من منا لم تطرق سمعه هذه الكلمات ، إنها الخطبة الشهيرة للبطل المغوار "طارق بن زياد" .
ولد طارق سنةَ 50هـ ، أَسلم على يد موسى بن نُصَيْرٍ ، فكان من أشدِّ رجاله ، ولما تم لِموسى فتح طَنْجَةَ ولّى عليها طارقاً سنة 89هـ، فأقام فيها إلى أوائل سنة 92هـ، فجهّز موسى جيشاً قدره سبعة آلاف جنديّ معظمهم من البربر لغَزْو الأندلس وفتحِها، وولّى طارقا قيادتهم، فنزل بهم البحر واستولى على الجبل (جبل طارق) وفتح حصن "قَرْطَاجَنَةَ" ولما علم طارق بقدوم جيشٍ ضخم للأسبان يقوده الملك "لُذَرِيقُ " طلب من موسى تعزيزا فأرسل له خمسةَ آلاف جندي، فأعدَّ طارق جيشه وأحرق السفن وألقى خطبته المشهورة وحارب الملك "لذريقَ " فقتله، ثم تَغَلْغَلَ في أرض الأندلس حتى وصل إلى "طُلَيْطَلَةَ" عاصِمةَ الأندلس.
إلا أننا هنا بصدد التعرض لنقاط تاريخية فى غاية الأهمية منها هذه الخطبة التى بين أيدينا :
"أيها الناس، أين المَفَرُّ؟ البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم وليس لكم واللَّهِ إلا الصدقُ والصَبْرُ. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أَضْيَعُ من الأيتام في مَأْدُبَةِ اللِّئام، وقد اسْتَقْبَلَكم عدوّكم بِجَيْشِهِ وأَسْلِحَتِهِ، وأَقْواتُه موفورةٌ ، وأنتم لا وَزَرَ لكم إلا سيوفُكم ولا أقواتَ إلا ما تَسْتَخْلِصُونَه من أيدِي عدوِّكم، وإِن امْتَدِّتْ بكم الأيامُ على افتقارِكم ولم تُنْجِزوا لكم أمراً ذهبتْ رِيحُكم، وتَعَوّضَتِ القلوبُ من رُعْبِها منكم الجَرَاءَةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خُذْلانَ هذه العاقبة من أمركم بِمُنَاجَزَةِ هذا الطاغية ... الخ".
أكثرنا حين يمر عليه إسم طارق بن زياد يرى هذا الفارس البربرى الأسمر ذو الشعر الأسود والبشرة الإفريقية الداكنة . وإن كان الشكل حقيقة لا يهم ولا يضيف إلى أو يطرح من إنجازه العسكرى المذهل لكن طارق ذو الشعر الأشقر والملامح النصف أوربية أحاطت به كثير من الصور الخاطئة التى رسمها المستشرقون ولم يتقصاها باحثو العرب .
إن كل الحقائق التى بين ايدينا تشير إلى كثير من الشك فى صحة إنتساب هذه الخطبة لطارق نفسه ، وذلك لعدة أسباب :
منها أن طارق بن زياد كان بربريا مولى لموسى بن نصير كما ذكرنا ومن شأنه أن يكون حديث عهد بالعربية ومن المعقول ألا يستطيع الخطابة أو الشعر بلغة هو حديث العهد بها. إن عام 89هـ هو بداية إرتباط طارق بموسى وربما بالإسلام والعربية أيضا فإذا كان فتح الأندلس سنة 92هـ فإن عمر طارق فى الإسلام وإتصاله بالعربية يكون فترة وجيزة يستبعد معها أن يجيد طارق لغة العرب إجادة تسمح له بنظم الشعر أو الخطابة .
الأكيد أن المصارد الأولى التى سجلت حوادث وتفاصيل الفتح قد خلت تماما من أى حديث عن واقعة السفن أو ذكر هذه الخطبة ولم يرد هذا الأدب المنسوب إلى طارق إلا فى بعض المصادر المتأخرة كثيرا عن الفتح مثل نفح الطيب للمقرى الذى أورد الخطبة دون أن يخبرنا عن مصدرها .
لكن الباحثون لهم حديث آخر ، فالأسلوب الذى جاءت عليه خطبة طارق لم يكن معروفا فى النثر العربى خلال الفترة التى يشاع إنتسابها لها . فالسجع الكثير والمحسنات المتكلفة قد عاشت فى عصر متأخر كثيرا عن القرن الأول . والمعروف أن الخطابة فى تلك الفترة كانت كنماذج الحجاج وقطرى بن الفجاءة وغيرهم ممن عرفهم العصر الأموى ، أما خصائص خطبتنا هذه فترجع غالبا إلى أواخر العصر العباسى بل وربما إلى العصر المملوكى .
ونقطة جديرة بالملاحظة ، جاء فى نص الخطبة قول طارق لجنده :"وقد اختاركم أمير المؤمنين من الأبطال عربانا" ومن هذا يستبعد تماما أن ينتسب هذا الكلام لطارق الذى كان أغلب جنوده من البربر ولا يقول هذا الكلام إلا غير عالم بحقيقة جيش طارق .
إن خطبة طارق لهى فى أسلوبها أقرب إلى فكر أديب وليس قائد عسكرى ، وما جاء فيها من أطماع المسلمين فى ثروات هذه الأرض تنفى نسبتها إلى مجاهد نقى العقيدة حين تقول :
وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان راافلات فى الدر والمرجان والحلل المنسوجة بالعقيان المقصورات فى قصور الملوك ذوى التيجان ..."
تنفى تماما نسبتها إلى مسلم يفهم الإسلام حق فهمه ، فلم تشهد عقيدة المسلم - المتمثلة فى الشعر أو الخطابة والأدب بشكل عام - عبر كل تاريخه طمعا فى ثروة أو ملك بل هى فى أغلبها حث على الشهادة وعاقبة النصر لهذا الدين وهم أحفاد ربعىّ بن عامر .
حقيقة قد يكون طارق خطب جنوده محمسا مشجعا لكن من المعقول أن يكون ذلك بلغته البربرية التى كان يجيدها جنوده حتى وإن أتقن هو العربية تماما . ولا يعيبه ألا تنتسب خطبته الشهيرة له فحسبنا منه هذا البطل الفاتح الذى خلدت صفحات التاريخ ذكره ونال فى الإسلام مكانة الفاتحين الأبطال .
نأتى إلى قصة إحراق السفن وهى بدورها غير صحيحة تماما . فلم نعرف عن جيش مسلم ألقى بنفسه فى أحضان العدو دون تأمين سبل نجاته فلم يكن المسلمين بهذه السذاجة العسكرية ، فالحرب كرّ وفرّ ولن يحفز من عزيمة المسلم المقاتل إن علم أن لا سبيل له سوى النصر أو الموت . فقد كانت عقيدة المسلم المجاهد منذ بدر الكبرى هى النصر أو الشهادة .
إذا لن يقدم طارق على حرق السفن التى تمثل سبيل النجاة الوحيد فى حالة الهزيمة فإن لم يكتب لهم النصر هذا العام ففى الذى يليه بل هكذا كانت فتوحات المسلمين لا تعرف العجلة ويحكمها التريث والحكمة .
إذا من نسب هذه الحادثة لطارق ؟
المستشرقون الغربيون لا يزالون يعجزون عن إدراك حقيقة هذه النفوس البشرية التى لا يحكمها العدد والعتاد فى كل لقاء عسكرىّ ، هم مرة فى اليرموك يسحقون جيشا يبلغ أكثر من خمسة اضعافهم ناهيك عن فارق العتاد بين الجندى الرومانى أو الفارسى ونظيره المجاهد البسيط ابن الصحراء الذى لم يعرف أكاديمية عسكرية ولا تاريخ له فى الحروب النظامية .
إذا كيف يسحق 7 آلاف مسلم جيش الإسبان ثم 12 ألف أمام 100 الف إسبانى وتكون الغلبة لهؤلاء القلة الصغيرة .
كان لهم أن ينسبوا لطارق فعلة كهذه سواء عمدا أو دون قصد ، لكن الشاهد أنه تم إحتراق عدد من سفن المسلمين لكن الأكيد أن الأمر كان حادثة أو عملا تخريبيا متعمدا . ونقطة أخرى جديرة بالذكر هى أن المسلمين قبيل الفتح استعانوا باسطول صغير من حاكم مدينة سبتة وهو إسبانى لكن لوذريق سلب أسرته ثروتها وضياعها فى إسبانيا فكان حاقدا عليه وأعان المسلمين بسفنه والتى من المتوقع أن يستردها بعد الفتح بدلا من أن يقوم طارق بإحراقها .
وقصة حرق السفن هذه لم ترد إلا فى نزهة المشتاق للإدريسى وهو من مؤلفى القرن الخامس الهجرى .
بل إن الشائع أن هذا الفعل هو أوربى النزعة بل وبالتحديد إسبانى . فعندما أشرف هرناندو كروتيس على شاطىء المكسيك غازيا سنة 1519 أمر بإحراق سفنه التى قدم عليها من إسبانيا .
إن تاريخنا الإسلامىّ وأدبنا العربى له رحيق مميز ولا يزال الحاقدون والمغرضون يدسون لنا السم فى العسل لكن كان علينا أن نتقصى هذا الناريخ وهذا الأدب فهو ميراث حضارة عريقة مضت وأخرى ستشرق فى موكب صبح جديد .
رحم الله طارق بن زياد ورزقنا الله تعالي بعدد من الطوارق التي تبعث الروح والنشور في نفوسنا .
تحياتي وتقديري لأخي قوس المطر وجزاكم الله خيرا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رحم الله طارق بن زياد ورزقنا الله تعالي بعدد من الطوارق التي تبعث الروح والنشور في نفوسنا .
تحياتي وتقديري لأخي قوس المطر وجزاكم الله خيرا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية لك من القلب أيها الحبيب وأسال الله ما سألت فكم نحن فى حاجة إلى أمثال هؤلاء ..
البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم
النمط الخطي
