العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: الشكر فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: أنا و يهود (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: نقد المجلس الثاني من الفوائد المدنية من حديث علي بن هبة الله الشافعي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: زراعة القلوب العضلية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: غزة والاستعداد للحرب القادمة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال حديقة الديناصورات بين الحقيقة والخيال (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في مقال ثلث البشر سيعيشون قريبا في عالم البعد الخامس (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نقد مقال بوابات الجحيم التي فتحت فوق سيبيريا عام 1908 لغز الانفجار الكبير (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الغرق فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال أمطار غريبة (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 20-08-2010, 11:42 AM   #151
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

حكمة مع القلوب المغلقة

وافق خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة فصام، وصام المسلمون معه، حتى إذا بلغوا مكانا يسمى "الكديد" أفطر وأفطر المسلمون معه، ولم يزل مفطرا باقي الشهر حتى دخل مكة.

واستجاب الله تعالى دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم تعلم قريش شيئا عن تحركات المسلمين أو نواياهم، وفي هذه الأثناء خرج العباس بن عبد المطلب بأهله مهاجرا إلى المدينة، وكان العباس هو الذي يمد المسلمين بالمعلومات الاستخبارية عن نشاطات قريش منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.

ولم يستطع زعيم قريش أبو سفيان السكون طويلا على هذا الوضع المقلق الذي خلقه نقض قومه لعهدهم مع المسلمين؛ فخرج يتحسس الأخبار ففوجئ بجيش المسلمين الضخم عند مكان يسمى "ثنية العقاب" قرب مكة، فأسرته قوة من استطلاعات المسلمين، وهمّ عمر بن الخطاب أن يضرب عنقه، إلا أن العباس أجار أبا سفيان وأركبه خلفه على بغلته ليدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسون العفو.

رفض النبي صلى الله عليه وسلم استقبال أبي سفيان في بداية الأمر، فقال أبو سفيان: "والله ليأذنن، أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشا أو جوعا"، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك رق له، ورحم عزيز قوم أصابته تقلبات الدهر، وأذن له بالدخول، ولما رآه قال له: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألا إله إلا الله؟".

فتحت هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم قلب أبي سفيان للإسلام، وقال: "بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا"، فقال له العباس: "ويحك! أسلم واشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، قبل أن تُضرب عنقك" فأسلم أبو سفيان. ويكشف هذا الموقف عن روعة تقاسم الأدوار بين المسلمين لهداية الناس إلى الله تعالى، فإن الأقفال المغلقة للقلوب تحتاج إلى مفاتيح مختلفة تمزج بين الشدة واللين، وبين الصفح والحزم.

أسر زعيم قريش هذا المعروف النبوي؛ واللين في مواقف القوة والتملك أشد وقعا على النفوس من السيف، والأخلاق النبوية أصابت سويداء قلب هذا الزعيم القرشي بعد حرب ومناهضة للإسلام زادت على عشرين عاما.

ولم تتوقف الدروس النبوية في حق أبي سفيان عند هذا الحد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلسه في مكان يرى فيه جيش المسلمين القوي وهو يمر بقواته الكثيفة أمام عينيه، حتى يزيل جميع رواسب الكفر من نفسه، وحتى يقوم أبو سفيان قائما -دون أن يشعر- بحرب نفسية لصالح المسلمين وسط قريش، تخيفهم من قوة المسلمين، وتحول كلماته عن وصف هذا الجيش الكثيف دون أي محاولة قرشية للمقاومة. وتقول روايات السيرة: إن أبا سفيان لما رأى ذلك المشهد انطلق إلى قومه وصرخ فيهم بأعلى صوته: "يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".

لقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم نفسية هذا الزعيم بأن جعل له من الفخر نصيبا ريثما يستقر الإيمان في قلبه، فقال من "دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

تجنب الحرب.. تكسبها

تفرق القرشيون ولزم كثير منهم دورهم، أما الباقون فلجئوا إلى المسجد، وبذلك نجحت خطة المسلمين في تحطيم مقاومة قريش، وخلق استعداد عند أهل مكة ليطبق عليهم المسلمون ما يعرف في عصرنا الحالي "حظر التجول"، وهو ما يمهد للسيطرة التامة دون مقاومة على مكة.

لقد سبق دخول النبي صلى الله عليه وسلم لمكة حرب نفسية مركزة ومتعددة الأدوات، ومنها:

- أنه أمر كل جندي في الجيش أن يوقد نارا ضخمة، فأوقد من النار عشرة آلاف حول مكة طوال الليل وهو ما أدخل الرعب في قلوبهم، وشتت أي عزيمة في المقاومة وحرمتهم النوم بالليل خوفا من المداهمة، فأضعفت استعدادهم لمواجهة المسلمين في الصباح.

- أنه فتح باب الرحمة والعفو لقريش قبل أن يبدأ في دخولها مستحضرا في ذلك عظمة البيت الحرام، فإذا فعل المنتصر ذلك فإن المقاومة تنهار.. تروي كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن "سعد بن عبادة" وهو أحد قادة الجيش قال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحرمة"، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعزل من قيادة الفيلق ويتولى ابنه "قيس بن سعد".

- كانت خطة المسلمين أن يدخلوا مكة من جهاتها الأربع في وقت واحد، وهو ما يشتت أي احتمالات لمقاومة مكية، ويهدم معنويات الخصم ويدخل اليأس إلى نفسه من جدوى المقاومة التي تعد انتحارا لا طائل من ورائه.

التواضع في قمة النصر

نجحت الخطة الإستراتيجية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول مكة في عدم تعرض جيش المسلمين لمقاومة تذكر، وأسلم غالبية زعاماتهم.. لكن هذا الانتصار العظيم زاد النبي صلى الله عليه وسلم تواضعا، فدخل مكة وهو يركب ناقته، ويقرأ سورة الفتح، وكان يطأطئ رأسه حتى لتكاد تمس رحله شكرا لربه تعالى، ولما جاء على باب الكعبة قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".

يقول الشيخ محمد الغزالي في ذلك: "إن هذا الفتح المبين ليذكره صلى الله عليه وسلم بماض طويل الفصول كيف خرج مطاردا، وكيف يعود اليوم منصورا مؤيدا، وأي كرامة عظمى حفه الله بها هذا الصباح الميمون، وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعا وانحناء".

وعقب دخوله صلى الله عليه وسلم مكة أعلن العفو العام بمقولته الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ولم يمنع هذا العفو العام من إهداره لدماء بضعة عشر رجلا أمر بقتلهم حتى لو تعلقوا بأستار الكعبة، لكونهم "مجرمي حرب"، وكان الوجه الآخر لهذا الأمر أن تبقى هذه الرؤوس التي من الممكن أن تكون نواة لنمو مقاومة ضد المسلمين في حالة خوف وحذر على أنفسها تمنعها من التحرك وتفرض عليها التخفي، وكانت روعة الإسلام أن غالبية هؤلاء أسلموا وحسن إسلامهم، وقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 21-08-2010, 05:20 PM   #152
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

جنكيز خان.. الإعصار العاتي

(في ذكرى وفاته: 11 من رمضان 624هـ)



ليس هناك شك في أن جنكيز خان واحد من أقسى الغزاة الذين ابتليت بهم البشرية، وأكثرهم سفكًا للدماء، وأجرؤهم على انتهاك الحرمات وقتل الأبرياء، وحرق المدن والبلاد، وإقامة المذابح لآلاف من النساء والولدان والشيوخ، لكن هذه الصورة السوداء تخفي جانبًا آخر من الصورة، حيث التمتع بصواب الرأي وقوة العزيمة، ونفاذ البصيرة. فكان يجلّ العلماء ويحترمهم ويلحقهم بحاشيته، وكان له مستشارون من الأمم التي اجتاحها من ذوي الخبرة، وكان لهؤلاء أثر لا يُنكَر في تنظيم الدولة والنهوض بها والارتقاء بنواحيها الإدارية والحضارية.

المولد والنشأة

شهدت منغوليا مولد "تيموجين بن يسوكاي بهادر" في سنة (549هـ = 1155م)، وكان أبوه رئيسًا لقبيلة مغولية تُدعى "قيات"، وعُرف بالشدة والبأس؛ فكانت تخشاه القبائل الأخرى، وقد سمّى ابنه "تيموجين" بهذا الاسم تيمنًا بمولده في يوم انتصاره على إحدى القبائل التي كان يتنازع معها، وتمكنه من القضاء على زعيمهم الذي كان يحمل هذا الاسم.

ولم تطُل الحياة بأبيه؛ فقد توفِّي في سنة (561 هـ= 1167م)، تاركًا حملا ثقيلا ومسئولية جسيمة لـ"تيموجين" الابن الأكبر الذي كان غض الإهاب لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وما كان ليقوى على حمل تبعات قبيلة كبيرة مثل "قيات"، فانفض عنه حلفاء أبيه، وانصرف عنه الأنصار والأتباع، واستغلت قبيلته صغر سنه فرفضت الدخول في طاعته، على الرغم من كونه الوريث الشرعي لرئاسة قبيلته، والتفَّت حول زعيم آخر، وفقدت أسرته الجاه والسلطان، وهامت في الأرض تعيش حياة قاسية، وتذوق مرارة الجوع والفقر والحرمان.

تأسيس الدولة

نجحت أم تيموجين في أن تجمع الأسرة المستضعفة وتلم شعثها، وتحث أبناءها الأربعة على الصبر والكفاح، وتفتح لهم باب الأمل، وتبث فيهم العزم والإصرار، حتى صاروا شبابًا أقوياء، وبخاصة تيموجين الذي ظهرت عليه أمارات القيادة، والنزوع إلى الرئاسة، مع التمتع ببنيان قوي جعله المصارع الأول بين أقرانه.

تمكن تيموجين بشجاعته من المحافظة على مراعي أسرته؛ فتحسنت أحوالها، وبدأ يتوافد عليه بعض القبائل التي توسمت فيه القيادة والزعامة، كما تمكن هو من إجبار المنشقين من الأتباع والأقارب على العودة إلى قبيلتهم، ودخل في صراع مع الرافضين للانضواء تحت قيادته، حسمه لصالحه في آخر الأمر، حتى نجح في أن تدين قبيلته "قيات" كلها بالولاء له، وهو دون العشرين من عمره.

وواصل تيموجين خطته في التوسع على حساب جيرانه، فبسط سيطرته على منطقة شاسعة من إقليم منغوليا، تمتد حتى صحراء جوبي، حيث مضارب عدد كبير من قبائل التتار، ثم دخل في صراع مع حليفه رئيس قبيلة الكراييت، وكانت العلاقات قد ساءت بينهما بسبب الدسائس والوشايات، وتوجس "أونك خان" زعيم الكراييت من تنامي قوة تيموجين وازدياد نفوذه؛ فانقلب حلفاء الأمس إلى أعداء وخصوم، واحتكما إلى السيف، وكان الظفر في صالح تيموجين سنة (600هـ= 1203م)، فاستولى على عاصمته "قره قورم" وجعلها قاعدة لملكه، وأصبح تيموجين بعد انتصاره أقوى شخصية مغولية، فنودي به خاقانا، وعُرف باسم "جنكيز خان"؛ أي إمبراطور العالم.

وبعد ذلك قضى ثلاث سنوات عُني فيها بتوطيد سلطانه، والسيطرة على المناطق التي يسكنها المغول، حتى تمكن من توحيد منغوليا بأكملها تحت سلطانه، ودخل في طاعته الأويغوريون.

الياسا الجنكيزية

بعد أن استتب له الأمر اتجه إلى إصلاح الشئون الداخلية، فأنشأ مجلسًا للحكم يسمّى "قوريلتاي" سنة (603هـ=1206م) ودعاه للاجتماع، وفيه تحددت لأول مرة شارات ملكه، ونظم إمبراطوريته، ووضع لشعبه دستورًا محكمًا يسمى "قانون الياسا" لتنظيم الحياة، بعد أن رأى أن الآداب والأعراف والتقاليد المغولية لا تفي بمتطلبات الدولة الجديدة، ولم تكن مدونة، فأعاد النظر في بعضها، وقبل بعضها الآخر، ورد ما رآه غير ملائم، وتناول الدستور أمورًا متعددة لتنظيم الحياة بالدولة الناشئة، وألزم أجهزة الدولة بتطبيق بنودها والعمل بموجبها، وشدد على معاقبة المخطئين.

إخضاع الصين

اصطدم جنكيز خان بإمبراطورية الصين التي كانت تحكمها أسرة "سونج"، وكانت لا تكف عن تحريض القبائل التركية والمغولية ضد بعضها؛ كي ينشغلوا بأنفسهم وتأمن هي شرهم، فأراد جنكيز خان أن يضع حدًا لتدخل الصينيين في شئون القبائل المغولية، وفي الوقت نفسه تطلع إلى ثروة الصين وكنوزها، فاشتبك معها لأول مرة في سنة (608هـ= 1211م)، واستطاع أن يحرز عددًا من الانتصارات على القوات الصينية، ويُخضع البلاد الواقعة في داخل سور الصين العظيم، ويعين عليها حكامًا من قِبله.

ثم كرر غزو الصين مرة ثانية بعد أن حشد لذلك جموعًا هائلة سنة (610هـ = 1213م)، لكنه لم يحرز نصرًا حاسمًا، ثم جرت محاولة للصلح بين الطرفين، لكنها لم تفلح، فعاود جنكيز خان القتال، واستدار بجيشه الذي كان عائدًا إلى بلاده، واشتبك مع جحافل الصين التي لم تكن قد استعدت للقتال، وانتصر عليها في معركة فاصلة، سقطت على إثرها العاصمة بكين في سنة (612هـ= 1215م) وكان لسقوطها دوي هائل، ونذير للممالك الإسلامية التي آوت الفارين من أعدائه، وأظهرت ما كان يتمتع به الرجل من مواهب عسكرية في ميادين الحرب والقتال.

تعقب أعدائه

بعد أن فرغ جنكيز خان من حربه مع الصين اتجه ببصره إلى الغرب، وعزم على القضاء على أعدائه من قبائل النايمان والماركييت، وكان كوجلك خان بن تايانك زعيم النايمان قد تمكن بالتعاون مع السلطان محمد خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية من اقتسام الدولة القراخطائية سنة (607هـ= 1210م)، وأقام دولة امتدت من بلاد التبت حتى حدود الدولة الخوارزمية، لكنه لم ينعم كثيرًا بما أقام وأنشأ، فقد أرسل إليه جنكيز خان جيشًا كبيرًا، يقوده أحد رجاله الأكفاء، تمكن من القضاء على كوجلك وجيشه في سنة (615هـ= 1218م)، كما أرسل ابنه جوجي لتعقب زعيم قبيلة المركيت، فتمكن من القضاء عليه وعلى أتباعه.

مقدمات الصدام مع الدولة الخوارزمية

لم يكن جنكيز خان بعد أن اتسع سلطانه، وامتد نفوذه يسعى للصدام مع السلطان محمد بن خوارزم شاه بل كان يرغب في إقامة علاقة طيبة، وإبرام معاهدات تجارية معه، فأرسل إليه ثلاثة من التجار المسلمين لهذا الغرض، فوافق السلطان محمد على ذلك، وتوجه عقب ذلك وفد تجاري كبير من المغول يبلغ نحو 450 تاجرًا، كانوا كلهم من المسلمين، يحملون أصنافًا مختلفة من البضائع، واتجهوا إلى مدينة "أترار"، وبدلا من أن يمارسوا عملهم في البيع والشراء، اتهمهم حاكم المدينة "ينال خان" بأنهم جواسيس يرتدون زيَّ التجار، وبعث إلى السلطان يخبره بذلك، فصدقه وطلب منه مراقبتهم حتى يرى رأيه في شأنهم، لكن "ينال خان" قتلهم، وصادر تجارتهم، واستولى على ما معهم، ويذكر بعض المؤرخين أن السلطان محمد هو الذي أمر بهذا، وأن واليه لم يقدم على هذا التصرف الأحمق من تلقاء نفسه.

غضب جنكيز خان، واحتج على هذا العمل الطائش، وأرسل إلى السلطان محمد يطلب منه تسليم "ينال خان" ليعاقبه على جريمته، لكن السلطان رفض الطلب، ولم يكتفِ بذلك بل قتل الوفد الذي حمل الرسالة، قاطعًا كل أمل في التفاهم مع المغول، وكان ذلك في سنة (615 هـ= 1218م).

الإعصار الهائج

استعد جنكيز خان لحملة كبيرة على الدولة الخوارزمية، وتحرك بجيوشه الجرَّارة إلى بلاد ما وراء النهر، فلما بلغها قسَم جيوشه عليها، وتمكن بسهولة من السيطرة على المدن الكبرى مثل "أترار" وبخارى، وسمرقند، ولم يجد ما كان ينتظره من مقاومة ودفاع، وأقدم على ارتكاب ما تقشعر لهوله الأبدان من القتل والحرق والتدمير، قتلت جيوشه سكان مدينة أترار عن بكرة أبيهم، وأحرق جنكيز خان بخارى عن آخرها، واستباحوا حرمة مسجدها الجامع الكبير، وقتلوا الآلاف من سكانها الأبرياء، وواصل الزحف بجيوشه متعقبًا السلطان محمد الذي زلزل الخوف قلبه، وفقد القدرة على المقاومة والصمود، فظل ينتقل من بلد إلى آخر، حتى لجأ إلى إحدى الجزر الصغيرة، في بحر قزوين، حيث اشتد به المرض، وتوفي سنة (617هـ = 1220م).

جنكيز خان وجلال الدين بن خوارزم شاه

تحمل جلال الدين منكبرتي لواء المقاومة بعد أبيه، وكان أثبت جنانًا، وأقوى قلبًا، فنجح في المقاومة، وجمع الأتباع، وحشد الأنصار، وألحق الهزيمة بالمغول في معركة "براون" سنة ( 618هـ= 1221م)، فلما سمع الناس بهذا النصر فرحوا فرحًا شديدًا بعد أن استبد بهم اليأس، وثارت بعض المدن على حاميتها من المغول، وكان يمكن لهذا النصر أن تتلوه انتصارات أخرى لو خلصت النية وصدقت العزيمة، لكن سرعان ما نشب خلاف بين قادة جيوش جلال الدين، وانسحب أحدهم بمن معه غير مدرك عظم المسئولية، فانهار حلم الدفاع، وتهاوى جلال الدين أمام جحافل المغول، وتوالت الهزائم بعدما خارت العزائم، واضطر جلال الدين إلى الانسحاب والفرار إلى الهند.

وعندما اطمأن جنكيز خان إلى ما حقق عاد إلى منغوليا لإخماد ثورة قامت ضده هناك، وتمكن من إخمادها.

وفاته

وبعد أن قام جنكيز خان دولة مترامية الأطراف مرهوبة الجانب، توفي بالقرب من مدينة "تس جو" في (11 من رمضان 624هـ = 25 من أغسطس 1227م)، ودُفن في منغوليا، وخلفه على الإمبراطورية ابنه "أوكتاي".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 23-08-2010, 02:21 PM   #153
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ابن الجوزي.. والغوص في كل العلوم

(في ذكرى وفاته: 12 من رمضان 597هـ)

حظي "ابن الجوزي" بشهرة واسعة، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون، وبلغت مؤلفاته أوج الشهرة والذيوع في عصره، وفي العصور التالية له، ونسج على منوالها العديد من المصنفين على مر العصور.

هو "أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن جعفر" وينتهي إلى "أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.

ولد ببغداد سنة [ 510هـ= 1116م] وعاش حياته في الطور الأخير من الدولة العباسية، حينما سيطر الأتراك السلاجقة على الدولة العباسية.

وقد عرف بابن الجوزي لشجرة جوز كانت في داره بواسط، ولم تكن بالبلدة شجرة جوز سواها، وقيل: نسبة إلى "فرضة الجوز" وهي مرفأ نهر البصرة.

وقد توفي أبوه وهو في الثالثة من عمره فتولت تربيته عمته، فرعته وأرسلته إلى مسجد " محمد بن ناصر الحافظ" ببغداد، فحفظ على يديه القرآن الكريم، وتعلم الحديث الشريف، وقد لازمه نحو ثلاثين عامًا أخذ عنه الكثير حتى قال عنه: "لم أستفد من أحد استفادتي منه".

شيوخه وأساتذته

تعلم "ابن الجوزي" على عدد كبير من الشيوخ، وقد ذكر لنفسه (87) شيخًا، منهم:

أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر [ 467 ـ 550 هـ= 1074- 1155م]: وهو خاله، كان حافظًا ضابطًا متقنًا ثقة، وفقيهًا ولغويًا بارعًا، وهو أول معلم له.

