العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية على المريخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في بحث العقد النفسية ورعب الحياة الواقعية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: خوارزمية القرآن وخوارزمية النبوة يكشفان كذب القرآنيين (آيتان من القرآن وحديث للنبي ص (آخر رد :محمد محمد البقاش)       :: نظرات في مقال السؤال الملغوم .. أشهر المغالطات المنطقيّة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال البشر والحضارة ... كيف وصلنا إلى هنا؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال التسونامي والبراكين والزلازل أسلحة الطبيعة المدمرة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال الساعة ونهاية العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)       :: نظرات في مقال معلومات قد لا تعرفها عن الموت (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 24-08-2007, 09:37 AM   #1
الفارس
عضو شرف
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2005
الإقامة: مصـر
المشاركات: 6,964
Post " مقاماتُ أبي الطَّيِّب "

(1)
" المقامةُ العَزْمِيَّةُ "

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق

حدَّثنا أبو الطيِّبِ الوائليُّ ، قال : اعتراني في سحرٍ من الأسحارِ ، ما ألزمني بالاضطرارِ ، أن أسيرَ هائمَ الوِجَهَةِ في الدروب ، عائمَاً في همٍّ الكروب ، لا ألوي على أحدٍ من الخِلان ، و لا أطوي السيرَ لمنادمة الأخدان ، إذْ سربَ مني كلُّ معلومٍ ، و عَزَبَ عنِّي كلُّ مفهومٍ ، و ما أقبحَ الهمَّ بالفتى ، و ما أشْيَنَ الكرْبَ مُقْتنى ، حيثُ فتَرَ بي عن الكمال العزْمُ ، و ضعُفَ مني نحو المراقيَ الجَزْمُ (1)، و ما كان ذاك يوماً من خُلُقي ، و لا معلوماً في خَلْقي .

فبينا أنا في الطرقِ المسلوكة ، بين المباني المسبوكة ، انتهى بي المطافُ ، و حطَّني التطوافُ ، في مجمعٍ كبيرٍ ، و محفلٍ وفير ، تعتلي رؤوسَ جالسيه العمائمُ البيض ، يتبادلون نثْرَ القريض ، و يتصدَّرُ مجلَسَهم عظيم المقام ، بليغُ الكلام ، يأخذُ قلبَك بلفظه ، و يُحدِّقُ فيكَ بِلَحْظِه ، يُحْسِنُ سَبْكَ العبارات ، و يُتقِنُ حبْكَ الأحرفِ المرصوفات ، فجلستُ حيثُ انتهيتُ ، و أدركتُ من كلامه ما وَعَيْتُ ، و إذا بِه مُسْهِبٌ في إيضاحِ الأشعار ، مُبِيْنٌ دقائقها بالآثار ، فأدهشني و سحرَني ، و أعجبني و بَهَرَني ، فأصغيتُ بالقلبِ و الأذنُ في شُغُلٍ ، و أنْصَتُّ بالفؤادِ و العينُ في وَجَلٍ ، خوفَ الفِطنَةِ لما حلَّ بي ، و رهبَةَ المجلسِ الأدبي ، فكان مما قالَ المُقدَّمُ ، و ما فاهَ بِه المُفَخَّمُ :

إن العزمَ بضاعةُ أهل الكمالِ ، و صنعةُ أفذاذِ الرجالِ ، يَعزمون أمورهم بقوةِ اليقين ، و يَحزمون أنفسَهم بجودة التمكين ، فيسيرون في نيل المآربِ سَيْرةَ الواثقِ ، و ينشُدُونَ المطالبَ بالحقائقِ ، لا يعتري سبيلَ السائرِ منهم صغيرٌ حقيرٌ ، و لا يحجبهم عنْ مرادٍ تنفيرٌ و تثبيرٌ ، فبقدرِ ما هُم فيه مِن الهمِّ و الهمةِ ، أدركوا كلَّ حاجةٍ و مهمة ، و درأوا عن أنفسهم الملماتِ ، و أزاحوا موجباتِ الملامات ، و النهوض بالعزائمِ في النفوسِ ، و الارتقاءُ بها من مواطنِ البُوْس (2) ، حالُ راغبي الكمال ، و طالبي الاتصال ، و أمرُ ذلك سهلٌ هيِّنٌ ، و يسيرٌ ليِّنٌ ، و إنما العيبُ في نظرِ أعينِ الناسِ إليه ، و عدمِ الإقبالِ عليه ، و الصادقُ الساعي ، و النابِه الواعي ، يُدركُ من نفسِه أسراراً ، و يكشفُ أمرها سراً وجهاراً .

