(111)
وعلى هذا الوجه يمضي الشاعر في تصوير الوجه الأول بكل تألقه ، وبكل كبريائه وجلاله ،وبكل حنوه وتواصله الحميم معه ،وما إن ينتهي من تصوير هذا الوجه -الذي يمثل الطرف الأول للمفارقة- حتى ينتقل إلى تصوير الوجه الثاني لدمشق-الذي يمثل الطرف الثاني فيها- :
أمس فتشت فيها عن الفقراء عن الثائرين بغوطتها لم أجدهم ، وعن
شجر الغوطتين فلم أتعرف على الخضرة الحانية
ثم وجهت وجهي إلى حارة كانت "القنوات"وكانت تقاتل أعداءنا ،
وتقدم بين الحواري ملاجئها للمطارد ، وحدي صرخت بها ..لم تجب ،
لم أجد غير جبهتها الدامية
أمس فتشت عن أصدقائي القدامى فما عرفوني ، رأيت الوجوه تغيم ،
تجف ، تفر الملامح منها ، وكنت أنادي فلم يسمعوني ، ولم يفهموا
لغتي بالنداء
كنت أعرف هذي المدينة . ما للمدينة تنكر وجهي ، أضاحكها لا تجيب،
تصادر صوتي ، تحاصرني باليعاسيب ، تملأ أوجهها بالطحالب والميتين ..إلخ
وهكذا يمضي الشاعر في تصوير ملامح هذا الوجه الآخر من وجهي دمشق،
بكل مكا نفيه من تجهم له ، واربداد وإنكار ، وبكل ما يخد قسماته من ملامح الضعف والهوان
والانكسار ؛فالمدينة التي كانت شوارعها خنادق نضال وصمود ،التي كان يحس الشاعر
بالانتماء إليها والتواصل الحميم معها ، حيث كان يحس أنها جزء منه وأنه جزء منها ..تحتضنه وتنادمه
وتمنحه الأمان والنجدة والحمى إذا ما استغاث بها قد تحولت إلى خرائب صامتة يحس فيها بالغربة ،يستصرخها
فلا يجيبه أحد ، يضاحكها لا تستجيب ، تنكر ملامحه وتحاصره بكل ملامح الركود والخمود والموت ،اليعاسيب
والطحالب والميتين