حصـاد المجـزرة
يمكننا القول إنَّ حدث المجزرة الصهيونية على قافلـة الحرية ، حدثٌ مفصلي ، سيشكـّل بداية مرحلة تاريخية ، وجديدة في طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني ، ولا أدري هل الأتـراك قد خطّـطوا بعبقريتهـم لكـلّ هذه المكاسب الكبيرة التي سنحصدها من الحادثـة _ إن أحسنـّا توظيفهـا _ أم أنهـا ثمـرات لم يتوقّعوهـا إلى هذا الحـدّ !
أسس السياسة التركية في مواجهة الصهاينة
من الواضح جدا أنّ الحزب الحاكم في تركيا ورث تعقيدات عهد التطرف العلماني وعُقـد مستعصية من التورط القذر في المستنقع الصهيوغربي من عقـود طويلة .
غير أنه لايخـفى ما بين سياسة تركيا اليوم تجاه القضية الفلسطينية ، وتلك العقود الأتاتوركية من البون الشـاسع ، والخـلاف الواسع ، فنحن أمام روح جديـدة لاتخفى صـدق تعاطفـها ، وبصيرة جديـدة تتطلع إلى طور مختـلف .
ولهذا اعتمدت السياسة التركية في مواجهة الكيان الصهيوني على خمسـة أسس :
أحدها : وهو أهـم ناحيـة ، أخذ زمام المبادرة في إعـادة رسـم شكل الصراع مع الكيان الصهيوني ، وتلوينه باللون الذي يجب أن يراه الناس عليه ، وتحـديد سقـفه ،
مـع الإلتفاف على المكر الصهيوني الذي كان ناجحا طيلة ما مضى من العقود في خلط الأوراق فـي هذا الصـراع .
فالصهاينة تلاعبـوا عبر عقـود الصـراع في القضية الفلسطينية على مستوى المكر السياسي على ثلاثة محـاور :
1ـ العبث بالمصطلحات ، ولهذا جعـلوا ( الأمن مقابل السلام) بدل ( الأرض مقابل السلام ) _ مع أن هذه أيضا خدعة وكذبة _ ثم رموا بما يسمى (عملية السلام) لعبـةً لإلهاء الطرف العربي وتشتيت قضية الصـراع ، ليحصلوا في المقابـل على الأمن المطلق بلا مقابـل .
ثم انتقلوا من هذه الخدعة إلى جعل تحقيق الأمن بيد سلطة فلسطينية مزيّفـة ، وانتزعوا هذه السلطة المزيـفة من خدعة السلام نفسـها ، فوظّفـوهـا تابعـةً للأمن الصهيوني ، فحصلوا على الأمن بيـد فلسطينية تحرسهـم ، بينـما لا سلام للفلسطينين مطـلقا ، بل إبادة مستمرة !
2ـ تغييـر معالم الصراع بحيث تضيع القضية الأم ، وتتحـور إلى قضايا ثانوية دائمـا ، ولهذا نقلوا القضية الفسلطينية من قضية إسلامية ، إلى عربية ، إلى فلسطينية ، إلى حصار غزة ، إلى معبر رفح ، إلى أنفاق غـزة ، إلى قافلة الحرية ، لكي تُنسى القضيـة الأم ، وهي تحرير فلسطين ، وحتى إذا تحقق إنجازٌ مثل فتح معبـر رفح ، يرى الناس أنهم قد حقّقـوا إنتصارا ، بينما هو وهـم بالنسبة للقضية العظمى !
3ـ الإستثمار في مخزون الخيانة الكبير ! في الأنظمة العربية كونها تحت عباءة الغـرب الحليف الإستراتيجي للصهاينة ، ونقل الأنظمة العربية واحـداً تـلو الآخـر ، من الخندق الفلسطيني إلى الخندق الصهيوني ، وهذا قـد نجحوا فيه نجـاحا باهـرا !
غيـر أنَّ هذه المحاور الخبيثة ، قـد بدأت تتهاوى أمام الدهاء التـركي ، واستطاع الأتراك الذين ورثـوا الإمبراطورية التي حكمـت العالم خمسة قرون ، أن يعبثوا بالمكـر الصهيونـي ، وأن يعيدوا تشكيل ورسم صورة الصراع ، كما ينبغي أن تكون .
ولهذا لاحظنا في خطاب أردوغـان التركيـز على القضيـة الأم عندمـا أعـاد وكــرَّر :
إننا سنقف مع حقوق الشعب الفلسطيني ولن نتخلـّى عنه ، ويعني : فالقضية الأم ليست هي حادثة مجتزئة ، وإنمـا حقوق شعب بأكمـله.
وأننا سنرفع الحصار عن غــزّة ، مهما طال الأمـد ، ويعني : فهذه القضية التي يريد الصهاينة أن يجعلوهـا ( حالة عادية ) ، سنحولها إلى جحيـم ضد سمعة الكيان الصهيوني .
الصهاينة وإبتـلاع الطعـم
ولهذا فيبدو من الواضح أنّ الصهاينة قـدْ ابتلعوا الطعم التركي ، ومع شدّة حزننا على الدماء التي أريقـت في قافلـة الحريـّة ، غير أنّنـا أمّـة الجهاد ، التي تعلم علم اليقيـن أنّ التضحيـات هي طريق النصر ، وأنّ الدماء سقيـا شجرته ، ولهذا فإننـّا نقبـل فرحيـن بمـا سيتحقق من مكاسب سياسية هائلة ، لعـلها سـتكون أعظـم مما لو وصلت قافلـة الحريـة إلى غــزة ،
الثانية من أسس السياسة التركيـة : إستراتيجية التعرية ، وتقوم على الإستمرار في كشف حقيقة الكيان الصهيونية ، وتعريته أمام العالم ، بإسـتثمـار حصاره لغـزة ، وكانت مجزرة قافلة الحرية هي التعرية الكاملة التي أسقطت آخـر ستـر مزيف يضعه هذا الكيـان على عورته.
الثالـث : إحراج النظام العربي الرسمي لاسيما النظام المصري ، ودول الخليج الحليفة الخانعـة للغـرب ، لوضعـه أمام مسوؤليته المباشرة .
الرابـع : توريط الكيان الصهيوني ، بوضعـه في مواجهة العالم ، لحصار هذا الكيـان وعزلـه ، بدل حصار غزة وعزلها ، وهاهو الكيان الصهيوني يتورّط في جريمة ( إرهاب دولة ) بكلّ المقاييس العالميـة ، وفي حقّ مواطنين من دول متعددة ، وذلك بعد فضيحة إغتيال المبحوح التي عادت عليه بالسـوء .
الخامـس : تجاوز دوائـر السياسة الغربية ، إلى طلب الدعـم من المؤسسات الشعبية والحقوقية الغربية ، وذلك لإحراج ساسة الغرب ، وفضحهم أمام شعوبهم ، وحصرهم في زاوية تنتزع منهم قرارات ضد الكيان الصهيوني رغـما عنهم ،
وهذا من السياسة التركية ، هجوم على نقطة ضعف السياسة الغربية ، وإستثمارها بشكل مذهل .
ولاريب أنَّ هذه كلَّهـا ستكون مـن نتائجهـا كسـر الحصار عن غـزة بإذن الله تعالى ، وهذا خيـر من وصول أسطول السفـن ، ولاغرابة فالدماء المخلصة لم تـزل تفتـح على أمـتنا غـيث النصـر .
ثمار الحريـة
ولاريب أنَّ الصهاينة لم يعتادوا التعامل مع هذا النوع من الحراك السياسي التركـي ، فقد ترهلَّت قوى المكر اليهودي مع طول التعامل مع النظام العربي الرسمي الذي إما أن يسهل شراؤه ، أو يسهل خداعه ، مع كونه أصلا نظاما قد نصـب ليكــون كذلك ؟!
غير أنَّ السياسة التركية هذه ، هي ثمـار الحرية التي عندما مُنحت للشعب التركي ، جاءت بالحزب الحاكم الحالي الذي يُعبـِّر عن مزاج شعب مسلم يتعاطف بإنتمائه الحضاري الفطري مع القضية الفسلطينية .
فلنقس إذاً على هذا المثـال ، ما سيحدث في بلادنا العربية فيـما لو منحت الحرية أن تختـار حكّامها !
وكيف سيكون التغيير الهائل الذي سيأتي بـه هذا الإختيار على جميع قضايـانا ، نحو تحقيق أهـداف الأمـة ؟! ،
وهذا إنما يدل على أن من أعظم مصائب الأمة في هذا العصـر هو توريـث السلطة ، وإلـغـاء دور الأمّـة ، و أنه مالم يتوقف هذا النزيف الدائم لطاقات الأمـة ، وقدراتها ، وإمكاناتها فالنتيجـة هي الدمار الشامل ، لكل مقدساتنا .
الصمت العربي المخـزي
هذا .. ولم يعـد يخفى أن هذا الصمت العربي المخزي تجاه مجزرة قافلة الحرية ، إنما هو نتيجة حتمية لكارثة توريث السلطة ، وحجب دور الأمة في تولي زمام القيادة ، ومما يؤكّـد ما قلناه أنّ الحراك الوحيـد جاء من الكويت بإنسحابها من مبادرة السلام العربية _ ونحن هنا إنـما نذكر واقعـا فحسـب ولانُشيـد بنظام عربي فلا يزال أمام الأنظمة العربية مراحل تنقطع فيها أكباد الإبل قبل أن تستحـق الإشادة ! _ وذلك بسبب ضغط نواب منتخبين على حكومـة خاضعـة لرقابة علنيـة ، وهي حالة سياسية إيجابيـة _ وإن كانت محدودة للغاية _ غير أنها نادرة في الوطن العربي ، فكيف لو جاءت الحرية الحقيقيـّة التي ينشدها النظام السياسي الإسلامي .
أما سماح النظام المصري بعبور المساعدات الإنسانية من معبـر رفح ، بعد مجزرة قافلة الحريـة ، فهو إضافة إلى كونه من ثمار قافلة الحرية ، ما هو إلاّ فضيحة جديدة تضاف إلى سلسلة فضائحه ، لأنه أولا ينادي على نفسه بأنه السبب فيما جرى من كارثة ، وثانيا هو مازال يدعي _ والواقع يكذّب ذلك _ انه يسمح بالمساعدات الإنسانية ، فكأنه يكذب نفسه اليوم عندما يعلن أنه سيسمح بهـا بعـد المجزرة !!