العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة في كتاب رؤية الله تعالى يوم القيامة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مقال فسيولوجية السمو الروحي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى توهم فريجولي .. الواحد يساوي الجميع (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال ثقافة العين عين الثقافة تحويل العقل إلى ريسيفر (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات بمقال هل تعلم أن مكالمات الفيديو(السكايب) كانت موجودة قبل 140 عام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى بحث مطر حسب الطلب (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مثال متلازمة ستوكهولم حينما تعشق الضحية جلادها (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال مستعمرات في الفضاء (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال كيفية رؤية المخلوقات للعالم من حولها؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال حوار مع شيخ العرفاء الأكبر (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 05-06-2010, 09:05 AM   #111
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفاروق خليفة للمسلمين

توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) وتولى الصديق "أبو بكر"، خلافة المسلمين، فكان عمر بن الخطاب، وزيره ومستشاره الأمين، وحمل عنه عبء القضاء فقام به خير قيام، وكان "عمر" يخفي وراء شدته، رقة ووداعة ورحمة عظيمة، وكأنه يجعل من تلك الشدة والغلظة والصرامة ستارًا يخفي وراءه كل ذلك الفيض من المشاعر الإنسانية العظيمة التي يعدها كثير من الناس ضعفًا لا يليق بالرجال لا سيما القادة والزعماء، ولكن ذلك السياج الذي أحاط به "عمر" نفسه ما لبث أن ذاب، وتبدد بعد أن ولي خلافة المسلمين عقب وفاة الصديق.

الفاروق يواجه الخطر الخارجي

بويع أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" خليفة للمسلمين في اليوم التالي لوفاة "أبي بكر الصديق" [ 22 من جمادى الآخرة 13 هـ: 23 من أغسطس 632م].

وبدأ الخليفة الجديد يواجه الصعاب والتحديات التي قابلته منذ اللحظة الأولى وبخاصة الموقف الحربي الدقيق لقوات المسلمين بالشام، فأرسل على الفور جيشًا إلى العراق بقيادة أبي عبيدة بن مسعود الثقفي" الذي دخل في معركة متعجلة مع الفرس دون أن يرتب قواته، ولم يستمع إلى نصيحة قادة جيشه الذين نبهوه إلى خطورة عبور جسر نهر الفرات، وأشاروا عليه بأن يدع الفرس يعبرون إليه؛ لأن موقف قوات المسلمين غربي النهر أفضل، حتى إذا ما تحقق للمسلمين النصر عبروا الجسر بسهولة، ولكن "أبا عبيدة" لم يستجب لهم، وهو ما أدى إلى هزيمة المسلمين في موقعة الجسر، واستشهاد أبي عبيدة وأربعة آلاف من جيش المسلمين.

الفتوحات الإسلامية في عهد الفاروق

بعد تلك الهزيمة التي لحقت بالمسلمين "في موقعة الجسر" سعى "المثنى بن حارثة" إلى رفع الروح المعنوية لجيش المسلمين في محاولة لمحو آثار الهزيمة، ومن ثم فقد عمل على استدراج قوات الفرس للعبور غربي النهر، ونجح في دفعهم إلى العبور بعد أن غرهم ذلك النصر السريع الذي حققوه على المسلمين، ففاجأهم "المثنى" بقواته فألحق بهم هزيمة منكرة على حافة نهر "البويب" الذي سميت به تلك المعركة.

ووصلت أنباء ذلك النصر إلى "الفاروق" في "المدينة"، فأراد الخروج بنفسه على رأس جيش لقتال الفرس، ولكن الصحابة أشاروا عليه أن يختار واحدًا غيره من قادة المسلمين ليكون على رأس الجيش، ورشحوا له "سعد بن أبي وقاص" فأمره "عمر" على الجيش الذي اتجه إلى الشام حيث عسكر في "القادسية".

وأرسل "سعد" وفدًا من رجاله إلى "بروجرد الثالث" ملك الفرس؛ ليعرض عليه الإسلام على أن يبقى في ملكه ويخيره بين ذلك أو الجزية أو الحرب، ولكن الملك قابل الوفد بصلف وغرور وأبى إلا الحرب، فدارت الحرب بين الفريقين، واستمرت المعركة أربعة أيام حتى أسفرت عن انتصار المسلمين في "القادسية"، ومني جيش الفرس بهزيمة ساحقة، وقتل قائده "رستم"، وكانت هذه المعركة من أهم المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، فقد أعادت "العراق" إلى العرب والمسلمين بعد أن خضع لسيطرة الفرس قرونًا طويلة، وفتح ذلك النصر الطريق أمام المسلمين للمزيد من الفتوحات.

الطريق من المدائن إلى نهاوند

أصبح الطريق إلى "المدائن" عاصمة الفرس ـ ممهدًا أمام المسلمين، فأسرعوا بعبور نهر "دجلة" واقتحموا المدائن، بعد أن فر منها الملك الفارسي، ودخل "سعد" القصر الأبيض ـ مقر ملك الأكاسرة ـ فصلى في إيوان كسرى صلاة الشكر لله على ما أنعم عليهم من النصر العظيم، وأرسل "سعد" إلى "عمر" يبشره بالنصر، ويسوق إليه ما غنمه المسلمون من غنائم وأسلاب.

بعد فرار ملك الفرس من "المدائن" اتجه إلى "نهاوند" حيث احتشد في جموع هائلة بلغت مائتي ألف جندي، فلما علم عمر بذلك استشار أصحابه، فأشاروا عليه بتجهيز جيش لردع الفرس والقضاء عليهم فبل أن ينقضوا على المسلمين، فأرس عمر جيشًا كبيرًا بقيادة النعمان بن مقرن على رأس أربعين ألف مقاتل فاتجه إلى "نهاوند"، ودارت معركة كبيرة انتهت بانتصار المسلمين وإلحاق هزيمة ساحقة بالفرس، فتفرقوا وتشتت جمعهم بعد هذا النصر العظيم الذي أطلق عليه "فتح الفتوح".

فتح مصر

اتسعت أركان الإمبراطورية الإسلامية في عهد الفاروق عمر، خاصة بعد القضاء نهائيًا على الإمبراطورية الفارسية في "القادسية" ونهاوند ـ فاستطاع فتح الشام وفلسطين، واتجهت جيوش المسلمين غربًا نحو أفريقيا، حيث تمكن "عمرو بن العاص" من فتح "مصر" في أربعة آلاف مقاتل، فدخل العريش دون قتال، ثم فتح الفرما بعد معركة سريعة مع حاميتها، الرومية، واتجه إلى بلبيس فهزم جيش الرومان بقيادة "أرطبون" ثم حاصر "حصن بابليون" حتى فتحه، واتجه بعد ذلك إلى "الإسكندرية" ففتحها، وفي نحو عامين أصبحت "مصر" كلها جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية العظيمة.

وكان فتح "مصر" سهلاً ميسورًا، فإن أهل "مصر" ـ من القبط ـ لم يحاربوا المسلمين الفاتحين، وإنما ساعدوهم وقدموا لهم كل العون؛ لأنهم وجدوا فيهم الخلاص والنجاة من حكم الرومان الطغاة الذين أذاقوهم ألوان الاضطهاد وصنوف الكبت والاستبداد، وأرهقوهم بالضرائب الكثيرة.

عمر أمير المؤمنين

كان "عمر بن الخطاب" نموذجًا فريدًا للحاكم الذي يستشعر مسئوليته أمام الله وأمام الأمة، فقد كان مثالا نادرًا للزهد والورع، والتواضع والإحساس بثقل التبعة وخطورة مسئولية الحكم، حتى إنه كان يخرج ليلا يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص عجيبة وأخبار طريفة، من ذلك ما روي أنه بينما كان يعس بالمدينة إذا بخيمة يصدر منها أنين امرأة، فلما اقترب رأى رجلا قاعدًا فاقترب منه وسلم عليه، وسأله عن خبره، فعلم أنه جاء من البادية، وأن امرأته جاءها المخاض وليس عندها أحد، فانطلق عمر إلى بيته فقال لامرأته "أم كلثوم بنت علي" ـ هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ فقالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض وليس عندها أحد ـ قالت نعم إن شئت فانطلقت معه، وحملت إليها ما تحتاجه من سمن وحبوب وطعام، فدخلت على المرأة، وراح عمر يوقد النار حتى انبعث الدخان من لحيته، والرجل ينظر إليه متعجبًا وهو لا يعرفه، فلما ولدت المرأة نادت أم كلثوم "عمر" يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل أخذ يتراجع وقد أخذته الهيبة والدهشة، فسكن عمر من روعه وحمل الطعام إلى زوجته لتطعم امرأة الرجل، ثم قام ووضع شيئًا من الطعام بين يدي الرجل وهو يقول له: كل ويحك فإنك قد سهرت الليل!

وكان "عمر" عفيفًا مترفعًا عن أموال المسلمين، حتى إنه جعل نفقته ونفقة عياله كل يوم درهمين، في الوقت الذي كان يأتيه الخراج لا يدري له عدا فيفرقه على المسلمين، ولا يبقي لنفسه منه شيئا.

وكان يقول: أنزلت مال الله مني منزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عففت عنه، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.

وخرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى ألمًا في بطنه فوصف له العسل، وكان في بيت المال آنية منه، فقال يستأذن الرعية: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فإنها علي حرام، فأذنوا له فيها.

عدل عمر وورعه

كان عمر دائم الرقابة لله في نفسه وفي عماله وفي رعيته، بل إنه ليشعر بوطأة المسئولية عليه حتى تجاه البهائم العجماء فيقول: "والله لو أن بغلة عثرت بشط الفرات لكنت مسئولا عنها أمام الله، لماذا لم أعبد لها الطريق".

وكان "عمر" إذا بعث عاملاً كتب ماله، حتى يحاسبه إذا ما استعفاه أو عزله عن ثروته وأمواله، وكان يدقق الاختيار لمن يتولون أمور الرعية، أو يتعرضون لحوائج المسلمين، ويعد نفسه شريكًا لهم في أفعالهم.

واستشعر عمر خطورة الحكم والمسئولية، فكان إذا أتاه الخصمان برك على ركبته وقال: اللهم أعني عليهم، فإن كل واحد منهما يريدني على ديني.

وقد بلغ من شدة عدل عمر وورعه أنه لما أقام "عمرو بن العاص" الحد على "عبد الرحمن بن عمر" في شرب الخمر، نهره وهدده بالعزل؛ لأنه لم يقم عليه الحد علانية أمام الناس، وأمره أن يرسل إليه ولده "عبد الرحمن" فلما دخل عليه وكان ضعيفًا منهكًا من الجلد، أمر "عمر" بإقامة الحد عليه مرة أخرى علانية، وتدخل بعض الصحابة ليقنعوه بأنه قد أقيم عليه الحد مرة فلا يقام عليه ثانية، ولكنه عنفهم، وضربه ثانية و"عبد الرحمن" يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي، فلا يصغي إليه. وبعد أن ضربه حبسه فمرض فمات!!

إنجازات عمر الإدارية والحضارية

وقد اتسم عهد الفاروق "عمر" بالعديد من الإنجازات الإدارية والحضارية، لعل من أهمها أنه أول من اتخذ الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي، كما أنه أول من دون الدواوين، وقد اقتبس هذا النظام من الفرس، وهو أول من اتخذ بيت المال، وأول من اهتم بإنشاء المدن الجديدة، وهو ما كان يطلق عليه "تمصير الأمصار"، وكانت أول توسعة لمسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في عهده، فأدخل فيه دار "العباس بن عبد المطلب"، وفرشه بالحجارة الصغيرة، كما أنه أول من قنن الجزية على أهل الذمة، فأعفى منها الشيوخ والنساء والأطفال، وجعلها ثمانية وأربعين درهمًا على الأغنياء، وأربعة وعشرين على متوسطي الحال، واثني عشر درهمًا على الفقراء.

في سجل الشهداء

وفي فجر يوم الأربعاء [ 26 من ذي الحجة 23 هـ: 3 من نوفمبر 644م] بينما كان الفاروق يصلي بالمسلمين ـ كعادته ـ اخترق "أبو لؤلؤة المجوسي" صفوف المصلين شاهرًا خنجرًا مسمومًا وراح يسدد طعنات حقده الغادرة على الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" حتى مزق أحشاءه، فسقط مدرجًا في دمائه وقد أغشي عليه، وقبل أن يتمكن المسلمون من القبض على القاتل طعن نفسه بالخنجر الذي اغتال به "عمر" فمات من فوره ومات معه سر جريمته البشعة الغامضة، وفي اليوم التالي فاضت روح "عمر" بعد أن رشح للمسلمين ستة من العشرة المبشرين بالجنة ليختاروا منهم الخليفة الجديد.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-06-2010, 12:22 PM   #112
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الخطيب البغدادي.. يكشف خديعة اليهود

(في ذكرى ميلاده: 24 من جمادى الآخرة 392هـ)



تطورت الكتابة التاريخية عند المسلمين تطورًا هائلاً، وشملت مناحي الحياة المختلفة وسجلت دقائقها، وترجمت لأعلامها، وكان من بين صور التأليف التاريخي التي شاعت منذ منتصف القرن الثالث الهجري ما يُعرف بالتاريخ المحلي؛ حيث يعمد المؤرخ إلى الكتابة عن مدينته، ويؤرخ لها دون غيرها من المدن؛ اعتزازًا بها، وتسجيلا لحركتها الفكرية، وبدأت تظهر سلسلة من تواريخ المدن توفر على كتابتها عدد من أبنائها، حتى أضحت كتابة هذه التواريخ البلدانية تقليدًا لدى العلماء تتوارثه الأجيال.

وتوالت الكتب التي تتناول المدن الكبيرة وحواضر الدول؛ مثل: بغداد، ودمشق، والقاهرة، ومكة، وحلب، وهي كتب تتناول تاريخ هذه المدن –لا على أساس أحداثها السياسية وخلفائها ووزرائها وولاتها-، ولكن على أساس رجالها وعلمائها الذي ملئوا مساجدها ومدارسها درسًا وتأليفًا، وصار الإطار المكاني هو الذي يربط بين علمائها، وجرى تنظيم هذه المؤلفات على أساس الترتيب الألفبائي، وكان من شأن هذه الكتب أنها حفظت لنا الحركة الحضارية وفاعلياتها داخل تلك المدن، ولم تشغل نفسها بالأحداث السياسية وأدوار رجالها.

وكان الخطيب البغدادي ممن أسهموا في هذا الجانب التاريخي بكتابه الكبير "تاريخ بغداد" الذي جمع فيه خلاصة ترجمة العلماء الذين عرفتهم بغداد حتى أواسط القرن الخامس الهجري، وأصبح مثالا احتذى به كل من تطرق إلى التاريخ للمدن مثل ابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق"، وابن العديم في كتابه "بغية الطلب في تاريخ حلب".

المولد والنشأة

في" غزية" من قرى الحجاز ولد أحمد بن علي بن ثابت في يوم الخميس الموافق (24 من جمادى الآخرة 392هـ = 1 من ديسمبر 1534م)، ونشأ في "درزيجان"، وهي قرية تقع جنوب غرب بغداد؛ حيث كان أبوه يتولى الخطابة والإمامة في جامعها لمدة عشرين عامًا، وعُني به أبوه عناية فائقة، فدفع به إلى من أدَّبه وحفظه القرآن، ولما اشتد عوده بدأ يتردد على حلقات العلم في بغداد، وكانت آنذاك تموج حركة ونشاطًا بعلمائها وفقهائها، فالتزم حلقة "أبي الحس بن رزقوية"، وكان محدثًا عظيمًا، له حلقة في جامع المدينة ببغداد، وتردد على حلقة أبي بكر البرقاني، وكان مبرزًا في علم الحديث، فسمع منه وأجازه، واتصل بالفقيه الشافعي الكبير "أبي حامد الإسفرائيني"، وتتلمذ على يديْه، كما التقى بالعلماء الواردين على بغداد، وأخذ عنهم.

الرحلة في طلب العلم
كانت الرحلة في طلب العلم من التقاليد عند علماء المسلمين؛ فبعد أن ينهل الطالب من علماء بلدته والبلدان المحيطة يبدأ في الاستعداد للرحلة إلى الحواضر الكبرى، وقد ألف الخطيب البغدادي رسالة في هذا الموضوع باسم "كتاب الرحلة في طلب الحديث"، أورد فيه الأحاديث والآثار التي جاءت في فضل الرحلة، وسجل رحلات الصحابة والتابعيين ومن جاء بعدهم، وبيَّن الغرض من الرحلة وهو تحصيل علو الإسناد، ولقاء الحفاظ والمذاكرة معهم.

كانت البصرة هي المدينة التي قصدها، وهو في العشرين من عمره في سنة (412 هـ= 1021م) والتقى بعلمائها الكبار وأخذ عنهم، ثم عاد إلى بغداد في السنة نفسها، وبدأ اسمه في الذيوع والانتشار، ثم عاود الرحلة بعد مضي ثلاث سنوات على رحلته الأولى، واتجه إلى نيسان بمشورة شيخه أبي بكر البرقاني سنة (415هـ=1024م)، وفي طريقه إليها مر بمدن كثيرة كانت من مراكز الثقافة وحواضر العلم، فنزل بها وأخذ عن شيوخها، حتى إذا استقر بنيسابور بدأ في الاتصال بعلمائها وشيوخها، فأخذ عن أبي حازم عمر بن أحمد العبدوي، وأبي سعيد بن محمد بن موسى بن الفضل بن ساذان، وأبي بكر أحمد بن الحسن الحرشي، وصاعد بن محمد الاستوائي وغيرهم، ثم عاد إلى بغداد.

ثم عاود الرحلة إلى أصبهان سنة (421 هـ=1030م)، واتصل بأبي نعيم الأصبهاني صاحب "حلية الأولياء"، فلازمه وروى عنه، كما روى عن عدد من العلماء والمحدثين، وأخذ عنهم رواياتهم، وكر راجعًا إلى بغداد، واستقر بها مدة طويلة.

كشف خدع اليهود

أصبح الخطيب البغدادي معقد الآمال في بغداد، ومقصد الطلاب من كل مكان، وموضع احترام الناس وتقديرهم، يلجئون إليه في الملمات، وحدث أن أظهر بعض اليهود في سنة (447هـ=1055م) كتابًا ادعوا فيه أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وذكروا أن خط علي فيه، فلما أُرسل الكتاب إلى وزير الخليفة القائم بأمر الله عرضه على الخطيب البغدادي، فتأمله ثم قال: هذا مزوَّر؛ فلما قيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال: من شهادة معاوية؛ فهو أسلم عام الفتح سنة (8 هـ= 629م)، وفُتحت خيبر في سنة (7هـ= 628م)، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين، فاستحسن الوزير ذلك من الخطيب، ولم يُجزهم الوزير على ما جاء في الكتاب، وأخذ منهم الجزية.

وما قام به الخطيب دليل على سعة علمه وتبحره في التاريخ، ومعرفته الدقيقة بالرجال والنقد التاريخي، والبصر الدقيق بالسند والمتن، وقد رفعت هذه الحادثة مكانته عند وزير الخليفة؛ فجعله مرجع الخطباء والوعاظ في الحديث؛ فلا يروون حديثًا حتى يعرضوه عليه؛ ليرى درجته ومبلغ صحته وضعفه؛ فإن كان صحيحًا أذاعوه، وإن كان ضعيفًا ردوه.

معاودة الرحلة

ظل الخطيب في بغداد حتى سنة (451هـ= 1059م) عاكفًا على التأليف، مشتغلا بتدريس الحديث وإملائه بمسجد المنصور، ثم غادرها إلى "دمشق" تسبقه شهرته الواسعة، وكان قد سبق له أن زارها كثيرًا قبل هذه الرحلة، لكنه في هذه المرة طالت به فترة إقامته، وكان يعقد مجلسه في الجامع الأموي؛ يحدث بمصنفاته ومروياته وسط حشد هائل من تلاميذه وطلبة العلم ومحبيه، وكانت دمشق آنذاك تابعة للدولة الفاطمية، فسعى الوشاة إلى إحداث وقيعة بينه وبين الفاطميين، واستندوا إلى أنه يحدث بكتاب "فضائل الصحابة الأربعة" للإمام أحمد بن حنبل وفضائل العباس لأبي الحسن بن رزقويه، وكادت الوشاية تؤدي إلى قتله لولا تدخل بعض العارفين لقدر الإمام، فعملوا على إخراجه من دمشق، وتوجه إلى صور سنة (459هـ=1066م) وكان يحدث بجامعها، ويزور القدس ويعود ثانية، ثم غادر "صور" بعد أن مكث بها فترة طويلة، وقصد "طرابلس" سنة (462هـ= 1069م)، ثم اتجه إلى حلب، ثم عاد في السنة نفسها إلى بغداد بعد غياب طويل عنها دام نحو أحد عشر عامًا، فوصلها في (ذي الحجة 462هـ=1069م)، واستأنف سيرته العلمية.

أستاذ لشيوخه

اشتهر الخطيب بكثرة مروياته وسعة علمه؛ فروى عنه كثيرون، بعضهم كان من شيوخه، مثل شيخه أحمد بن محمد البرقاني، وأبي القاسم الأزهري، وبعضهم من زملائه وأقرانه مثل أبي إسحاق الشيرازي، والحافظ ابن ماكولا، وأبي عبد الله الحميدي الأندلسي. أما طلابه وتلاميذه فكثيرون، منهم: عبد الكريم بن حمزة مسند الشام، وأبي بكر المرزقي، وهبة الله الأكفاني، وأبي زكريا يحيى بن علي المعروف بالخطيب التبريزي، وأبي الوفاء علي بن عقيل الفقيه المعروف.

مؤلفاته


قضى الخطيب عمره في طلب العلم، والرحلة إلى شيوخه، يأخذ عنهم مصنفاتهم ومروياتهم، وعني بالحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والأدب والتاريخ والأخبار، وإن كانت شهرته باعتباره حافظًا قد غلبت عليه؛ لأن عنايته بالحديث وعلومه قد استأثرت بمعظم جهوده، ويتضح ذلك من قائمة مؤلفاته؛ حيث تحتل كتب الحديث وعلومه المرتبة الأولى من بينها.

ويبلغ مجموع مؤلفاته ستة وثمانين كتابًا، يأتي في مقدمتها:

"الكفاية في علم الرواية"، وهو من أهم الكتب التي أُلفت في علم مصطلح الحديث؛ حيث اشتمل على فنون هذا العلم ومصطلحاته المستعملة في كتب الحديث وتحديد معانيها بدقة، وقد استفاد بالكتاب كل من تعرض لهذا العلم الجليل مثل القاضي عياض، وابن الصلاح. "الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" تناول فيه آداب طالب علم الحديث، وهيئته وكيفية تعامله مع شيخه، وسلوكه في حضرة مجلسه، وتعرض لمظهره وكلامه ومشيه ومجلسه، وبيَّن آداب معاملة الشيخ لتلاميذه وتوقيره لهم، وتعرض لمظهره وكلامه ومشيه ومجلسه، وتحرِّيه الصدق، واختياره الرواية من أصل مكتوب، وما يلزمه معرفته من النحو والصرف؛ وذكر صفة مجلس المحدث ووقته وموضعه، وغير ذلك من مباحث الكتاب.

وله أيضًا "شرف أصحاب الحديث"، و"نصيحة أهل الحديث"، و"تقييد العلم"، و"الرحلة في طلب الحديث"، و"موضع أوهام الجمع والتفريق"، وهذه الكتب مطبوعة متداولة.

تاريخ بغداد

يُعد "تاريخ بغداد" أضخم مؤلفات الخطيب البغدادي وأهمها وأكثرها شهرة، جمع فيه تراجم لعلماء بغداد الذين من أهلها أو الذين نزلوها زائرين من العلماء والرجال البارزين في كل فن وميدان، متخذًا قاعدة "أن كل من دخل بغداد فهو بغدادي".

ولم يكن الخطيب البغدادي هو أول من طرق هذا الموضوع، ووضع فيه كتابه المعروف بل سبقه إلى التأليف في تاريخ بغداد عدد من المؤلفين، من أمثال: أحمد بن الطيب السرخسي وأبي سهل يزدجرد بن مهبندار الذي كتب كتابًا في وصف بغداد وخططها وعدد شوارعها وحماماتها، وقد وضع الخطيب مقدمة مفصلة لكتابه تناولت خطط مدينة بغداد وبناءها وأقسامها ودورها وأحياءها ومساجدها، ثم بدأ في الترجمة لأعلامها مبتدئًا بالمحمدين، تبركًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم التزم بعد ذلك الترتيب الألفبائي في إيراد الأعلام.

ويضم الكتاب المطبوع 7831 ترجمة، معظمها يخص المحدثين والفقهاء، وتبلغ تراجم رجال الحديث نحو خمسة آلاف ترجمة، وبقية التراجم تخص أرباب العلوم الأخرى ورجالات الدولة والمجتمع، واستخدم المؤلف الإسناد عند سرد الروايات سواء كانت تتصل بالحديث ورجاله أم بالتاريخ والأدب.

وقد لقي الكتاب اهتمامًا واسعا من العلماء، وصار النموذج الذي قلده المؤلفون من بعده في وضع تواريخ المدن الأخرى، ودفع المؤرخين اللاحقين إلى متابعة عمل الخطيب، فألفوا ذيولا على تاريخ بغداد، واستمر ذلك لفترة طويلة، وفي الوقت نفسه اعتمد المؤلفون على هذا الكتاب ينقلون عنه عدة قرون، وصدقت الكلمة التي قالها ابن خلكان في الخطيب البغدادي: "لو لم يكن له إلا التاريخ لكفاه".

وفاته

بعد عودة الخطيب البغدادي من الشام واستقراره سنة (462هـ=1069م) قام بالتدريس في حلقته بجامع المنصور، واجتمع حوله طلابه وأصحابه، غير أن حياته لم تطُل، فلقي ربه في (7 من ذي الحجة 463م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 08-06-2010, 08:30 AM   #113
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أبو زكريا الحفصي.. وقيام الدولة الحفصية

(في ذكرى وفاته: 25 من جمادى الآخرة 674هـ)





كانت هزيمة الموحِّدين في معركة العقاب بالأندلس سنة (609هـ = 1212م) نذيرًا بهبوط دولتهم وتدهور قوتهم، فلم تكن هزيمة تحل بدولة ثم ما تلبث أن تسترد عافيتها، ولكنها كانت كارثة مدوِّية، فقدت الدولة زهرة شبابها وخلاصة جندها الشجعان، وخسرت روحها الفتية المقاتلة وعزيمتها الماضية، وسرعان ما دب الضعف في كيان الدولة المترامي الأطراف في المغرب والأندلس، وظهر خلفاء ضعاف لا يملكون الشخصية القوية والإدارة الحازمة، فانفلت منهم زمام الأمور، وضعفت قبضتهم على إدارة الدولة، وأخفقت محاولاتهم في إعادة الأمن والاستقرار للدولة، ونشأ عن ذلك أن استغلت القبائل المغربية هذه الفرصة السانحة، وأقاموا عدة دول بسطت نفوذها وسلطانها في منطقة المغرب، فقامت دولة بني مرين بالمغرب الأقصى (668هـ – 896هـ = 1269 - 1465م)، ودولة بني زيان بالمغرب الأوسط - الجزائر وتلمسان - (637 - 962هـ = 1239 - 1555م)، والدولة الحفصية بأفريقية (تونس).

