مُوْسِيْقَىْ قَطَرَاْتِ الْمَطَرِ عَلَىْ زُجَاْجِ نَاْفِذَتِهِ أَغْرَاْهُ بِكُلِّ قُوَّةٍ لِلْخُرُوْجِ، وَالتَّفْكِيْرُ بِالسَّفَرِ.
رَجُلٌ عَشقَ السَّحَاْبَ مُنْذُ خَطْوِ الطُّفُوْلَةِ الطَّيِّبَةِ. وَعَشقَ ذَلِكَ الْحَمَلَ الصَّغِيْرُ فِيْ قَرْيَتِهِ. 
كَاْنَ يُلَاْعِبُ الْعُشْبَ، وَالسَّنَاْبِلَ، وَالطَّرِيْقَ الطَّوِيْلُ الَّذِيْ يَتَسَلَّقُ الْجَبْلَ الشَّاْهِقَ فَوْقَ قَرِيْتِهِ الْصَّغِيْرَةِ. 
 
قَرَّرَ السَّفَرَ فَجَأَةً!
شَربَ كَوْبَ قَهْوَتِهِ. وَارْتَدَىْ أَجْمَلَ مَاْ يَمْلكُ مِنَ الْلِّبَاْسِ. 
كَاْنَ أَنِيْقَاً؛ رَشِيْقَاً فِيْ تَرْتِيْبِهِ لِلْأَشْيَآءِ؛ وَدِيْعَاً مُوَاْدِعَاً.. مُحِبَّاً لِلسَّلَاْمَةِ وَالْهُدُوءِ وَالسَّكِيْنَةِ. لَمْ يَأخُذْ أَيَّةَ مَلَاْبِسَ أُخْرَىْ سِوَىْ بَدْلَةً وَاْحِدَةً وَعَدَدَاً مِنَ البَدَاْئِلِ التَّحْتِيَّةِ.
أَخَذَ مِظَلَّتَهُ، وحَقِيْبَتَهُ وَعَصَاْهُ.
 
وَإِلَىْ مَحَطَةِ الْقِطَاْرِ.. بِدُوْنِ تَرَدُّدٍ أَوْ تَقَاْعسٍ أَوْ بِطْئٍ.
أَشَاْرَ بِعَصَاْه لِسَيَّاْرةِ أُجْرَةٍ.
عَرَفْتُهُ دَوْمَاً رَجُلَاً مَحْظُوْظَاً مُنْذُ طُفُوْلَتِنَاْ الْقَدِيْمَةِ الَّتِيْ تَرْجِعُ بِصِدْقِهَاْ إِلَىْ سَنَوَاْتِ الزَّمَنِ الْجَمِيْلِ ! .. 
وَمَاْهِيَ إِلَّاْ دَقَاْئِق حَتَّىْ وَقَفَتْ سَيَّاْرَةُ أُجْرَة.
" إِلَىْ أَيْنَ سَيَّدِيْ ؟" سَأَلَ السَّاْئِقُ.
" إِلَىْ مِحَطَّةِ الْقِطَاْرِ، إِذَاْ سَمَحْتَ ! وَصَبَاْحُ الْخَيْرِ يَاْصَدِيْقِيْ ".
وَكَاْنَ قَدْ هَاْتَفَنِيْ أَنْ أَلْتَقِيْهِ فِيْ مَقْهَىْ الْمِحَطَّةِ. عَلَىْ أَنْ يَكُوْنَ الْهَاْتِفُ بِيْنَنَاْ.
 
كَاْنَ الرَّجُلُ يَرَىْ الْأَشْيَآءَ بِأَلْوَاْنٍ لَاْ يَعْرِفُهَاْ النَّاْسُ. 
وَيُحِبُ الْعَاْلَمَ حُبَّاً لَاْ يَفْهَمهُ النَّاْسُ. 
وَيَعْشَقُ الْجَمَاْلَ عِشْقَاً مَاْ طَعِمهُ أَوْ شَمَّهُ أَوْ سَمِعهُ النَّاْسُ. 
وَكَاْنَ عِشْقُهُ الْأَوَّلُ والْأَخِيْرُ: الْمَرْأَةَ . 
كَاْنَ دَوْمَاً يَضَعُ النَّظَّاْرَةَ عَلَىْ عَيْنِيْهِ؛ وَكَأَنَّمَاْ كَاْنَ لَاْ يُرِيْدُ أَنْ يُشَاْرِكهُ أَحَدٌ فِيْ الْأَشْيَآءِ الَّتِيْ تَسْبَحُ فِيْ عَيْنِيْهِ، أَوْفِيْمَاْ هُوَ سَاْبِحٌ فِيْهِ؛ أَوْ كَأَنَّهُ كَاْنَ لَاْيُرِيْدُ أَنْ يَرَ شَيْئَاً قَبِيْحَاً يُعَكِّرُ صَفَآءَ الْجَمَاْلِ الَّذِيْ يُمُوجُ بِدَاْخِلِهِ وَخَاْرِجِهِ وَالَّذِيْ بِهِمَاْ يَرَىْ الدُّنْيَاْ كُلَّهَاْ مِنْ مِنظَاْرِ طَاْئِرٍ فِيْ السَّمَآءِ أَوْ مِنْ خِلَاْلِ سَوْسَنَةٍ عَبِقَةٍ فِيْ رَاْحَتَيْهِ؛ أَوْ إِنْ رَأَىْ شَيْئَاً لَاْ يُحِبُهُ.. عَلَّهُ يَقُوْلُ: " تِلْكَ هِيَ النَّظَاْرَةُ السَّوْدَآءُ ! وَلَيْسَ الْعَاْلَمُ أَوِ النَّاْسُ، أَوْ السَّوْسَنَةُ أَوِ الْعُصْفُوْرُ".
 
أَوْصَلَتهُ عِنَاْيَةُ اللهِ إِلَىْ مِحَطَّةِ الْقِطَاْرِ. 
إِتَّجَهَ لِشَرَآءِ تَذْكَرَةَ السَّفَرِ. وَعَرَّفَهُ الْعَاْمِلُ الْمُخْتَصُّ بِكُلِّ مَاْ يَجِبُ أَنْ يَعْرِفُهُ مِثْلُهُ. سَأَلَ عَنْ الْمَقْهَىْ فِيْ الْمِحَطَّةِ، فَأَشَاْرَعَلِيْهِ بَعْضُ النَّاْسِ عَنْ سَبِيْلِهَاْ. تَحَسَّسَ طَرِيْقَهُ فِيْ الزَّحَاْمِ غَيِرِ الْمُكْتَرِثِ بِأَحَدٍ! الرَّجَلُ مَحَظُوْظٌ وَيُحِبُّ اللهَ، وَيُحِبُّهُ اللهُ! وَجَدَ كُرْسَيَّهُ وَطَاْوِلَتَهِ، تَوَّ وُصُوْلِهِ بِلَاْ أَدْنِىْ صُعُوْبَةٍ أَوْ إِزْعَاْجٍ أَوْ سُؤَآلٍ !.. أَخَذَ كَوْبَ قَهْوَتِهِ الثَّاْنِيْ هُنَاْ. وَالْمَكَاْنُ فِيْ الْمَقْهَىْ قَدْ ازْدَحَمَ بِالْمُسَاْفِرِيْنَ؛ تَقَدَّمَتْ إِمْرَأَةٌ طَاْلِبَةً مِنْهُ إِمَكَاْنَ الْجُلُوْسِ، وَالْإِنْتِظَاْرِ. أَشَاْرَ بِيَدِيِهِ وَقَاْلَ بِابْتِسَاْمَةٍ وَضِيْئَةٍ أَلِقَةٍ ـ كَأَنَّهَاْ عُشْبٌ أَمْطَرَتَهَاْ سَحَاْبَةٌ ! ـ وَجَدَتْ طَرِيْقَهَاْ خِلَاْلَ شَاْرِبِهِ الْكَثِيْفِ الَّذِيْ يُغَطِيْ شَفَتَيْهِ كِلَيْهِمَاْ :
" تَفَضَّلِيْ سَيَّدَتِيْ الْجَمِيْلَةُ !"..
إِبْتَسَمَتِ الْمَرْأَةُ وَرَدَّتْ بِالْإِمْتِنَاْنِ وَالشُّكْرِ؛ لِلْإِفْسَاْحِ وَالتَّقْرِيْظِ.
وَصَلْتُ وَسَلَّمَتُ عَلِيْهِمَاْ.. وَتَعَرَّفْتُ عَلَىْ الْجَمَاْلِ الْجَاْلِسِ مَعَنَاْ!
 
وَلِلْأَمَاْنَةِ.. 
كَاْنَتِ الْمَرْأَةُ رَاْئِعَةُ الْجَمَاْلِ وَفِيْ الْخَمِسِيْنَاْتِ مِنْ عِشْقِهَاْ. وَجْهُهَاْ كَأَنَّهُ مِنْ فِضَّةِ الْبَدِرِ يُرَتِّلُ تَرَاْتِيْلَ الْعِشْقِ، أَوْ عَسْجَدِ الشَمْسِ يُرَدِّدُ أَنَاْشِيْدَ الْجَمَاْلِ وَأَغَاْنِي النَّهَاْرِ. وَهِيَ إِمْرَأَةٌ مُمْتَلِئَةٌ بِرَشَاْقَةٍ أَنَاْنِيَّةٍ؛ فَاْرِعَةُ الْقَاْمَةِ بِشَرَاْهَةِ أَرْدَاْفِ طَبْيَةٍ تَتَسَتَّرُ بِأَوْرَاْقِ الشَّجْرِ؛ وَثَغْرٍ مَسْكُوْبٌ عَلَيْهِ زَهْرٌ أَرْجوَاْنِيٌّ يَرْفُلُ.. وَقَدْ قَبِلَ الشَّهَاْدَةَ هُنَاْكَ بِهَنَآءَةٍ وَفَرَحٍ مُغْدقٍ بِتَرَفِ الشَّهِيْدِ؛ وَعِينَاْهَاْ كَزَهْرَتِينِ مِنْ الزَّنْبِقِ قُطِفَتِ لِتَوِّهِمَاْ؛ ذَاْت بَشَرَةِ سَمْرَآءَ لَاْمِعَةٍ صَقِيْلَةٍ ؛ وَكَقِطْعَتَيْ شُهْدٍ مُصَفىً خَدَّاْهَاْ؛ وَشَعْرُهَاْ كَالْلَّيْلِ قَدْ سَرَحَ مَلْفُوْفَاً إِلَىْ أَعْلَاْه تَاْرِكَاً جِيْدَهَاْ تِمْثَاْلَاً مِنْ عَاْجٍ نَاْدِرٍ! 
كَاْنَتْ قِطْعة مِنْ جَمَاْلٍ مَحْضٍ مُجَرَّدٍ!
 
دَاْرَ الْحَدِيْثُ بِيْنَهُمَاْ فِيْ شُجُوْنٍ كَثِيْرَةٍ؛ فِيْ الْحَيَاْةِ وَالسِّيَاْسَةِ وَالْإِقْتَصَاْدِ.. وَهُنَاْ وَهُنَاْكَ. وَأَنَاْ أَسْتَمَعُ.. وَلَاْ تَعْلِيْق!
مَرَّتْ عَشْرٌ مِنَ الدَّقَاْئِق؛ وَلَمْ تَبْقَ غَيْرُ دَقَاْئِق للرَّحِيْلِ حِيْنَ تَجَرَأَ صَدِيْقِيْ فِيْ الْقَوْلِ بِمَاْ لَاْ يُرْيِدُ لَهُ أَنْ يَبْقَ فِيْ مَحْبَسٍ رَهَنَ صَدْرِهِ:
 
" سَيِّدَتِيْ هَلْ تَقْبَلِيْنَ أَنْ أَصْطَحِبَكُ أَوْ تَصْطَحِبِيْنِيْ إِذَاْ كَاْنَتْ وُجْهَتُنَاْ وَاْحِدِة؟"
" لَاْ بَأَسَ أَبْدَاَ " 
أَجَاْبَتِ الْمَرْأَةُ الرَّقِيْقَةِ.
" سَيَّدَتِيْ أَنْتِ جَمِيْلَة فِيْ الْخَلْقِ وَالْخُلُق. 
" وَمَاْ طَعِمَ، وَلَاْ سَمِعَ، وَلْاَ شَمَّ جَمَاْلَكِ فِيْ هَذِهِ الْمِحَطَّةِ سِوَايَ"
إِبْتَسَمَتْ بِخَجَلٍ وَفَرَحٍ وَاسْتِحْيَآءِ الْجَمَاْلِ الْمُتَكَبِّرِ الْمُتَجَبِّرِ.. إِذَاْ تَوَاْضَعَ حِيْنَ يُمْدَحُ !
 
وَقَبْلَ أَنْ أُوَّدِعُ صَدِيْقِيْ الْجَمِيْلِ وَصَدِيْقَتَهُ الْجَمِيْلَةَ .. هَمَسْتُ فِيْ أُذُنُهَاْ :
" سَيَّدَتِيْ الرَّاْئِعَةُ ! ..
" إِنَّ صَدِيْقِيْ أَعْمَىْ ..!
" وَلَكِنُهُ قَدْ شَرَبَكِ كَكَوْبِ قَهْوَتِهِ تِلْك !
" ثِقِيْ تَمَاْمَاً مِمَّاْ أَقُوْلُ، 
" أَعْرِفُهُ كَمَاْ أَعْرِفُ كَفَّيَّ، .. بِلْ خُطُوْطَ كَفِّيَّ "
 
إِبْتَسَمْتْ بِحُزْنٍ.
هَمْسَتُ مَرَّةً أُخْرَىْ:
" سَيَّدَتِيْ..
" إِنَّهُ يَرَىْ كُلَّ الْعَاْلَمِ الْآنَ فِيْ يَدَيْكِ..!
" فَلَاْ تَكْسِّرِيْ جَمَاْلَ الْعَاْلَمِ الَّذِيْ يَقِفُ الْلَّحَظَةَ بَيْنَ يَدِيْكِ يَنْتَظِرهُ هُنَاْكَ !!"