من وحي أيام من القهر

[عبدالحميد المبروك]

من وحي أيام من القهر

في ليلة مكتظة بالشجون .. تحمل بين راحتيها كل معانى الأسى ..كنت وحدي اتكئ على أريكة مصنوعة من الجراح .. أحمل في يدي كأساً من الهم أتجرعه ولا أكاد أسيغه ..!!رحــى الحزن في فؤادي تـدور ..وصـــراع النفس في داخلي يتفاقم شيئاً فشيئاً .معارك حامية الوطيس ميدانها عيني و ثورتها تحجب عني الرؤية وتسقط فيها الدمعة تلو الدمعة معلنة انهزامها أمام الوجــع ..!! وجهي الذي كان مشرقاً كما الشمس أمسى شاحباً ممزوجاً بلون الألم القاتم شفتي مغلفة بــصمتِ رهيب لم أعتده .. وعلى جبيني علامات إكتئاب ..!!
أصوات الأنين تزمجر في حناياي .. وتحاصرني لتقتل كل معاني الأمان ، و بــدون هــوداه ..!!

هكــذا كُنتُ .. وهكذا كانت ليلتي ..هــم يصاحبه غم .. وحيــرة يعقبها وجع ..لو رأتني الأشبـــاح حينها لفرت مني هاربة ولتعالى زفيرها وشهيقها ..!!

سبب ذلك أني سقطت في وحــل من الصدق و الإخلاص فجرفني تيار الظلم و القهر فتلوثت كرامتي وعلى إثرها فقدت جُلَّ قــواي ..حتى عجزتُ عن النهوض وانتشال روحـي من بين براثن العناء
و عمـــق الشجون ..
أساليب القهر و الإمتنهان تدكني بمكائدها و دسائسها دون شفقه .. و لهيب الضجر يلفحني طوقا من عدم الرضاء يشتد على عنقي ــ يخنقني ..فتحتضر الأنفاس و يزداد الأنيــن وأجتـر في جُنحِ الظلام مواجــعــي ..أحـاول بصـراخ مثخـن مكبلٌ إلى حــد اليأس ..أن أستجدي بـ "بصيص" أمـل
لكن لا جدوى ..
فالآمال تتلاشى مني .. والآلام تتسابق إليَّ والجــرح ينـزف و بـــبـذخ شديد..!!
تذكرت قول قائل يقول : ـ
لا تسألنى من أكون
بل إسألنى كيف أعيش فى هذا العالم الملعون
كيف سأرحل من هذا الكون
وأنزع الآه المدفون
إسألنى كيف سأزرع الفرح فى أرض الجنون
كيف سأوقظ مشاعر الحب فى قلب مسجون
فلا تسألنى من أكون
وتتركنى بعدها أبحث عن نفسى بين ركام العيون
تريد أن تعرف من أكون ؟!!!
سأخبرك ولكن يجب أن تكون بكامل العقل موزون
أنا........
فرحة من بين الضحك سرقتنى الهموم
أنا بسمة رحلت لتحل محلها دمعة مشؤوم
أنا نور بين الظلام أخفتنى الغيوم
أنا دمعة مدفونة وآه مخروسة
وطعنة حادة فى القلب غرستها الظلوم
أنا من ندرت سعادتى لبشر لا تعرف قدر السعادة
والوفاء فى قاموس حياتها الملغوم
أنا من أخلصت لأناس لا تعرف كيف الإخلاص يكون
أنا من إنتشلت من حولى من الظلم
ولا أحد حاول إنتشالى حين أصبحت مظلوم
أنا......
لا أقدر أكثر على وصف نفسى
فالأنا فى زماننا معدوم

لفني الحزن فشقيت نفسي وفاضت أدمعـي ، حينئذ شعرت أني لا محالة هالك وأن ملائكة الموت تتسارع لتكفيني ، إلا أن رحمة الله التي وسعت كل شيء كان لها قدم السبق . فبينما أنا ألوك جراحي إذ غشيتني رحمة منه وحلت محل القنوط الذي كاد يأسرني ، إن لم يكن قد أسرني ، فتذكرت قول الله تبارك وتعالى :
بسم الله الرحمان الرحيم
" وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ ".
و قوله تعالى " قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ".
وقوله تعالى " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً "
و قوله تعالى " هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً "

و تذكرت حديث المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه

"أرحنـــا بها يا بلال"

فأحسست أني بحاجة ماسة لهم كــبلسم شافي لأحزانــي. وما إن تذكرت تلك الآيات و الأقوال حتى شعرت بروحي تسوقني إلى إفتراش سجادتي لأقف أمام رب يسمع النجوى ويجيب المضطر ويكشف الضر. وفي السجود غشيتني نوبة بكـــــاء فشعرت براحة لم أشعر بها من قبل وبطمأنينة لم تدخل نفسي فيما مضى من العمر وأنا بين يدي رب رحيم لا يعلم بحالي غيره ولا يرى ما في قلبي والهم الذي جثاه أحد سواهفناجيته بقلب هيوب ونفس سبت في ظلام الضعف ..

يــا الله ..
يا من إذا ما أظلم ليل اليأس في قلوب المستوحشين أنار بنور جلاله ظلمته ..
يا من إذا ما إشتد الكرب في نفوس التائهين فرّج برحمته الكرب.
يا من إذا ما سدت طرق النجاة في وجوه الحائرين أرسل سفنه لإنقاذهم من الغرق
يا رب ..
خذ بيدي كيلا أسقط في متاهات القهر و الإمتهان و الظلم
إذا أردت فاجعلني رهن مشيئتك .. وإذا قضيت فهيئ قلبي لتقبل قضائك
وإجعلني راضيــــا بما قسمت لي .. قانعا بنصيبي من دون الخلق
ولا تشقنـــي برحمتك يا أرحم الراحمين
اللهم إني أعوذ بك من أن تُنزل بي ما لا أستطيع الصبر عليه وأسألك أن تَلطف بي وترحمني
فأنت أكرم من أن تعذب روحاً تقر بوحدانيتك وتشهد أنك أنت الله ..
يا رحمن إرحمني في أحوالي كلها
وأنر ظلمات دنياي بفيض رحمتــــك
وارزقني الرضى بالقضاء
و أفوض أمري إليك ..
..
بعدها أدركت قيمة الإطمئنان في القرب من الرحمن ، فقد صغرت كل الأشياء في عينيّ حتى لا أكاد أرى في غير قربه ودربه والخنوع إليه " مـــلاذاً ".
فما أعظم نـــور الله للمستوحشين.
فله الحمد وله الشكر وله الرضى
و الحمد لله على نعمة الإسلام التي أُنير بها الدرب و فُرّج بها الكرب.
ولقد صدق من قال كل مصيبة تصاب بها قد تدرأ مصيبة أكبر منها.