أصل الحفصيين

ينتسب الحفصيون إلى الشيخ أبي حفص يحيى بن عمرو الذي ينتمي إلى قبيلة هنتانة، أعظم قبائل مصمودة التي عاشت بالمغرب الأقصى، واتخذت المعامل والحصون، وشيَّدت المباني والقصور، وامتهنت الفلاحة وزراعة الأرض، وكان للشيخ أبي حفص مكانة سامية في دولة الموحدين التي أقامها عبد المؤمن علي الكومي، وسبق أن تناولنا قيامها في ذكرى وفاة مؤسسها في (10 من جمادى الآخرة سنة 558هـ)، وكان لأولاد أبي حفص وأحفاده منزلة رفيعة في الدولة، وعهد إليهم بمهام جليلة، وتقلَّبوا في مناصب الإدارة في المغرب والأندلس.

وبعد أن تولَّى أمر الدولة الموحدية "أبو محمد العادل بن أبي يوسف يعقوب المنصور" سنة (621 هـ = 1224م) عهد بولاية إفريقية إلى أبي محمد عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص، وكان في صحبته أخوه أبو زكريا، وقام الوالي الجديد بإعادة الهدوء والاستقرار بعد أن عكَّرت صفوها الفتن والثورات، وقام بحملات على الخارجين على سلطان الدولة، وما كادت الأمور تستقر حتى قفز على منصب الخلافة الموحدية أبو العلاء إدريس المأمون سنة (624هـ = 1227م) بعد ثورة قادها ضد أخيه أبي محمد العادل، فرفض أبو محمد عبد الله الحفصي بيعته والدخول في طاعته، فما كان من الخليفة الجديد إلا أن كتب بولاية أفريقية إلى أبي زكريا يحيى، فقبلها على الفور وسارع من تونس إلى القيروان، وتغلَّب على أخيه أبي محمد عبد الله، وتولى أمر البلاد سنة (625هـ = 1228م).

أبو زكريا الحفصي مؤسس الدولة

كانت سن أبي زكريا يوم بدأ حكمه سبعا وعشرين سنة هجرية، لكن ما أظهره من أول وهلة من براعة ومقدرة كان يدل على ما يتمتع به من نضج سياسي مبكر، ومهارة إدارية فذَّة، وسبق له أن حكم في منطقة إشبيلية بالأندلس، حيث كان واليًا على بعض المقاطعات هناك.

وبعد قليل من ولايته خلع أبو زكريا طاعة أبي العلاء إدريس خليفة الموحدين، ولكنه لم يَدَع لنفسه بالأمر؛ تحسبًا للموحدين الذين كانوا في ولايته، واتخذ تونس عاصمة له، وبدأ في اكتساب محبة أهل أفريقية باتباع سياسة رشيدة، فأحسن معاملتهم، وخفَّف عنهم أعباء الضرائب، ونظر في أمورهم، وراقب عماله وولاته، واستعان بأهل الخبرة والكفاءة، وقرَّب الفقهاء إليه، فأسلت له البلاد قيادها ودانت له بالطاعة والولاء.

توسيع مساحة ولايته

ثم نهض أبو زكريا لإقرار سلطانه وبسط نفوذه في المناطق المجاورة، فزحف بجيشه إلى قسطنطينة بالجزائر، فدخلها دون صعوبة وخرج أهلها لمبايعته في (شعبان 626هـ = 1229م)، ثم اتجه إلى بجابة ففتحها ودخلت في سلطانه، وبذلك خرجت الولايتان من سلطان دولة الموحدين، وأصبحتا تابعتين لأبي زكريا، ثم طاف بالنواحي الشرقية من ولايته، واستوثق من طاعة أهلها.

وكان ردُّ الخلافة الموحدية على توسعات أبي زكريا على حساب دولتها ضعيفًا للغاية، بل يكاد يكون معدومًا، ولم يستطع الخلفاء الموحدون أن يمنعوا تفكك دولتهم، أو يقضوا على الحركات الانفصالية، فكانت الدولة مشغولة بالفتن والثورات التي تهب في الأندلس، بل في مراكش عاصمة دولتهم.

استقلال الدولة الحفصية

عاد أبو زكريا الحفصي إلى تونس بعد حملته المظفرة، وأعلن على رؤوس الملأ استقلاله بالملك، وانقطاع تبعيته للموحِّدين رسميًّا، وبايع لنفسه بيعة عامة سنة (634هـ = 1236م) وضرب السكَّة باسمه، وأمر أن يُخطب له باسمه على كل منابر بلاده، ثم بايع لابنه أبي يحيى وليًّا للعهد سنة (638هـ = 1246م).

وفي (شوال 639هـ = 1242م) قام على رأس حملة ضخمة قدرها بعض المؤرخين بستين ألف مقاتل، فدخل تلمسان، وأجبر واليها "يغمراسن" على الدخول في طاعته، والخطبة باسمه، كما أدخل في طاعته القبائل العربية والبربرية في المناطق المحيطة.

وكان من أثر ازدياد قوته واتساع نفوذه أن هادنة بنومرين في المغرب الأقصى، وأقيمت الخطبة باسمه في عدد كبير من بلاد الأندلس التي لم تقع في براثن الأسبان، واحتفظت بحريتها واستقلالها مثل: بلنسية، وإشبيلية، وشريش، وغرناطة.

علاقاته الخارجية

أصبحت الدولة الحفصية التي قام عليها مرهوبة الجانب، تسعى الدولة الأوروبية إلى كسب وُدِّها، خاصة التي تربطها بها مصالح اقتصادية وسياسية، فعقد مع البندقية، وبيزة، وجنوة معاهدات صداقة، وسلامة في الفترة ما بين سنتي (628هـ – 636هـ = 1231 -1239م)، وتضمنت هذه المعاهدات ضمان الأمن المتبادل للملاحة، ووضع لوائح للتبادل التجاري، ومنع فرص المسؤولية الجماعية بصورة آلية على النصارى ومصادرة تركاتهم، والاعتراف بقناصلهم.

مساندة مسلمي الأندلس

تطلَّع المسلمون في الأندلس إلى السلطان الحفصي؛ لحمايتهم من ضربات النصارى الأسبان، فاستنجد به (زيان من مردنيش) أمير بلنسية، بعد أن تعرضت لحصار شديد من ملك أرجونة "خايم الأول" وبعث إليه سنة (635هـ = 1238م) بسفارة على رأسها وزيره ابن الأبار الأديب الأندلس، فألقى بين يديه قصيدة مبكية، يستصرخه، فيها لنصرة الأندلس وحماية الدين، وهذا مطلعها:

إن السبيل إلى منجاتها درسا
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وهب لها منعزيز النصر ما التمست

فطال ما ذاقت البلوى صباح مسا
عاش ما تعانيه حشاشتها

للنائبات وأمسى جدها تعسى
يا للجزيرة أضحى أهلها جرزا


وقد تأثر أبو زكريا بهذه القصيدة، وثارت في نفسه أخلاق المروءة والنجدة فبادر بتجهيز أسطول شحنه بالسلاح، والأقوات، والملابس؛ لإنجاد الثغر الأندلسي، وأقلعت على جناح السرعة من ثغر تونس متجهة إلى بلنسية.

ولو قدر لهذه النجدة أن تصل إلى المحصورين، وأن تمدهم بالسلاح والأقوات، لكان من الممكن أن تثبت أقدام الشعب المحاصر وتطول مقاومته، لكن هذه النجدة ما كادت تقترب من مياه الثغر المحاصر حتى طاردتها السفن الأرجونية، ومنعتها من دخول الميناء؛ فاضطرت هذه السفن أن تفرغ شحنتها في "دانية" وتعود أدراجها إلى تونس، ثم ما لبثت المدينة المحاصرة أن استسلمت في (17 من صفر 636هـ = 29 من سبتمبر 1238م).

ازدهار الدولة الحفصية

كان لأبي زكريا عناية بشؤون الاقتصاد بتدبير المال، فامتلأت خزانة الدولة بالأموال حتى إنه ترك 17 مليون دينار عند وفاته للدولة.

وقد استقبلت دولته مسلمي الأندلس الفارين من غزو النصارى، وكان من بينهم مهندسون وحرفيون، يحملون عناصر حضارة راقية، فنقلوا إلى الدولة الحفصية مكونات حضارتهم وثقافتهم، كما تولَّى بعض الأندلسيين المناصب القيادية في الدولة، مثل ابن الأبار الذي تولَّى الكتابة لأبي زكريا الحفصي.

فأدَّى استقرار الدولة وزيادة مواردها المالية بحسن تدبير أبي زكريا إلى العناية بالشؤون الداخلية، فأنشأ أبو زكريا جامع القصبة وصومعته الجميلة في تونس، ونقش عليها اسمه، وأذَّن فيها بنفسه ليلة تمامها في (غرة رمضان 630هـ = 11 من يونيو 1223م)، وبنى مدارس كثيرة، وأنشأ سوق العطَّارين، وأنشأ مكتبة قصر القصبة التي ضمت 36 ألف مجلد.

وفاة أبي زكريا

مما لا شك فيه أن أبا زكريا كان من أبرز رجال القرن السابع الهجري، أنشأ دولة قوية، ونشر الأمن في ربوعها، وقضى على حالة الاضطراب والفتن المزمنة التي لازمت هذه البلاد، وأقام ميزان العدل، وأحسن اختيار الرجال فطال عمرها، وتوالى على حكمها أبناؤه وأحفاده أكثر من ثلاثة قرون، وظلَّ أبو زكريا على شؤون الدولة متوفرًا عليها حتى لقي ربه في (25 من جمادى الآخرة 647هـ = 5 من أكتوبر 1249م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-06-2010, 09:18 AM   #114
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

في ذكرى مبايعة الأمير عبد القادر الجزائري أميرا للجهاد 29 جمادى الآخرة 1248 هـ


اعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله".


هذه كلمات المجاهد حين يحكم، والمستضعف حين يتمكن، خرجت قوية صادقة من قلبه الأبيّ حين أُقيمت دولته، وأُعليت رايته، إنه عبد القادر الجزائري…المجاهد الذي ما وجد أهل الجزائر سواه لينصّبوه إمامًا للمجاهدين وهو ابن الخامسة والعشرين، وأرادوه "سلطانًا" فأبى أن يكون إلا "أمير الجهاد".

فهو محط أنظارنا، والجدير باعتبارنا، وهو شخصية تمتلئ حياتها بعبرة لأولى الأبصار وتذكرة لأهل الاعتبار.


من هو الأمير عبد القادر؟




هو عبد القادر ابن الأمير محيي الدين الحسيني، يتصل نسبه بالإمام الحسين بن علي ولد في 23 من رجب عام 1222هـ / مايو 1807م، وذلك بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة "وهران" بالمغرب الأوسط أو الجزائر، ثم انتقل والده إلى مدينة وهران، ولم يكن الوالد هملاً بين الناس، بل كان ممن لا يسكتون على الظلم، فكان من الطبيعي أن يصطدم مع الحاكم العثماني لمدينة "وهران"، وأدى هذا إلى تحديد إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرج من الجزائر كلها في رحلة طويلة، وكان الإذن له بالخروج لفريضة الحج عام 1241هـ/ 1825م، فخرج الوالد واصطحب ابنه عبد القادر معه، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز، ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828م، فكانت رحلة تعلم ومشاهدة ومعايشة للوطن العربي في هذه الفترة من تاريخه، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم "قيطنة"، ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 يوليو 1830م، واستسلم الحاكم العثماني سريعًا، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.


فرّق الشقاق بين الزعماء كلمة الشعب، وبحث أهالي وعلماء "وهران" عن زعيم يأخذ اللواء ويبايعون على الجهاد تحت قيادته، واستقر الرأي على "محيي الدين الحسيني" وعرضوا عليه الأمر، ولكن الرجل اعتذر عن الإمارة وقبل قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحب المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقبل السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابن عمه "علي بن سليمان" ليكون أميرًا على وهران، وقبل أن تستقر الأمور تدخلت فرنسا مهددة السلطان بالحرب، فانسحب السلطان واستدعى ابن عمه ليعود الوضع إلى نقطة الصفر من جديد، ولما كان محيي الدين قد رضي بمسئولية القيادة العسكرية، فقد التفت حوله الجموع من جديد، وخاصة أنه حقق عدة انتصارات على العدو، وقد كان عبد القادر على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات، فاقترح الوالد أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصب، فقبل الحاضرون، وقبل الشاب تحمل هذه المسئولية، وتمت البيعة، ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطان" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسيني، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ/ نوفمبر 1832م.
وحتى تكتمل صورة الأمير عبد القادر، فقد تلقى الشاب مجموعة من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطو طاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن، وبهذا اكتمل للأمير العلم الشرعي، والعلم العقلي، والرحلة والمشاهدة، والخبرة العسكرية في ميدان القتال، وعلى ذلك فإن الأمير الشاب تكاملت لديه مؤهلات تجعله كفؤًا لهذه المكانة، وقد وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: "… وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله".