ثم أدرِكوا بقلوبٍ واعية ، و آذنٍ مُصْغِيَة ، إلى ما أشارَ إليه الحكيم ، و ما أومأ إليه ذو الخطبِ الجسيم ، إذْ مدارُ الأمور صِغراً و كِبَراً ، على ما بدا للنفسِ مُظْهرا ، فَمن استكْبَرَ الحقيرَ استكان لهوانٍ ، و من استحقرَ الكبيرَ علا لَهُ الشان (3) ، فكم من كبيرِ همةٍ و عزيمةٍ ، أودَتْهُ مخاوفُه السقيمة ، حيثُ لا يرتضي من المنازل ، و لا يَرْغََبُ من المحافلِ ، و لو أدرك في فقاهةِ عقلِهِ ، و درى بكياسةِ نُبْلِهِ ، أنَّ الأمورَ ليست كما هي في الظاهرِ ، و أنَّ اعتبارَها بما في المخابرِ ، لَحظيَ بالمضمون الطيِّب ، و شمخَ له العلَمُ اللهيِّب ، و لكنَّهُ استعظمَ في باطنه المُحَقَّرات ، و ادعى لها شأنَ المُعظَّمات ، و اللائقُ بأهلِ السعاية الكاملة ، و ذوي الرعايةِ الشاملةِ ، استسهال كلِّ صعبٍ شديد ، لِدَرْكِ المُنَى المجيد ، و لقد سرتْ النَّقلةُ لأشعارِ العربِ ، و أبلغتنا الرواةُ من أهل الأدبِ ، قولَ الأولِ القديم ، في شعرِهِ الحكيم :

لأسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أوْ أبْلُغَ المُنى *** فَما انقادَت الآمالُ إلا لصابرِ

و يا تُرى كمْ راءٍ الجميعُ في أحوال الناس ، و دارٍ الكلُّ في مختلَفِ الأجناسِ ، مِن أقوامٍ لا يُؤْبَهُ بِهم في مظاهرهم ، و إنهم الأكملون في مخابرهم ، قد أدركوا ما عجزَ عنه الغَيْرُ ، و نالوا ما تغَنَّتْ به الطيرُ ، فليس الشأنِ بالأشكالِ و الألوان ، و إنما باليقين و صمودِ الجَنانِ ، و صِدقِ الرغبةِ في المطالبِ ، و اغتنامِ فُرَصِ المآرِبِ .

و مُحصَّلُ ما نثرْناهُ ، و خلاصةُ ما رُمناه ، أنَّ يعلمَ السائرُ في دربِ الكمالات ، و السالكُ طرائقَ الولايات ، أن استعظامَه الأمورَ حجابٌ منيع ، و خُلُقٌ وَضِيْع ، و أنَّ الضِّدَ أكملُ ، و العكْسَ أجملُ ، فيستصغِرَ ما يَريدُ ، ليبلَغَه و يُجيدَ .

فالصبرُ وًَصْفُ الرجالِ ، و نعتُ أهل الكمالِ ، فالزموا غَرْزَهُ ، و افقهوا رَمزَه ، و إياكم و الضجرُ ، و السيرورةُ من الهمِّ في السَّحرِ .