أبو منصور موهوب بن أحمد بن الخضر الجواليقي [ 465- 540هـ= 1072م-1145م]: وهو اللغوي المحدث والأديب المعروف، وقد أخذ عنه اللغة والأدب.

أبو القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري المعروف بابن الطبري [ 435-531هـ=1043-1136م] وقد أخذ عنه الحديث.

أبو منصور محمد بن عبد الملك بن الحسين بن إبراهيم بن خيرون [ 454-539هـ= 1062-1144م] وقد أخذ عنه القراءات.

منزلته ومكانته

كان "ابن الجوزي" علامة عصره في التاريخ والحديث والوعظ والجدل والكلام، وقد جلس للتدريس والوعظ وهو صغير، وقد أوقع الله له في القلوب القبول والهيبة، فكان يحضر مجالسه الخلفاء والوزراء والأمراء والعلماء والأعيان، وكان مع ذيوع صيته وعلو مكانته زاهدًا في الدنيا متقللا منها، وكان يختم القرآن في سبعة أيام، ولا يخرج من بيته إلا إلى المسجد أو المجلس، ويروى عنه أنه كان قليل المزاح.
يقول عن نفسه: "إني رجل حُبّب إليّ العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد بل فنونه كلها، ثم لا تقصر همتي في فن على بعضه، بل أروم استقصاءه، والزمان لا يتسع، والعمر ضيق، والشوق يقوى، والعجز يظهر، فيبقى بعض الحسرات".

مجالس وعظه

بدأ "ابن الجوزي" تجربة موهبته في الوعظ والخطابة في سن السابعة عشرة، وما لبث أن جذب انتباه الناس فأقبلوا على مجلسه لسماع مواعظه حتى بلغت شهرته في ذلك مبلغًا عظيمًا، فلم يعرف تاريخ الوعظ والمجالس الدينية ـ على مر العصور ـ مجلسًا كمجلس "ابن الجوزي" يحفل بعدد هائل من المريدين يصل إلى عشرة آلاف رجل.
وكان يحضر مجلسه الخلفاء والأمراء والسلاطين والوزراء، وكان مجلسه بإزاء داره على شاطئ "دجلة" بالقرب من قصر الخليفة، فكانت الأرض تُفرش بالحصير ليجلس عليها الناس، ثم يصعد "ابن الجوزي" المنبر، ويبتدئ القرّاء بقراءة القرآن، يتناوبون التلاوة بأصوات شجية مطربة، فإذا فرغوا من التلاوة بدأ "ابن الجوزي" خطبته، فتناول فيها تفسير الآيات التي تلاها القراء، فيأخذ بألباب وعقول سامعيه، ينظم فيها عقود الحكمة ورقائق الزهد والمواعظ، بما يرقق القلوب ويحرك الأشجان، فتدمع العيون، وتخشع النفوس، وتذوب المشاعر في خشوع وجلال للخالق العظيم يحركها الشوق والوجد والإيمان.

أقوال العلماء فيه

اتفق العلماء والأدباء على الثناء على "ابن الجوزي" فمدحوا علمه وورعه ومهارته في الخطابة والفقه والحديث والتاريخ والأدب.
قال عنه "ابن كثير": "أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف".

وقد وصفه "ابن الجزري" بأنه: "شيخ العراق وإمام الآفاق".

وقال عنه "ابن العماد الحنبلي": "كان ابن الجوزي لطيف الصوت حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات، لذيذ الفاكهة".

وقال عنه "ابن جبير": "آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة".

وقال عنه "شمس الدين الذهبي": "ما علمت أن أحدًا من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل".

مؤلفاته

تميز "ابن الجوزي" بغزارة إنتاجه وكثرة مصنفاته التي بلغت نحو ثلاثمائة مصنف شملت الكثير من العلوم والفنون، فهو أحد العلماء المكثرين في التصنيف في التفسير والحديث والتاريخ واللغة والطب والفقه والمواعظ وغيرها من العلوم، ومن أشهر تلك المصنفات:

أخبار الظرّاف والمتماجنين.

أخبار النساء.

أعمار الأعيان.

بستان الواعظين.

تلبيس إبليس.

تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير.

تاريخ بيت المقدس.

تحفة المودود في أحكام المولود.

الثبات عند الممات.

جواهر المواعظ.

الجليس الصالح والأنيس الناصح.

حسن السلوك في مواعظ الملوك.

ذم الهوى.

زاد المسير في علم التفسير.

سيرة عمر بن عبد العزيز.

صفوة الصفوة.

صيد الخاطر.

الطب الروحاني.

فنون الأفنان في علوم القرآن.

كتاب الأذكياء.

كتاب الحمقى والمغفلين.

لطائف المعارف فيما للموسم العام من الوظائف.

لفتة الكبد إلى نصيحة الولد.

مناقب عمر بن الخطاب.

المنتظم في تاريخ الملوك والأمم.

الناسخ والمنسوخ في الحديث.

الوفا في فضائل المصطفى.

اليواقيت في الخطب.

شعره

كان "ابن الجوزي" شاعرًا مجيدًا إلى جانب كونه أديبًا بارعًا وخطيبًا مفوهًا، وله أشعار حسنة كثيرة، منها قوله في الفخر:

مازلت أدرك ما غلا بل ما علا ** وأكابد النهج العسير الأطولا

تجري بي الآمال في حلباتـه ** جري السعيد إلى مدى ما أمّلا

لو كان هذا العلم شخصًا ناطقًا ** وسألته: هل زار مثلي؟ قال: لا

ومنها قوله في الزهد والقناعة:

إذا قنعت بميسور من القوت ** بقيت في الناس حرًا غير ممقوت

يا قوت يومي إذا ما در خلفك لي ** فلست آسي على در وياقوت

وأوصى أن يُكتب على قبره:

يا كثير العفو عمن ** كثر الذنب لديه

جاءك المذنب يرجو ** الصفح عن جرم يديه

أنا ضيف وجزاء ** الضيف إحسان لديه

وفاته

توفي "ابن الجوزي" ليلة الجمعة [ 12 من رمضان 597هـ= 16 من يونيو 1200] عن عمر بلغ سبعا وثمانين سنة بعد أن مرض خمسة أيام، فبكاه أهل بغداد، وازدحموا على جنازته، حتى أقفلت الأسواق، فكان ذلك يومًا مشهورًا مشهودًا، يشهد بمكانة "ابن الجوزي" وحب الناس له.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 28-08-2010, 02:55 PM   #154
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

غزوة بدر.. الميلاد الثاني

(في ذكرى وقوعها: 17 من رمضان 2هـ)


بنت غزوة بدر التصور الإسلامي لعوامل النصر والهزيمة بطريقة عملية واقعية، وقررت أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة، وإنما بمقدار الاتصال بالله الذي لا يقف أمامه قوة العباد، ليوقن المسلمون في عصورهم المختلفة أنهم يملكون في كل زمان ومكان القدرة للتغلب على أعدائهم مهما كانوا هم من القلة وعدوهم من الكثرة، شريطة أن تتحقق فيهم عوامل النصر الحقيقية.

وإذا كانت الهجرة هي الميلاد الأول للدولة الإسلامية فإن هذه الغزوة تعد ميلادا ثانيا لقوة ناهضة ودولة ناشئة للمسلمين، ظنتها قريش لا تقوى على مطاولة أو مجاولة، لكن نصر الله للمسلمين في هذه الغزوة مكن للدين في النفوس، وللإسلام في جزيرة العرب، بل العالم كله.

الإعداد قبل المواجهة

سبق القتال في غزوة بدر مرحلة من الإعداد النفسي والتدريب الشاق للمسلمين حتى يكونوا مؤهلين لخوض هذه المعركة الفاصلة التي سماها القرآن يوم الفرقان، وكان هذا الإعداد بتدبير من السماء حتى ينكسر الخوف من المشركين في نفوس المسلمين، وتقوى حميتهم على القتال ويعتادوا على منازلة قوات تفوقهم عددا وعدة، وكانت أول تهيئة نفسية للمسلمين لتقبل الأمر بالقتال هي حملة الاستفزازات التي قامت بها قريش ضد المسلمين في المدينة؛ حيث اتصلت بزعيم المنافقين عبد الله بن أبي سلول ودعته إلى طرد المسلمين أو الاستعداد للقتال واستباحة النساء في المدينة؛ فأثار هذا التهديد السافر الحمية في قلوب الأنصار على وجه الخصوص، ثم تعمق هذا الاستفزاز عندما تعرض أحد سادات الأنصار وهو سعد بن معاذ لتهديد وقح من أبي جهل أثناء تأديته للعمرة، فقال سعد أمام قريش في مكة: "والله لئن منعتني هذا (يعني الطواف بالبيت) لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة"، وكان هذا تهديدا إستراتيجيا لمكة في طريق تجارتها.

كان إحساس الكيان المهدد يملأ قلوب المسلمين جميعا في المدينة بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي تشير رواية في صحيح مسلم إلى أنه نام بعدما قام سعد بن أبي وقاص بحراسته مدججا بالسلاح. وذكر أبي بن كعب أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هو وأصحابه رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، وهو ما يجعل التحفز للجهاد والقتال حاضرا دائما في النفوس.

وفي هذه الأثناء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجراء تعداد سكاني للمدينة المنورة في السنة الأولى من الهجرة؛ فبلغ عدد المحاربين 1500 مقاتل، فشعر المسلمون بشيء من الطمأنينة وأنهم ليسوا قلة، ولذلك لما نزلت آية الإذن بالقتال في نهاية السنة الأولى أو بداية السنة الثانية من الهجرة كانت تجد في النفوس شوقا لهذا الإذن بالدفاع عن الإسلام، قال تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ" (الحج: 39 - 40).

وبعد هذه التهيئة للنفوس بدأت عملية التدريب الشاق للمسلمين قبل "بدر" حتى تُبنى التصورات الاعتقادية للمسلمين على أسس عملية تجريبية وليس نظريات فلسفية؛ لذا خاض المسلمون عددا من السرايا والغزوات الصغيرة المتتابعة، كان أولها سرية "سيف البحر" في رمضان من السنة الأولى للهجرة لاعتراض عير لقريش قادمة من الشام؛ فجاء "أبو جهل" في 300 مقاتل واصطف الفريقان للقتال وكان عدد المسلمين 30 مقاتلا فقط، إلا أن وساطة "مجدي بن عمرو الجهني" حالت دون حدوث القتال.

وأهمية هذه السرية أنها كسرت هيبة المشركين، وهيبة مواجهة أعداد ضخمة تفوق المسلمين عشرة أضعاف، وتكرر ذلك في عدة سرايا أخرى مثل "سرية رابغ" في شوال من نفس العام، وكان عدد المهاجرين 60 والمشركين 200، وحدثت فيها بعض المناوشات بالنبل، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض هذه السرايا مثل "غزوة ذي العشيرة" في جمادى الأولى سنة 2هـ لاعتراض عير لقريش ذاهبة إلى الشام لكنها سبقت المسلمين فأفلتت منهم، وكانت هذه العير هي سبب خروج المسلمين في "بدر الكبرى" لاعتراضها في طريق عودتها.

ضرب المسلمون في هذه السرايا على وتر موجع لقريش وهو تجارتها ومصالحها الاقتصادية، وكان من الشيء اللافت للانتباه أن جميع العير أفلتت من المسلمين؛ وهو ما يقوي شوقهم وطموحهم لاعتراض العير التي كانت السبب في غزوة بدر التي كانت السماء تجهز لأحداثها لتكون قصة في العقيدة.

وأثناء هذا الجو من الإعداد النفسي والتدريب استعدادا لبدر، أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وكان هذا دلالة رمزية على ضرورة أن يطهر المسلمون قبلتهم من الأوثان، ويحفز على قتال قريش وإنقاذ بيت الله الحرام من الكفر والشرك.

من العير إلى النفير

خرج المسلمون إلى بدر من أجل اعتراض قافلة تجارية كبيرة بها ألف بعير وثروة تقدر بـ 50 ألف دينار ذهبي، وليس معها سوى 40 حارسا تحت قيادة "أبي سفيان بن حرب"، ومن ثم كانت صيدا ثمينا للمسلمين لتعويض بعض ما أخذه المشركون منهم في مكة. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في 12 من رمضان سنة 2هـ، وانتدب الناس للخروج، ولم يكره أحدا على الخروج، إلا أن العير التي تحمل هذه الثروة الضخمة غيرت طريقها بعدما ترامت الأبناء إلى "أبي سفيان" بما يدبره المسلمون.

ولما علمت قريش بالأمر تجهزت للقتال وخرجت في جيش قوامه 1300 مقاتل ومعهم 600 درع و100 فرس، وأعداد ضخمة من الإبل، أما عدد المسلمين فكان حوالي 314 مقاتلا، منهم 83 من المهاجرين.

وقد استطاعت "الاستخبارات الإسلامية" أن ترصد عملية هروب العير، وأرسل أبو سفيان إلى قريش أن القافلة قد نجت، ولا حاجة لهم في قتال أهل يثرب، لكن أبا جهل أبى إلا القتال، وقال قولته المشهورة: "لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا ننحر الجُزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبدا"، لكنّ "بني زهرة" لم تستجب لهذه الدعوة فرجعت ولم تقاتل.

خرج المسلمون بنتيجة مهمة بعد أن أفلتت العير وبعد أن جمعوا معلوماتهم عن عدوهم، ألا وهي أن القتال أصبح حتميا؛ لأن الله وعدهم إحدى الطائفتين، العير أو النفير، وما دامت العير أفلتت فلا محيص عن القتال.

عقد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا استشاريا لبحث الموقف؛ فالشورى من مبادئ الإسلام الرئيسية في السلم والحرب، وكان هدف هذا المجلس معرفة موقف الأنصار من القتال؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم متخوفا من أن يكون الأنصار غير مستعدين للقتال ونصرة النبي خارج المدينة، إلا أن "سعد بن معاذ" حسم الموقف، ومما قاله: "... فامض يا رسول الله لما أردت؛ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء".

سُرّ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين".

ورغم الشورى والبشارة فإن بعض قلوب المؤمنين كانت تكره اللقاء، والأخرى كانت تريد العير. وصور القرآن الكريم هذه الحالة النفسية للمؤمنين تصويرا دقيقا في قوله تعالى: "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ" (الأنفال: 5 - 7).

ليلة الفرقان

نزل النبي صلى الله عليه وسلم أدنى بئر بدر عشاء ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، فتقدم أحد مقاتلي الأنصار وهو "الحُباب بن المنذر" بمشورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حملت في طياتها الأدب الرفيع في تعامل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والخبرة العسكرية الراقية، فقال: "يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".

فقال هذا الخبير العسكري: "يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغوّر ما وراءه من القُلُب (أي الآبار)، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي".. قمة الشورى والنزول على الأصوب، وقمة الإحساس بالمسئولية.

أما الرأي الثاني الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من "سعد بن معاذ"؛ إذ اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون له مقرا لقيادته، يقوم على حراسته عدد من الشبان الأشداء ويكون مجهزا ببعض الركائب، وعلل سعد اقتراحه بقوله: "وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك"، وهو إدراك بأهمية الحفاظ على القيادة، فليس من الحكمة أن تكون القيادة المسلمة مكشوفة في الصراع مع أعدائها، ولذلك أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاقتراح، وأمر بتنفيذه، وكان سعد هو قائد الحرس لهذا المقر.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 28-08-2010, 02:57 PM   #155
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

دعاء حار؟!

مضى النبي صلى الله عليه وسلم يعبئ الجيش للقتال، ويشحذ معنوياته، وكان من روعة هذه التهيئة النفسية الإيمانية أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى في ميدان المعركة وأشار إلى مصارع بعض كبار المشركين، فبدأت النفوس القلقة تهدأ وتستقر، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يناجي ربه أن ينزل النصر على المسلمين، وأخذ يهتف بربه قائلا: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" حتى سقط الرداء عن كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو مادٌّ يديه إلى السماء، فأشفق عليه أبو بكر الصديق، وأعاد الرداء إلى كتفيه والتزمه (احتضنه) وهو يقول: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك" فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "سيهزم الجمع ويولون الدبر".

وأثار خوف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء، وطمأنينة أبي بكر الصديق استشكالا عند العلماء فتعددت الآراء في تفسير هذا الموقف، فقيل: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم؛ لأنه كان أول مشهد شهدوه، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله "سيهزم الجمع"، غير أن بعضهم لم يرض بهذا التفسير، وذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مقام الخوف، لأن الوعد بالنصر لم يكن معيّنا على وجه التحديد في تلك الغزوة.

وذهب الشيخ "رشيد رضا" في تفسير "المنار" أنه "لا يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم باستجابة الله له لما وجد في نفس أبي بكر قوة وطمأنينة؛ لأن علم النبي صلى الله عليه وسلم بربه سبحانه وتعالى واستجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه من حال أبي بكر، وأشار أن المقام في بدر كان مقام خوف ولم يكن مقام توكل محض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح بعد اتخاذ الأسباب المعلومة من شرع الله، ومن سنته في خلقه. ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلبة في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل، ولا من الجهة المعنوية لكراهة بعضهم القتال وجدالهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية، فوق تقصيرهم غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو ألا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم".

مطر وملائكة

وفي ليلة بدر أنزل الله مطرا خفيفا على المسلمين ثبت به الأرض من تحتهم، بينما كان المطر شديدا على معسكر المشركين، وغشي المسلمين في هذه الليلة نعاسٌ، ملأ النفوس طمأنينة، والأجساد راحة واسترخاء، وكانت حالة نفسية عجيبة وهي في حقيقتها مدد من الله تعالى لهم، ثم أوحى الله تعالى إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا، وألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا، ثم قلل الله تعالى عدد المشركين في أعين المسلمين، وقلل عدد المسلمين في أعين المشركين، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في منامه قلة لا قيمة لهم، ولا وزن.

وأثارت مسألة اشتراك الملائكة في بدر، أسئلة كثيرة، اختلفت حولها الآراء حول اشتراك الملائكة في القتال، غير أن ما تطمئن إليه النفس المسلمة أن مهمة الملائكة كما يشير صريح القرآن أنها كانت لتثبيت المسلمين في القتال، وليس لقتال المشركين، وذكر "ابن جرير الطبري" في تفسيره أن الروايات التي وردت في قتال الملائكة في بدر حريةٌ بألا تنقل، كما أن "ابن كثير" لم يذكر إلا رواية واحدة فقط رغم كثرة المرويات في هذا الشأن، كما أن عدد من قتلتهم الملائكة غير معروف ولا محدد، وإذا تتبعنا أسماء المقتولين في بدر لوجدنا أن غالبية من قتلهم أسماؤهم معروفة.

نصر وتمكين

"لئن كنا نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد فما بالله من طاقة".. كلمة حق قالتها "قريش" وصدقتها أحداث بدر، فعندما أصبح يوم 17 رمضان رحلت قريش إلى أرض المعركة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فوظف الظروف الطبيعية في أرض المعركة لصالحه، فسبق قريش إلى الميدان، وجعل الشمس في ظهره، أما قريش فكانت الشمس في أعينها.

حفز النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على القتال بعبارة قوية لا تحمل أي تردد أو خوف فقال: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"، فقال "عمير بن الحمام": "بخٍ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟!"، ثم سأل "عوف بن الحارث" النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا عجيبا فقال: "يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "غمسه يده في العدو حاسرا"؛ فنزع "عوف" درعا كانت عليه فقذفها ثم قاتل حتى استشهد.. كانت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم تسري في نفوس المسلمين بطريقة عجيبة، تفوق في تأثيرها من يمتلكه الكفار من عدد وعدة.

وعلى الطرف الآخر حاول أبو جهل أن يبث روحا في جنوده بالتوجه إلى الله بالدعاء!! فقال: "اللهم أقطعنا الرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم" فاستجاب الله ونصر المسلمين!!

كانت نصيحة الاستخبارات المكية التي قام بها "عمير بن وهب" ألا تقاتل قريش المسلمين، وقال لهم: "البلايا تحمل المنايا، نواضح (إبل) يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم".. ولكن إرادة الله سبقت.

بدأ القتال بمبارزة كان النصر فيها حليف المسلمين، فحمي القتال، وقتل 70 من المشركين، وأسر مثلهم، وكان من بين القتلى أئمة الكفر: "أبو جهل" و"عتبة وشيبة ابنا ربيعة" و"أمية بن خلف"، و"العاص بن هشام بن المغيرة". أما المسلمون فاستشهد منهم 14 رجلا، 6 من المهاجرين، و8 من الأنصار.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجثث المشركين فجمعت في بئر. ومن روائع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مراعاته لمشاعر أصحابه، والرفق بهم، وتقدير بعض ظروفهم الخاصة، فيروى أن المسلمين كانوا يسحبون جثة عتبة بن ربيعة لرميها في القليب (البئر)، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم تغيرا في وجه ابنه "حذيفة" فسأله عن سبب حزنه، فقال حذيفة: "يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك"، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالخير.

يسألونك عن الأنفال لا الأسرى

مكث النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة في بدر 3 أيام، لتحقيق عدة أهداف عسكرية ونفسية، منها مواجهة أي محاولة من المشركين لإعادة تجميع الصفوف والثأر للهزيمة، وهو ما يفرض استمرار بقاء الجيش المسلم في حالة تأهب واستعداد لأي معركة محتملة؛ لأن من الأسباب التي تصيب الجيوش المنتصرة بانتكاسات هو أن يسري بين الجنود أن العمليات العسكرية والحرب قد توقفت، فتهبط الروح المعنوية إلى أدنى مستوياتها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجنب المخاطرة بانتصاره، إضافة إلى أن البقاء في أرض المعركة هذه الفترة يتيح للجيش المسلم القيام بإحصاءات دقيقة عن خسائره وخسائر عدوه، وبعث رسالة نفسية إلى الجيش المهزوم أن النصر لم يكن وليد المصادفة.

كان من أهم الأمور التي أثيرت بعد بدر قضيتان مهمتان، هما "الأنفال" و"الأسرى"، وقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في الأنفال التي ساءت فيها أخلاقهم كما يقول "عبادة بن الصامت"، إذ تنازع الناس في الغنائم من يكون أحق بها؟! فنزعها الله تعالى منهم وجعلها له تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم عاتبهم بغير عتاب كما جاء في بدايات سورة الأنفال بأن ذكرهم بضرورة إصلاح ذات بينهم، وذكّرهم بصفات المؤمن الحق التي يجب أن يتحلوا بها وينشغلوا بتحقيقها في أنفسهم قبل السؤال عن الغنائم، ثم مضت 40 آية من الأنفال، قبل أن يبين الله حكم تقسيمها، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بالتساوي بين الصحابة، وأعطى بعض الذين لم يشهدوا القتال لبعض الأعذار مثل عثمان بن عفان الذي كان مع زوجته رقية في مرضها الذي ماتت فيه، وأعطى أسر الشهداء نصيبهم من الغنائم.

أما الأسرى، فلم يسأل الصحابة فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغالبية العظمى كانت تميل إلى أخذ الفداء باستثناء "عمر بن الخطاب" و"سعد بن معاذ" اللذين كانا يحبذان الإثخان في القتل، لكسر شوكة الكفر فلا يقوى على محاربة الإيمان.

استشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في أمر الأسرى، فأيدوا الفداء، إلا أن القرآن الكريم أيد الإثخان في القتل، لكن روعة الإسلام أن القرآن لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع عن القرار الذي اتخذ بعد الشورى حتى لا يصير الإعراض عن الشورى سنة في الإسلام، وأن يكون من قواعد التشريع الإسلامي أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا يُنقض، وإن ظهر أنه كان خطأ.

ومن روعة الإسلام أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء بعض الأسرى أن يقوموا بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وهو إدراك لأهمية العلم الذي يساوي الحرية والحياة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 28-08-2010, 03:00 PM   #156
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

خالد بن الوليد.. المنتصر دومًا

(في ذكرى وفاته: 18 من رمضان 21هـ)


هو "أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة"، ينتهي نسبه إلى "مرة بن كعب بن لؤي" الجد السابع للنبي (صلى الله عليه وسلم) و"أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.

وأمه هي "لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية"، وقد ذكر "ابن عساكر" – في تاريخه – أنه كان قريبًا من سن "عمر بن الخطاب".

أسرة عريقة ومجد تليد

وينتمي خالد إلى قبيلة "بني مخزوم" أحد بطون "قريش" التي كانت إليها "القبة" و"الأعنة"، وكان لها شرف عظيم ومكانة كبيرة في الجاهلية، وكانت على قدر كبير من الجاه والثراء، وكانت بينهم وبين قريش مصاهرة متبادلة.

وكان منهم الكثير من السابقين للإسلام؛ منهم: "أبو سلمة بن عبد الأسد"، وكان في طليعة المهاجرين إلى الحبشة، و"الأرقم بن أبي الأرقم" الذي كانت داره أول مسجد للإسلام، وأول مدرسة للدعوة الإسلامية.

وكانت أسرة "خالد" ذات منزلة متميزة في بني مخزوم؛ فعمه "أبو أمية بن المغيرة" كان معروفًا بالحكمة والفضل، وكان مشهورًا بالجود والكرم، وهو الذي أشار على قبائل قريش بتحكيم أول من يدخل عليهم حينما اختلفوا على وضع الحجر الأسود وكادوا يقتتلون، وقد مات قبل الإسلام.

وعمه "هشام بن المغيرة" كان من سادات قريش وأشرافها، وهو الذي قاد بني مخزوم في "حرب الفجار".

وكان لخالد إخوة كثيرون بلغ عددهم ستة من الذكور هم: "العاص" و"أبو قيس" و"عبد شمس" و"عمارة" و"هشام" و"الوليد"، اثنتين من الإناث هما: "فاطمة" و"فاضنة".

أما أبوه فهو "عبد شمس الوليد بن المغيرة المخزومي"، وكان ذا جاه عريض وشرف رفيع في "قريش"، وكان معروفًا بالحكمة والعقل؛ فكان أحدَ حكام "قريش" في الجاهلية، وكان ثَريًّا صاحب ضياع وبساتين لا ينقطع ثمرها طوال العام.

فارس عصره

وفي هذا الجو المترف المحفوف بالنعيم نشأ "خالد بن الوليد"، وتعلم الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، ولكنه أبدى نبوغًا ومهارة في الفروسية منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه، كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرّ والفرّ.

واستطاع "خالد" أن يثبت وجوده في ميادين القتال، وأظهر من فنون الفروسية والبراعة في القتال ما جعله فارس عصره بلا منازع.

معاداته للإسلام والمسلمين

وكان "خالد" –كغيره من أبناء "قريش"– معاديًا للإسلام ناقمًا على النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين الذين آمنوا به وناصروه، بل كان شديد العداوة لهم شديد التحامل عليهم، ومن ثَم فقد كان حريصًا على محاربة الإسلام والمسلمين، وكان في طليعة المحاربين لهم في كل المعارك التي خاضها الكفار والمشركون ضد المسلمين.

وكان له دور بارز في إحراز النصر للمشركين على المسلمين في غزوة "أحد"، حينما وجد غِرَّة من المسلمين بعد أن خالف الرماة أوامر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتركوا مواقعهم في أعلى الجبل، ونزلوا ليشاركوا إخوانهم جمع غنائم وأسلاب المشركين المنهزمين، فدار "خالد" بفلول المشركين وباغَتَ المسلمين من خلفهم، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوفهم، واستطاع أن يحقق النصر للمشركين بعد أن كانت هزيمتهم محققة.

كذلك فإن "خالدا" كان أحد صناديد قريش يوم الخندق الذين كانوا يتناوبون الطواف حول الخندق علهم يجدون ثغرة منه؛ فيأخذوا المسلمين على غرة، ولما فشلت الأحزاب في اقتحام الخندق، وولوا منهزمين، كان "خالد بن الوليد" أحد الذين يحمون ظهورهم حتى لا يباغتهم المسلمون.

وفي "الحديبية" خرج "خالد" على رأس مائتي فارس دفعت بهم قريش لملاقاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، ومنعهم من دخول مكة، وقد أسفر الأمر عن عقد معاهدة بين المسلمين والمشركين عرفت باسم "صلح الحديبية".

وقد تجلت كراهية "خالد" للإسلام والمسلمين حينما أراد المسلمون دخول مكة في عمرة القضاء؛ فلم يطِق خالد أن يراهم يدخلون مكة –رغم ما بينهم من صلح ومعاهدة– وقرر الخروج من مكة حتى لا يبصر أحدًا منهم فيها.

إسلامه

أسلم خالد في (صفر 8 هـ= يونيو 629م)؛ أي قبل فتح مكة بستة أشهر فقط، وقبل غزوة مؤتة بنحو شهرين.

ويروى في سبب إسلامه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال للوليد بن الوليد أخيه، وهو في عمرة القضاء: "لو جاء خالد لقدّمناه، ومن مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فكتب "الوليد" إلى "خالد" يرغبه في الإسلام، ويخبره بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه، فكان ذلك سبب إسلامه وهجرته.

وقد سُرَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) بإسلام خالد، وقال له حينما أقبل عليه: "الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير".

وفرح المسلمون بانضمام خالد إليهم، فقد أعزه الله بالإسلام كما أعز الإسلام به، وتحول عداء خالد للإسلام والمسلمين إلى حب وتراحم، وانقلبت موالاته للكافرين إلى عداء سافر، وكراهية متأججة، وجولات متلاحقة من الصراع والقتال.

سيف الله في مؤتة

وكانت أولى حلقات الصراع بين خالد والمشركين –بعد التحول العظيم الذي طرأ على حياة خالد وفكره وعقيدته– في (جمادى الأولى 8هـ = سبتمبر 629م) حينما أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) سرية الأمراء إلى "مؤتة" للقصاص من قتلة "الحارث بن عمير" رسوله إلى صاحب بصرى.

وجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) على هذا الجيش: "زيد بن حارثة" ومن بعده "جعفر بن أبي طالب"، ثم "عبد الله بن رواحة"، فلما التقى المسلمون بجموع الروم، استشهد القادة الثلاثة الذين عينهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأصبح المسلمون بلا قائد، وكاد عقدهم ينفرط وهم في أوج المعركة، وأصبح موقفهم حرجًا، فاختاروا "خالدًا" قائدًا عليهم.

واستطاع "خالد" بحنكته ومهارته أن يعيد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن أعاد تنظيم صفوفهم، وقد أبلى "خالد" – في تلك المعركة – بلاء حسنًا، فقد اندفع إلى صفوف العدو يعمل فيهم سيفه قتلاً وجرحًا حتى تكسرت في يده تسعة أسياف.

وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه باستشهاد الأمراء الثلاثة، وأخبرهم أن "خالدًا" أخذ اللواء من بعدهم، وقال عنه: "اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره". فسمي خالد "سيف الله" منذ ذلك اليوم.

وبرغم قلة عدد جيش المسلمين الذي لا يزيد عن ثلاثة آلاف فارس، فإنه استطاع أن يلقي في روع الروم أن مددًا جاء للمسلمين بعد أن عمد إلى تغيير نظام الجيش بعد كل جولة، فتوقف الروم عن القتال، وتمكن خالد بذلك أن يحفظ جيش المسلمين، ويعود به إلى المدينة استعدادًا لجولات قادمة.

خالد والدفاع عن الإسلام

وحينما خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) في نحو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار؛ لفتح "مكة" في (10 من رمضان 8هـ = 3 من يناير 630م)، جعله النبي (صلى الله عليه وسلم) على أحد جيوش المسلمين الأربعة، وأمره بالدخول من "الليط" في أسفل مكة، فكان خالد هو أول من دخل من أمراء النبي (صلى الله عليه وسلم)، بعد أن اشتبك مع المشركين الذين تصدوا له وحاولوا منعه من دخول البيت الحرام، فقتل منهم ثلاثة عشر مشركًا، واستشهد ثلاثة من المسلمين، ودخل المسلمون مكة – بعد ذلك – دون قتال.

وبعد فتح مكة أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) خالدًا في ثلاثين فارسًا من المسلمين إلى "بطن نخلة" لهدم "العزى" أكبر أصنام "قريش" وأعظمها لديها.

ثم أرسله – بعد ذلك – في نحو ثلاثمائة وخمسين رجلاً إلى "بني جذيمة" يدعوهم إلى الإسلام، ولكن "خالدًا" – بما عُرف عنه من البأس والحماس – قتل منهم عددًا كبيرًا برغم إعلانهم الدخول في الإسلام؛ ظنًا منه أنهم إنما أعلنوا إسلامهم لدرء القتل عن أنفسهم، وقد غضب النبي (صلى الله عليه وسلم) لما فعله خالد وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، وأرسل "عليًا بن أبي طالب" لدفع دية قتلى "بني جذيمة".

وقد اعتبر كثير من المؤرخين تلك الحادثة إحدى مثالب "خالد"، وإن كانوا جميعًا يتفقون على أنه أخطأ متأولاً، وليس عن قصد أو تعمد. وليس أدل على ذلك من أنه ظل يحظى بثقة النبي (صلى الله عليه وسلم)، بل إنه ولاه – بعد ذلك – إمارة عدد كبير من السرايا، وجعله على مقدمة جيش المسلمين في العديد من جولاتهم ضد الكفار والمشركين.

ففي "غزوة حنين" كان "خالد" على مقدمة خيل "بني سليم" في نحو مائة فارس، خرجوا لقتال قبيلة "هوازن" في (شوال 8هـ = فبراير 630م)، وقد أبلى فيها "خالد" بلاءً حسنًا، وقاتل بشجاعة، وثبت في المعركة بعد أن فرَّ من كان معه من "بني سليم"، وظل يقاتل ببسالة وبطولة حتى أثخنته الجراح البليغة، فلما علم النبي (صلى الله عليه وسلم) بما أصابه سأل عن رحله ليعوده.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 28-08-2010, 03:01 PM   #157
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سيف على أعداء الله

ولكن هذه الجراح البليغة لم تمنع خالدًا أن يكون على رأس جيش المسلمين حينما خرج إلى "الطائف" لحرب "ثقيف" و"هوازن".

ثم بعثه النبي (صلى الله عليه وسلم) – بعد ذلك – إلى "بني المصطلق" سنة (9هـ = 630م)، ليقف على حقيقة أمرهم، بعدما بلغه أنهم ارتدوا عن الإسلام، فأتاهم "خالد" ليلاً، وبعث عيونه إليهم، فعلم أنهم على إسلامهم، فعاد إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بخبرهم.

وفي (رجب 9هـ = أكتوبر 630م) أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" في أربعمائة وعشرين فارسًا إلى "أكيدر بن عبد الملك" صاحب "دومة الجندل"، فاستطاع "خالد" أسر "أكيدر"، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وساقه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فصالحه على فتح "دومة الجندل"، وأن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب له النبي (صلى الله عليه وسلم) كتابًا بذلك.

وفي (جمادى الأولى 1هـ = أغسطس 631م) بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) "خالدًا" إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران في نحو أربعمائة من المسلمين، ليخيرهم بين الإسلام أو القتال، فأسلم كثير منهم، وأقام "خالد" فيهم ستة أشهر يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، ثم أرسل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يخبره بإسلامهم، فكتب إليه النبي يستقدمه مع وفد منهم.

يقاتل المرتدين ومانعي الزكاة

وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) شارك "خالد" في قتال المرتدين في عهد "أبي بكر الصديق" – رضي الله عنه – فقد ظن بعض المنافقين وضعاف الإيمان أن الفرصة قد أصبحت سانحة لهم – بعد وفاة النبي – للانقضاض على هذا الدين، فمنهم من ادعى النبوية، ومنهم من تمرد على الإسلام ومنع الزكاة، ومنهم من ارتد عن الإسلام. وقد وقع اضطراب كبير، واشتعلت الفتنة التي أحمى أوارها وزكّى نيرانها كثير من أعداء الإسلام.

وقد واجه الخليفة الأول تلك الفتنة بشجاعة وحزم، وشارك خالد بن الوليد بنصيب وافر في التصدي لهذه الفتنة والقضاء عليها، حينما وجهه أبو بكر لقتال "طليحة بن خويلد الأسدي" وكان قد تنبأ في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما علم بمرضه بعد حجة الوداع، ولكن خطره تفاقم وازدادت فتنته بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) والتفاف كثير من القبائل حوله، واستطاع خالد أن يلحق بطليحة وجيشه هزيمة منكرة فر "طليحة" على إثرها إلى "الشام"، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان له دور بارز في حروب الفرس، وقد استشهد في عهد عمر بن الخطاب.

وبعد فرار طليحة راح خالد يتتبع فلول المرتدين، فأعمل فيهم سيفه حتى عاد كثير منهم إلى الإسلام.

مقتل مالك بن نويرة وزواج خالد من امرأته

ثم سار خالد ومن معه إلى مالك بن نويرة الذي منع الزكاة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما علم مالك بقدومه أمر قومه بالتفرق حتى لا يظفر بهم خالد، ولكن خالدا تمكن من أسره في نفر من قومه، وكانت ليلة شديدة البرودة، فأمر خالد مناديًا أن أدفئوا أسراكم، وظن الحرس -وكانوا من كنانة- أنه أراد قتل الأسرى – على لغتهم- فشرعوا فيهم سيوفهم بالقتل، حتى إذا ما انتبه خالد كانوا قد فرغوا منهم.

وأراد خالد أن يكفّر عن ذلك الخطأ الذي لم يعمده فتزوج من امرأة مالك؛ مواساة لها، وتخفيفًا عن مصيبتها في فقد زوجها الفارس الشاعر.

القضاء على فتنة مسيلمة الكذاب

وخرج خالد – بعد ذلك – لقتال مسيلمة الكذاب الذي كان من أشد أولئك المتنبئين خطرًا، ومن أكثرهم أعوانًا وجندًا، ودارت معركة عنيفة بين الجانبين، انتهت بهزيمة "بني حنيفة" ومقتل "مسيلمة"، وقد استشهد في تلك الحرب عدد كبير من المسلمين بلغ أكثر من ثلاثمائة وستين من المهاجرين والأنصار، وكان أكثرهم من السابقين إلى الإسلام، وحفظه القرآن، وهو الأمر الذي دعا أبا بكر إلى التفكير في جمع القرآن الكريم؛ خوفًا عليه من الضياع بعد موت هذا العدد الكبير من الحفاظ.

فتوحات خالد في العراق

ومع بدايات عام (12هـ = 633م) بعد أن قضى أبو بكر على فتنة الردة التي كادت تمزق الأمة وتقضي على الإسلام، توجه الصديق ببصره إلى العراق يريد تأمين حدود الدولة الإسلامية، وكسر شوكة الفرس المتربصين بالإسلام.

وكان خالد في طليعة القواد الذين أرسلهم أبو بكر لتلك المهمة، واستطاع خالد أن يحقق عددًا من الانتصارات على الفرس في "الأبلة" و"المذار" و"الولجة" و"أليس"، وواصل خالد تقدمه نحو "الحيرة" ففتحها بعد أن صالحه أهلها على الجزية، واستمر خالد في تقدمه وفتوحاته حتى فتح جانبًا كبيرًا من العراق، ثم اتجه إلى "الأنبار" ليفتحها، ولكن أهلها تحصنوا بها، وكان حولها خندق عظيم يصعب اجتيازه، ولكن خالدًا لم تعجزه الحيلة، فأمر جنوده برمي الجنود المتحصنين بالسهام في عيونهم، حتى أصابوا نحو ألف عين منهم، ثم عمد إلى الإبل الضعاف والهزيلة، فنحرها وألقى بها في أضيق جانب من الخندق، حتى صنع جسرًا استطاع العبور عليه هو وفرسان المسلمين تحت وابل من السهام أطلقه رماته لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم من فوق أسوار الحصن العالية المنيعة.. فلما رأى قائد الفرس ما صنع خالد وجنوده، طلب الصلح، وأصبحت الأنبار في قبضة المسلمين.

يواصل فتوحاته في العراق

واستخلف خالد "الزبرقان بن بدر" على الأنبار واتجه إلى "عين التمر" التي اجتمع بها عدد كبير من الفرس، تؤازرهم بعض قبائل العرب، فلما بلغهم مقدم "خالد" هربوا، والتجأ من بقي منهم إلى الحصن، وحاصر خالد الحصن حتى استسلم من فيه، فاستخلف "عويم بن الكاهل الأسلمي" على عين التمر، وخرج في جيشه إلى دومة الجندل ففتحهما.

وبسط خالد نفوذه على الحصيد والخنافس والمصيخ، وامتد سلطانه إلى الفراض وأرض السواد ما بين دجلة والفرات.

الطريق إلى الشام

ثم رأى أبو بكر أن يتجه بفتوحاته إلى الشام، فكان خالد قائده الذي يرمي به الأعداء في أي موضع، حتى قال عنه: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، ولم يخيب خالد ظن أبي بكر فيه، فقد استطاع أن يصل إلى الشام بسرعة بعد أن سلك طريقًا مختصرًا، مجتازًا المفاوز المهلكة غير المطروقة، متخذًا "رافع بن عمير الطائي" دليلاً له، ليكون في نجدة أمراء أبي بكر في الشام: "أبي عبيدة عامر الجراح"، و"شرحبيل بن حسنة" و"عمرو بن العاص"، فيفاجئ الروم قبل أن يستعدوا له.. وما إن وصل خالد إلى الشام حتى عمد إلى تجميع جيوش المسلمين تحت راية واحدة، ليتمكنوا من مواجهة عدوهم والتصدي له.

وأعاد خالد تنظيم الجيش، فقسمه إلى كراديس، ليكثروا في عين عدوهم فيهابهم، وجعل كل واحد من قادة المسلمين على رأس عدد من الكراديس، فجعل أبا عبيدة في القلب على 18كردسا، ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو، وجعل عمرو بن العاص في الميمنة على 10 كراديس ومعه شرحبيل بن حسنة، وجعل يزيد بن أبي سفيان في الميسرة على 10 كراديس.

والتقى المسلمون والروم في وادي اليرموك وحمل المسلمون على الروم حملة شديدة، أبلوا فيها بلاء حسنا حتى كتب لهم النصر في النهاية. وقد استشهد من المسلمين في هذه الموقعة نحو ثلاثة آلاف، فيهم كثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

وتجلت حكمة خالد وقيادته الواعية حينما جاءه رسول برسالة من عمر بن الخطاب تحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق وتخبره بعزله عن إمارة الجيش وتولية أبي عبيدة بدلا منه، وكانت المعركة لا تزال على أشدها بين المسلمين والروم، فكتم خالد النبأ حتى تم النصر للمسلمين، فسلم الرسالة لأبي عبيدة ونزل له عن قيادة الجيش.

خالد بين القيادة والجندية

ولم ينته دور خالد في الفتوحات الإسلامية بعزل عمر له وتولية أبي عبيدة أميرا للجيش، وإنما ظل خالد يقاتل في صفوف المسلمين، فارسا من فرسان الحرب وبطلا من أبطال المعارك الأفذاذ المعدودين.

وكان له دور بارز في فتح دمشق وحمص وقنسرين، ولم يفت في عضده أن يكون واحدا من جنود المسلمين، ولم يوهن في عزمه أن يصير جنديا بعد أن كان قائدا وأميرا؛ فقد كانت غايته الكبرى الجهاد في سبيل الله، ينشده من أي موقع وفي أي مكان.

وفاة الفاتح العظيم

وتوفي خالد بحمص في (18 من رمضان 21هـ = 20 من أغسطس 642م). وحينما حضرته الوفاة، انسابت الدموع من عينيه حارة حزينة ضارعة، ولم تكن دموعه رهبة من الموت، فلطالما واجه الموت بحد سيفه في المعارك، يحمل روحه على سن رمحه، وإنما كان حزنه وبكاؤه لشوقه إلى الشهادة، فقد عزّ عليه –وهو الذي طالما ارتاد ساحات الوغى فترتجف منه قلوب أعدائه وتتزلزل الأرض من تحت أقدامهم- أن يموت على فراشه، وقد جاءت كلماته الأخيرة تعبر عن ذلك الحزن والأسى في تأثر شديد: "لقد حضرت كذا وكذا زحفا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".

وحينا يسمع عمر بوفاته يقول: "دع نساء بني مخزوم يبكين على أبي سليمان، فإنهن لا يكذبن، فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 05-09-2010, 03:17 PM   #158
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

تبوك.. الرسول صلى الله عليه وسلم مقاطعًا

(في ذكرى عودة النبي من تبوك: 26 رمضان 9 هـ)

في ظل الظروف التي تعيشها أمتنا العربية والإسلامية بدأ طرح المقاطعة يأخذ أبعادًا مختلفة، فلم يعد مفهوم المقاطعة مقصورًا على المقاطعة الاقتصادية فحسب، إنما تعداه إلى الجوانب الثقافية والاجتماعية... وهذا الموضوع الذي بين أيدينا يطرح جانبًا مهمًّا من جوانب المقاطعة، وهو المقاطعة الهَجْرية، وذلك من خلال وقائع غزوة تبوك.

وتبدأ وقائع غزوة تبوك عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز والخروج إلى الروم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا أظهر أنه يريد غيرها، إلا غزوة تبوك فإنه قال: "أيها الناس إني أريد الروم".

وكانت هناك عقبات في طريق الخروج إلى الغزوة تتمثل في:

1- الجهد والمشقة لإتمام التمويل اللازم لتجهيز الجيش، وقد انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين للتبرع لتجهيز الجيش وحضهم على ذلك، وتسابق المسلمون في الجهاد بأموالهم، فها هو أبو بكر الصديق يأتي بكل ماله، وعمر بن الخطاب يأتي بنصف ماله، وتبارى القوم في التبرع في صورة تُظهر ما في قلوبهم من إيمان راسخ ونفوس سخية، ولم ينفق أحد أعظم نفقة من ذي النورين عثمان بن عفان الذي جهز ثلث الجيش وحده، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" قالها مرارًا.

2- الحر الشديد حيث الصحراء اللاهبة والشمس المحرقة وقلة الماء؛ وهو ما يؤدي إلى عسر المسير ومشقة الرحيل، حيث يصور لنا القرآن هذا الأمر: {وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}.

3- ثمارهم قد أينعت وحان وقت قطافها.

4- طول المسافة، حيث تبلغ المسافة من المدينة -عاصمة الإسلام آنذاك- إلى تبوك على تخوم الروم أكثر من تسعمائة كيلومتر، والرحلة تستغرق شهرًا ذهابًا وإيابًا.

5- شدة بأس العدو، فالعدو هو الروم إحدى القوتين العظميين في العالم آنذاك، وإحدى طبقي الرحى التي تطبق على العالم احتلالاً واستغلالاً؛ فأعدادهم عظيمة، وأسلحتهم كثيرة، وجيوشهم جرارة.

ومع هذه العقبات سارع المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز والخروج والتبرع بأموالهم لسد العجز في التمويل؛ إيمانًا منهم بقدسية الغاية وربانية الهدف.

ولطول المسافة تحتم أن يكون الجيش من الفرسان وراكبي الإبل، وبعد التجهز خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يقود جيشًا قوامه أكثر من 30 ألفًا من المسلمين ما بين 10 آلاف فارس وبقية الجيش يتعاقب كل ثلاثة على بعير واحد.

وعانى الصف الإسلامي قبل الخروج من إرجاف المنافقين ومحاولتهم الدنيئة تثبيط همة المسلمين وشق صفهم وبذر الوهن في قلوبهم، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك في صف ارتبط بخالقه وارتضى برسوله وآمن بعقيدته؛ ففشِلت كل محاولات الطابور الخامس -أهل النفاق والزيغ- وكانت الغزوة فرصة عظيمة لتميز الأمة في مبادئها ولتمايزها في صفها، فأصبح المجتمع كالآتي:

1- أهل السبق والإيمان من المهاجرين والأنصار الذين تباروا في الخروج للغزو والتبرع لتجهيز إخوانهم الذين لا يملكون النفقة.

2- أهل الإيمان الذين قصرت بهم النفقة لفقرهم فلم يستطيعوا الخروج وهم البكاؤون "... الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ".

3- أهل إيمان، ولكن أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عن الخروج من غير شك ولا ارتياب منهم.

4- المنافقون أهل الزيغ والضلال الذين تعاونوا مع العدو وتجسسوا على أهل الإيمان، وقد رجع أكثرهم من الغزو واعتذر بعضهم عن الخروج مخافة الفتنة كما زعم. وخروج البعض منهم محاولين استغلال الفرص لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم.

الطريق إلى تبوك

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وبدأ التحرك بالجيش الإسلامي نحو تبوك يوم الخميس قبل منتصف شهر رجب سنة 9هـ حيث وصل إلى تبوك في شعبان سنة 9هـ وأقام فيها مدة عشرين يومًا ولم يلاق حشود الروم الذين جبنوا عن التقدم للقاء الجيش الإسلامي.

فظل الرسول صلى الله عليه وسلم مدة إقامته يعقد معاهدات مع أمراء المناطق وقبائلها، وأرسل سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى دومة الجندل فأسرت أكيدر ملك دومة الجندل وقدم به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليعاهده.

وحققت الغزوة أهدافها سواء من تحدي الروم وإظهار جبنهم وإثارة الرعب في القبائل النصرانية التي تساعد الروم، ثم -وهو الأهم- إعلان ظهور دولة الإسلام كدولة قوية تستطيع تحدي الروم ومهاجمة أراضيهم.

عاد الرسول صلى الله عليه وسلم بالجيش الإسلامي قافلاً نحو المدينة حيث وصلها في شهر رمضان سنة 9هـ.

تحقيق وحساب للمخلفين

وهنا حان وقت التحقيق والحساب مع الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كما يحكيها أحد المخلفين، وهو كعب بن مالك رضي الله عنه "...غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حيث طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه. فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا؛ فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئًا. ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئًا. فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو(فات وقته وتقدم)، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم - أحزنني أنني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا (محتقرا) عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء...

فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا زاح عني الباطل وعرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، فجئت فلما سلمت، تبسم تبسم المغضب ثم قال: "تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قلت بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبى الله، لا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. وثار رجال من بني سلمة.. ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي.

ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة. فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها(نحن) الثلاثة من بين من تخلف عنه".

المقاطعة.. مطلب شرعي

وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بمقاطعة الثلاثة الذين صدقوا حديثهم، وعدم الكلام معهم، بدأت قصة تربيتهم وصقلهم وفرض العزل الاجتماعي عليهم، فالمقاطعة التربوية التي وقعت على هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية لها منافع عظيمة وجسيمة في تربية المجتمع الإسلامي على الاستقامة وقوة الإرادة والوفاء الثابت ولمنع أفراد هذا المجتمع من التورط في المخالفات سواء كان ذلك بترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات، أو كان بالتسويف في الأمر إلى حد التفريط، حيث يتوقع الذي يفعل ذلك أنه سيكون مهجورًا من جميع أفراد المجتمع؛ فلا يفكر في الفعل المخالف لأوامر القيادة قط.

فالمقاطعة التربوية هنا نوع من الهجر الديني الذي هو مطلب شرعي يثاب فاعله، وهو غير الهجر الدنيوي فهو مكروه، وإذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرمًا. ويحدثنا كعب بن مالك عن الآلام النفسية المبرحة التي عاناها وصاحبيه نتيجة المقاطعة التربوية التي فرضها الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وبلغت من المدة خمسين يومًا فيقول: "... فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أَشبّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج. فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة مع المسلمين فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي. فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها لا تقربنها. أرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: ألحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 05-09-2010, 03:22 PM   #159
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

المقاطعة.. ابتلاء وتمحيص

تمت المقاطعة التربوية لهؤلاء الثلاثة ابتلاء للصف الإسلامي ليثبت مدى استجابته للأمر والتحامه مع قيادته ومفاصله الثلاثة في أروع ما يحمل التاريخ من صور الاستجابة لدرجة أن أبا قتادة وهو ابن عم كعب وصديقه وأحب الناس إليه لا يرد عليه السلام ولا يبادله الكلام، كأننا نلحظ صراعا نفسيا داخل أبي قتادة بين قربه وحبه لكعب وصلته الإنسانية به وبين التزامه بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما ينتصر الالتزام الديني على الصلة والصداقة فلا يرد عليه سلام.

وأعظم ما في هذه المفاضلة الأمر الأخير لزوجاتهم بالمقاطعة فتسرع الزوجات بالاستجابة في علو إيمان وشدة التزام تهزم صلة الزوجية والرابطة القوية بينهم، وقد نجحت الخطة، وتحققت المقاطعة الكاملة لهم في صورة غير مسبوقة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، وقد عاش المجتمع الإسلامي مأساة إخوته الثلاثة في أشد ما يكون يقظة والتزامًا وألمًا وتأثرًا، ولك أن تتخيل أثر المقاطعة النفسي على الثلاثة الذين خلفوا وعلى المجتمع حولهم بما فيه من صلات قربى وصداقة ومودة، خاصة أن المقاطعة كانت في رمضان شهر زيادة الصلة والرابطة بين المسلمين، ويمر عليهم عيد الفطر مناسبة الود والتزاور بينهم. والمقاطعة التي تأبى على المسلمين أن يذكروا اسم كعب للنبطي، بل يكتفون بالإشارة إليه عن سؤالهم عنه؛ مما يعطينا صورة واضحة عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي ومتانة بنائها وصفاء عناصرها ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة ولتكاليف الدعوة ولقيمة الأوامر الصادرة ولضرورة الطاعة؛ حتى إن التوبة لما نزلت ما تمالك صارخ أن يصرخ من الفجر بأعلى صوته على قمة الجبل مبشرًا كعب، فأروع ما في الأمر تمام الانضباط مع تمام العاطفة.

وظل المخلفون يحفهم هذا الجو المكروب بالكربة واليأس والضيق لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى الله مفرج الكروب ثم يجيء الفرج بعد خمسين يومًا من الضيق فينزل الوحي بآيات بينات: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" [التوبة: 118].

كيف تلقى المخلفون الثلاثة أمر نزول توبتهم؟

يحكي كعب بن مالك عن ذلك فيقول: "... فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، وذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسًا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه والله! ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة".

إن توبة كعب وصاحبيه وما حملت في آفاقها من معاني السمو والاعتراف بالخطأ -الذي هو من أعظم الشجاعة- وتعاليهم عن الدنيا التي تتراقص لهم بدعوة ملك غسان لكعب، بل الصبر على عقوبة الله تعالى -علامة على الوفاء منهم لدعوتهم ووفاء لا يعدو عليه تلون ولا غدر- والصبر هنا ليس يومًا أو يومين، بل خمسين ليلة على هذا الحال، منها عشر ليال بمقاطعة زوجاتهم لهم إلى أن جاءهم الفرج.

ضوابط المقاطعة التربوية

فإذا علمنا أن المخلفين الثلاثة من الطبقة الثالثة في المجتمع؛ حيث يسبقهم:

أ- السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

ب- البكاؤون الذين لا يجدون ما يحملهم.

فإذا كان هذا هو مستوى الطبقة الثالثة في الصدق والولاء لله ولرسوله والالتزام في تنفيذ أشد العقوبات عليهم واستعدادهم لطلاق زوجاتهم أدركنا ذلك المستوى الإيماني التربوي الرفيع للمجتمع المسلم آنذاك.

وقد خرج المخلفون من محنتهم أقوى إيمانًا وأصفى روحًا وأكرم أخلاقًا، وصفة أخرى في المخلفين أثناء محنتهم أن الله حاضر في ضمائرهم مع خطئهم، ومراقبة الله أقوى، وتقوى الله أعمق، والرجاء في الله أوثق.

مع وجوب ملاحظة أن تطبيق هذه المقاطعة التربوية، وهذا الهجر التقويمي يجب أن يكون مع:

1- مجتمع قوي مترابط راسخ الإيمان شديد الانضباط.

2- أفراد مؤمنين ملتزمين يؤمن عليهم من الوقوع في الفتنة.

3- قيادة حكيمة في أسلوبها بصيرة بهدفها حازمة في تطبيق قراراتها.

وتمضي قصة المخلفين عبرة للمجتمع الإسلامي عبر الزمان والمكان تحكي أسلوبًا من أساليب الإسلام -هو المقاطعة التربوية- تجاه الأخطاء التي تقع؛ فتقوِّم المعوج، وتصحح للمخطئ، فنتعلم منها كيف نتربى ونربي
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 09-09-2010, 09:09 PM   #160
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الجراح الحكمي.. القائد الزاهد

(في ذكرى وفاته: 30 رمضان 112هـ)


انتشر الإسلام في شرق العالم الإسلامي على يد قواد أكفاء، أبلوا في سبيل نشر هذا الدين بلاء حسنا، ولم ينظروا في ذلك موقعهم من القيادة، فإذا كانوا قوادا فنعم القواد، وإذا عُزلوا عن القيادة واصطفوا مع الجنود فنعم الأجناد والأعوان للقواد. ومن هؤلاء القواد الذين كان لهم باع في هذه الفتوحات: أبو عقبة الجَرّاح بن عبد الله الحَكَمِيّ، الذي يقول عنه الذهبي: إنه مقدم الجيوش، فارس الكتائب، كان بطلا شجاعا مهيبا، عابدا، قارئا، كبير القدر.

اسمه ونسبه

هو أبو عقبة الجراح بن عبد الله الحكمي، ولد فى دمشق، وكان يلقب ببطل الإسلام، وفارس أهل الشام، والأمير الفاتح. ينسب إلى قبيلة بني الحَكَم أشهر وأعظم قبيلة قحطانية من (مَذْحِج)، وتعتبر قبيلة (حكم) من أقدم القبائل وأشجعها وأكرمها وأطهرها نسبا، وكانوا من آلاف السنين ذوي قوة وبأس، وأسسوا الكثير من الدول.

وقد انقسمت القبيلة إلى مِخْلاف وحَكَم، وظلوا كذلك حتى صدر الإسلام، حيث توحدوا بعد عبد الجد الحكمي الذي بايع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في السنة العاشرة هجريا، وكان توحدهما على يد سليمان بن طرف الحكمي.

وقد اشتهرت هذه القبيلة بكون رجالها من علماء الدين، وكانوا على المذهب الشافعي. وتوجد أعداد كبيرة من قبيلة حكم في بلاد فارس، وإلى هذا الفرع ينتمي الجراح الحكمي.

ومن أعلام هذه القبيلة الفارس عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وفروة بن مسيك المرادي الذي ولاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدقات مذحج، ومحميــة بن جزء الزبيدي الذي ولاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأخماس والغنائم يوم بدر، وعمار بن ياسر العنسي وأسرته من أوائل المؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مكة.

الولايات والفتوح

لمّا تولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق جعله نائبا عنه على البصرة (سنة 75هـ), ثم ولاه عمر بن عبد العزيز على خراسان وسجستان سنة (99هـ= 717م), ثم عزله عمر بن عبد العزيز عن إمرة خراسان.

ولما تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة سنة (101هـ= 719م) خلفا لعمر بن عبدالعزيز, ولاه على أرمينية وأذربيجان, فانصرف إليها بجيش كثيف وغزا الخزر وغيرها وافتتح حصن (بلنجر) وحصونا أخرى.

وحين تولى الخلافة هشام بن عبد الملك عزله عنهما ثم أعاده سنة (111هـ= 720م) أميرا عليهما, فانصرف إلى الغزو, وغزا الخزر ونشبت بينه وبينهم معركة ضارية قرب مدينة (أردبيل) فاستشهد فيها، فولي هشام مكانه سعيدا الحرشي.

لماذا العزل؟

كان فى عزل عمر بن عبد العزيز للجراح عبد الله الحكمي دليل على سماحة الإسلام مع غيره من أصحاب الديانات الأخرى، ومن الأمور ذات الدلالة فى هذا السياق أن بعض ولاة الأمويين لم يرحبوا كثيرا باعتناق هؤلاء للإسلام حين لمسوا ما ترتب على ذلك من انخفاض مقدار الجزية التى كانوا يحصلونها منهم بوصفهم ذميين؛ ومن ثم اتخذ بعض ولاة الأمويين قرارا خطيرا وهو الاستمرار فى فرض الجزية على من أسلم، وهو قرار يتصادم تماما مع تعاليم الإسلام، فلا عجب أن يكون مثار شكوى مريرة من الموالي.

ومما يسجله التاريخ لعمر بن عبد العزيز فى هذا الصدد أنه أمر ولاته بإيقاف هذا الإجراء، وكان سبب عزل الجراح عبد الله الحكمى أنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار، ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارا منها؛ فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر: إن الله إنما بعث محمدا داعيا ولم يبعثه جابيا.

وركز عمر بن عبد العزيز جهوده على الدعوة إلى الإسلام بالحكمة واللين وحث ولاته على اتباع هذا الأسلوب.

وقد أسلم على يد الجراح بن عبد الله الحكمى أربعة آلاف من أهل خراسان. وكان يقول: تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع.

وفاته

وفي خلافة هشام بن عبد الملك، استشهد في (30 من رمضان 112هـ= 18 من ديسمبر 730م) في قتال الخرز؛ حيث اقتتلوا قتالا شديدا وغلبت الخرز على أذربيجان، وبلغوا إلى قريب الموصل، يقول الواقدي: كان البلاء بمقتل الجراح الحكمي على المسلمين عظيما, فبكوا عليه في كل جند
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .