ارحموا الشباب ......بقلم الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله...... أذاعة في عام 1956م
هذا حديث أذعته من إذاعة دمشق قبل إحدى وثلاثين سنة , كان من (المفروض) أن يكون قد مضى زمانه وذهبت مناسبته, وصار خبراً للتاريخ بعد أن كان وصفاً للحاضر , وكنت (كما قلت لكم) أكتب أحاديثي فوقع في يدي اليوم فنظرت فيه , فإذا هو لا يزال جديداً كأن هذه السنين الثلاثين لم تُصلح من أمورنا شيئاً , وكأن هذه الخُطب والمواعظ وهذه المقالات والمباحث قد ذهبت هدراً , ولم تخلَّف أثراً .
لهذا , ولأنه ليس في الألف من القرّاء واحد سمعه أو اطّلع عليه , ولأن النفع منه لا يزال بحمد اللّه مرجوّاً كما كان بالأمس , أستأذنكم في نشره هنا .
وأنا أعلم أني تكلَّمتُ في هذا الموضوع كلاماً كثيراً ولكن ماذا أصنع إذا كنت أرى الحريق في الحيّ , وأُبصر لهب النار , يعلو من الدار , ودعوت فلم يستمع إليّ أحد , واستنجدت فلم ينجدني أحد ؟ أترونني قد عملت كل ما عليَّ ولم يبقَ إلاَّ أن أذهب فأنام , وأُغطِّي وجهي باللحاف ؟!!
إنَّ على كاتب الجريدة , وخطيب المنبر , ومعلِّم المدرسة , وكل مَن يستطيع أن يُسهم في الإِصلاح , أن يستمر فيه ولو لم يقطف الثمرة عاجلة , ولا يقول قد ملَّ الناس . فما كنت مُغنِّياً أُطربهم , ولا مُسلِّياً أو مُضحكاً أُضحكهم , ولكنني طبيب أعالجهم . فهل يغلق الطبيب عيادته إن جاءه عشرون في اليوم يحملون المرض الواحد يقول لهم قد مللت من علاج هذا المرض , فهاتوا إليَّ مرضاً غيره أو انصرفوا عني ؟!!
جاءني يومئذ كتاب حمله إليَّ البريد فيما يحمل من كتب ورسائل لبرنامجي في الإِذاعة , يقصُّ فيه صاحبه ( ولست أدري مَن هو وليس في الكتاب ما يدلّ عليه ) يقصّ قصة يقطر من سطورها الدَّمع , ويُشَمُّ منها رائحة القلب المحترق , يقول : إنه رجل مستور صالح متمسِّك بحبال الديانة , مقيم على عهد الفضيلة , وله بنت مشت في طريق الشر خطوة خطوة , حتى صحبت الأشرار , وهتكت الأستار , فسقطت في حفرة العار , وتلك هي النهاية التي تنتهي إليها كل فتاة تسلك سبيل الغواية والضلال.
ويقول : إنَّ سبب ذلك كله المدرسة أولاً , والجامعة ثانياً ؛ ويلعن المدارس التي علَّمت البنات الاختلاط والقعود إلى جانب الرجال ومبادلتهم الأحاديث وما يجرّ إليه الحديث من أضرار ى, يلعن المجتمع الذي أفسدهُنّ إلى آخر ما جاء في الكتاب ...
وكتبتُ إليه يومئذ أقول له : أنا أعرف أنك متألِّم مصاب ولكن ماذا أصنع لك الآن ؟ وهلاّ كتبت إليَّ وفي الصدر ذماء يتردد ؟ ماذا أعمل الآن بعدما شبَّت النار في الدار , وطغى السيل في الليل , واحترق ما احترق أو أودى به الغرق ؟ ماذا يصنع الطبيب إن دُعي بعدما مات المريض أو كاد ؟ هلاَّ دعوته والمرض في بدايته فهو ضعيف , والأمل في الشفاء قوي ؟ لا يا أخي لست أملك لك إلاَّ العزاء , وأن أسأل الله لك الصبر على البلاء .