و عليكم بجادةِ العزمِ المُسَدَّد ، فإنه النهجُّ المُمَجَّد ، و الآفةُ في الاضطرابِ ، و العيبُ في الانقلاب ، و انشد الأوائلُ ، الأكارمُ الأفاضلُ :

إذا كُنتَ ذا رأي فَكُنْ ذا عزيمةٍ *** فإنَّ فسادَ الرأي أن تتردَّداَ
و إنْ رابَ ذا العزمِ خَوَرٌ ، و اعتراهُ فَتَرٌ ، فلينظُرْ إلى ذاتِهِ ، و ما كمُلَ مِن صِفاته ، فإنَّ المرءَ بالصفاتِ الكماليةِ تمامُه ، و بالنعوتِ الجماليةِ التئامُه ، و ما الأمورُ إلا عوارضُ ، العزائم و الهممُ لهنَّ نواقضُ ، فإياكَ أيها الحاضرُ النبيهُ ، أن تُرْعيَ سمعكَ لهالكٍ سفيه ، فيأخذَك نحوَ مراتعِ الدُّناةِ ، فتنأ عنك الكُمَّلُ الأباةُ ، و اسلُك مراداتِك بقوةٍ اليقين ، بنعتِ القوي الأمين .

و ليعْلَم العازمُ ، ذو الهمة الحازم ، أنه ليس من عزيمته ، التقصيرُ في مِشْيَتِه ، فذو العزيمةِ آخذٌ أمورَه بالكمالِ ، و آتياً به بها دون إخلالٍ ، و التقصيرُ ضعفٌ و عجزٌ ، و همْزٌ و لَمْزٌ ، و لقد أنشدَ الحكيم قائلاً :

لَيْسَ عزْماً ما مرَّضَ المرْءُ فيهِ *** ليس همَّاً ما عاقَ عنه الظلامُ
فلْيَسْع كلٌّ في حاجته على إتمامها ، و إكمالِ تمامها ، أدام ربي عليكم نِعَمَه ، و وقاكم شرَّ نِقَمَه .

فَنحاهُ (4) امرؤٌ بالسؤالِ ، مفتتحاً بُحسنِ الاستهلالِ ، سيدي الأمجد ، و مولاي الأحمد ، آنستنا بحديثكم الممتع ، و أطربتنا بقولكم المقنِع ، و إني قاصدٌ جنابَكم بسؤالٍ ، خالجني منه إشكالٌ ، فإنَّ العزْمَ في الأمورِ مقام العِلْيَة ، و هو خير حليَة ، فأبِنْ أبا الفَهْمِ ، عن محالِّ العزمِ .

فرأيتُ نواجِذَ الأستاذِ بادية ، و عَلَتْهُ بسمةٌ صافية ، فأطرَبَه السؤالُ المورود ، و أعجبَه السائلُ المحمود ، فأطرَقَ الرأسَ في حالِ طَرَبٍ ، و حدَّقَ العينَ بِحُسْنِ أدبٍ ، فقال للسائل الفتي ، أيها الذكي الألمعي ، إن لسؤالِكَ شأناً ، و جوابَه أبَنَّا ، فإليكَهُ مُقرَّراً ، و دوْنَكَهُ مُحرَّراً ، فأصْغِ إليَّ بالسَّمْعِ ، منحك الله تمامَ النفْعِ ، إنَّ للعزمِ محلَّيْن اثنين ، ظاهرين بِلا مَيْن ، أولُهما : قَبلَ البَدْءِ بالأمورِ ، يُظهرُ الصادقَ من المغرور ، تدفعهُ الهمةُ دفعاً ، و ترفعهُ المقاصِدُ رَفعاً ، و ثانيهما : في البقاءِ و الدوام ، حتى الإنجازِ و الإتمامِ ، و هذا مُعتَرَكُ أهل الكمال ، و موطنُ مخابَرَةِ الرجال ، فإنَّ الأمرَ كما قيلَ :

لِكُلٍّ إلى شأوِ العُلاَ وَثَبَاتُ *** و لكِنْ قليلٌ في الرِّجالِ ثباتُ
ثُمَّ ختمَ الأستاذُ ، و كلامه الأخاذُ ، ذاك المجلسَ البديع ، و المجمَعَ المنيع ، بالحمد للهِ ، و الشكرِ على ما أولاه ، و الصلواتِ الطيبات ، على أكمل القُدوات ، وَ وعدَ بلقاءٍ قريبٍ ، معَ شِعرٍ رَطيبٍ ، و استودعنا الرحمن ، و استأمننا بالأمان .

انتهى كلامُ الخبير ، و أبلغَ في النعتِ و التصويرِ ، و لقد أجادَ و أفادَ ، و أحسنَ الإرشاد ، و آليتُ على النَّفسِ أن أكون مُلازماً مجلِسَه ، و أن أرعى حُرْمَتَه و أوْنِسَه ، فقلد أزال عني كُرْبَةً مُسْتَعْصِيَة ، و أزاحَ ظلمةً مُستَولِيَة ، فلما همَّ بالخروج ، قاصداً بابَ الولوج ، يمَّمْتُ وجهي إليه ، و امتثلتُ بين يديه ، فسلمتُ عليه سلامَ الأكابر ، فردَّ بأجملِ العبائرِ ، فقلتُ : أحسن ربي مقام الأديب ، و رفع مكانةَ الخطيب ، سرَّني كلامكَ المنوَّرُ ، و لفظك المُحبَّرُ ، و إني سائلٌ مقام أهل الشرفِ ، مستمنحاً أسنى التُّحَفِ ، عن الحكيم الذي أبنتَ عن قريضه ، و اكتفيتَ عن التصريحِ بتعريضهِ ، هل إلى كشفِ اسمه من سبيل ، و إلى نعتِ رسمه من دليلٍ ، فإنني واثقُ الخطى نحوه ديوانه ، فمضمون الكتاب يبينُ من عنوانه .

فأجاب بكلِ لطفٍ ، بصوتٍِ مُطرِبٍ كالدُّفِّ ، ذاك أحمدُ بن الحسين ، المشهورِ في كلِّ أذنٍ و عين ، أعني به المتنبي الكندي ، أجلَّ الشعراءِ عندي ، و بيتُه في مدحِ سيفِ الدولة ، ذي الصولة و الجولة :

على قدرِ أهل العزمِ تأتي العزائمُ *** و تأتي على قدر الكرامِ المكارِمُ

و تعظُمُ في عين الصغيرِ صغارها *** و تصْغُرُ في عين العظيم العظائمُ

فاستودعته الله ، و أوكلته لمولاه ، و رجعتُ حيثُ أتيتُ ، و أثبَتُّ فيما قرأتم ما وعيتُ ، و دمتم في الرعايةِ ، و أمنتم بالعناية .

حبرها
عبد الله بن سليمان العُتَيِّق
17/7/1428هـ


-----------------------------------------
(1) الجزْمُ : القطعُ ، و المعنى : ضَعُفَ مني القطْعُ في المسيرِ و العزيمةِ .
(2) مخفَّفَةٌ مِن : البُؤْس .
(3) مخفَّفَةٌ من : الشأن .
(4) نَحاهُ ، أي : قَصَدَهُ


__________________
فارس وحيد جوه الدروع الحديد
رفرف عليه عصفور وقال له نشيد

منين .. منين.. و لفين لفين يا جدع
قال من بعيد و لسه رايح بعيد
عجبي !!
جاهين
الفارس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 24-08-2007, 09:40 AM   #2
الفارس
عضو شرف
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2005
الإقامة: مصـر
المشاركات: 6,964
إفتراضي

(2)
" المقامةُ التماميَّةُ "
عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق

حدَّثنا أبو الطَّيِّبِ الوائليُّ ، قال : ركبتُ راحلتي مع الصباح ، مُستفتحاً أبوابَ الفلاح ، متوجِّهاً نحوَ بَغداد ، أرض الجمهرةِ الأسياد ، فانتهى بي المسيرُ ، إلى حائطٍ صغيرٍ ، له ظلٌّ لا يُظِل ، و قاصِدُه يَضِلُّ ، فأنختُ ناقتي ، و توسدْتُ عمامتي ، فزارني نومٌ خفيف ، ذو شأنٍ ظريف ، فنعمتُ به بعد التعبِ ، و أنستُ دُبُرَ العَطَبِ ، و بينا أنا بين إغفاءة و أختها ، و فتحِ عينٍ و غمضتها ، سمعتُ من هتفَ بالسلام ، فشردَ عني لذيذُ المنام ، قائلاً : السلام عليك أيها الغريب ، سلامُ محبٍّ لحبيب ، فرددتُ السلام بأكملَ من سلامه ، و بكلام أطيب من كلامه ، فقال : أراك لا دار و لا أهل ، و إنك لمن أهل الفضل ، فمن أنتَ ؟ ، و من أين أقبلتَ ؟ ، فقلتُ : رحالةٌ بين الديار ، فلا يقرُّ لي قرار ، أنالُ مِن الناسِ حُبَّاً و بُغْضاً ، فلا غيرَ الشمسِ أرْضاً أرضى (1).

فقال : ثِبْ واثباً ، لتغدوَ طالباً ، حيثُ تُطرحُ العلوم ، و تتلاقح الفُهوم ، فسرتُ معه على تخَوُّفٍ ، و نفسي لما يذكرَ في تشَوُّفٍ ، فإذا بِهُ مُقْبِلٌ على دارِ الخلافةِ ، و منزلِ الأنافة ، فرابني الرُّعبُ ، و عظُمَ عليَّ الخَطْبُ ، فدخلَ دخولَ الأكابر ، و جلسَ جِلْسَةَ أهل المفاخر ، و كنتُ في كلِّ الحالِ بِهِ لصيقاً ، نائلاً بصحبته مقاماً عريقاً ، فإذا في المجلسِ أديبٌ كبير ، يُقرِّرُ المعارِفَ أجلَّ تقرير ، فما أخطأت الناسُ قَصْدَه ، و لا حُرِموا ما عِنده ، إذ كان ينسابُ منه العلمُ انيساباً ، فيُسيْلُ من العاشقِ لُعاباً ، و كنتُ في حسنِ الحظِّ ، عندَ بَدئِهِ بأولِ اللفظِ ، فلم تُغادرني منه فائدة ، و لم تنفكَّ عني شاردة .

فبدأ المجلسَ بالحمدلةِ ، و الصلاةِ و الحَسْبَلَةِ ، ثُمَّ أتبَعَ كلامَه ، و حرَّرَ نِظامه ، بجملٍ غرائبَ ، و كَلِمٍ كالترائبِ ، على ما أُنشدَ من القريضِ المأثورِ ، و الشعرِ الرفيع المشهورِ ، لأبي الطيِّب المتنبي ، ذي النسبِ المُنْبِي :

و لَمْ أرَ في عُيوبِ الناسِ عَيْباً *** كنقْصِ القادرين على التمامِ
فأوضَحَ ما فيه من الوجوهِ ، و نفى عنه المعنى المشبوه ، فقال في ضمن قيلِهِ ، لا ذاقَ خليلٌ فَقْدَ خليلِه :
أيها الذين قد حضروا ، و مجلسَنا قد نوَّروا ، قد خاضَ الناسُ في معنى هذا القصيد ، و جنحوا عن مواردِ التسديد ، فراموا بُعْداً و إقصاءَ ، و حُرموا مدحاً و ثناءَ ، فما كانَ لأبي الطيبِ أن يرومَ القدحَ ، و لا أن يحجبَ المدحَ ، و إنما كلامُه حمَّالُ أوجهٍ و معاني ، و إن التقت بالحَذْو المباني ، فالمعنى في بطن الشاعرِ مدفونٌ ، و محرومهُ مغبونٌ ، فإذا درَيْتم ذلك ، و علمتم ما هنالك ، فإنَّ لهذا البيتِ مراداً نفيساً ، و قصداً أنيساً .

فأُسُّ المعاني ، المُستقاةُ من رصفِ المباني ، ما أفصح عنه البَرْقُوْقِي ، في شرْحِهِ المَرْموقِ، أنَّه ذمٌّ لكثرةٍ قبيحة ، ذات عارٍ و فضيحة ، لمْ تَرُمِ التمامَ و قد بان ، و من السهولة عندهم بمكانٍ ، فلم يَقُمْ بِهمْ عزمُ الأكابرِ ، و اعترتهم الأمورُ الصغائر ، فرَضوا بالحضيض ، و أقاموا للشيطانِ حجة التحريض ، و كان الأقومُ بهم حالاً ، و الأصدق فيهم مقالا ، أن يُهْرعوا للسباقِ ، و يُعجِّلوا بالصَّداق ، فالتمامُ مناخُ الرجال ، و مرتعُ الأبطال ، و من لم يَرُمْه صادقاً ، و في مشيه واثقاً ، فهو المذمومُ في المجالس ، المحرومُ من النفائسِ :

وَ مَنْ يَجِد الطَّرِيْقَ إلى المعالي *** فلا يَذَرُ المَطِيَّ بِلا سَنامِ
و لا أقبَح في الخِصال ، و لا أذَمَّ في الخِلالِ ، من ذاتٍ سَنِيَّةٍ ، ذاتِ (2) صفاتٍ عَلِيَّةٍ ، اعتراها العجزُ عن الوصولِ ، حيث المأمولُ ، و لقد أنشدَ كعبُ بن زُهَير ، في " بُرْدَةِ " الخيرِ (3) :
و مِن العجائبِ و العجائبُ جمةٌ *** قُرْبُ المُحِبِّ و ما إليه وصولُ
ألا تباً لذي قُدرةٍ لم تنهضْ بِهِ همته ، و كُرْها لهمَّامٍ خَارَتْ عزيمته ، ينامُ مِلْءَ الجفنِ عن شرفه ، و يرضى بالحقيرِ من تَرَفِه .

و لأبي الطيِّبِ تفرُّسٌ ، و في أحول الناسِ تمرُّسٌ ، فهو الخابرُ حالَهم ، و العارفُ فَعالَهم ، فكأنَّه أضمَرَ في بطن المبنى ، ما إياهُ الكبيرُ يُعنى ، فوصفَ حال الكُمَّلِ السُّعاةِ ، و النُّخْبَةِ البُناة ، الطامحين نحو المعالي ، و القاطنين ذُرى العوالي ، فإن صاحبَ التشمير في السعاية ، يُلاحظُ النقْصَ في حُسْنِ الرعاية ، فَتدفعه الهِممُ العالية ، نحو المقامات السامية ، فيسعى إليها جاهداً ، و على قدرِ مسيره يزدادُ بذلُه ، و بقدرِ عزمه يكون نَقْلُه ، فهذا الهمامُ الشريف ، و الطموح المنيف ، يُدركُ أن التمامَ ليس له حدُّ ، فتهفو إليه نفسُه و عزمهُ الجِدُّ ، و لن يَقِفَ إلا على عتبةِ الآخرة ، و المفاخرُ لديه وافرة ، فليس للكمالِ في عينه نهاية يقف عندها ، و ليس للتمامِ غايةٌ يَجدها ، فلا يزال في تطلابِه و بحثه ، يئِنُّ بآهاتِه و بَثِّه :

فَعَلِمْنا أن ليسَ إلا بِشِقِّ النَّفْـ *** ـسِ صار الكريمُ يُدعى كريماً
طلبُ المجدِ يُورِثُ النَّفْسَ خَبْلا *** و هموماً تُقَضْقِضُ الحَيْزوما (4)
و مما أبطنَه الكِنديُّ في بَيْتِهِ ، و أبانَ بِوسمِهِ و نَعْتِهِ ، أنَّ ذاك التمامَ المقصود ، و العيبَ المورود ، بِحَسْبِ أحوالِ الناس ، و اختلافهم في إتلافِ الأنفاس ، و تنوُّعِ المقاصِد ، و تبايُنِ المواردِ ، فليسَ كلاً موفقاً لكلٍّ ، و ما أحدٌّ للجميعِ بأهْلٍ ، فللمرءِ طاقةٌ معلومة ، محالُّها لديه مرسومة ، فالمذموم مَن قَدِرَ فأحجمَ ، و قويَ فلمْ يُقْدِم ، حجَبَهُ فَرَقُ الطريق ، و فُقدانُ السعةِ و نيلُ الضيق ، و ما الأمجادُ إلا بِعاد ، و ما المعالي إلا بإجهاد :
ذَرِيْني أَنَلْ ما لا يُنالُ مِن العُلى
فَصَعْبُ العُلى في الصَّعْبِ و السَّهْلُ في السَّهْلِ
تُرِيْدِيْنَ لُقْيان المعالي رَخِيْصَةً
و لا بُدَّ دوْنَ الشَّهْدِ مِن إبَرِ النَّحْلِ
فهذا ما فاهَ به أهل الشَّرْحِ ، و أبانوه بغايةِ النُّصْحِ ، فبيتُ أبي الطيب أنْزَه ، و هو حمَّالُ معانٍ و أوْجُهْ ، و بذا تمَّ المقام ، و استحلى لنا المُقام ، و الموعدُ اللاحقُ جامعٌ ، و المَوْرِدُ الآتي نافعٌ ، دامَ الكلُّ بالرعاية ، و بقيَ الجميعُ بالعناية .
فألقى السلام علينا مُعادا ، و قفَلَ ذاهباً متبوعاً جموعاً و آحادا ، فأقبلتُ عليه كما الناسُ ، و تعطرَتْ به مني الأنفاسُ ، و أبديتُ التحيَّةَ المُعظَّمة ، و المصافحةَ المُفَخَّمة ، و أثنيتُ على ما جادتْ به قريحته ، و ما أبانت عنه فصاحته ، فشكرَ و ابتسم ، و الجلالَ التَزَمْ .
فقلتُ لصاحبي : سرَّ الله يومَك ، و رئستَ أهلك و قومَك ، لَقْد كان الأديبُ زهرةً فوَّاحة ، و لأهلِ بغداد مَفْخرَةً صدَّاحة ، جلَّى عن القلبِ الدرر ، و أبرزَ الأسرارَ الغُرَر ، فجزاكَ عني اللهُ كلَّ نائلة ، و أسبلَ عليك السحابَ وابلة ، و هل لي بمثلِكَ أيها الأجلُّ ، و الخليلُ الأظَلُّ ، جمعَ الله أيامنا سواء ، و أبقانا في هناء ، فقبلتُ على رأسه و يَدِه ، لشرفِهِ و كريم مَحْتَدِهِ .
فانقفلتُ راجعاً نحوَ بَيْتي ، عَريني مُقَيِّظٌ مُشَتِّي (5) ، متلذذاً باللفظِ البليغ ، متذوقاً المعنى النبيغ ، فغفوتُ إغفاءةَ الطَرِبِ ، و نمتُ نومةَ الذَّئِب ، و أستودع الله أيامكم ، و أستغفره آثامكم ، و مُنِحْتُمُ المسرةَ دِيْمة ، و غدوتم بِلا قِيْمة (6).

حبرها
عبدُ اللهِ بنُ سليمان العُتَيِّق
21/7/1428هـ
-----------------------------------------
الهوامش :
(1) مُقْتَبَسٌ من بيتٍ .
(2) الذاتُ الأولى بمعنى النفس ، و الثانية بمعنى الصاحبة .
(3) هي قصيدته المشهورة بـ : " بانت سعاد " ، و وُسِمت بـ " البردة " لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم أهداه بُرْدَتَه لما أنشده إياها .
(4) الخَبلُ : الفساد ، و القضقضة : كسر العظام ، و الحيزوم : الصَّدْرُ .
(5) مُقْتَبَسٌ مِن قول الشاعرِ :
مَنْ يَكُ ذا بَتٍّ فهذا بَتِّيْ *** مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّيْ
(6) يُرادُ بذلك أنَّ المقصودَ لا يُقَدَّرُ بقيمة ، لغلائه في النفوس ، و ليسَ أنه لا يُساوي قيمةً .

__________________
فارس وحيد جوه الدروع الحديد
رفرف عليه عصفور وقال له نشيد

منين .. منين.. و لفين لفين يا جدع
قال من بعيد و لسه رايح بعيد
عجبي !!
جاهين
الفارس غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .