هذا شيخ الإسلام ابن تيمية لما غزا التتار بلاد الإسلام ووقع كثير من المسلمين والنصارى في أسرهم ثم عادت العزة للمسلمين ودان ملوكهم بالإسلام خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية أمير التتار بإطلاق سراح الأسرى من السجن فوافق الأمير وفك أسرى المسلمين وأبى أن يفك الأسرى من أهل الذمة من النصارى فقال شيخ الإسلام لابد أيها الأمير من فك الأسرى من النصارى واليهود لأنهم أهل ذمتنا وبيننا وبينهم عهد فوافق الأمير فأطلق سراحهم جميعاً"(1
لأن العلماء أصحاب الحكمة يفهمون الدين ويفهمون قول الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم} (2) وقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (3)، وولي أمر المسلمين إذا عمل معاهدة وميثاق مع بعض الدول الكافرة ودخلوا البلاد الإسلامية بعقد وأمان من أولياء الأمور للعمل أو الزيارة أو البيع والشراء أو إقامة مؤقته فالواجب على كل مسلم ألا يغدر بهم ولا يؤذيهم ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة وإظهار محاسن الإسلام لهم ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قتل مُعَاهداً لم يَرِح رائحة الجنة)) رواه البخاري
وانظر إلى قصة موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- يأمرهما الله بدعوة فرعون برفق ولين قال الله تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} ( 4) وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره، والرسول صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم فهذه رسالته إلى ملك الروم قال فيها" من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم"(5).
ورسالته إلى ملك الفرس "من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس" ورسالته الثالثة: "من محمد عبدالله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط"( 6) لأن مخاطبة الناس ولو كانوا كفاراً بالحسنى وإنزالهم منازلهم لها التأثير النفسي عليهم كما قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}
ولما قدم وفد مزينه على رسول صلى الله عليه وسلم وهم أربعمائة رجل قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ((يا عمر انطلق وزود القوم)) (7 ) فأدخلهم عمر وزودهم بالتمر وأخذ القوم منه حاجتهم.
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الناس يوم حنين ولم يعط الأنصار فغضب الأنصار وقال قائل منهم إن النبي وجد قومه فقربهم وتركنا فأخبر سعد بن عباده -رضي الله عنه- وهو كبير الأنصار أخبر الرسول بهذا الكلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أين أنت عنهم)) (8 ) فقال سعد: إنما أنا رجل من قومي فقام النبي فخطب فيهم خطبته الشهيرة وقال: "يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله إلى رحالكم" حتى بكوا ورضوا بكلامه -عليه الصلاة والسلام- وهذا مالك بن عوف حارب الرسول صلى الله عليه وسلم ولما أسلم أنعم عليه الرسول وأعطاه مالا وجعله أميراً على من أسلم من قومه وهذا عدي بن حاتم الطائي كان نصرانيا ودخل على الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد وأعلن إسلامه وأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأكرمه وتناول وسادة فقدمها له وقال: اجلس على هذه، فقال عدي: بل أنت فاجلس عليها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بل أنت اجلس فجلس عدي على الوسادة، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض))(9) وهذا وفد ثقيف لما أسلموا اشترطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم ليس عليهم صدقة ولا جهاد فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا))( 10) والرسول صلى الله عليه وسلم تألفهم وحلم عليهم حتى قوي إيمانهم ثم جاهدوا وتصدقوا بل إن وفد ثقيف قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ((أمِّر علينا رجلاً يؤمنا من قومنا)) فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل إمامهم منهم وهو عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام( 11).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لعمر بن علي البزار (ص71-74).
( 2) سورة النحل (الآية:91).
( 3) سورة العنكبوت (الآية:46).
( 4) سورة طه الآيتان (43-44).
( 5) زاد المعاد لابن القيم الجوزية (3/688).
( 6) زاد المعاد لابن القيم الجوزية (3/690).
( 7) رواه أحمد (5/445).
( 8) زاد المعاد لابن القيم الجوزية (3/474).
( 9) البداية والنهاية لابن كثير (5/64-65).
( 10) البداية والنهاية لابن كثير (5/30).
( 11) البداية والنهاية لابن كثير (5/31).