دولة الأمير عبد القادر


وقد بادر الأمير عبد القادر بإعداد جيشه، ونزول الميدان ليحقق انتصارات متلاحقة على الفرنسيين، وسعى في ذات الوقت إلى التأليف بين القبائل وفض النزاعات بينها، وقد كانت بطولته في المعارك مثار الإعجاب من العدو والصديق فقد رآه الجميع في موقعة "خنق النطاح" التي أصيبت ملابسه كلها بالرصاص وقُتِل فرسه ومع ذلك استمر في القتال حتى حاز النصر على عدوه، وأمام هذه البطولة اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة معه وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر، وبذلك بدأ الأمير يتجه إلى أحوال البلاد ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها، وقد نجح الأمير في تأمين بلاده إلى الدرجة التي عبر عنها مؤرخ فرنسي بقوله: "يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا، على رأسه تاج من ذهب، دون أن يصيبه أذى!!".

وقبل أن يمر عام على الاتفاقية نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره في هذه المرة بعض القبائل في مواجهة الأمير عبد القادر، ونادى الأمير قي قومه بالجهاد ونظم الجميع صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا وخاصة موقعة "المقطع" حيث نزلت بالقوات الفرنسية هزائم قضت على قوتها الضاربة تحت قيادة "تريزيل" الحاكم الفرنسي.

ولكن فرنسا أرادت الانتقام فأرسلت قوات جديدة وقيادة جديدة، واستطاعت القوات الفرنسية دخول عاصمة الأمير وهي مدينة "المعسكر" وأحرقتها، ولولا مطر غزير أرسله الله في هذا اليوم ما بقى فيها حجر على حجر، ولكن الأمير استطاع تحقيق مجموعة من الانتصارات دفعت فرنسا لتغيير القيادة من جديد ليأتي القائد الفرنسي الماكر الجنرال "بيجو"؛ ولكن الأمير نجح في إحراز نصر على القائد الجديد في منطقة "وادي تفنة" أجبرت القائد الفرنسي على عقد معاهدة هدنة جديدة عُرفت باسم "معاهد تافنة" في عام 1837م.

وعاد الأمير لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع وتنظيم شؤون البلاد، وفي نفس الوقت كان القائد الفرنسي "بيجو" يستعد بجيوش جديدة، ويكرر الفرنسيون نقض المعاهدة في عام 1839م، وبدأ القائد الفرنسي يلجأ إلى الوحشية في هجومه على المدنيين العزل فقتل النساء والأطفال والشيوخ، وحرق القرى والمدن التي تساند الأمير، واستطاع القائد الفرنسي أن يحقق عدة انتصارات على الأمير عبد القادر، ويضطر الأمير إلى اللجوء إلى بلاد المغرب الأقصى، ويهدد الفرنسيون السلطان المغربي، ولم يستجب السلطان لتهديدهم في أول الأمر ، وساند الأمير في حركته من أجل استرداد وطنه، ولكن الفرنسيين يضربون طنجة وموغادور بالقنابل من البحر، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي يضطر السلطان إلى طرد الأمير عبد القادر، بل ويتعهد للفرنسيين بالقبض عليه.

يبدأ الأمير سياسة جديد في حركته، إذ يسارع لتجميع مؤيديه من القبائل، ويصير ديدنه الحركة السريعة بين القبائل فإنه يصبح في مكان ويمسي في مكان آخر حتى لقب باسم "أبا ليلة وأبا نهار"، واستطاع أن يحقق بعض الانتصارات، ولكن فرنسا دعمت قواتها بسرعة، فلجأ مرة ثانية إلى بلاد المغرب، وكانت المفاجأة أن سلطان المغرب وجه قواته لمحاربة الأمير، والحق أن هذا الأمر لم يكن مفاجأة كاملة فقد تعهد السلطان لفرنسا بذلك، ومن ناحية أخرى ورد في بعض الكتابات أن بعض القبائل المغربية راودت الأمير عبد القادر أن تسانده لإزالة السلطان القائم ومبايعته سلطانًا بالمغرب، وعلى الرغم من انتصار الأمير عبد القادر على الجيش المغربي، إلا أن المشكلة الرئيسية أمام الأمير هي الحصول على سلاح لجيشه، ومن ثم أرسل لكل من بريطانيا وأمريكا يطلب المساندة والمدد بالسلاح في مقابل إعطائهم مساحة من سواحل الجزائر: كقواعد عسكرية أو لاستثمارها، وبمثل ذلك تقدم للعرش الإسباني ولكنه لم يتلقَ أي إجابة، وأمام هذا الوضع اضطر في النهاية إلى التفاوض مع القائد الفرنسي "الجنرال لامور يسيار" على الاستسلام على أن يسمح له بالهجرة إلى الإسكندرية أو عكا ومن أراد من اتباعه، وتلقى وعدًا زائفًا بذلك فاستسلم في 23 ديسمبر 1847م، ورحل على ظهر إحدى البوارج الفرنسية، وإذا بالأمير يجد نفسه بعد ثلاثة أيام في ميناء طولون ثم إلى إحدى السجون الحربية الفرنسية، وهكذا انتهت دولة الأمير عبد القادر، وقد خاض الأمير خلال هذه الفترة من حياته حوالي 40 معركة مع الفرنسيين والقبائل المتمردة والسلطان المغربي.

الأمير الأسير


ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق حتى عام 1852م ثم استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشئون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ورحل إلى الشرق، حيث استنانبول والسلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المسجد الأموي كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية، وفي المدرسة الحقيقية.

وفي عام 1276/1860 تتحرك شرارة الفتنة بين المسلمين والنصارى في منطقة الشام، ويكون للأمير دور فعال في حماية أكثر من 15 ألف من النصارى، إذ استضافهم في منازله.

وفاته

وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة 19 رجب 1300هـ/ 24 من مايو 1883 عن عمر يناهز 76 عامًا، وقد دفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 13-06-2010, 07:56 AM   #115
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

المشد.. قصة اغتيال عالم مصري

30 من جمادى الآخرة 1400 ـ ذكرى اغتيال العالم النووي يحيى المشد




في يوم الجمعة 13 يونيه عام 1980 وفى حجرة رقم 941 بفندق الميريديان بباريس عُثر على الدكتور يحيى المشد جثة هامدة مهشمة الرأس ودماؤه تغطي سجادة الحجرة.. وقد أغلق التحقيق الذي قامت به الشرطة الفرنسية على أن الفاعل مجهول!! هذا ما أدت إليه التحقيقات الرسمية التي لم تستطع أن تعلن الحقيقة التي يعرفها كل العالم العربي وهي أن الموساد وراء اغتيال المشد..

والحكاية تبدأ بعد حرب يونيه 1967 عندما توقف البرنامج النووي المصري تماما، ووجد كثير من العلماء والخبراء المصريين في هذا المجال أنفسهم مجمدين عن العمل الجاد، أو مواصلة الأبحاث في مجالهم، وبعد حرب 1973 وبسبب الظروف الاقتصادية لسنوات الاستعداد للحرب أعطيت الأولوية لإعادة بناء المصانع، ومشروعات البنية الأساسية، وتخفيف المعاناة عن جماهير الشعب المصري التي تحملت سنوات مرحلة الصمود وإعادة بناء القوات المسلحة من أجل الحرب، وبالتالي لم يحظ البرنامج النووي المصري في ذلك الوقت بالاهتمام الجاد والكافي الذي يعيد بعث الحياة من جديد في مشروعاته المجمدة.

البداية في العراق

في ذلك الوقت وبالتحديد في مطلع 1975 كان صدام حسين نائب الرئيس العراقي وقتها يملك طموحات كبيرة لامتلاك كافة أسباب القوة؛ فوقّع في 18 نوفمبر عام 1975 اتفاقاً مع فرنسا للتعاون النووي.. من هنا جاء عقد العمل للدكتور يحيى المشد العالم المصري والذي يعد من القلائل البارزين في مجال المشروعات النووية وقتها، ووافق المشد على العرض العراقي لتوافر الإمكانيات والأجهزة العلمية والإنفاق السخي على مشروعات البرنامج النووي العراقي.

النشأة والتكوين

والدكتور يحيى أمين المشد من مواليد عام 1932، قضى حياته في الإسكندرية، وتخرج في كلية الهندسة قسم كهرباء، جامعة الإسكندرية عام 1952، بُعث إلى الاتحاد السوفيتي؛ لدراسة هندسة المفاعلات النووية عام 1956، ثم أسند إليه القيام ببعض الأبحاث في قسم المفاعلات النووية بهيئة الطاقة النووية في مصر، وسافر إلى النرويج عامي 63 و1964 لعمل بعض الدراسات، ثم انضم بعد ذلك للعمل كأستاذ مساعد ثم كأستاذ بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية.

وأشرف الدكتور المشد في فترة تدريسه بالكلية على أكثر من 30 رسالة دكتوراه، ونُشر باسمه خمسون بحثاً علميًّا، تركزت معظمها على تصميم المفاعلات النووية ومجال التحكم في المعاملات النووية، وكعادة الاغتيالات دائما ما تحاط بالتعتيم الإعلامي والسرية والشكوك المتعددة حول طريقة الاغتيال.

ملابسات الاغتيال

أول ما نسبوه للمشد أن الموساد استطاع اغتياله عن طريق مومس فرنسية، إلا أنه ثبت عدم صحة هذا الكلام؛ حيث إن "ماري كلود ماجال" أو "ماري إكسبريس" كشهرتها –الشاهدة الوحيدة- وهي امرأة ليل فرنسية كانت تريد أن تقضي معه سهرة ممتعة، أكدت في شهادتها أنه رفض تمامًا مجرد التحدث معها، وأنها ظلت تقف أمام غرفته لعله يغيّر رأيه؛ حتى سمعت ضجة بالحجرة.. ثم اغتيلت أيضاً هذه الشاهدة الوحيدة.

كما تدافع عنه وبشدة زوجته "زنوبة علي الخشاني" حيث قالت: "يحيى كان رجلا محترما بكل معنى الكلمة، وأخلاقه لا يختلف عليها اثنان، ويحيى قبل أن يكون زوجي فهو ابن عمتي، تربينا سويًّا منذ الصغر؛ ولذلك أنا أعلم جيدًا أخلاقه، ولم يكن له في هذه "السكك" حتى إنه لم يكن يسهر خارج المنزل، إنما كان من عمله لمنزله والعكس…".

وقيل أيضاً: إن هناك شخصاً ما استطاع الدخول إلى حجرته بالفندق وانتظره حتى يأتي، ثم قتله عن طريق ضربه على رأسه، وإذا كان بعض الصحفيين اليهود قد دافعوا عن الموساد قائلين: إن جهاز الموساد لا يستخدم مثل هذه الأساليب في القتل؛ فالرد دائماً يأتي: ولماذا لا يكون هذا الأسلوب اتُّبع لكي تبتعد الشبهات عن الموساد؟!

ودليل ذلك أن المفاعل العراقي تم تفجيره بعد شهرين من مقتل المشد، والغريب أيضا والمثير للشكوك أن الفرنسيين صمّموا على أن يأتي المشد بنفسه ليتسلم شحنة اليورانيوم، رغم أن هذا عمل يقوم به أي مهندس عادي كما ذكر لهم في العراق بناء على رواية زوجته، إلا أنهم في العراق وثقوا فيه بعدما استطاع كشف أن شحنة اليورانيوم التي أرسلت من فرنسا غير مطابقة للمواصفات، وبالتالي أكدوا له أن سفره له أهمية كبرى.

السياسة والصداقة

الغريب أنه بعد رجوع أسرة المشد من العراق؛ قاموا بعمل جنازة للراحل، ولم يحضر الجنازة أي من المسئولين أو زملاؤه بكلية الهندسة إلا قلة معدودة.. حيث إن العلاقات المصرية العراقية وقتها لم تكن على ما يرام بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وأصبحت أسرة المشد الآتية من العراق لا تعرف ماذا تفعل بعد رحيل المشد، لولا المعاش الذي كانت تصرفه دولة العراق والذي صرف بناء على أوامر من صدام حسين مدى الحياة (رغم أنه توقف بعد حرب الخليج).. ومعاش ضئيل من الشئون الاجتماعية التي لم تراع وضع الأسرة أو وضع العالم الكبير.

كما أن الإعلام المصري لم يسلط الضوء بما يكفي على قصة اغتيال المشد رغم أهميتها، ولعل توقيت هذه القصة وسط أحداث سياسية شاحنة جعلها أقل أهمية مقارنة بهذه الأحداث!!

وبقي ملف المشد مقفولاً، وبقيت نتيجة التحريات أن الفاعل مجهول.. وأصبح المشد واحداً من سلسلة من علماء العرب المتميزين الذين تم تصفيتهم على يد الموساد.. وما زال المسلسل مستمراً..!!


__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 16-06-2010, 05:58 AM   #116
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

جالديران.. الطريق إلى المشرق الإسلامي

(في ذكرى نشوبها: 2 رجب 920هـ)


كانت معركة "جالديران" من المعارك الفاصلة في تاريخ الدولة العثمانية؛ فقد استطاع السلطان العثماني التاسع "سليم الأول" بانتصاره على "الصفويين" في سهول "جالديران" أن يحقق لدولته الأمان من عدو طالما شكل خطرًا داهمًا على وحدتها واستقرارها.

كان السلطان "بايزيد الثاني" والد السلطان "سليم الأول" ميالا إلى البساطة في حياته، محبًا للتأمل والسلام؛ ولذلك فقد أطلق عليه بعض المؤرخين العثمانيين لقب "الصوفي"، وقد تمرد عليه أبناؤه الثلاثة في أواخر حكمه، واستطاع "سليم الأول" بمساعدة الإنكشارية أن يخلع أباه وينفرد بالحكم، ثم بدأ حملة واسعة للتخلص من المعارضين والعمل على استقرار الحكم، وإحكام قبضته على مقاليد الأمور في الدولة.