علِّيَ أنّي إن عجزت عن إسعافه فلست أعجز إن إسعاف غيره ممن لم تؤل به بعدُ الحال , إلى هذا المآل . ولولا الحياء من أن أكون مع الدهر عليه , وأن أزيده ألماً على ألمه , لقلت له : إنِّ الأمر منكِ أنت , منك يا أيّها الأب , ومنكِِ أيّتها الأُم , وإنَّ أولى الناس بما سقت من اللعنات ( لو كان يجوز اللعن ) أنتما الإثنان .
لو كنت تشرف على بيتك وبنتك , لا يلهيك عنهما العمل , ولا اللهو والكسل , ولا السهرات والقهوات ؛ ولو كنتِ أنت تشرفين على بيتكِ وبنتكِ , لا تشغلكِ عنها الخيَّاطات والمزينات , والاستقبالات والزيارات , ولو لم تدعِ البنت للخادمات والمربيات , لما كان الذي كانَ .
على أني لا أبرِّيء المدرسة , ولا أنزِّه المجتمع ؛ فالأب مسؤول , والمعلم مسؤول , والصحفي مسؤول , ومن بيده الأمر مسؤول , كلهم مسؤول ولعلّ آخرهم سؤالاً وأقلهم تبعة البنت التي فسقت , والولد الذي فسد . على أننا ننكر الفسوق والفساد على كل حال .
لقد وضع الله هذه الغريزة في النفس ورسم لها طريقاً تمشي فيه , كما يمشي ماء السيل في مجراه الذي أُعِدَّ له , ووضع فيه من السدود ما يمنعه أن يطغى عليه , ويخرج عنه كما يخرج النهر أحياناً فيغرق الحقل , ويهلك الحرث والنسل .
أما المجرى الطبيعي فهو الزواج , وأما الطغيان فالبغاء والفساد , فجئنا نحن فخالفنا فطرة الله فسددنا المجرى الطبيعي , وأزحنا عنه السدود والحدود , وتركناه ينطلق كما يشاء , فيدمر البلاد , ويهلك العباد , ورأينا قوماً في شمالي أوروبا وفي أمريكا يصنعون هذا فقلنا: إنهم هم المتمدنون , وهم أهل الحضارة , فلنصنع صنيعهم , لنمش وراءهم .
قلنا للشابة : الزواج ممنوع لأن الشباب قد شُغلوا عنه بالحرام , ولأن الآباء طمعوا بمهور النساء وجعلوا بناتهم تجارة للربح , لا باباً للحياة الشريفة العفيفة , ورددنا الخاطب التقيّ الصالح الموافق , وأطلقنا البنت تخرج بادية محاسنها ظاهرة مفاتنها قد نبذت حجابها , وأبدت سحرها وشبابها
وربما طمع الأب بمرتبها إن كانت موظفة فمنع زواجها , يقول : (بنتي وأنا حرٌّ فيها) .
لا يا أخي , لست حراً فيها , إنها ليست شاة ولا بقرة تملكها , تستطيع أن تبيعها أو تمسكها ؛ ولكنها بشر مثلك , وإنما جعل الله لك الولاية عليها لمصلحتها , ولتصونها , وتمنعها من أن تُقدم على ما يؤذيها في دينها , ولا ينفعها في دنياها , فالولاية في الزواج كالكابح في السيارة , يمنعها أن تنهار فتصطدم بالجدار .
من هنا , مما يصنع بعض الآباء , قلَّ النكاح , وكثُر السفاح , وكانت الضحية البنت يجيء الشاب فيغويها فإذا اشتركا في الإِثم ذهب هو خفيفاً نظيفاً , وحملت هي وحدها ثمرة الإِثم : ثقلاً في بطنها وعاراً على جبينها , يتوب هو فينسى المجتمع حَوْبته , ويقبل توبته , وتتوب هي فلا يقبل لها هذا المجتمع توبة أبداً !!
ثم إذا أراد هذا الشاب الزواج , أعرض عن تلك الفتاة التي أفسدها هو , مترفعاً عنها , مدَّعياً أنه لا يتزوج البنات الفاسدات .
فماذا تصنع الفتاة والزواج ممنوع , والسفاح مباح , والرغبة موجودة , والروادع مفقودة ؟ .
تقولون : أنحن منعنا الزواج ؟!!
نعم , أنتم منعتموه !! لم تمنعوه بالقول لكن بالفعل .
تبدأ ( الرغبة الجنسية ) في سن خمس عشرة وتكون أشدّ ما تكون في هذه العشر السنين , إلى سن خمس وعشرين فهل يستطيع الشاب أن يتزوج في هذا السن ؟!! وكيف ؟!! ونظام التعليم يبقيه على مقاعد الدرس , إلى ما بعدها ؟!! وإن هو ذهب للتخصص في أوربا أو أمريكا امتدت به الدراسة إلى قريب من سنّ الثلاثين , فماذا يصنع في هذه السنين ؟!!
وإذا هو فكّر في الزواج فمن أين له المال , ولا يزال وهو في سن الرجال من جملة العيال ؟!! شاب طويل عريض يلبس أفخم الثياب , ولكنه لا يُحصِّل قرشاً !!
مع أنَّ ابن عشرين كان قديماً – أعني قبل ستين أو سبعين سنة – صاحب عمل وكسب وأباً لأولاد .
وإن وجد المال فهل يدعه الآباء يتزوج ؟ .
آباء البنات هم سبب المشكلة : يُسهِّلون للبنت من حيث لا يدرون كل سبيل , إلاَّ سبيل الحلال , يُخرجونها – في كثير من بلاد المسلمين – متكشفة متزينة ويرخون لها الزمام , فإذا جاء من تُرضى أخلاقه , ويُرضى دينه , ويكون من أهل الأمانة , لقي منهم ما يلقى الأسير العربي في إسرائيل .
أهلكوه بالمطالب الثقال : من المهر الكبير , والتكاليف الباهظة , والحفلات المتكررة , والهدايا العديدة , حتى يملَّ فينهزم , أو يصبر فتستنفد هذه العادات كل ريال كان قد ادّخره لهذا اليوم الأسود , فيدخل بيت الزوجية مفلساً , فيبدأً الخصام من أول يوم , ومتى دخل الخصام بيتاً خرجت السعادة من ذلك البيت .
ومن الآباء – في البلاد التي خالفت عن أمر الله فترك نساؤها الحجاب – من يدع ابنته تخرج سافرة حاسرة , في فتنتها وزينتها , يراها كل من يمشي في الطريق , فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها رسول الله عليه الصلاة والسلام , أباها عليه ومنعها منه !!
ومَن ظنَّ أنَّ في هذه الرؤية الشرعية عاراً , أو أنَّ فيها عيباً أو عملاً لا يليق , فقد قبح ما استحسنه رسول الله عليه الصلاة والسلام , ورفض ما أمر به , وظن أنه أغير منه على الشرف والأخلاق , ومَن فعل ذلك فربما خرج من دين الإسلام .
إنَّ ربنا لم يحرِّم علينا شيئاً إلا أحلّ لنا ما يغني عنه ويسدُّ مسدَّه , ويقوم مقامه . حرَّم الزنا وأباح الزواج , والذي يعمله المتزوج هو الذي يصنعه الزاني , فلماذا نوقد الأنوار في مقدمة الدار , عند حفلة الزواج , ونطبع البطاقات , وندعو إليها الناس , ومَن أراد الفاحشة تسلّل إليها في الظلام , وابتغى لها الزوايا التي لا يبصره فيها أحد من البشر ؟ إنهما كمن يدخل المطعم وماله في جيبه , فيقعد على الكرسي مطمئناً , ويطلب قائمة الطعام متمهلاً , فيختار ما يريد , فيأتيه النادل به فيأكله مترسلاً . واللص الذي يخطف شيئاً من المطعم فيلحقه الناس يصرخون : ( حرامي حرامي ) فيلتهم الطعام وهو يعدو , يبتلعه حاراً وربما اعترض في حلقه وغصّ به , فأحس الغصّة في صدره , ثم لا يهنأ ولا يكاد يسيغه .
فتيسير الزواج هو ( السدّ الأول ) الذي أقامه الشرع في طريق الحرام , فهدمناه لمّا صَعّبنا النكاح , وسهَّلنا السفاح .
ومنع الشرع الاختلاط وقال: ((ما خلا رجل بامراة إلاَّ كان الشيطان ثالثهما)).
فجاء ناس منّا , ببغاوات خلقها الله على صورة البشر , تقول ما يقال لها وإن لم تدرك معناه , وإن لم تعرف مغزاه !! قالوا : ما هذه الرجعية ؟ ما هذا الاحتقار للمرأة وسوء الظن بها ؟ أتحرم المرأة حريتها ؟ أنتم أعداء المرأة , وكثير من أمثال هذا الهذيان , يُردِّده مَن لا يدرك أثره ولا يعرف مغزاه .
قلنا : ما نحن والله أعداء المرأة , نحن أحباؤها , نحن المدافعون عنها , المحافظون عليها , نحن نحميها من عدوان الرجل الفاسق , ومن ظلم المجتمع الجائز . فلم يصدّقونا , وخدعوا المرأة حتى ظنت هذا الاختلاط مدنية , وتركوها تنفرد بالرجل وحدها , في عيادة الطبيب حيث تكشف عن بعض جسدها , وفي مخزن التاجر حيث تكلّمه ويكلّمها , وتحسر عن وجهها لترى البضاعة , وعن يدها لتمسك بها , وفي المدارس التي جعلنها مختلطة , وبدأنا من رياض الأطفال , فقلنا: هؤلاء صغار لا يدركون , وهذا حقّ , ولكن ألا تبقى صورة البنت في ذاكرته حتى يكبر ؟ فإذا كبر ألاَّ يكون تَذَكُّر أيام الروضة والحديث عنها , فاتحة لصلة جديدة بينه وبنيها ؟ أوَ ليس في رياض الأطفال بنات وصبيان بلغوا أو بلغن سنّ التمييز وبدؤوا يدركون من كثرة ما يسمعون من الناس , وما يرون من المسلسلات والأفلام , بدؤوا يدركون شيئاً من معنى الزواج ؟ ثم تدرّجنا في كثير من بلاد المسلمين فجعلنا المدارس الابتدائية مختلطا فيها البنون والبنات , وفيهنّ مراهقات أو بالغات !! أوَ لم نجعل الأصل في الجامعات الاختلاط ؟! يقعد الشاب العزب المحروم الذي تنضح كل خلية في جسمه بهذا الميل الذي نسميه ( جنسياً ) , بجنب الفتاة يمسّ بكتفه كتفها وبرجله رجلها , وربما كانت سافرة حاسرة تلمس وجهه او يده أطراف جدائلها !!
وربما كانت قصيرة الثوب قد ارتفع عن ركبتيها , وكشف طرفاً من فخذيها !! ثم نقول له انتبه لحل مسائل الرياضيات , ومعادلات الكيمياء , وشرح المعلقات !! اجعل ذهنك فيها وانس أنَّ إلى جنبك بنتاً تتمناها وتشتهيها !!
لقد جعلنا هذا الاختلاط هو الأصل في السفروفي الحضر , وفي المدرسة وفي الملعب , وعلى الشواطئ وفي الجبال , وقلنا هذه هي المدنية !! فانكسر ( السد الثاني) .