فقه الفساد
فقه الفساد
يأخذ السلوك العام طابعه، معتمدا على ثلاثة ركائز، فإن صلحت تلك الركائز الثلاث صلح السلوك العام، أو طغى عليه الطابع الصالح، وإن فسدت تلك الركائز فإن أثر فسادها سيصيب الحياة العامة بكاملها. وتتأثر كل ركيزة بالركيزتين الأخريين.
الركيزة الأولى: نظام الحكم:
لا يخفى على أحد ما لنظام الحكم من آثار كثيرة تتعلق بالتشريعات وضمان تطبيقها وشمولها كل أفراد الشعب حاكمين أو محكومين، فسلوك أفراد الحكم بصفتهم الوظيفية سيؤثر سلبا أو إيجابا على سلوك المواطنين. فإن كانت كفاءة الموظف ونزاهته مرتفعتان، فإن خيال المواطن سيتوقف عند حدودهما دون أن يظهر رغبته في إفساد الموظف، وسيهابه، ويفكر كثيرا قبل أن يعرض عليه رشوة، وإن كان الجهاز الوظيفي الذي يرتبط به الموظف جهازا يُشهد له بالكفاءة والنزاهة، فإن فرص المواطنين في العثور على مرتشين ستكون نادرة.
أما إذا كان الموظف ذا كفاءة منخفضة، فإن إفصاحه عن ضرورة التزام الغير بالقانون ستكون ضعيفة، وسيحفظ القوانين حفظا لا فهما، ومع ذلك إذا شفعت له نزاهته فإن ذلك لا يقلل من شأنه في درء الفساد الحكومي، وتلك الظاهرة تندرج تحت باب (البيروقراطية). لكن إن كان الجهاز الوظيفي الذي ينتمي إليه ذلك الموظف جهازا يحتفظ ببعض الموظفين الفاسدين، فإن المواطن لن يعجز للوصول الى أولئك الفاسدين، وعندها تنعدم فائدة الموظف النزيه قليل الكفاءة في درء الفساد.
في حالات الفقر وانتشار الفساد، فإن سرعة وتيرة انتشار الفساد لا يمكن إيقافها بسهولة. لأن هذا الفقر سيترتب عليه تدني أجور الموظفين، ولطالما كان هناك في المراتب الوظيفية العليا من يرتشي، فإن الرغبة بالرشوة ستنزل الى أدنى الموظفين.
كما أن المواطن الذي يُطلب منه دفع رسوم بيع أو تخمين ضريبة عقار أو تخمين قيمة رسوم جمركية، الخ، سيتثاقل من الالتزام بالقيمة التي تقررها التعليمات الصادرة من الدولة، وعليه فإن البحث عمن يخفض له تلك المبالغ سيكون مطلبا ملحا.
وتنتشر بالدوائر حلقات غير ملفتة للنظر، كخادم أو بواب، أو كاتب عرائض، يقوم أفرادها بإيصال من يبحث عمن يقلل تلك الرسوم لهدفه، هذه الحلقات تكون تحت رقابة (لا مركزية)، لكنها ترتبط بمراكز خفية عليا، يتقاسم فيها مفاصل تلك الحلقات الغنيمة في آخر الفترة، ومنهم من يتقاسمها يوميا، وهناك من يشتريها سلفا (كأنها بطاقات هاتف مسبقة الدفع).
ولا ننسى طرق الفساد في العطاءات للمقاولين في الاستيراد أو التنفيذ (المشاريع).
إن الفقه الذي يسود في هذا الجانب المتعلق بركيزة الدولة، ينبثق عنه أعراف وأمثلة، (فيد واستفيد) (انفع صاحبك بشيء لا يضرك).. وتغيب هنا مصلحة الدولة، أو المصلحة العامة، كما تغيب فيها الناحية الخلقية بشقيها (الديني والاجتماعي).
الركيزة الثانية: المحيط الاجتماعي:
كل جزء في كل، هو نقطة في محيط، قد يضيق هذا المحيط أو يتسع، ولكن في حالات الفساد، ستتحد المحيطات الضيقة لتصبح متناغمة في فسادها.
الطالب في مدرسته، نقطة في محيط، إن انتشرت في المدرسة ظاهرة تسريب الأسئلة، أو تقاعس المدرسين في أداء مهامهم، لكي يتفرغوا للدروس الخصوصية، ستصبح الاستقامة ظاهرة نادرة وتشيع ظاهرة المدرسين الخصوصيين. وستلقى لدى المدرسين ذرائعهم التي يردون بها على منتقديهم، بأن الرواتب لا تكفي وأن زملاء المدرس المتكلم كلهم يعطون دروسا خصوصية، فلماذا عليه هو أن ينضبط؟
المواطنة الزوجة الأم، في عمارة نقطة في محيط، سيبهرها مصاريف جيرانها وستقوم بلوم زوجها على تدني ما يقبض، فعليه أن (يتلحلح) ويعمل على رفع دخله، كي يصبح بإمكانهم شراء كذا وكذا.
هذا بخلاف الفساد الآتي من الصحبة التي لا تبتعد كثيرا عن مؤثرات الإعلام الفاسدة في بعض ما تبث، سواء كانت قنوات فضائية أو شبكة الإنترنت أو غيرها من محفزات الشيطنة.
الركيزة الثالثة: الآداب بأشكالها:
يسهم الكُتاب في أشعارهم وقصصهم وخواطرهم في نشر معرفة تكون كحاضنة للمعرفة اللازمة بالسلوك، ولا شك أن هناك الكثير ممن يكتبون يحثون على مكارم الأخلاق ويعيدون نشر ما كان مجيدا في الماضي عن السلف، ويحتفظ العامة بالكثير من الأمثال والقصص الصغيرة ذات العبر، ويستخدم هؤلاء رصيدهم المعرفي في إعادة الكتابة الحاثة على السلوك الحسن.
لكن، كم من المتلقين لهذا النوع من الآداب، وكم هو أثرهم، وكم هي قدرة هؤلاء في مزاحمة المسرحيات والأغاني والمسلسلات الهابطة؟
إن المسألة ليست من السهولة بمكان بحيث تترك دون انتباه.
__________________
ابن حوران
|