وقد اتسم السلطان "سليم" بكثير من الصفات التي أهَّلته للقيادة والزعامة؛ فهو –بالإضافة إلى ما يتمتع به من الحيوية الذهنية والجسدية- كان شديد الصرامة، يأخذ نفسه بالقسوة في كثير من الأمور، خاصة فيما يتعلق بأمور الدولة والحكم.

وبرغم ما كان عليه من القسوة والعنف فإنه كان محبًا للعلم، يميل إلى صحبة العلماء والأدباء، وله اهتمام خاص بالتاريخ والشعر الفارسي.

التحول الصفوي

اهتم السلطان "سليم الأول" منذ الوهلة الأولى بتأمين الحدود الشرقية للدولة ضد أخطار الغزو الخارجي الذي يتهددها من قِبل الصفويين -حكام فارس- الذين بدأ نفوذهم يزداد، ويتفاقم خطرهم، وتعدد تحرشهم بالدولة العثمانية.

وقد بدأت الحركة الصفوية كحركة صوفية منذ أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، ولكنها انتقلت من التأمل الصوفي إلى العقيدة الشيعية المناضلة منذ أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، حتى استطاع الشاه "إسماعيل" -ابن آخر الزعماء الصفويين- أن يستولي على الحكم، ويكوِّن دولته بمساندة قبائل التركمان التي توافدت بالآلاف للانضمام إليه.

وحظي "إسماعيل الصفوي" بكثير من الاحترام والتقدير اللذين يصلان إلى حد التقديس، وكانت له كلمة نافذة على أتباعه، ومن ثَمَّ فقد قرر أن يمد نفوذه إلى الأراضي العثمانية المتاخمة لدولته في شرقي الأناضول.

وبدأ "إسماعيل" خطته بإرسال مئات من الدعاة الصفويين إلى الأناضول، فعملوا على نشر الدعوة الشيعية في أوساط الرعاة التركمان، وحققوا في ذلك نجاحًا كبيرًا.

تصاعد الخطر

وبالرغم من شعور السلطان "سليم" بتوغل المذهب الشيعي واستشعاره الخطر السياسي الذي تحتله تلك الدعوة باعتبارها تمثل تحديًا أساسيًا للمبادئ السُّنِّية التي تقوم عليها الخلافة العثمانية، فإن السلطان لم يبادر بالتصدي لهم إلا بعد أن اطمأنَّ إلى تأمين الجبهة الداخلية لدولته، وقضى تمامًا على كل مصادر القلاقل والفتن التي تهددها.

وبدأ "سليم" يستعد لمواجهة الخطر الخارجي الذي يمثله النفوذ الشيعي؛ فاهتم بزيادة عدد قواته من الانكشارية حتى بلغ عددهم نحو خمسة وثلاثين ألفًا، وزاد في رواتبهم، وعُني بتدريبهم وتسليحهم بالأسلحة النارية المتطورة.

وأراد السلطان "سليم الأول" أن يختبر قواته من الانكشارية، فخاض بها عدة معارك ناجحة ضد "الصفويين" في "الأناضول" و"جورجيا".

سليم يقرع طبول الحرب

وبعد أن اطمأنَّ السلطان "سليم" إلى استعداد قواته للمعركة الفاصلة بدأ يسعى لإيجاد ذريعة للحرب ضد الصفويين، ووجد السلطان بغيته في التغلغل الشيعي الذي انتشر في أطراف الدولة العثمانية، فأمر بحصر أعداد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة لبلاد العجم بصورة سرية، ثم أمر بقتلهم جميعًا في مذبحة رهيبة بلغ عدد ضحاياها نحو أربعين ألفًا.

وفي أعقاب تلك المذبحة أعلن السلطان "سليم" الحرب على الصفويين، وتحرك على رأس جيش تبلغ قوته مائة وأربعين ألف مقاتل من مدينة "أدرنه" في [ 22 من المحرم 920هـ= 19 من مارس 1514م] فسار بجيشه حتى وصل "قونية" في [7 من ربيع الآخر 920= 1 من يونيو 1514م] فاستراح لمدة ثلاثة أيام، ثم واصل سيره حتى وصل "آرزنجان" في [أول جمادى الآخرة 920 هـ= 24 من يوليو 1514م]، ثم واصل المسير نحو "أرضوم"، فبلغها في [13 من جمادى الآخرة 920 هـ= 5 من أغسطس 1514].

وسار الجيش العثماني قاصدًا "تبريز" عاصمة الفرس، فلم تقابله في تقدمه واجتياحه بلاد فارس مقاومة تذكر؛ فقد كانت الجيوش الفارسية تتقهقر أمامه، وكانوا يحرقون المحاصيل، ويدمرون الدور التي كانوا يخلفونها من ورائهم بعد انسحابهم، حتى لا يجد جيش العثمانيين من المؤن ما يساعده على التوغل في بلاد فارس وتحقيق المزيد من الانتصارات، وكان الفرس يتقهقرون بشكل منظم حتى يمكنهم الانقضاض على الجيوش العثمانية بعد أن يصيبهم التعب والإنهاك.

واستمر تقدم السلطان "سليم" بقواته داخل الأراضي الفارسية، وكان الشاه "إسماعيل الصفوي" يتجنب لقاء قوات العثمانيين لتفوقها وقوتها، وقد رأى الانسحاب إلى أراضي شمال إيران الجبلية؛ حيث تمكنه طبيعتها الوعرة من الفرار من ملاحقة جيوش العثمانيين.

المواجهة الحاسمة في جالديران

وفي خِضم تلك الأحداث العصيبة فوجئ السلطان "سليم" ببوادر التمرد من جانب بعض الجنود والقادة الذين طالبوا بإنهاء القتال والعودة إلى "القسطنطينية"، فأمر السلطان بقتلهم، وكان لذلك تأثير كبير في إنهاء موجة التردد والسخط التي بدأت بوادرها بين الجنود، فتبددت مع الإطاحة برؤوس أولئك المتمردين.

وتقدم الجيش العثماني بصعوبة شديدة إلى "جالديران" في شرقي "تبريز"، وكان الجيش الصفوي قد وصلها منذ مدة حتى بلغها في [أول ليلة من رجب 920هـ=22 من أغسطس 1514م]، وقرر المجلس العسكري العثماني (ديوان حرب) الذي اجتمع في تلك الليلة القيام بالهجوم فجر يوم [2 من رجب 920هـ= 23 من أغسطس 1514].

كان الفريقان متعادليْن تقريبا في عدد الأفراد، إلا أن الجيش العثماني كان تسليحه أكثر تطورًا، وتجهيزاته أكمل، واستعداده للحرب أشد.

وبدأ الهجوم، وحمل الجنود الانكشارية على الصفويين حملة شديدة، وبالرغم من أن معظم الجنود العثمانيين كانوا عرضة للإرهاق والتعب بعد المسافة الطويلة التي قطعوها وعدم النوم بسبب التوتر والتجهيز لمباغتة العدو فجرًا فإنهم حققوا انتصارًا حاسمًا على الصفويين، وقتلوا منهم الآلاف، كما أَسَروا عددًا كبيرًا من قادتهم.

العثمانيون في تبريز

وتمكن الشاه "إسماعيل الصفوي" من النجاة بصعوبة شديدة بعد إصابته بجرح، ووقع في الأَسْر عدد كبير من قواده، كما أُسرت إحدى زوجاته، ولم يقبل السلطان "سليم" أن يردها إليه، وزوّجها لأحد كتّابه انتقامًا من الشاه.

ودخل العثمانيون "تبريز" في [14 من رجب 920 هـ= 4 من سبتمبر 1514م] فاستولوا على خزائن الشاه، وأمر السلطان "سليم" بإرسالها إلى عاصمة الدولة العثمانية، وفي خِضم انشغاله بأمور الحرب والقتال لم يغفل الجوانب الحضارية والعلمية والتقنية؛ حيث أمر بجمع العمال المهرة والحاذفين من أرباب الحرف والصناعات، وإرسالهم إلى "القسطنطينية"؛ لينقلوا إليها ما بلغوه من الخبرة والمهارة.

وكان السلطان "سليم" يشعر بما نال جنوده من التعب والإعياء بعد المجهود الشاق والخارق الذي بذلوه، فمكث في المدينة ثمانية أيام حتى استردّ جنوده أنفاسهم، ونالوا قسطًا من الراحة استعدادًا لمطاردة فلول الصفويين.

وترك السلطان المدينة، وتحرك بجيوشه مقتفيًا أثر الشاه "إسماعيل" حتى وصل إلى شاطئ نهر "أراس"، ولكن برودة الجو وقلة المؤن جعلتاه يقرر العودة إلى مدينة "أماسيا" بآسيا الصغرى للاستراحة طوال الشتاء، والاستعداد للحرب مع قدوم الربيع بعد أن حقق الهدف الذي خرج من أجله، وقضى على الخطر الذي كان يهدد دولته في المشرق، إلا أنه كان على قناعة بأن عليه أن يواصل الحرب ضد الصفويين، وقد تهيأ له ذلك بعد أن استطاع القضاء على دولة المماليك في الشام أقوى حلفاء الصفويين.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 17-06-2010, 06:16 AM   #117
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سقوط الأنبار.. الطريق إلى "دومة الجندل"

(في ذكرى فتحها: 4 من رجب 12هـ)

بعد أن أتم خالد بن الوليد فتح الحيرة انصرف إلى إخضاع أجزاء أخرى من العراق، فبدأ بالأقاليم القريبة منه، وأرسل الكتب إلى رؤساء تلك الأقاليم يخيرهم بين ثلاثة أمور: إما الإسلام، أو الجزية، أو القتال، فاختاروا دفع الجزية، وكتب لهم خالد بن الوليد العهود والمواثيق بذلك.

وكانت إمبراطورية فارس تتهاوى نحو مصيرها المحتوم بعد أن أخذت الأمور فيها تسير من سيئ إلى أسوأ، بعد دب الشقاق والنزاع بين أمراء البيت الفارسي حول أحقية كل منهم بوراثة العرش.

واستطاع خالد بن الوليد مع بدايات عام (12هـ = 633م) أن يحقق السيطرة على المنطقة الواقعة بين النهرين، ويخضعها لنفوذه ثم عمل على تنظيمها إداريا وعسكريا حتى تظل خاضعة له.

واتجه خالد ببصره نحو الشمال، حيث كانت هناك مدينتان لا تزالان خاضعتين للنفوذ الفارسي، تحت إمارة بعض أمراء الفرس، وكان لكل منهما حامية قوية من الفرس والعرب الموالين لهم تحميها وتدافع عنها.

وقرر خالد أن يفتح هاتين المدينتين: الأنبار، وعين التمر، ورأى أن يبدأ بالأنبار تلك المدينة القديمة، منيعة التحصين والتي كانت مركزا تجاريا مهما تأتي إليه قوافل التجارة من بلاد الشام وأرض فارس، وبها مخازن شهيرة للحبوب والغلال.

ومع منتصف ربيع الآخر (12هـ = 633م) سار خالد في نحو تسعة آلاف مقاتل من الحيرة تاركا بها نصف جيشه، وانطلق ليجتاز الضفة الغربية لنهر الفرات حتى وصل إلى مكان بالقرب من الأنبار، وأرسل عناصر من قواته لاستطلاع المكان واستكشاف الطريق، ثم واصل تحركه نحو الأنبار.

كانت مدينة الأنبار محصنة تحصينا قويا ومحاطة بخندق عميق مليء بالماء، يقع في مرمى الرماة من الجنود الفرس المتحصنين بأسوار حصينة عالية، بحيث يحبطون أي محاولة لاجتيازه.

وعندما رأى الفرس المسلمين يقتربون من المدينة قاموا بتدمير الجسور التي فوق الخندق، حتى لا يعبر عليها المسلمون إلى المدينة.

ووصل خالد بالقرب من أسوار المدينة حيث ضرب حصارا عليها، وبدأ يدرس تحصيناتها الدفاعية ليتعرف على نواحي القوة والضعف فيها، وكان آلاف من الجنود الفرس يرقبونه من فوق السور في ترقب وقلق.

وجمع خالد ألف رام من أمهر رماته ليسرّ إليهم بخطته العجيبة، وانطلق الرماة يتقدمون بحرص إلى طرف الخندق وهم يحملون أقواسهم وقد استعدوا للرمي دون أن يضعوا فيها السهام، بينما كان الجنود الفرس يراقبونهم من فوق السور في دهشة وتعجب، وهم في حيرة من أمر هؤلاء الرماة الذين خرجوا إليهم بأقواس فارغة.

وفجأة رفع خالد يده بالإشارة التي اتفقوا عليها، وفي الحال سارع الرماة بوضع السهام في الأقواس، وأخذوا يرشقون حامية الحصن، يسددون سهامهم نحو عيونهم فلا يكاد يخطئ سهم منها طريقه.

وفي لحظات قليلة فُقئت أعين ألف جندي من جنود الحامية الفرس، حتى سميت تلك الواقعة "ذات العيون".

جسر من الإبل

وعندما علم الحاكم الفارسي "شيرزاد" بما حل بالحامية عرض على خالد أن تستسلم الحامية، ولكنه وضع بعض الشروط لهذا الاستسلام فرفض خالد أن يضع الفرس أية شروط للاستسلام، فقرر شيرزاد الاستمرار في المقاومة وحرب المسلمين.

وعزم خالد على مهاجمة الحصن، وكان لا بد من تسلق أسواره العالية، ولكن ذلك كله لم يكن يمثل مشكلة حقيقية لخالد بقدر ما كان عبور الخندق يمثل تحديا حقيقيا بالغ الصعوبة، فقد كان الخندق عميقا وعريضا، ولم يكن لدى المسلمين أية قوارب يعبرون عليها، كما لم يكن الجنود -وهم أبناء البادية وسكان الصحراء- يجيدون السباحة.

ولكن خالد لم يستسلم لليأس أو الإحباط، وسرعان ما خطرت له فكرة مدهشة، وراح خالد يدور حول الخندق حتى اختار أضيق نقطة فيه، بالقرب من البوابة الرئيسية للحصن، فحشد جنوده من الرماة في هذا الجانب ليمنعوا الحامية من الرمي، ويرغموهم على الاختباء داخل الحصن، ثم أمر بجمع الإبل الضعيفة وكبيرة السن، فنُحِرت وألقيت في الخندق حتى صنعت جسرا في ذلك الجانب، فاستطاع عدد كبير من فرسان المسلمين العبور عليه إلى ما وراء الخندق.

اقتحام الحصن وسقوط الأنبار

وما إن شرع جنود المسلمين في تسلق السور واقتحام الحصن حتى خرجت إليهم مجموعة من الفرس من بوابة الحصن، فهاجمت المسلمين في محاولة لطردهم ودفعهم إلى التراجع إلى الجانب الآخر من الخندق، ولكن المسلين نجحوا في التصدي لهم وإجبارهم على الفرار مرة أخرى إلى داخل الحصن، وإحكام إغلاق أبوابه من الداخل قبل أن يجتازها خلفهم المسلمون إلى الحصن.

وقبل أن يتمكن الجنود المسلمون الذين عبروا الخندق من تسلق أسوار الحصن، ظهر رسول شيرزاد عند بوابة الحصن الرئيسية يحمل عرضا آخر من حاكم الفرس، ليخبر المسلمين باستعداده لتسليم الحصن للمسلمين إذا ما سمحوا له أن يغادر الحصن بأمان هو ومن معه من الجنود الفرس، فوافق خالد على طلب شيرزاد على أن يترك الفرس جميع ممتلكاتهم، وقبل شيرزاد بشروط خالد، وفي اليوم التالي خرج جنود الفرس وأسرهم من الحصن تاركين فيه أموالهم وممتلكاتهم ومتاعهم غنيمة للمسلمين.

وكان لسقوط الأنبار أكبر الأثر في استسلام جميع القبائل التي كانت تسكن منطقة الأنبار، والتي تحالفت مع الفرس ضد المسلمين.

ودخل خالد وجنود الأنبار في (4 من رجب 12هـ = 14 من سبتمبر 633م) بعد أن خرج منها جنود الفرس، وقائدهم المهزوم، وما لبث خالد أن استخلف عليها "الزبرقان بن بدر" وانطلق بجيشه مرة أخرى ليجتاز الفرات ثانية، متجها صوب الجنوب قاصدا عين التمر.

ولم تكن عين التمر بأقل تحصينا من الأنبار، وكانت تلك المدينة تخضع لأحد قادة الفرس المحنكين "مهران بن بهرام"، وتحظى بحامية فارسية كبيرة، بالإضافة إلى حلفائهم العرب من قبيلة النمر شديدة المراس، وبعض قبائل العرب الأخرى من النصارى، الذين شكلوا جبهة تحالف قوية ضد المسلمين تحت قيادة "عقة بن أبي عقة".

ولكن خالدا استطاع أسر عقة وعدد كبير من أعوانه بعد معركة سريعة حاسمة، وهرب مهران وجنوده من الفرس وتركوا الحصن ليتحصن به بعض العرب الموالين لهم، فلما بلغ خالد الحصن حاصره حتى اضطرهم إلى الاستسلام، واستطاع أن يفتح الحصن ويدخل المدينة دون أدنى مقاومة.. وبقضاء خالد على الخطر الفارسي في الأنبار وعين التمر أصبح الطريق أمام المسلمين مهيئا لمزيد من الانتصارات والفتوحات، كان من أهمها وأخطرها فتح "دومة الجندل".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 18-06-2010, 10:13 AM   #118
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

معركة اليرموك.. وانحسار دولة الروم

(بمناسبة ذكراها: 5 من رجب 15هـ)



تمكنت الجيوش الإسلامية بعد معركة أجنادين التي وقعت أحداثها في (27 من جمادى الأولى سنة 13 هـ= 30 من أغسطس 643م) من أن تتابع مسيرتها الظافرة، وأن تخرج من نصر إلى نصر حتى بسطت يدها على أجزاء عظيمة من بلاد الشام ضمت "بصرى" و"بعلبك" و"حمص" و"دمشق" و"البلقاء" و"الأردن" وأجزاء من "فلسطين".

ولم يكن أمام "هرقل" إمبراطور الروم سوى الاحتشاد لمعركة فاصلة بعد أن تداعت أجزاء غالية من دولته أمام فتوحات المسلمين، فبدأ يجهز لمعركة تعيد له هيبته وتسترد له ما اقتُطِع من دولته، وتجمعت أعداد هائلة من جنوده ومن يقدر على حمل السلاح من الروم، فأخذت تتقدم من إنطاكية- حيث يقيم- إلى جنوبي الشام.

الجيوش الإسلامية في الشام

كانت القوات الإسلامية بعد فتح حمص سنة (14 هـ = 635م) تتوزع في أماكن مختلفة، فأبو عبيدة بن الجراح في حمص، وخالد بن الوليد بقواته في دمشق، وشرحبيل بن حسنة مقيم في الأردن، وعمرو بن العاص في فلسطين.

فلما وصلت أنباء استعدادات الروم إلى أبي عبيدة بن الجراح جمع القادة يشاورهم ويستطلع رأيهم، وانتهى الحوار بينهم على انسحاب القوات الإسلامية من المدن التي فتحتها إلى موقع قريب من بلاد الحجاز، وأن تتجمع الجيوش كلها في جيش واحد، وأن يبعث أبو عبيدة بن الجراح إلى المدينة يطلب المدد من الخليفة "عمر بن الخطاب".

وقبل أن يتحرك "أبو عبيدة بن الجراح" بجيوش المسلمين، دعا "حبيب بن مسلمة"- عامله على الخراج- وقال له: "اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذا لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئا، وقل لهم: نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم أنَّا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم...".

فلمَّا أصبح الصباح أمر أبو عبيدة قواته بالرحيل من حمص إلى دمشق، وقام حبيب بن مسلمة برد الجزية إلى أهالي حمص، وبلغهم ما قاله أبو عبيدة؛ فما كان منهم إلا أن قالوا: "ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا، بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا؛ لَوِلايتكم وعَوْدُكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم".

التحرك إلى اليرموك



بعد أن أخلى المسلمون مدينة حمص، جاءت قوات الروم، فدخلت حمص، ثم تحركت جنوبا خلال وادي البقاع إلى بعلبك، ولم تتجه إلى دمشق حيث يقيم المسلمون؛ وإنما اتجهت إلى الجنوب.

رأى المسلمون الذين كانوا يراقبون تحركات الروم أن في مسارهم هذا حركة التفاف تستهدف حصار المسلمين وقطع خط الرجعة عليهم؛ فاجتمع أبو عبيدة بقادته يتباحثون الأمر، فاتفقوا على الخروج من دمشق إلى الجابية، وهناك ينضم إليهم جيش عمرو بن العاص الرابض بفلسطين، وفي الوقت نفسه ينتظرون مدد الخليفة عمر بن الخطاب.

تقدمت مجموعات من جيش الروم إلى نهر الأردن باتجاه المسلمين في الجابية، وخشي المسلمون أن يحاصروا بقوات الروم المقيمة في الأردن وفلسطين والأخرى القادمة من إنطاكية؛ فيقطعوا خطوط إمداداتهم، ويحولوا ببينهم وبين منطقة شمال الأردن والبلقاء التي تربطهم بالحجاز؛ ولهذا قررت الجيوش الإسلامية الانسحاب من الجابية إلى اليرموك.

الاستعداد للمعركة

تولَّى خالد بن الوليد القيادة العامة للجيش بتنازل كريم من أبي عبيدة بن الجراح، الذي كان له السلطة العامة على جيوش المسلمين بالشام، وكان خالد من أعظم الناس بلاء وأعظمهم بركة وأيمنهم نقيبة.

بدأ خالد في تنظيم قواته، وكانت تبلغ 46 ألف مقاتل، وقسَّم الجيش إلى كراديس، أي كتائب، وتضم ما بين 600 إلى 1000 رجل، والكردوس ينقسم إلى أجزاء عشرية؛ فهناك العرّيف الذي يقود عشرة من الرجال، وآمر الأعشار الذي يقود عرفاء (100 رجل)، وقائد الكردوس الذي يقود عشرة من أمراء الأعشار (1000) رجل.

ويُجمِع المؤرخون على أن خالد بن الوليد هو أول من استحدث تنظيم الجيوش على هذا النحو، وعُدَّ عمله فتحا في العسكرية الإسلامية؛ فقد اختار رجال الكردوس الواحد من قبيلة واحدة أو ممن يعودون بأصولهم إلى قبيلة واحدة، وجعل على كل كردوس قائدا منهم ممن عُرفوا بالشجاعة والإقدام، ثم جمع الكراديس بعضها إلى بعض وجعل منها قلبا وميمنة وميسرة، وكان على رأس كراديس القلب أبو عبيدة بن الجراح، ومعه المهاجرون والأنصار، وعلى كراديس الميمنة عمرو بن العاص ويساعده شرحبيل بن حسنة، وعلى كراديس الميسرة يزيد بن أبي سفيان.

وبلغت هذه الكراديس 36 كردوسًا من المشاة، بالإضافة إلى عشرة كراديس من الخيالة، يقف أربعة منها خلف القلب واثنان في الطليعة، ووزعت الأربعة الباقية على جانبي الميمنة والميسرة.

أما جيش الروم فكان يضم نحو مائتي ألف مقاتل، يقودهم "ماهان"، وقد قسّم جيشه إلى مقدمة تضم جموع العرب المتنصّرة من لخم وجذام وغسان، وعلى رأسها "جبلة بن الأيهم"، وميمنة على رأسها "قورين"، وميسرة على رأسها "ابن قناطر"، وفي القلب "الديرجان"، وخرج ماهان إلى المسلمين في يوم ذي ضباب، وصَفَّ جنوده عشرين صفا، ويقول الرواة في وصف هذا الجيش الرهيب: "ثم زحف إلى المسلمين مثل الليل والسيل".

رهبان بالليل.. فرسان بالنهار

دعا أحد قادة الروم رجلاً من نصارى العرب، فقال له: ادخل في معسكر هذا القوم، فانظر ما هديهم، وما حالهم، وما أعمالهم، وما يصنعون، ثم ائتني فأخبرني بما رأيت. وخرج الرجل من معسكر الروم حتى دخل معسكر المسلمين فلم يستنكروه؛ لأنه كان رجلا من العرب، لسانه عربي ووجهه عربي، فمكث في معسكرهم ليلة حتى أصبح فأقام عامة يومه، ثم رجع إلى قائده الرومي، وقال له: جئتك من عند قوم يقومون الليل كله، يصلون ويصومون النهار، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو يسرق مَلِكُهم لقطعوا يده، ولو زنا لرجموه؛ لإيثارهم الحق، واتباعهم إياه على الهوى.

فلما انتهى الرجل العربي من كلامه قال القائد الرومي: لئن كان هؤلاء القوم كما تزعم، وكما ذكرت لبطنُ الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم.

وفي فجر يوم الإثنين (5 من رجب 15 هـ = 12 من أغسطس 636م) أصبح المسلمون طيبةً نفوسهم بقتال الروم، منشرحة صدورهم للقائهم، واثقة قلوبهم من نصر الله، وخرجوا بالنظام الذي وضعه القائد العام يحملون رايتهم.

وسار أبو عبيدة في المسلمين يحثُّ الناس على الصبر والثبات، يقول لهم: يا عباد الله انصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب؛ فلا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدءوهم بقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم.

وخرج معاذ بن جبل يقول للناس: يا قراء القرآن ومستحفظي الكتاب وأنصار الهدى وأولياء الحق، إن رحمة الله- والله- لا تُنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدّقين بما وعدهم الله (عز وجل)، أنتم- إن شاء الله- منصورون، فأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ من دونه.

اللقاء الحاسم ونتائجه

زحفت صفوف الروم الجرارة من مكانها إلى المسلمين، لهم دويٌّ كدوي الرعد، ودخل منهم ثلاثون ألفًا كل عشرة في سلسلة حتى لا يفروا، قد رفعوا صلبانهم، وأقبل معهم الأساقفة والرهبان والبطارقة.

وحين رأى خالد إقبالهم على هذا النحو كالسيل، وضع خطته أن يثبت المسلمون أمام هذه الهجمة الجارفة؛ حتى تنكسر وتتصدع صفوف الروم، ثم يبدأ هو بالهجوم المضاد.

وكان خالد بن الوليد رابط الجأش ثابت الجنان وهو يرى هذه الجموع المتلاحقة كالسيل العرم، لم ترهبه كثرتهم، وقد سمع جنديا مسلما قد انخلع قلبه لمَّا رأى منظر الروم، يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين- فانزعج من قولته وقال له: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، أبالروم تخوّفني؟!

تلاحم الفريقان وشد الروم على ميمنة المسلمين حتى انكشفت، وفعلوا كذلك بالميسرة، وثبت القلب لم يتكشف جنده، وكان أبو عبيدة وراء ظهرهم؛ ردءا لهم، يشد من أزرهم، وأبلى المسلمون بلاء حسنا، وثبت بعضهم كالجبال الراسخات، وضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة وتلبية النداء، وقاتلت النساء أحسن قتال.

تحمل المسلمون هذا الهجوم الكاسح بكل ثبات؛ إذا اهتز صف عاد والتأم ورجع الى القتال، حتى إذا جاءت اللحظة التي كان ينتظرها القائد النابغة خالد بن الوليد صاح في القوم: يا أهل الإسلام، لم يبق عند القوم من الجلد والقتال والقوة إلا ما قد رأيتم، فالشدة، الشدة فوالذي نفسي بيده ليعطينكم الله الظفر عليهم الساعة.

وزحف خالد بفرسانه الذين لم يقاتلوا، وكان يدخرهم لتلك الساعة الحاسمة، فانقضوا على الروم الذين أنهكهم التعب واختلت صفوفهم، وكانت فرسان الروم قد نفذت إلى معسكر المسلمين في الخلف، فلمَّا قام خالد بهجومه المضاد من القلب حالَ بين مشاة الروم وفرسانهم، الذين فوجئوا بهذه الهجمة المضادة؛ فلم يشتركوا في القتال، وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء، تاركين ميدان القتال. ولمَّا رأى المسلمون خيل الروم تهرب أفسحوا لها الطريق ودعوها تغادر ساحة القتال.

انهار الروم تماما، وتملَّكهم الهلع فتزاحموا وركب بعضهم بعضا وهم يتقهقرون أمام المسلمين الذين يتبعونهم؛ حتى انتهوا إلى مكان مشرف على هاوية تحتهم، فأخذوا يتساقطون فيها ولا يبصرون ما تحت أرجلهم، وكان الليل قد أقبل والضباب يملأ الجو، فكان آخرهم لا يعلم ما يلقى أولهم، وبلغ الساقطون في هذه الهاوية عشرات الألوف، وتذكر بعض الروايات أنهم كانوا ثمانين ألفا، وسميت تلك الهاوية "الواقوصة"؛ لأن الروم وقصوا فيها، وقتل المسلمون من الروم في المعركة بعدما أدبروا نحو خمسين ألفا، خلاف من سقطوا في الهاوية.

ولما أصبح اليوم التالي، نظر المسلمون فلم يجدوا في الوادي أحدا من الروم، فظنوا أن الروم قد أعدوا كمينا، فبعثوا خيلا لمعرفة الأمر، فإذا الرعاة يخبرونهم أنهم قد سقطوا في الهاوية أثناء تراجعهم، ومن بقي منهم غادر المكان ورحل.

كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثرا في حركة الفتح الإسلامي، فقد لقي جيش الروم- أقوى جيوش العالم يومئذ- هزيمة قاسية، وفقد زهرة جنده، وقد أدرك هرقل حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر المنطقة نهائيا وقلبه ينفطر حزنا، وهو يقول: "السلام عليك يا سوريا، سلاما لا لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومي بعد الآن إلا خائفا".

وقد ترتب على هذا النصر العظيم أن استقر المسلمون في بلاد الشام، واستكملوا فتح مدنه جميعا، ثم واصلوا مسيرة الفتح؛ فضموا مصر والشمال الإفريقي.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 19-06-2010, 07:41 AM   #119
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الحريري.. ومقاماته البديعة

(في ذكرى وفاته: 6 من رجب 516هـ)

لم يبلغ كتاب من كتب الأدب في العربية ما بلغته مقامات الحريري من بُعد الصيت واستطارة الشهرة، ولم يكد الحريري ينتهي من إنشائها حتى أقبل الوراقون في بغداد على كتابتها، وتسابق العلماء على قراءتها عليه، وذكروا أنه وقَّع بخطه في عدة شهور من سنة (514هـ=1110م) على سبعمائة نسخة، وبلغ من شهرتها في حياة الحريري أن أقبل من الأندلس فريق من علمائها لقراءة المقامات عليه، ثم عادوا إلى بلادهم حيث تلقاها عنهم العلماء والأدباء، وتناولوها رواية وحفظًا ومدارسة وشرحًا.

وصاحب هذا الأثر الخالد هو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، ولد بالمشان، وهي من ضواحي مدينة البصرة سنة (446هـ=1054م)، ولما شبَّ عن الطوق رحل إلى البصرة، وسكن في محلة بني حرام، وهي قبيلة عربية كانت تسكن البصرة، وتأدب بها، واتصل بأبي الحسن بن فضال المجاشعي، فقرأ عليه العربية، ودرس الفقه على أبي إسحاق الشيرازي، كما سمع الحديث من عدد غير قليل من الحفاظ والمحدثين.

وكان الحريري مفرطًا في الذكاء، آية في الحفظ وسرعة البديهة، غاية في الفطنة والفهم، فما كاد يفرغ من تلقيه العلم حتى جذب الأنظار إليه، وعُين في ديوان الخلافة في منصب "صاحب الخبر"، وهي وظيفة تشبه هيئة الاستعلامات في عصرنا، ولا يُعرف على وجه اليقين متى تقلدها، لكنه ظل بها إلى أن تُوفي.

وكان الحريري من ذوي الغنى واليسار إلى جانب علمه الواسع، وتمكنه من فنون العربية، وكان له بقريته "المشان" ضيعة كبيرة مليئة بالنخل، وكان له بالبصرة منزل يقصده العلماء والأدباء وطالبو العلم، يقرءون عليه ويفيدون من علمه.

مقامات الحريري

المقامات فن من فنون الكتابة العربية ابتكره بديع الزمان الهمذاني، وهو نوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، ويدور الحوار فيها بين شخصين، ويلتزم مؤلفها بالصنعة الأدبية التي تعتمد على السجع والبديع.

ويحكي الحريري عن سبب إنشائه المقامات، فيقول: "إن أبا زيد السروجي كان من أهل البصرة، وكان شيخًا شحاذًا أديبًا بليغًا فصيحًا، ورد البصرة، فوقف في مسجد بني حرام، فسلّم، ثم سأل، وكان المسجد غاصًا بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن كلامه، وذكر أسر الروم ولده، فاجتمع عندي عشية جماعة، فحكيت ما شاهدت من ذلك السائل، وما سمعت من ظرفه، فحكى كل واحد عنه نحو ما حكيت، فأنشأت المقامة الحرامية، ثم بنيت عليها سائر المقامات التي تبلغ خمسين مقامة". وقد بدأ في كتابتها في سنة (495هـ=1101م) وانتهى منها في سنة (504هـ=1110م).

البطل والراوي

وقد نسب الحريري رواية هذه المقامات إلى الحارث بن همام، فهو الذي يروي أخبارها، ويقول ابن خلكان: إنه قصد بهذا الاسم نفْسَهُ، ونظر في ذلك إلى قوله (صلى الله عليه وسلم): "كلكم حارث وكلكم همام" فالحارث: الكاسب، والهمام كثير الاهتمام بأموره، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام.

أما بطل هذه المقامات فهو أبو زيد السروجي، وهو متسول يعتمد على حسن الكلام وسحر البيان في جذب اهتمام الناس، واستلاب عواطفهم، واستمالة عقولهم ليمنحوه صدقاتهم. وتختلف الروايات في حقيقة أبي زيد السروجي، فمن قائل إنه اسم خيالي وضعه الحريري صاحب المقامات، واستوحاه من صورة الشحاذ الذي لقيه في مسجد بني حرام بالبصرة، في حين يذهب البعض أنه شخصية حقيقية، والأقرب إلى الصواب أن أبا زيد السروجي شخصية نسجها خيال الحريري، ليحوك من حولها حيل أديب متسول، مثلما اتخذ بديع الزمان الهمذاني من أبي الفتح الإسكندري بطلاً لمقاماته.

وتبدأ المقامات بلقاء بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي في صنعاء، وهما في ريعان الشباب وربيع العمر، حيث لقي الحارث أبا زيد خطيبًا واعظًا في جمع من الناس، ثم تبعه فعرفه مخادعًا كذابًا، وعلى هذا اللقاء بنى الحريري المقامة الأولى، وأطلق عليها "المقامة الصنعانية"، ثم أخذ الحارث يجوب البلاد ويواصل الأسفار ليلقى أبا زيد في أماكن مختلفة، في ساحات القضاء، ومجالس الولاة، وأندية الأدباء، ثم يلتقيان في مسجد البصرة، وقد تقدم بهما العمر، وهدَّ جسدهما طول الزمن، فإذا أبو زيد يقف في حشد من الناس يعلن توبته، ويندم على ما قدّم من ذنوب وآثام، ثم يعزم على العودة إلى بلده "سروج" وينصرف إلى العبادة والصلاة، أما الحارث بن همام فيتوقف عن السفر والترحال، ويجنح إلى الراحة، ويكون هذا هو آخر لقاء بينهما، وبه تنتهي المقامة الخمسون آخر المقامات.

بين القص والصنعة البيانية

تجمع المقامات التي أنشأها الحريري بين متعة القص والحكي وتحقيق الغاية البيانية البلاغية، ويذكر في مقدمة عمله مقصده بقوله: "أنشأت خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات ووضعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية".

غير أن الصنعة البيانية قد غلبت على القص والحكاية، وزاد من افتتان الناس بها البراعة الفائقة والقدرة الفذة التي كتب بها الحريري هذا العمل، وكأن المعجم العربي قد نُثِر كله بين يديه يختار منه ما يشاء في صنعة عجيبة وإحكام دقيق.

ولم يكتف الحريري بالسجع والمحسنات البديعية في مقاماته، وإنما أضاف إليها أمورًا أخرى غاية في التعقيد، لكنه تجاوز هذا التعقيد في براعة فائقة، فأورد في المقامة السادسة التي بعنوان "المراغية" رسالة بديعة تتوالى كلماتها مرة منقوطة ومرة غير منقوطة، منها قوله: "العطاء ينجي، والمطال يشجي، والدعاء يقي، والمدح ينقي، والحر يجزي..."، ويسمى المقامة السادسة والعشرين باسم الرقطاء، لأنها تحتوي على رسالة، تتوالى حروف كلماتها بالتبادل بين النقط وعدمه، مثل قوله: "ونائل يديه فاض، وشح قلبه غاض، وخلف سخائه يحتلب..."، وفي المقامة الثامنة يخطب أبو زيد السروجي خطبة كل كلماتها غير منقوطة، بدأها بقوله: "الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعو لحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصور الرمم، وأهل السماح والكرم ومهلك عاد وإرم...".

عناية العلماء بمقامات الحريري

وقد حظيت مقامات الحريري منذ أن ألفها الحريري باهتمام العلماء فأقبلوا عليها يشرحونها، لما زخرت به من الألفاظ والأمثال والأحاجي والألغاز، والمسائل النحوية والبلاغية، وقد أحصى "حاجي خليفة" صاحب كتاب "كشف الظنون" أكثر من خمسة وثلاثين شارحًا، منهم: محمد بن علي بن عبد الله الحلي، ومحمد بن محمد المكي الصقلي المعروف بابن ظفر، وأبو المظفر محمد بن أسعد المعروف بابن حكيم، وعبد الله بن الحسين العكبري، وأحمد بن عبد المؤمن من موسى الشريشي.

وقد انتبه المستشرقون منذ وقت مبكر إلى أهمية المقامات فأولوها عنايتهم وترجموها إلى لغاتهم، فقام المستشرق الهولندي "جوليوس" في سنة (1067هـ=1656م) بترجمة المقامة الأولى إلى اللغة اللاتينية، ثم نقل المستشرق الهولندي نفسه ست مقامات بين سنتي (1144هـ=1731م) و(1153هـ=1740م) إلى اللاتينية.

وفي فرنسا قام المستشرق "كوسان دي برسفال" بنشر المتن العربي الكامل سنة (1337هـ=1918م)، كما قام الأستاذ "دي ساسي" بجمع مخطوطات المقامات وشروحها، وعمل منها شرحًا عربيًا، وطبع المتن والشرح في باريس سنة (1238هـ=1822م).

كما ترجمت المقامات إلى الألمانية، وقام بالترجمة المستشرق "ركرت"، وتمتعت هذه الترجمة بشهرة واسعة في عالم الاستشراق، وتُرجمت إلى الإنجليزية سنة (1284هـ=1867م).

وكانت مقامات الحريري من أوائل ما طُبع من المكتبة العربية، وتوالت طبعاتها في باريس ولندن وليدن ولكنو ودلهي بالهند، والقاهرة وبيروت.

رسائل ومؤلفات


كان للحريري رسائل أدبية إلى جانب مقاماته، لم تحتفظ بها يد الزمن، فضاعت مع ما ضاع من تراثنا الضخم، ولكن احتفظت بعض الكتب القديمة ببعض رسائله، وقد سجّل "ياقوت الحموي" في معجم الأدباء رسالتين اشتهرتا في عصر الحريري والعصور التي تلته، إحداهما عرفت بالسينية؛ لأن كلماتها جميعًا لا تخلو من السين، والأخرى اشتهرت بالشينية، لالتزام كلماتها بإيراد حرف الشين. وقد استهل الرسالة السينية التي كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقًا له –بقوله: "باسم القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيف السلطان،… السيد النفيس، سيد الرؤساء، حُرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه واتسق أنسه، استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومواساة السحيق والنسيب...".

وللحريري غير المقامات والرسائل ما يأتي:

* درة الغواص في أوهام الخواص، بيّن فيه أغلاط الكتاب فيما يستعملونه من الألفاظ بغير معناها في غير موضعها، وقد طُبع في مصر سنة (1272هـ=1855م).

* وملحة الأعراب في صناعة الإعراب، وهي أرجوزة شعرية وقد طُبعت في باريس وبيروت والقاهرة.

وفاته

ظل الحريري في البصرة موضع تقدير أهل العلم، وجاء وضعه للمقامات فارتفعت منزلته وازدادت مكانته حتى لقي ربه في (6 من رجب 516هـ=11 من سبتمبر 1112م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 23-06-2010, 08:29 AM   #120
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الحافظ ابن عساكر.. و"تاريخ دمشق"

(في ذكرى وفاته: 11 من رجب 571هـ)

في بيت كريم الأصل معروف بالفضل، متصل بالعلم ولد علي بن الحسن بن هبة الله، في (غرة المحرم من سنة 449 هـ = 13 من سبتمبر 1105م)، وكان أبوه تقيا ورعًا، محبًا للعلم ومجالسة العلماء ومصاحبتهم، وكانت أمه من بيت علم وفضل، فأبوها "أبو الفضل يحيى بن علي" كان قاضيا، وكذلك كان أخوها "أبو المعالي محمد بن يحيى" قاضيًا.

وقد رزق الوالدان الكريمان قبل ابنهما علي بولد كان له شأن هو أبو الحسين الصائن هبة الله بن الحسن، كان من حفاظ الحديث، رحل في طلبه إلى بغداد، وعُني بعلوم القرآن واللغة والنحو، وجلس للتدريس والإفتاء.

تنشئته وتعليمه

في مثل هذا الجو المعبّق بنسمات العلم نشأ ابن عساكر ودرج، وكانت أسرته الصغيرة هي أول من تولى تعليمه وتهذيبه، وأحاطته بعنايتها، فسمع الحديث من أبيه وأخيه وهو في السادسة، ثم تتلمذ على عدد ضخم من شيوخ دمشق وعلمائها، وكانت آنذاك من حواضر العلم الكبرى في العالم الإسلامي، وتلقى على أيديهم عددا كبيرا من أمهات الكتب في الحديث والتاريخ.

قرأ على أبي الفرج غيث بن علي الصوري تاريخ صور، وجزءا من كتاب تلخيص المتشابه للخطيب البغدادي، وقرأ على عبد الكريم بن حمزة السليم كتاب الإكمال لابن ماكولا، ومشتبه النسبة لعبد الغني بن سعدي، وقرأ على شيخه أبي القاسم النبيه كتاب المجالس وجواهر العلم لأحمد بن مروان الدينوري، وتلخيص المتشابه للخطيب البغدادي، وقرأ على أبي محمد بن الأكفاني كتاب المغازي لموسى بن عقبة، وكتاب المغازي لمحمد بن عائذ الدمشقي، وأخبار الخلفاء لابن أبي الدنيا، وغيرها.

ولم ينشغل ابن عساكر في فترة حياته الباكرة إلا بطلب العلم فانصرفت همته إليه، وانشغلت نفسه به، ولم يصرفه عنه صارف، ولم يترك عالما ذا شأن في دمشق إلا اتصل به وقرأ عليه، ولم تسنح له فرصة من وقت إلا شغلها بالقراءة والدرس، حيث كان في سباق مع الزمن حتى يحصل ما تصبو إليه نفسه من العلوم والفنون.

الرحلة في طلب الحديث

بدأ ابن عساكر رحلاته سنة (520 هـ = 1126م) إلى بغداد، ثم اتجه منها إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولم تطل إقامته في المدينتين المقدستين حيث كر راجعًا إلى بغداد؛ لمتابعة دروسه في المدرسة النظامية ببغداد.

وفي فترة إقامته التي استغرقت خمس سنوات قابل في أثنائها عددًا كبيرًا من أئمة العلم، وقرأ عليهم عشرات الكتب العظيمة ذات المجلدات الضخمة، فاتصل بأبي غالب بن البنا، وقرأ عليه كتاب نسب قريش للزبير بن بكار، وكتاب التاريخ لابن أبي خيثمة، وبعضا من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، وقرأ على أبي القاسم بن الحصين مسند أحمد والغيلانيات، ودرس على أبي بكر محمد بن عبد الباقي الطبقات الكبرى لابن سعد، والمغازي للواقدي، ولزم أبا القاسم بن السمرقندي وسمع منه كتبًا كثيرة، منها: سيرة ابن إسحاق، وكتاب الفتوح لسيف بن عمر، وتاريخ الخلفاء لابن ماجه، ومعجم الصحابة لأبي القاسم البغوي، والمعرفة والتاريخ للنسوي، والكامل في الضعفاء لابن عدي.

عاد الحافظ ابن عساكر إلى دمشق سنة (525 هـ = 1130م)، واستقر بها فترة عاود بعدها رحلته مرة أخرى سنة (529 هـ = 1134م) إلى إيران وخراسان وأصبهان وهمذان وأبيورد وبيهق والري ونيسابور وسرخس وطوس ومرو، سمع في أثنائها عددًا كبيرًا من الكتب على كبار الحفاظ والمحدثين في بلاد المشرق، مثل: سعيد بن أبي الرحاء، وزاهر بن طاهر الشحامي، ثم عاد إلى دمشق سنة (533 هـ = 1138) وقد طبقت شهرته الآفاق، وقصده طلاب العلم من كل مكان، وانصرف إلى التأليف والتصنيف.

تاريخ دمشق

شغل أبو عساكر نفسه بالعلم مذاكرة وتحصيلا، وجعله هدفا لا يصرفه عنه شيء، ولم يجعله وسيلة لتولي منصب أو طمعًا في مال أو جاه، أعطاه نفسه ولم يبخل عليه بجهد، فكافأه الله سعة في التأليف، وصيتًا لا يزال صداه يتردد حتى الآن، ومكانة في العلم تبوأها في المقدمة بين رجالات العلم في تاريخ الإسلام.

وخلال التدريس وضع ابن عساكر مؤلفات كثيرة، لكن مؤلفًا منها قد ملك عليه فؤاده، وانصرفت إليه همته الماضية منذ أن اتجه إلى طلب العلم، فبدأ يضع مخططًا لكتابه الكبير "تاريخ دمشق"، يضاهي به عمل الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" الذي صار نموذجًا للتأليف في تاريخ المدن، يحتذيه المؤلفون في المنهج والتنظيم.

استغرق التفكير والتأليف في تاريخ دمشق وقتا طويلا من حياة مؤلفه، وصاحبه منذ فترة مبكرة من حياته، فكرة في الذهن، ثم مخططًا على الورق، وشروعًا في التنفيذ، فهو لم يؤلفه في صباه وشبابه ولم ينجزه في كهولته، وإنما شغل حياته كلها، ولم يفرغ منه إلا بعد أن وهن جسده وكلّ بصره.

وكان العمل ضخمًا يحتاج إنجازه إلى أعمار كثيرة، وكاد المؤلف ينصرف عن إنجازه وإتمامه، لولا أن خبر هذا الكتاب تناهى إلى أسماع "نور الدين محمود" حاكم دمشق وحلب؛ فبعث إلى الحافظ ابن عساكر يشحذ همته ويقوي من عزيمته، فعاد إلى الكتاب وأتمه سنة (559 هـ = 1163م)، ثم قام ولده القاسم بتنقيحه وترتيبه في صورته النهائية تحت بصر أبيه وعنايته، حتى إذا فرغ منه سنة (565 هـ = 1169م) قرأه على أبيه قراءة أخيرة، فكان يضيف شيئا، أو يستدرك أمرًا فاته، أو يصوب خلطًا، أو يحذف ما يراه غير مناسب أو يقدم موضعًا أو يؤخر مسألة، حتى أصبح على الصورة التي نراها الآن بين أيدينا.

موضوع الكتاب ومنهجه

جاء الكتاب في النهاية في ثمانين مجلدة، تبلغ حوالي ستة عشر ألف صفحة مخطوطة، خصص المؤلف القسم الأول من كتابه لذكر فضائل دمشق، ودراسة خططها ومساجدها وحماماتها وأبنيتها وكنائسها، وكان هذا كالمقدمة لكتابه الكبير، ثم أخذ في الترجمة لكل من نبغ من أبنائها أو سكن فيها، أو دخلها واجتازها من غير أبنائها من الخلفاء والعلماء والقضاة والقراء والنحاة والشعراء.

وقد تتسع حلقة دمشق في منهج ابن عساكر لتشمل الشام أحيانًا فيترجم لمن كان في صيدا أو حلب أو بعلبك أو الرقة أو الرملة، وكما اتسعت لديه دائرة نطاق المكان اتسعت دائرة الزمان، فامتدت من زمن أقدم الأنبياء والمرسلين إلى عصر المصنف.

ومنهجه في الكتاب هو منهج المحدثين، فقد اعتمد في الرواية على السند مهما طال أو تعدد، فلا يذكر خبرًا إلا ويسبقه إسناده، وقد يكرر الخبر الواحد ما دامت هناك فائدة من زيادة أو توضيح. واتبع في التراجم التنظيم الألفبائي المعروف، مراعيًا في ذلك أسماء الآباء بعد أسماء المترجمين، لكنه بدأ التراجم بمن اسمه "أحمد"؛ تيمنًا باسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد أن فرغ من التراجم المرتبة أسماؤها ترتيب المعجم، أورد من عُرف من الرجال بكنيته فقط، مراعيًا في ذلك الترتيب الألفبائي أيضا، ثم أعقب ذلك بالمجاهيل ممن عُرفت لهم رواية ولم يعرف لهم اسم، ثم ختم الكتاب بتراجم النساء، ملتزمًا المنهج نفسه في الترتيب والتنظيم، وقد خصهن بمجلد مستقل، اتسع لمائة وست وتسعين ترجمة من شهيرات النساء في العلم والأدب والغناء.

موارد ابن عساكر

اعتمد ابن عساكر في جمع مادة كتابه الضخمة على ثلاثة أنواع من المصادر: السماع من شيوخه وهم يعدون بالمئات روى عنهم وقرأ عليهم، ثم المكاتبة والمراسلة معهم، ثم الاعتماد على مؤلفات السابقين، ويحتاج إحصاء هذه الموارد التي نهل منها ابن عساكر إلى جهد جهيد، نظرًا لضخامة الكتاب، وحسبك أن تعلم أن المجلدة الأولى من الكتاب، أخذت مواردها عن مائة وستة وخمسين شيخًا بالسماع، وعن ستة عشر شيخًا بالمكاتبة، وأربعة عشر كتابًا من بينها كتب البلاذري والواقدي والبخاري والجشهياري.

ولعل من أهم ما صنعه ابن عساكر أنه حفظ لنا بكتابه المؤلفات والمصادر المتفرقة التي كتبها الدماشقة وغيرهم حول تاريخ دمشق في القرون السابقة ثم أتى عليها الضياع، كما رسم صورة لبلاد الشام وحركة السياسة بها، وازدهار الحضارة العربية، والنشاط الثقافي الذي كانت تموج به دمشق منذ أن فتحها المسلمون.

وقد لقي الكتاب عناية واهتمامًا بدءا من جهود القاسم ابن المؤلف، الذي ذيله وانتخب منه، ثم قام عدد من العلماء باختصار الكتاب، مثل ابن منظور المتوفى سنة (711 هـ = 1311هـ) الذي صنع مختصرًا لتاريخ دمشق، وعلى الرغم من كونه اختصارًا فقد جاء في 29 مجلدًا حين طُبع أخيرا محققًا في دمشق، وفي العصر الحديث قام "عبد القادر بدران" المتوفى سنة (1346 هـ = 1927م) بعمل تهذيب للكتاب، لكنه لم يكمله.

المؤلفات الأخرى لابن عساكر

ولابن عساكر مؤلفات أخرى كثيرة غير تاريخ دمشق، ومن ذلك:

تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى أبي الحسن الأشعري، والكتاب مطبوع.

الأربعون البلدانية، وقد طبع بتحقيق محمد مطيع الحافظ في دمشق.

الأربعون في مناقب أمهات المؤمنين، وقد طبع محققًا بعناية محمد مطيع الحافظ في دمشق.

الإشراف على معرفة الأطراف، والكتاب لا يزال مخطوطًا.

ترتيب الصحابة في مسند أحمد، والكتاب مخطوط لم يطبع بعد.

- وله عدة مجالس مخطوطة في ذم من لا يعمل بعلمه، وفي التوبة، وذم قرناء السوء، وفي سعة رحمة الله، وفي فضل سعد بن أبي وقاص، وفضل عبد الله بن مسعود ، وقد طبع مجلسان من هذه المجالس بتحقيق محمد مطيع الحافظ. وهذه المجالس أشبه بالرسائل الصغيرة.

أسرة ابن عساكر

كان بيت الحافظ ابن عساكر معمورًا بالعلم، فامتد إلى كل فرد من أفراده، واستطاع الإمام الحافظ بأخلاقه الكريمة وسماحه نفسه أن تقتدي به أسرته، وتسير على منواله، فابنه القاسم كان حافظًا من حفاظ الحديث، أتم عمل أبيه ونقّحه وقرأه عليه، وزوجة الإمام وأم أبنائه "عائشة بنت علي بن الخضر" كان لها شغف بالحديث، فكان الزوج الكريم يحضر لها محدثات يسمعنها الحديث، ثم يسمع منها أبناؤها ويتلقون عنها كما يتلقون عن أبيهم، وشاء الله أن تتوفى هذه السيدة الكريمة قبل زوجها في سنة (564 هـ = 1168م) فتركت في نفسه أسى وحسرة.

وظل الإمام محل تقدير الناس والولاة، فكان يحضر مجالسه نور الدين محمود سلطان دمشق الذي قربه وبنى له "دار السنة" وكان "صلاح الدين الأيوبي" يجله ويحضر مجالس تدريسه، ومكث الإمام ابن عساكر يؤدي رسالته حتى لبّى نداء ربه في (11 من رجب 571 هـ = 26 من يناير 1176م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .