه مقدار حركة الكواكب، وهي حركة دائرية وبالتالي فالزمن دائري. ومن هنا فكرة، بل عقيدة "العود الأبدي" ومفهوم السنة الكبرى التي تستأنف دورتها مع دورات الكواكب. وقد عبر عن ذلك أفلاطون باليأس من قيام مدينة فاضلة في هذا العالم لأن "المدن" أو نظم الحكم (الملكية، والأرستقراطية، والأوليغارشية، والديموقراطية، والطغيان) يتحول بعضها إلى بعض على صورة دائرية، ومن هنا كانت "الكارثة الدورية" للإنسانية التي تتمثل في كوارث متتالية تظهر على أشكال مختلفة. وبكيفية عامة تنتمي الصيرورة التاريخية من المنظور اليوناني إلى عالم الكون والفساد (الحياة والفناء)، عالم ما تحت فلك القمر المحكوم بدورية حركة الكواكب. ومن هنا كان الكون وكان الفساد دوريان، يقول أرسطو: "الكون" (خروج الشيء من العدم إلى الوجود) هو دوري ضرورة. وإذن فمن الضروري أن يحدث كل شيء بصورة دورية. فإذا كان من الضروري أن يحدث شيء ما في هذا الوقت فقد كان كذلك من قبل. وإذا كان شيء ما موجودا الآن فمن الضروري أن يوجد في المستقبل، وهكذا دواليك".
ومن هنا كان التاريخ في التصور اليوناني، وكذا الروماني، تأريخا للحاضر أو للأزلي، تاريخا بدون تاريخية. وكما لاحظ شبينغلر فـإن "جميع أعمال المؤرخين القدماء كانت تقف عند عرض الوضعية السياسية زمن المؤرخ، وذلك في تعارض تام مع الأعمال التاريخية في عصرنا التي تتناول كل شيء، بدون استثناء، في الماضي البعيد".
بالفعل بدأ الماضي –الماضي البعيد- يمارس سلطته مع بداية عصر النهضة، في القرن الخامس عشر والسادس عشر، حينما تجاوزت أوروبا ما عرف بـ "الرشدية اللاتينية" لترتبط مباشرة بالآداب اليونانية الرومانية. هنا أصبح الماضي مرجعية للحاضر والمستقبل. لقد تحولت الأنظار إلى الماضي البعيد بحماس منقطع النظير، فأصبح أقرب إلى الناس من الماضي القريب الذي يلتصق بحاضرهم. وهذا ما كان يبرر عملية "الرجوع إلى الأصول" ويؤجج "الرغبة في البحث في الماضي عن إنسانية أفضل، أكمل وأكثر حرية". لقد اكتشف الوعي الأوروبي الناهض الحاضرَ في العودة إلى الماضي، واستند إلى الماضي المستعاد، ماضي "العصر القديم" لكي يسفه جمود العصر الوسيط. وتبلغ فلسفة التاريخ قمة أوجها مع هيجل الذي قرر بأسلوب تجريدي وبضباب فلسفي أن التاريخ بأجمعه هو عبارة عن مسيرة "الروح" أو "الفكرة" في تطورها ونموها نحو المطلق، روح الشعوب وروح الحضارات. ومن هنا كان التاريخ هو تاريخ هذا التطور لـ"الروح". ذلك لأنه إذا كانت العملية التاريخية تتألف من أعمال الإنسان، فإن هذه الأعمال ليست سوى التشخيص العملي لما يريده الناس ويفكرون فيه. ولما كان التاريخ بهذا المعنى هو تاريخ "الفكرة" فإن العملية التاريخية هي في صميمها عملية منطقية. ومن هنا فإن كل ما هو واقعي فهو عقلي وكل ما هو عقلي فهو واقعي.
وهكذا ربطت فلسفات التاريخ، التي عرفت رواجا واسعا في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بين "العقل" و"الواقع"، فأعطت للتاريخ عقلا ومنحت للعقل تاريخا، فربطت بين "المستقبل" الذي هو مجال العقل، مجال الممكن الذي لم يتحقق، وبين "الماضي" الذي هو مجال التاريخ، مجال الممكن الذي تحقق، فدمجت "المستقبل الماضي" و"المستقبل الآتي" في صيرورة واحدة تبلغ قمتها وكمال سيرورتها في الحاضر (الأوروبي) الذي أصبح ينظر إليه لا على أنه مجرد التقاء الماضي بالمستقبل، بل على أنه نقطة اندماج "حاصل الممكنات التي تحققت" و"مشروع الممكنات التي يجب أن تتحقق".
ما نريد أن نخلص إليه مما تقدم هو أن اشتباك وارتباط المستقبل بالماضي، والماضي بالمستقبل، هو خاصية أساسية من خاصيات الوعي الأوربي الذي تشكل مع عصر النهضة. وما دمنا قد انطلقنا من استعادة حضور ابن رشد في حقل تفكير أكبر "المشرعين" للمستقبل انطلاقا من الماضي، في الوعي المذكور، أعني كانط، فلنقف لحظة مع ابن رشد لنطرح عليه السؤال حول نوع العلاقة التي كانت تقوم في وعيه بين الماضي والمستقبل.
يمكن الإجابة، مبدئيا، عن هذا السؤال بأن ابن رشد ينتمي فلسفيا إلى الفكر اليوناني الذي رأيناه يستبعد الصيرورة التاريخية من مجال اهتمامه، ويضع مكانها تصورا دوريا للزمن يجعل من "التقدم" فكرة تنتمي إلى مجال اللامفكر فيه، بل إلى مجال غير القابل للتفكير فيه. ومع أن فكرة خلود النوع البشري عند ابن رشد، التي نوهنا بها أعلاه، كانت تنطوي في نفس الوقت على الاعتقاد في إمكانية نمو وتقدم معارف الإنسان إلى المستوى الذي يقترب فيه من "العلم المحيط" بنظام الكون وحقائق أسراره، فإن منتهى هذا "التقدم" هو الخلاص والسعادة القصوى: جنة الفلاسفة، حسب التقليد اليوناني. كما أن ذلك الخلود لم يكن من الناحية الأنطولوجية خلودا للنوع على خط مستقيم، مشخصا في تتابع الحضارات، كما تصورت فلسفات التاريخ في أوروبا، بل خلودا بيولوجيا يتم على شكل دائري: إنسان يُصنع من مادة إنسان قبله بفعل تحريك المحرك الأول وهكذا. وقد لا يجوز أن نلوم ابن رشد على عدم اهتمامه بالتاريخ، على الرغم من اهتمامه بجميع حقول المعرفة في عصره، من علوم دينية وعلوم فلسفية. ذلك لأن التاريخ في الحضارة العربية، كما في الحضارة اليونانية، لم يكن يعتبر علما ولم يدخل في أي تصنيف للعلوم من ذلك النوع الذي يرتكز على مفهوم "العلم" كما حدده أرسطو بقوله: "لا علم إلا بالكليات". والتاريخ كما عرفته الثقافة العربية، والذي ازدهر فيها ازدهرا، هو ميدان الجزئيات بامتياز.
لنختصر الطريق إذن، ولننظر إلى نوع الوعي التاريخي الذي كان لدى ذلك المؤرخ العربي الذي جاء بعد ابن رشد يحمل إرثه الثقافي، والذي عبر بصراحة عن طموحه إلى الارتفاع بالتاريخ إلى مستوى العلم. أقصد بذلك ابن خلدون، الذي جعل من مفهوم "طبائع العمران" ما يوازن قولنا "كليات الاجتماع والتاريخ". غير أن ما يثير الانتباه حقا، هو غياب فكرة "المستقبل" في تحليلات ابن خلدون. لقد كان فكره مسكونا بالحاضر الذي كانت تعمره الفوضى، وتتجه فيه الأمور نحو مزيد من التدهور والانحلال. لقد انخرط في عالم السياسة ولمس عن قرب كيف أن الصراعات والحروب والمنافسات كانت تجري مجرى العبث، فأراد أن يجد لهذا "العبث" معنى من خلال استعراض جزئيات التاريخ العربي الإسلامي، فانتهى إلى نظريته في "الدورة العصبية" التي تجعل من التاريخ مسرحا تتناوب عليه التجمعات القبلية، كل يعيد الدور نفسه. ومن هنا كانت نظرية "أطوار الدولة" عند ابن خلدون امتدادا مباشرا لما قرره ابن رشد في "المختصر" الذي عمله لجمهورية أفلاطون، أعني بذلك تعاقب "المدن" على شكل دائري. لم يكن "المستقبل" حاضرا في فكر ابن خلدون؛ وقد واخذ المؤرخين السابقين له على أمور كثيرة، ولكنها جميعا مما يتصل بالماضي، ولم يَلُم أحدا منهم لكونه لم يهتم بالمستقبل. لقد لخص عيوب المؤلفات التاريخية السابقة له في كون قارئها يبقى بعد قراءتها "متطلعا بعدُ إلى افتقاد أحول مبادئ الدول ومراتبها، مفتشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها"! أما مستقبلها فهذا ما كان ينتمي عنده إلى اللامفكر فيه. وإذا كان لا بد من أن ننتزع من نصوصه فكرة ما عن "المستقبل" في علاقته بالماضي، فقد لا نجد سوى هذه العبارة التي يقول فيها: "فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء"، وهذا يعنى أن تاريخ البشرية، ما تقدم منه وما تأخر، عبارة عن بحر، قد تتلاطم أمواجه هنا وتهدأ هناك ولكن الماء يبقى دائما شبيها بنفسه؛ وكذلك "الماضي" و"الآتي" يشبه الواحد منهما الآخر كما يشبه بعض ماء البحر بعضه الآخر. وكل ما يمكن استخلاصه لفائدة "المستقبل"، من هذا البحر المتلاطم الأمواج، هو "العبرة"، أي الدرس الأخلاقي الديني الذي ينبه الإنسان إلى أن هذه الحياة الدنيا تافهة وزائلة.

يتبع
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس