عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 09:20 PM   #7
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
Post

فعلا أجدني الآن مضطرا، مرة أخرى، إلى تبني الموقف نفسه إزاء مسألة ما يعبر عنه بـ "تحرير المستقبل من الماضي". وهذا ليس لأني استصغر دور الماضي في تحديد الرؤية للمستقبل. بل بالعكس فأنا أعي تمام الوعي أنه إذا كانت هناك أمة في هذا العصر يحتاج الفكر والثقافة فيها إلى تحرير التفكير في المستقبل من أوهام الماضي وأحلامه ومشاريعه التي لم تتحقق من جهة، وتحرير التفكير في الماضي من ضعف الحاضر ومخاوف المستقبل وأحلامه من جهة أخرى، فهي أمم العالم الثالث، وفي مقدمتها الأمة العربية التي كانت ولا تزال أمة ثقافية بامتياز. لقد عبرت عن موقفي إزاء هذه القضية بهذه العبارات :"لقد تركت فينا الصيرورة التاريخية التي عشناها طوال المائة سنة الماضية آثارا لا حصر لها: بعضها يجد مصدره في التحدي الحضاري الغربي الذي أيقظنا من سباتنا (ويسميه البعض منا صدمة الحداثة)، والذي ربَطَنا به متخذا من نفسه "مركزا" ومنا "محيطا" أو جزءا من المحيط (في الميدان الفكري أيضا)، بينما يجد بعضها الآخر مصدره في رد فعلنا على ذلك التحدي، رد الفعل الذي لجأنا فيه إلى جعل "الماضي" –ماضينا نحن- "مركزا" للتاريخ كله، والباقي "محيط". لقد كانت المائة سنة الماضية بمثابة "عصر تدوين" آخر رسمنا خلاله في وعينا، وبكيفية سيئة جدا، صورة للماضي والمستقبل، لـ"نحن" و"الآخر"، رسمناها منفعلين لا فاعلين، يقودنا "عقل" غير واع بذاته، عقل تائه يبحث عن تمتين علاقته بـ"عقل" الماضي بدل أن يعمل على تدشين قطيعة معه، ويحاول ربط نفسه بـ "عقل" العصر بدل أن يكون هو نفسه إحدى تجليات هذا العصر. إن ما أبرزناه من قبل كخصائص أساسية ماهوية في الخطاب العربي الحديث والمعاصر: من الركون دوما إلى نموذج سلف (من التراث العربي أو من الفكر الغربي)، واعتماد القياس الفقهي الذي يقوم على رد الفرع إلى الأصل، وبالتالي قياس الحاضر والمستقبل على الماضي، والتوظيف الإيديولوجي للتغطية على النقص المعرفي، والتعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية، إن هي إلا عناصر في شبكة الآثار التي خلفتها فينا صيرورتنا العامة الطويلة منذ انبثاق "العقل العربي". أي منذ "عصر التدوين"، عصر البناء الثقافي العربي العام الذي شهدته الثقافة العربية ابتداء من القرن الثاني للهجرة. فإلى هذه "الشبكة" من الآثار يجب أن نتجه الآن بالتحليل والفحص والنقد. إن الحاجة تدعو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى تدشين "عصر تدوين" جديد تكون نقطة البداية فيه نقد السلاح… نقد العقل العربي"[] (انظر كتابنا : الخطاب العربي المعاصر)..
لقد أثبتنا هنا هذا النص على طوله لأنه يعبر فعلا عن قناعتنا بخصوص الموضوع الذي نناقشه. ومع ذلك فأنا أتردد كثيرا في السير مع خط نيتشه والدعوة إلى "تحرير المستقبل" من هيمنة من الماضي و"تحرير الماضي" من أحلام المستقبل. فأنا أحس بمقاومة في داخلي تمنعني من الدفاع عن هذا الشعار "الحداثي" بالطريقة التي يدافع بها المحامي عادة عن القضية التي وُكِّل للدفاع عنها. إن انتشار التطرف وهيمنة الأصولية واستيقاظ النعرات الطائفية والقبلية في كثير من البلدان، كل ذلك يبرر الدعوة إلى "تحرير المستقبل من الماضي" فعلا، ومع ذلك فأنا أخشى أن تجرنا الصياغة اللغوية، التي يتبادل فيها المواقع كل من "الماضي" و"المستقبل" بصورة لا تخلو من سحر الخطاب الشعري، إلى نسيان الطرف الثالث الذي أقصي من المعادلة لحد الآن، أعني بذلك "الحاضر"! ذلك لأنه سواء تعلق الأمر بـ" تحرير المستقبل من صراعات الماضي" أو بـ "تحرير الماضي من أحلام المستقبل"، فإن المعني بالأمر مباشرة هو هذا "الحاضر" المسكوت عنه. والسؤال الذي يفرض نفسه مع استحضار "الحاضر"، هذه المرة، هو التالي: أين يبتدئ الحاضر وأين ينتهي، إذا نحن عزلنا عنه الماضي والمستقبل؟ !
لا يتعلق الأمر هنا بمناقشة صورية، كلا. إن الأمر يتعلق، على العكس، بالرغبة في القيام بالتحليل الملموس لواقع ملموس. وبديهي أننا لا نستطيع "لمس" الحاضر إلا من خلال تماسه مع كل من الماضي والمستقبل. فكيف حاول الفلاسفة تحديد هذا التماس؟
وما دمنا قد استحضرنا ابن رشد في القسم الأول من هذا المقال فلنستحضره ثانية هنا. لقد حاول الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" الدفاع عن دعوى المتكلمين القائلة بـ"حدوث العالم" ضدا على رأي الفلاسفة القائلين بقدمه، فقال: إنه إذا كان الفلاسفة يقولون ليس وراء العالم شيء آخر من طبيعة مكانية كالخلاء (وأرسطو ينفي وجود الخلاء)، فلماذا لا يقبلون القول بأن ليس وراء العالم شيء آخر من طبيعة زمانية، وبالتالي لا يكون هناك قبل وجود العالم زمان. ويقول ابن رشد الذي أورد نص الغزلي في هذا الشأن : وإذا سلم له الفلاسفة ذلك سقطت حجتهم على قدم العالم، وهي القائلة إن القول بحدوث العالم معناه: أن الله اختار إيجاده في وقت كان قبله أوقات، الشيء الذي يتطلب القول بمرجح جعل الله يخلق العالم في وقت معين دون غيره من الأوقات، وهذا يتناقض مع صفات الله من حيث إن فعله لا يخضع للسببية ولا للترجيح! ويرد ابن رشد على الغزالي الذي لم يخف زهوه بهذا الاعتراض قائلا: إن اعتراض الغزالي على الفلاسفة يقوم على آلية في الإبدال من الإبدالات السفسطائية، وهي هنا: الحكم للزمان بما يحكم به للمكان! ذلك لأنه إذا كنا نتصور جزء المستقيم في الهندسة (أي في المكان) على أنه محصور بنقطة في طرفه، فليس يمكن ذلك في الزمان. فـ " لا يمكن تصور زمان له طرف ليس هو نهاية لزمان آخر"، لأن جزء الزمان الذي نحس به والمسمى بـ "الآن" هو بالتعريف "الشيء الذي هو نهاية للماضي وبداية للمستقبل، لأن "الآن" هو الحاضر، والحاضر هو وسط، ضرورةً، بين الماضي والمستقبل، وتصور حاضر ليس قبله ماض محال. وليس الأمر كذلك في النقطة (التي هي جزء المكان)، لأن النقطة نهاية الخط وتوجد معه، لأن الخط ساكن. فيمكن أن نتوهم نقطة هي مبدأ لخط، وليست نهاية لآخر. أما "الآن" فليس يمكن أن يوجد لا مع الزمن الماضي ولا مع المستقبل، فهو، ضرورة، بعد الماضي وقبل المستقبل. وما لا يمكن فيه أن يكون قائما بذاته، فليس يمكن أن يوجد قبل وجود المستقبل من غير أن يكون نهاية لزمان ماض (…)، فالذي يجوِّز وجود آن ليس بحاضر، أو حاضرا ليس قبله ماض، فهو يرفع (=يلغي) الزمان والآن بوضعه آنا بهذه الصفة، ثم يضع له زمانا ليس له مبدأ. فهذا الوضع يبطل نفسه"[].
وأنا أعتقد أن وضع "تحرير المستقبل من الماضي والماضي من المستقبل" بدون استحضار الحاضر، هو أيضا "وضع يبطل نفسه"، ليس فقط لأن استبعاد الحاضر معناه رفع للزمان والحكم له بما يحكم به للمكان، بل أيضا لأن عملية التحرير نفسها لا يمكن أن تتم إلا في زمان، ليس هو الماضي ولا المستقبل، زمان لا اسم له إلا "الحاضر". فإذا نحن تصورنا هذا الحاضر كامتداد مكاني أمكن حينئذ أن نحدد فيه نقطتين تحدد الواحدة منها "ما قبل" والأخرى "ما بعد". ولكن الماضي ليس من نوع القبلية المكانية ولا المستقبل من نوع البعدية المكانية. ومن يضع الأمور هذا الوضع فهو يرفع الزمان كما يقول ابن رشد.
وإذا كان ذلك كذلك، فالقضية التي يجب التركيز عليها هي الحاضر. وهنا لابد من التمييز بين حاضر وحاضر. ذلك أن شعوب العالم اليوم لا تعيش حاضرا واحدا. إن حاضر الدول المصنعة، سواء كانت في القارة الأوروبية أو في القارة الأمريكية أو في آسيا، حاضر "محرر" من الماضي إلى درجة كبيرة. وبعبارة أخرى لم يعد الماضي ينافس هناك الحاضر، لا على صعيد الوعي ولا على صعيد الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي. نعم هناك "بقايا" من "الماضي" تعبر عن نفسها من حين لآخر بهذا الشكل أو ذاك، ولكن ذلك لا يشكل في أقوى الحالات سوى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. أما في البلدان التي كان يجمعها اسم "العالم الثالث"، والتي تصنف اليوم ضمن مقولة الجنوب، فالأمر فيها يختلف باختلاف درجة التحديث فيها ونوع تجاربها، وأيضا نوع علاقتها بثقافتها.
وإذا نحن أردنا أن نستنتج نتيجة أولية من هذا التصنيف فسيكون في الإمكان القول إن تحرير الحاضر والمستقبل من الماضي، في البلدان التي ما زلت تعاني من منافسة الماضي فيها للحاضر، عملية لابد لها أن تتم عبر التصنيع. وهذا صحيح، خصوصا إذا نحن تبينا ذلك التمييز الذي يقام عادة بين ثقافة المجتمع الزراعي الماضوية وثقافة المجتمع الرأسمالي المستقبلية. غير أن هذه النتيجة الأولية يجب أن تبقى أولية، فهي قائمة على التعميم والتبسيط. ذلك أنه يمكن التشكيك فيها بالقول - من وجهة النظر الويبرية([])- إن التصنيع يحتاج إلى ثقافة جديدة متحررة من هيمنة فكر الماضي، وبالتالي فالتجديد الثقافي ضروري لغرس العقلانية في جسم المجتمع، الشيء الذي يعتبر شرطا لقيام مجتمع صناعي.
يتبع
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس