بسم الله الرحمن الرحيم
إدارة الوقت
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قبل أن نتناول موضوع إدارة الوقت بالبيان لابد وأن نتعرف على الوقت حقيقته وماهيته وقيمته، والوقت في لسان العرب مقدار من الزمان معروف، فهو بالنسبة للمرء حياته إذ إنها مقدار من الزمان يعلمه الله تعالى ولا يعلمه صاحبه يحياه المرء في هذه الحياة الدنيا، ويستشعر المرء قيمة الوقت بقيمة حياته التي يستشعرها إذا ما أصيب بمرض لايبرأ منه إلا ببذل الدنيا كلها لو كان يمتلكها فهو يضحي بها بلا تردد مع علمه أنه سيموت بعد الشفاء وإن لم يمت بالمرض، إذًا فالوقت أثمن من كل شيء إلا من الدين عند الصالحين لعلمهم أن الله خلق الوقت لإقامة الدين وحرم إقامة الحياة على حساب الدين. يقول تعالى{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:2]، ويقول{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، ومن هنا نعلم أن الوقت لا بد وأن يوظف لما من أجله خلقه الله تعالى، وهو إقامة الدين أي الهدف الذي من أجله خلق الله الإنسان بل والكون بأسره، يقول تعالى{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:30] ،ويقول{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، ويقول{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}[لقمان:20]، وتوظيف المرء حياته لإقامة الدين يحتاج إلى إدارة سليمة للوقت تمكنه من استخدامه في تحقيق غاياته التي شرعها الله له لأنه إن لم يوظفه في تحقيق هذه الغايات وظفه في هدمها أو النيل منها وتحقيق نقيضها لأنه النقيضين لا يلتقيان والضدين لا يجتمعان، الكفر والإيمام والهدى والضلال، يقول تعالى{وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}[الإسراء:81]، ولذلك كانت كلمة التوحيد شقين نفي الكفر وإثبات الإيمان، والإدارة السليمة المحكمة المتقنة للوقت حتى تتحقق في حياة المسلم لا بد أن يقيمها على المقومات التالية:
1- تحديد الأهداف وترتيبها بحسب أهميتها في إقامة الدين ونيل رضا الله عز وجل الأهم فالأقل أهمية.
2- تحديد الأعمال المشروعة الخادمة للأهداف وترتيبها بحسب أهميتها في خدمة الأهداف الأهم فالأقل أهمية.
3- شحذ الطاقات والإمكانات اللازمة المتاحة واستجماعها لتسخيرها في خدمة هذه الأهداف وأداء هذه الأعمال على أكمل وجه وعدم ادخار شيء منها أو تبدبده في غير هذا السبيل.
4- القيام بدراسة دقيقة لاختيار الوقت المناسب وكذلك الطاقة اللازمة لتحقيق كل هدف من الأهداف أو عمل من الأعمال. على ضوء القرآن والسنة المطهرة والدراسة الواعية للواقع والوسائل المتاحة، وإعطاء كل هدف وعمل ما يلزمه من وقت وإمكانات مع عدم الإفراط أو التفريط.
5- تحديد مصدر تلق للعلم اللازم لتحقيق الأهداف المرجوة والقيام بالأعمال الواجبة والمستحبة الخادمة لهذه الأهداف، هذا المصدر هو العالم الرباني والإعراض عن كل المصادر المزاحمة غير المؤهلة.
وبناء على هذا التأصيل للمسألة سأدير لك يومًا من حياتك لتقيس عليه باقي أيام حياتك بإذن الله تعالى.
واليوم كما تعلمون يبدأ بغروب الشمس وينتهي بغروبها أيضًا، فإذا ما غربت الشمس صليت المغرب جماعة في المسجد إن أمكن، وبين صلاتي المغرب والعشاء إن لم تجمع بينهما هناك واجبات من المناسب القيام بها في هذا الوقت وهي من الواجبات غير المؤقتة وهي كثيرة منها: بر الوالدين وصلة الرحم ورعاية الأزواج والأولاد وتعلم الهدى والدعوة إلى الخير وغيرها وواحد من هذه الواجبات يستغرق هذا الوقت ولذلك فإنه بإمكانك توزيع هذه الأعمال على أيام الأسبوع أو الشهر، ثم بعد صلاة العشاء إن لم يكن هناك واجب من الواجبات الملحة الضروري القيام بها في هذا الوقت كإصلاح بين الناس أو طلب علم أو رباط أو جهاد في سبيل الله، تشرع في النوم لتستيقظ في الثلث الأخير من الليل لتقوم الليل ثم تنتظر الأذان لصلاة الفجر لتؤديها جماعة في المسجد إن أمكن ثم بعد صلاة الفجر تقرأ حزبك اليومي من القرآن الكريم وتراجع ما تحفظه أو تحفظ مما لا تحفظه منه، وبعده إن كنت ممن لا يعملون في الدنيا فاختر لنفسك واجبًا أو واجبات من الواجبات تخدم بها دين الحق كتعلم الهدى وتعليمه أو الجهاد في سبيل الله أو الإصلاح بين الناس أو الدعوة إلى الخير ونحو ذلك، وأما إن كنت ممن يعملون في الدنيا تهيأت لعملك ولا أرى أن تعطيه من وقتك إلا سويعات قليلات أربع أو خمس ساعات على أكثر تقدير تتمكن بعدها من أداء صلاة الظهر جماعة في المسجد إن أمكن ثم تستريح ما بين صلاتي الظهر والعصر وتنظر في أمر أهل بيتك ومصالحهم، وأما ما بين صلاتي العصر والمغرب فتسخرها في أداء الواجبات العينية أو الكفائية كطلب العلم والدعوة إلى الخير ونحوها، وأما في ساعات الملل فتروح عن نفسك بأعمال مستحبة وهي كثيرة كزيارة الإخوة في الله وأهل الفضل وصلاة التطوع و الذكر وغير ذلك. فانظر أخي إلى يومك كيف مضى لو أدرته هذه الإدارة الحكيمة؟ كله طاعة لله وهو في الحقيقة لا يتسع لأداء هذه الطاعات الواجبة لو أردت القيام بها كلها كل يوم بل أنت مضطر إلى توزيعها على أيام الأسبوع أو الشهر لتتمكن من القيام ببعضها مرة واحدة كل أسبوع أو كل شهر، وأما المستحبات فلا تكاد تجد لها متسعًا ولا تدخلها إلا وسط الزحام زحام الواجبات المتدافعة المتلاحقة، فما بالك باللغو واللهو والمحرمات؟ فإنك إن قمت ببعضها فاعلم علم اليقين أنك بذلك تكون قد أضعت واجبًا أو واجبات فيصير الحرام حرامين والمنكر منكرين، واعلم أخي أن كل لحظة من لحظات عمرك أغلى من الدنيا وما فيها عدا الدين في نظرك ونظر غيرك ولذلك فإنك ستأل عنها يوم القيامة ماذا عملت فيها وفيما أبليتها، فأبلها في طاعة الله تعالى واعمل فيها الخير حتى تفوز وتنجو يوم الجزاء والحساب.
محمود جودة. الثلاثاء 20 جمادى الآخرة1429هـ
منقول