العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة في مقال ثلث البشر سيعيشون قريبا في عالم البعد الخامس (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نقد مقال بوابات الجحيم التي فتحت فوق سيبيريا عام 1908 لغز الانفجار الكبير (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الغرق فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال أمطار غريبة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى بحث النسبية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: حديث عن المخدرات الرقمية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال الكايميرا اثنين في واحد (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى كتاب علو الله على خلقه (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في كتاب رؤية الله تعالى يوم القيامة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مقال فسيولوجية السمو الروحي (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 11-09-2007, 04:09 PM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي التشـــــــرنق


التشرنق

(1)



ما كان ينقص الرسام لو تأمل شكل (مخلف) وهو يسند ظهره الى الهواء فوق تل العتيقة، إلا الحائط الذي استعاض عنه بأن يتشبث بقصبتي ساقيه من الأمام. كان مخلف يتأمل الفضاء الرحب الذي أمامه ويتخيل كم مشى في تلك الحقول الواسعة في كل مراحلها، وهي جرداء أو محروثة أو معشوشبة أو مزهوة بسنابل القمح .. لم يزعجه تفحص المارة لعقاله الأسود الذي لاحت منه بعض خيوط قطن فاتحة من أثر قدم العقال .. ولم يزعجه لو أن أحدهم اكتشف أطراف ردن سترته أو قميصه الذي تنسلت منها الخيوط معلنة عن ضجرها من طول مدة اصطفافها بشكل نسيج محبوك .. فليس هناك انضباط في أي جماعة يدوم كما دامت تلك الأنسجة التي مر عليها عشرات السنين ومخلف يرتديها..

كان مخلف يتساءل: لماذا كل هذا التعقيد عند البشر؟ فإن أرادوا أن يخرجوا فضلاتهم من بطونهم، يخصصون عشرات الاختراعات ، هذا حمام وهذه حنفية وهذه مقعدة وهذه منشفة، وهل نبني الحمام بجانب غرفة النوم أو بعيدا عنها، وهل نجعل باب الحمام الى الشرق أم الغرب أم نستعين بفتحة في جدران الحمام لتتخلص مما يتكدس من أمونيا مع غازات مزعجة..

وإذا أرادوا أن يناموا يحتارون في اختيار نوعية الفرشة، هل نجعلها من قطن أو صوف أو إسفنج، وهل نرفع مستوى السرير أم نبقي الفراش ملتصقا على الأرض؟ عشرات الأسئلة دارت في رأس العجوز الذي قطع عمره الثمانين، وهو يتأمل عمليات الهدم في بيوت القرية أثناء شق الطريق الأول فيها، بعد أن قرر موظفو الأشغال وجوب تنفيذه ..

ماذا يعني التقدم والرقي حسب رؤية مخلف؟ إنه لم يعن شيئا، وتصور نفسه ضبعا أو ابن آوى، وهو إن قبل بأن يكون ضبعا فإنه سيرفض التطور والرقي، لأن فرصه بالحياة ستقل عندها، حيث ستتضاءل الأمكنة التي سيختفي بها ليلا، وستنعدم فرص قنصه لحيوان أو إنسان في العتمة ..

كان الضجيج الصادر عن حركة الرجال الذين يتقدمهم رئيس عمال يمهدون الطريق بعد أن تطوع أهل القرية في مساعدة من يشق الطريق دون أن يأخذوا أجورا على عملهم .. لم يكونوا متسامحين ومتفانين في خدمة التطور لشق الطريق، ولم يكونوا ماكرين، بل كانوا بين ذلك وذاك، فقد كانوا يهدمون بيوتهم بأيديهم. وعملهم هذا يمثل عمل إنزال الأنثى في قبرها على أيدي أقرب الناس لها ومن كان يحرم عليها كابنها أو أخيها أو أبيها .. وكذلك فإن هدم البيت على أيدي أصحابه، يحتاج علاقة عضوية بين الهادم والمهدوم كما كانت بين الدافن والمدفون .. فستكون ضربات الفؤوس أقل قسوة، ليس رحمة بالجدران والأسقف فحسب، بل لعل من يضرب بالفأس يستطيع استخلاص قطعة ما دون تهشيمها، مثل الحجارة أو قطع الأخشاب والقصب التي كانت في السقوف والنوافذ.

كان الطريق الذي شقته السلطات المحلية، أشبه ما يكون بثقب في غرفة نوم يسمح للمتلصلصين أن يطلعوا على عورات من في داخلها .. لقد أسقط الطريق كل الاحتياطات التاريخية التي اتخذها سكان العتيقة في تسترهم من عيون المتطفلين .. فكانت خطوط الدفاع عن خصوصيات كل أسرة تتمثل بالجدران السميكة التي كانت تبنى من طين وحجر، وتخلو من نوافذ، إلا في أعلى الجدار في قليل من الأحيان، وكان الجار هو الأخ أو ابن العم أو القريب أو أخ لم تلده أم صاحب الدار .. فجاء الطريق ليجعل كل شيء مشاع ومتاح ليسرق نظرة من داخل من في الدار أو يسمع صرخة فتاة أو امرأة وكلها عورات ..

كان مخلف وهو يتأمل هذا التحول المفصلي في حياة القرية، كمن يجلس فوق بركة تتجمع بها الضفادع في كل مراحل نموها، فهذه ضفدعة كاملة تنق وهذا (أبو ذنيبة) بساقين أماميين وذنب يساعد توجيه هذا الطور من الكائن الحي، منتظرا ليتحول الى ضفدع محترف (الضَفدَعة) في المستقبل ..

هذه المراحل لا يشهدها الإنسان وحده، دون الكائنات الحية الأخرى، بل نراها في الحشرات حيث تتشرنق وتتحول من يرقة الى شرنقة تتخفى داخل ستار عضوي، تجري فيه التحولات بمعزل عن مراقبة الآخرين .. كما تجري تلك التحولات على الحبوب والبذور المختلفة عندما تغرز بادرتها في الأرض من الجهة السفلى، لتصعد ببادرتها العلوية منبئة ومبشرة لكائن حي جديد. هكذا تكون الحياة في القرى والمدن والدول والحضارات، باتجاهين متعاكسين، اتجاه نحو الأسفل أو الماضي يستمد صفاته وقوته منها، واتجاه الى الأعلى الى الأمام يبشر في حياة متطورة جديدة ..

وتختل الحياة (هكذا فكر مخلف) عندما تكون حركة الجذور في مساحات ضيقة، فتكون أفرع النبات أو الشجرة متناسبة مع القدرة على امتداد الجذور، فالنبتة التي تزرع في (أصيص) أو (وعاء) مهما كان جميلا ومهما كان متقن الصنع، فإن حركة الفروع ستكون محدودة، حتى لو كان النبات مزروعا في شرفة قصر، فلن تشفع وجاهة صاحب القصر للنبات بالانطلاقة الطبيعية ..حتى لو تم إضافة آخر مبتكرات الأسمدة والمخصبات، فقد يظهر على أوراقه علامات العافية ولكنها ستكون كعافية كلاب وقطط أغنياء أوروبا، لا تعرف العيش إلا في أجواءها المستحدثة ..

كانت النسوة تجفل عند سماع صوت المارة من الطريق، كأنها غزالات تم التقاطها ووضعها في حظيرة قرب قصر، لا تنسى صفاتها البرية، حتى لو طمأنها من التقطها بالأمان و الهدوء .. وكان الرجال الذين تم إرغامهم على تقبل الوضع الجديد، منشغلين في تهيئة الأسوار الجديدة لحجب عيون المتطفلين من المارة ..

كان الشارع (الطريق) كأنه (خزعة) أو عينة أخذت من جسم القرية لفحصها في مختبر، فمن تتبع سير الطريق (الخزعة) سيجد أن استقامته المبالغ فيها، قد نبشت مواطن ذاكرات المكان والزمان وجعلتها (فرجة) أمام من يريد أن يتفرج. لم يكن أحد يتوقع أن دار الحاج (عواد) تقع على طبقات بناء اشترك فيها أقوام تصل الى الكنعانيين و بعدهم الإغريق والرومان والأمويين والمماليك .. فكان من يمر عليها يجد في مقطع الهدم العمودي الذي يزيد عن عشرين مترا، شكلا من أبنية تم إضافتها فوق (مغارات) وكهوف وتمت الإضافات عليها دون تأفف، في عهود متلاحقة، حتى وصلت ملكيتها الى الحاج عواد .. لم يكن هذا المتحف قد خبره أهل القرية، ولا حتى أقرب الناس الى الحاج عواد .. فقد كان يستخدم الأجزاء السفلى لخزن التبن والحبوب وتربية المواشي، وعندما يرتقي الى الأعلى يصنع جدارا حاجزا عن رؤية ما في داخل داره ..

كثيرة هي المقاطع التي أحدثها شق الطريق، ولعل مخلف كان قد تعرف على الكثير منها، واستمد حكمته وصمته و هيبته التي لم تلغيها رثاثة ملابسه وتقدمه في العمر، من هذا الحجم من المعرفة .. ولكن اليوم وقد أصبحت مصادر معرفته مشاعا أمام الجميع، فإن دوره ومعرفته أصبحت في مهب الريح .. ولعله وهو يجلس عاقدا أصابع يديه الطوال على مقدمة ساقيه، يدعو الله أن يريحه من طول عمره الذي أفضى به لرؤية ما رأى ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 16-09-2007, 12:36 AM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(2)

كانت (صيتة) وهي تطلب من زوجها (زعل) أن يبني غرفتين من (الباطون ) على غرار ما فعله دار خالها، تريد أن تمتحن (غلاوتها) عند (زعل)، وتريد أن تسمع ابنها محمود أنها تقف الى صفه في تهيئة أمور زواجه، علها تكسب وده ويوافقها على الزواج من ابنة أختها..

لم يطعها (زَعَل) في البداية، ولكنه أذعن في نهاية الأمر، دون أن يفصح عن إذعانه، فقد كان يشغل باله أمور كثيرة، من بينها الكلفة التي سيدفعها لإنجاز هذا البناء، ومن سيقوم بالبناء وأين سيبني الغرفتين، وهل هو فعلا يحب القيام بهذا العمل؟ سلسلة من الأسئلة والتساؤلات لم تكن لتبرز لولا ذلك الطريق اللعين الذي استفز عقل القرية للانشغال بعشرات القضايا التي لم تكن لتظهر بدونه ..

ما كان بناء غرفة في السابق يكلف شيئا غير جهد أهل الدار وجهد حميرهم التي تنقل الحجارة والتراب، مع بعض معاونة الجيران التي كانت بمثابة (تسليف) سيحين وقت سداده في مناسبة مثيلة عندهم .. أما غرفتان من (الباطون) ستحتاج لشراء الإسمنت والحديد والحصى وأسلاك التربيط والمسامير وكلها كانت تقع في قوائم سلع الرفاهية فيما مضى .. ولكنها اليوم أصبحت شرا لا بد منه ..

خرج (زعل) من بيته ليجمع معلومات عن الكيفية التي سينفذ بها بناء الغرفتين، ولم يكن هناك عنوان بعينه سيذهب إليه، فلم يكن هناك مكاتب هندسية أو نقابات لعمال البناء .. لذلك استعان بصديق له كان قد سبقه في بناء غرفة في صدر الدار .. فرح صديقه بتلك الحظوة التي حظاه بها (زعل)، فستكون مادة للحديث لمدة أسابيع مع أفراد عائلته بأن هناك من راجعه طالبا المعونة في شيء!

قرفص صديقه وتناول شظية من حجر وأخذ يخط على التراب خطوطا ليست مستقيمة بما فيه الكفاية فكانت تظهر لمن لا يعرف عن سبب جلوس الصديقين أنهما يرسمان نظارات للعيون أو (صدرية ملابس امرأة) .. وكون الناس لم يكونوا قد تعرفوا جيدا على هذين النموذجين (للمقارنة) .. فقد كانوا يتجمعون بحلقات حول (دافنشي) الذي يخط على الأرض مخطط بناء غرفتي (زعل) .. كان من السهولة على صديق زعل أن يمسح الخطوط المحفورة في التراب، ليعيد رسمها من جديد .. فقد أثاره تحلق الناس حوله، فتمتع بفكرة أن يبدو كخبير في رسم مخططات الأبنية!

لم تشفع مخططات صديق زعل في تحويل المشروع لحقيقة، فقد نصحه في النهاية بالتوجه لصالح الذي بنا له غرفته .. جاء صالح وسأل عدة أسئلة وكان قد عمل مع مقاولين في (النقطة الرابعة H4) فتعلم ممن تعلم كيفية تنفيذ بعض أعمال البناء .. وصى زعل بإحضار المواد المطلوبة .. وأشر له مكان أسس البناء .. فبادر زعل بحفرها دون الاستعانة بأجراء ..

كان زعل يتدخل في كل شيء حتى يقلل كلفة البناء على نفسه، فلم يرغب أن يوضع بالأسس أي جزء من (الإسمنت) فيكفي وضع بعض الحجارة والطين .. وكان يقوم بقطع أسلاك التربيط بعد أن تفك الأخشاب عنها، وكان يقوم بتصحيح وضع المسامير المنحنية إثر استخراجها من الخشب، ويطلب من صالح إعادة استخدام تلك المواد مرة أخرى ..

لم ترق له فكرة بقاء النوافذ مفتوحة فأغلقها بطوب من طين .. كانت الغرفتان قبيحتا المنظر، ولكنهما بنفس الوقت كانتا مصدرا لمفاخرة زعل بأنه من أوائل من شيد هذا النمط من البناء في قريته (العتيقة) ..

في محاولات تهجين الإنسان للنحل البري، حيث يأتي بكيس من قماش، ويلفه حول غصن شجرة تجمًع عليه طرد من خلية نحل نفرت من مكانها والتهمت ما في داخله من عسل، حتى أصبحت حركتها بطيئة، فيأخذها الإنسان الذي لا يضيع فرصة في استثمار ما تهبه الأرض من خيراتها، ويحبس النحل في صندوق خشبي تعلم القساوسة أبعاد عيونه السداسية، فأصبحت خلايا النحل تصنع بشكل وكأنها شقق (مفروشة) لاستقبال النحل .. ولأن النحل لا يحب إلا الطبيعة، فإن الإنسان سيبتدع طرقا لاستئناسه وترويضه وتطويعه ليصنع العسل له، مقابل تقديم هذا السكن المريح .. وكيف لا؟ ألم يستطع الإنسان ترويض الأسود والأفيال و جعلها ترقص على خشبة المسرح، وإن كانت تلك الحيوانات لا تنسى أن تبدي ما يذكر من يتفرج عليها بأنها حيوانات مفترسة، فبعد أن يقدم الأسد نمرته لا ينسى أن يقطب جبينه ويظهر أنيابه بحركة استعراضية غير مخيفة!

إن أصعب المهام التي يواجهها الإنسان في ترويض الكائنات الحية، هي ترويضه لنفسه، فمن كان يتعايش مع الألوان الرمادية من أثر الدخان الصادر من المواقد البدائية سيبقى يحن إليها حتى لو سكن في أبهى القصور وعاش بين أرقى الحضارات، وهذا يحدث مع من يعيش في الغرب يعاشر الموائد وسكاكينها و شوكات طعامها، ما أن يوضع في جو قديم، حتى يرفع ردن يمينه ويستعمل يده في تمزيق رأس خروف أو ورك شاه، وكأنه لم يغب لنصف قرن بين الشوكات والسكاكين ..

كان زعل ينظر الى الغرفتين نظرة أبهة واحتقار في نفس الوقت .. كانوا نادرا ما يلجون الغرفتين .. ولكنهم صفوا بها بعض الفرشات ووضعوا عليها بعض الوسائد انتظارا لإنجاز مراسم زواج ابنهم .. ولكن (صيتة) لا تنسى إذا أتتها إحدى قريباتها أو جاراتها أن تصطحبها الى المتحف الجديد لتتفرج الجارة على هذا المقترح الجديد .. ولتصبح الزائرة مندوبة مبيعات أو مروجة لهذا النمط المستحدث في القرية ..

في الحقل الزراعي تلجأ الدول لعمل حقل إيضاح في كل قرية تزرع فيه نوعا من المزروعات على الطريقة الحديثة. فإن كانت أشجارا، فتكون خطوط الأشجار مستقيمة ونمط تربيتها واضحا وأثر السماد وطرق الري واضحة .. فيستقدمون القادة الريفيين من الفلاحين ليطلعوا على حقلهم الإيضاحي ليتعلموا منهم وينقلوا ما رأوه الى بساتينهم وحقولهم .. ولم تنس الدولة المهتمة في نشر تلك الوسائل أن تكرم هؤلاء القادة بتقديم وجبات مجانية أو تقديم الحلويات والشراب ..

كذلك كانت (صيتة) تقوم بدور المرشد لحقل الإيضاح، ولم تنس ـ بطبيعة الحال ـ تقديم ما يكرم ضيفاتها ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 20-09-2007, 06:59 PM   #3
خاتون
مشرفة سابقة
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2006
الإقامة: المغرب
المشاركات: 489
إفتراضي

بعد أن عشنا تفاصيل الحياة البسيطة في العتيقة في "ذكريات قرية لم تعد موجودة"، سنحجز مكانا لرصد مرحلة الانتقال إلى مجتمع "متمدن" وما يقتضيه هذا الانتقال من تغيرات على المستوى المادي والنفسي خصوصا.

أصفق بحرارة لأسلوبك الماتع، ولرصدك لجوانب دقيقة -وتحتاج إلى وقفات طويلة- في حياة الفرد والمجتمع.

هنيئا لك بهذا العمل الادبي الكبير.


تحياتي
خاتون
خاتون غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 26-09-2007, 11:02 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أشكر لكم تفضلكم بالمرور واستحسان ما مررتم عليه

احترامي و تقديري
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 28-09-2007, 01:56 PM   #5
مازن عبد الجبار
شاعر متألق
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2005
المشاركات: 429
إفتراضي

نص رائع يتحدث عن بعض جوانب الحياة باسلوب قصصي شيق وحبكة مبهرة
__________________
اهلا بكم في مضيفي المتواضع على هذا الرابط
www.postpoems.com/members/mazin
مازن عبد الجبار غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-10-2007, 03:08 AM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أشكركم أخي مازن على مروركم وترككم طيب الكلام

احترامي وتقديري
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-10-2007, 04:09 AM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

( 3)

لم ينضم (مناور) الى مشتركي شبكة الكهرباء، إلا بعد مرور عام على أول تشغيل لها في (العتيقة) .. وكان ككل سكان العتيقة، متوجسا من هذا الدخيل الجديد على حياتهم .. لم يكن ترددهم بالاشتراك بسبب الكلفة الإضافية التي ستتحملها ميزانياتهم، ولكن هي (غربة) الجديد واستغرابه. وقد بدأ الاشتراك بالكهرباء مجموعة مغمورة من الناس لم يكن ترتيبهم الاجتماعي يجعلهم بوضع يصلحون فيه أن يكونوا قدوة لغيرهم .. فأولهم كان (كونترول) حافلة القرية الوحيدة، والثاني تاجر (خردة ) لم يره المواطنون إلا عندما يذهب الى متجره في مدينة قريبة في الصباح الباكر وعندما يعود من دوامه في المساء مستقلا الحافلة الوحيدة للقرية ..

كانت جدران البيوت غير مصقولة بما فيه الكفاية لتجعل الفرق واضحا بين الإضاءة بالكهرباء أو الإضاءة بمصباح (النفط) .. وحتى أن الناس لم يضعوا تلك المقارنة على المحك، لضآلة المهام التي تجعلهم يلحظون الفرق بين الحالتين، فكانوا عندما يتعشون يأوون الى فرشهم، ولما كان الطعام مكون من صنف واحد باستمرار والصنف مكونا من مادة واحدة وهي (القمح المجروش) وكون الطريق بين القصعة وأفواههم لا يحتاج الى تلك الإضاءة، فلم يبتهجوا كثيرا بهذا التغيير ..

كان (مناور) يتفقد المصابيح الخمسة في كل منزله، ويعطي أوامره لإطفاء ما لم يكن لإضاءته حاجة .. كان من يمشي على بعد مئات الخطوات يسمع صوته الغاضب مستنكرا : (اطفوا هالخايرة ) وكان يقصد المصباح الخارجي (اللمبة) والذي كانت قوة إضاءتها كبقية المصابيح (40 وات) ..

لكن تاجر (الخردة) أحدث صرخة هائلة في البلدة، عندما دعا بعض الجيران والأقارب ليتناولوا طعام العشاء بمعية أحد أقاربه الذي ذهب للعمل في (ألمانيا) وعاد بعد شهر تقريبا يلبس (بدلة) سبق أن لبسها آخر في بقعة أخرى، كانت تترك على مؤخرة كتفه بعض (الثنيات) التي أفقدت وقاره المصطنع .. وبعد أن تناول الجميع العشاء، تقدم تاجر الخردة صاحب الوزن الثقيل بخطواته المتقاربة و رأسه المنحني للأمام قليلا، ليترك كتفيه ينافسان رأسه في علو هامته، وأزال (شرشف) كان يغطي به جهاز (تلفزيون) .. فركز الجميع نظرهم نحو ما سيفعل وتعطلت حركات أطرافهم التي كانت منشغلة قبل ذلك برفع أقداح الشاي ..

خرج الصوت متأخرا عن الصورة قليلا، بألوان الأبيض والأسود والرمادي ـ طبعا ـ وكانت أغنية المقدمة لمسلسل (صح النوم) ل (دريد لحام و نهاد قلعي)، تشكل وحدها استحداثا لنمط مختلف مما كانت أذان أهل القرية تتعود سماعه، فهو ليس (عتابة) و ليس (هجيني) و ليس (موال) وليس (أغنية) كالأغاني التي كان يسمعها البعض في (المذياع) .. تبدأ أحداث المسلسل، ويبدأ معها صمت الجميع، لم يكن باستطاعة الجميع فهم اللهجة التي كان الممثلون يتحدثون بها، وهنا تبرز نقاط التباهي بين من يفهم شيئا مع من لا يفهم شيئا، فعندما يتساءل أحد الجالسين عن تفسير ما حدث، ينبري أكثر من واحد للإدلاء بدلوه عما فهم، فيخرج صوت من طرف آخر يطلب من الجميع الصمت، فيسكت الجميع، ليفاجئهم العائد من ألمانيا، بأنه في ألمانيا هناك الكثير من تلك الأجهزة .. لم يصغ أحد إليه .. بل تجرأ من طلب الصمت من الجميع، أن يلتزم العائد من ألمانيا بالصمت (حاله حال الآخرين) ..

سمع أحد قراء النشرات السياسية للآخرين (بالسر) .. بتلك الدعوة ودخول التلفزيون للعتيقة .. فقال لمن نقل له الخبر .. إنه الغرب اللعين يسارع لإعطاء قروض لإيصال الكهرباء للأرياف، ويمتنع عن إعطاء القروض للسدود وقنوات الري.. إنه في الحالة الأولى يضمن أنه سيبيع من الأجهزة الكهربائية من تلفزيونات و مكاوي كهربائية وغدا سيبيع الثلاجات وغيرها وكلها سلع هو يصنعها، ف (يشفط) بذلك أموال شعبنا بحجة التطوير والمساعدة في النهوض .. أما في حالات السدود وقنوات الري، فإنه سيخسر مستوردين لصادراته الغذائية .. لم ينتبه أحد لما قال ..

عاد مناور الى بيته بعد صلاة العشاء، وسأل كعادته عن أبناءه هل ذهبوا لنومهم؟ وكانت إجابة زوجته أن ابنه الكبير لم يعد بعد .. تكررت حالة تأخر حضوره عدة أيام، فحاول مناور أن يتقصى عن الحقيقة .. فذهب فوجد أن ابنه يذهب لمكان افتتحه العائد من ألمانيا يقدم فيه القهوة والشاي و الكاكاو لمن يحضر لرؤية برامج التلفزيون لديه .. طبعا مقابل بعض النقود كبدل لتلك الخدمة الهجينة.

وقف مناور بالباب يتطلع نحو داخله، فكان هناك من يلعب الورق على مناضد وزعت بشكل غير الذي ألفه أهل القرية .. وهناك من يدخن لفائف التبغ وهناك من هو منهمك بمتابعة ما يعرضه التلفزيون .. نادى على ابنه، فخرج ابنه فأمسك بأذنه، مبينا له سوء فعلته، وما تبعده عن متابعة دروسه.. ومذكرا إياه أنه استجاب لطلبه وأمه بالاشتراك بالكهرباء .. حتى يتمكن من رؤية حروف الكتاب بشكل أفضل .. وهدده أنه إذا ما استمر بالحضور لهذا المكان السيئ فإنه سيلغي اشتراكه بالكهرباء!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 20-10-2007, 01:53 AM   #8
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(4)

لم يتفق أن التزم الحاج فالح بالبدء بتناول إفطاره في رمضان، على صوت المؤذن سعد الملوح، فقد كان يبدأ بتناول إفطاره قبل رفع الأذان .. في حين يلتزم أبناؤه وزوجته بالأذان وهم يرقبونه بعد أن يستخرج ساعة نوع (لونجين) من جيب صدريته و يبدأ بشرب اللبن .. وعندما اعترضت زوجته بأدب، نهرها و قال لها لن أنتظر هذا الفاسق حتى يفطر ويقوم برفع الأذان ..

لم يخف الحاج فالح فرحته عندما ضربت الصاعقة مئذنة العتيقة، وامتد أثر تلك الصاعقة من خلال أسلاك الكهرباء التي كانت تربط بين السماعات على أعلى المئذنة و الحاكي (الميكرفون) الذي يرفع به (سعد الملوح) الأذان .. وقد ابتهج عندما علم أن وجه المؤذن قد أصابه بعض الحروق، كان يتمنى في قرارة نفسه أن تقضي الصاعقة عليه قضاء تاما ..

علم (جمال) الابن الأكبر للحاج فالح سر كراهية والده لذلك المؤذن، فقد كان يرافقه أحيانا لرفع الأذان قبل أن تصل الكهرباء لقريتهم، كان والده الشيخ فالح يرتقي يوميا الدرجات المائتين وإحدى عشر درجة، خمس مرات عندما كان مؤذنا للقرية .. وكان ينشغل في تحضير خلطات خاصة من ( السكر النباتي) و (الزنجبيل) التي يتناولها باستمرار ليبقى صوته قويا وواضحا، يسمعه من كان على بعد مسير ساعة على الأقدام .. وكان يتقاضى ما يعادل عشرة دولارات شهريا لقاء عمله، وما أن تم تمديد الكهرباء للمسجد، وانتفت الحاجة الى الصعود لأعلى المئذنة من خلال ممر ملتوي بشكل مروحة داخل المئذنة، قامت سلطات الأوقاف بالاستغناء عن خدماته وعينت (سعد الملوح) براتب قدره حوالي مائتان من الدولارات ..

مازحه ابنه ذات يوم، قائلا .. لقد ارتحت من تلك المهمة الصعبة، وها أنت قد عبرت سنون عمرك السبعين عاما، فستوفر ثمن الزنجبيل و السكر النباتي والحبة السوداء التي كنت تتناولها لتقوية رُكَبَك ..فأجابه بتهكم : هل أكافأ بعد أن قمت برفع الأذان خمسين عاما بعد وفاة جدك بهذه المكافأة؟ وبعد أن أصبح الأذان على (الكرسي)؟ وبهذا الراتب المغري؟ .. يا ولدي لن يكون هناك واسطة لعمل شاق، بل الواسطة لكل عمل ليس به جهد .. هل رأيت يوما فلاحا يبحث عن واسطة!

اكتفى الحاج فالح بما يزرع من أرضه، وما يقوم به من تدريس أبناء البلدة في مكان أسماه (المكتب) حيث كان يجتمع لديه ما يقرب من الستين ولد وبنت .. ثم أخذ هؤلاء يتناقصون بعد أن تم توسيع مدرسة البلدة الابتدائية ..

وذات يوم استدعاه مدير الناحية يطلب منه ترخيص للقيام بعملية التدريس، وفق الأسس الحديثة .. عاد الى بيته وطرد الأولاد والبنات .. وامتنع من يومها عن مواصلة ما بدأ به جده قبل مائة عام تقريبا وواصل والده تلك المهمة .. لتنتهي عند طلب الترخيص ..

بقي الحاج فالح يسخر من الطريقة التي يؤدي بها (سعد الملوح) الأذان، فقد كان صوت سعد رفيعا غير متزن، وما أن يقول الله .. يجيبه الحاج فالح (الله يأخذك) .. حتى توفاه الله .. وتبعه سعد الملوح بعد عدة سنوات ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-10-2007, 07:25 PM   #9
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(5)

ارتمى الرجال تحت ظلة صنعت من أكياس خيش قديمة، يرقبون عمل الساحبة(التراكتور) التي كانت تقوم بسحق قش القمح الذي تم تسطيحه بشكل دائرة سميكة واسعة بعض الشيء ليتمكن مَن يقود الساحبة من الالتفاف بها بدورة كاملة وبسرعة، وكانت مربوطة بالساحبة ألواح خشبية بطول أكثر من ثلاثة أذرع و عرض أكثر من ذراعين .. ثبت في أسفل تلك الألواح التي ربطت بقطع خشبية عرضية، قطع من حجارة بركانية سوداء كالتي يستخدمها الفقراء عند الاستحمام لإزالة الجلد الميت المتصلب الذي تراكم على أطراف الأقدام .. وكانت تقنية تثبيت الأحجار في أسفل الألواح تتم بإحداث حفر مربعة الشكل في الخشب وبعمق لا يزيد عن سماكة أصبع الخنصر (لفتاة متمدنة)، وكان قبل عملية تثبيت الحجارة بليلة، تُقلَب الألواح وتملأ العيون المربعة المحفورة بالماء، وكان عدد تلك الحفر يصل الى حوالي المائتين، وبعد أن يلين خشب السنديان بفعل الماء، يتم وضع الحجارة في الفوهات وإجبارها على أن تثبت في مكانها بواسطة مطرقة، وفي الغالب بواسطة حجر من حجارة الوديان الملساء..

كان الرجال يثرثرون بأحاديث متنوعة، وغير مترابطة، ولم يكن يستمع أحدهم للآخر، كانت أحاديثهم أشبه بطنين النحل أو زمجرة حيوانات برية، ليس بالضرورة أن يكون لكلماتهم معاني، وكانوا يتكلمون جماعيا كمطربي الأغاني الثورية .. لم يكن الرجال لينبطحوا بهذه الطريقة ويثرثرون في مواضيع لا طائل منها، هذا ما قاله (مخلف) وقد تيقن أن ثرثرة النساء اللواتي كن يتجمعن حول عملية تنقية القمح أو غسله، أو التحضير لعمل (الكبة)، كانت بحكم طبيعة الجلسة التي تقرب بين الوجوه والعيون والأذان، كما أن الجهد المبذول في أعمال النساء لم يهد (حيلهن) حتى يكفن عن الثرثرة، وهاهم الرجال قد توفر لديهم جزء من فيض الطاقة، فبماذا سيوظفونه؟

وصلت سيارة شحن من نوع (فولفو) ركب لها صندوق عربي وصبغت بصبغة عربية، ولو أن سويديا رآها لما اعترف بأن منشأها سويديا، فأخشاب الصندوق مورس فيها فن (الأرابسك) كما أن الألوان الخضراء والحمراء و الزرقاء أعطت خلفية مبتكرة للمشهد ..

كان من طبيعة الناس الذين يشتركون في مساحة البيدر أن يحضروا الأطعمة التي تصلهم من بيوتهم، الى مكان واحد ليتشاركوا فيه، وكان (مخلف) الذي كان صامتا يرقب كل ما يجري، يتعجب من أشكال الأواني والمواد التي صنعت منها، و شكل الأرغفة التي تغيرت، ولم تبدو أي ملاحظة من وجهه الصارم، إلا عُشر ابتسامة عندما وجد إناءا به مستحضر علم أن اسمه (ملوخية)، تذكر حينها أين رأى مثل هذا القوام ومتى!

لم يقتنع مخلف أن طعم الرغيف بقي على ما هو، فلم يتردد يوما في تكرار(مقولة) أن البركة قد (طارت) منذ أن دخلت الساحبات على البلد، وقد يكون إحساسه ليس معنويا مائة بالمائة، بل أن هناك شيئا حدث فعلا على الطعم، الذي كان القمح يكتسبه باحتكاك عرق العاملين من بشر وحيوانات، حتى أن إنتاج الرغيف كان يتم بوقود عضوي مائة بالمائة، وليس بوقود مشكوك بعضويته حسب بعض النظريات ، فكان الرغيف يُحترم وكأنه كائن حي ويُحلف به كالدين والشرف، ويتم تذكير من يخون العهد بخيانته للرغيف!

كان الرجال يتهامسون بعد أن نزل من كان يقود الساحبة لتناول الطعام معهم، فأطفأ محركها، فكان على الرجال أن يخفضوا من نبرات أصواتهم، فلم يعد هناك ما يستوجب التكلم بصوت مرتفع، وقد يكون سبب تهامسهم، خشيتهم من أن مخلف يسمع ما يقولون.. كانوا يتساءلون، لماذا كل هذا التعب، فقد سمع أحدهم أن هناك من يحصد بواسطة مكائن تستخرج القمح أثناء سيرها دون نقل قشه للبيدر وما يترتب عليه من سحق للقش وتذرية وغربلة وغيرها من العمليات المقيتة!

صفر أحدهم اندهاشا من هذا المخترع الذي يتحدثون عنه، قائلا : هل معقول ما تتحدثون عنه؟ توسلوا إليه أن يخفض صوته حتى لا يسمعه مخلف، ولكن مخلف كان قد سمع ما قالوه .. فقال لهم: إذن ستقولون ولماذا نستخرج التبن؟ أليس للحيوانات؟ وماذا تبقى للحيوانات وقد استعضنا عنها بتلك الآلات ؟ فلنتخلص من الحيوانات ونعش نظيفين؟ ستختفي الحيوانات وستختفي مخازن التبن وستختفي الطوابين (أفران الخبز في البيوت) وستختفي مخازن الوقود، وستزول روائح الحيوانات و فضلاتها .. وسيزول القمل والبراغيث و سيفقد أولادكم القدرة على التعرف على أسماء الحشرات والأدوات والمواد .. وستتباهون بدلال نسائكم ونعومة بشرة كل أنثى .. وسيطيب لكم المأكل والمشرب، وستبيعون أرضكم لتبعثون بأبنائكم لدراسة (البطالة) .. وتفقدون القدرة على تتبع أسماء الأمراض فهذا سرطان وهذا إيدز وهذا بهجت وهذا كذا .. ستتعبون .. ستتعبون وأنتم تمثلون دور المرتاحين ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 23-11-2007, 01:59 PM   #10
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(6)




لم يسبق لخالد أن طرق باب بيت قبل تلك المرة، فقد اعتاد أن يدخل بيوتا مفتوحة الأبواب تملأها حركة ساكنيها، وتذيب حرج الدخول، الذي لم يكن معروفا سابقا في العتيقة .. ولم تكن الأبواب تغلق أصلا، إلا بعد العشاء حيث تكف أرجل الناس وحيواناتهم عن الحركة ..

خرج مطيع على صوت طرقات قبضة خالد على باب البيت، وطلب من خالد التريث في الدخول الى البيت، ريثما يهيئ له دخولا غير محرج لأهل البيت..

كان البيت الذي استأجره والد مطيع (الموظف الحكومي) وأضاف عليه بعض التحسينات، تعود ملكيته لرجل توفى ولم يترك من يجعل لبقائه بالبيت مبررا.

مر من جانبه رجل غريب، يدفع بعربة خضراء لها ثلاثة عجلات، وتتسع لحمولة نصف طن من التراب، لكنها كانت فارغة، والرجل يصيح : (من عنده عتيق للبيع ) ..

دخل خالد برفقة مطيع الى داخل البيت، وجلسا على كرسيين من (الخيزران)، وبعد أن تبادلا كلمات أشبه ما يكون بفترة إدارة محرك سيارة (ديزل) في الشتاء، تجولت عينا خالد في الغرفة، فلاحظ أن ترتيب الأثاث في الغرفة يختلف عما في بيتهم .. لم يكن هناك قطعة من قطيفة بصدر الغرفة، ولم يكن هناك صورة لأبي زيد الهلالي أو فاطمة المغربية .. ولم يكن هناك رف خشبي له حافة متعرجة تربض فيه أواني النحاس التي خرجت مع عرس أمه ..

دخلت فتاة تصغرهما بأربع سنوات، لم تكن تغطي رأسها ب (الشمبر ) الأسود كبقية فتيات البلدة، ومعها (صينية) عليها (إبريق) شاي من (الصيني) وقدحين وصحن به بعض (الكعك) .. نظر خالد الى هذه الصينية وما عليها، نظرة قط شبعان لفأر أصبح بتناول يده .. فكان يمد أطراف أصابعه ليتحسس المواد المصنوعة منها تلك الأدوات وما عليها ..

وبعد أن تناولا قدحين من الشاي، دخل عدة أطفال من إخوة مطيع (الذكور) .. توقفت خطوط نظر خالد على أحدهم وكانوا ثلاثة، فوجد أن رأسه أكبر من أن يكون لجسمه.. عاد وتفحصه مرة أخرى، وكأنه خبير قطع أوراق نقد، شك بتزييف واحدة، انتقل بنظره الى الطفل الثاني فأحس بأن إحدى ذراعيه أطول من الأخرى .. نهض الطفل الثالث فتهيأ له أن إحدى ساقيه أكثر طولا من الساق الأخرى .. شعر بانقباض في نفسه واعتذر للشاب صديقه من عدم قدرته على إطالة المكوث .. وخرج ..

كان الرجل الذي يدفع بالعربة متوقفا أمام بيتهم، ووالدة خالد تحضر له أواني النحاس لتبيعها له، ورجل من بعيد قادم ومعه (حواة) وهي قطعة محشوة بالقش توضع على رقبة البغل لتربط بها أعواد الحرث أو عربات الجر .. ولكن الرجل عندما وصله استنكف عن شراءها لتيقنه من أن أحدا لن يشتريها منه ..

دفع صاحب العربة الخضراء عربته واستأنف المناداة : (من عنده عتيق للبيع) .. دخل خالد للبيت، وكان الوقت قبل الغروب، فوجد والده متمددا على (فرشة) رقيقة موجها ظهره جهتها ووجهه نحو السقف وواضعا ذراعيه خلف رأسه، ليرتفع رأسه فوق الوسادة، رفع أحد ساقيه فوق الأخرى بعد أن قرب قدمه الثابتة ليكون بهيئة من يجلس في الدرجة الممتازة بقطار قديم .. كان يحرك أصابع قدمه المرفوعة، ليماطل الوقت .. فلم يفلح بذلك، ثم أخذ يدندن بموال ( يا عيال قصوا جدايلكو .. وتولفوا للكريكات ) ( ملعون أبو اللي يعيركو من بعد قبض الليرات) ..

اختفى من البيت صوت ثغاء النعاج، كما اختفت أصوات الكلاب، واختفى معها إزعاج الدجاج الذي يراقص ربات البيوت ليتسلل الى داخل الغرفة ليلتقط حبة سقطت من يد امرأة أو بعض فتات الطعام، كما اختفت طيور (السنونو) التي كانت تحوم داخل الغرف لتزق صغارها المقيمة في ثنايا جسور السقوف التي كانت تحمل أعواد قصب السقف ..

لم يرق لخالد منظر أخواته الإناث التي اكتنزت أجسادهن بالشحم نتيجة قلة الحركة فكان قوام شقيقة مطيع أكثر رشاقة من قوام أي من أخواته، كما لم يستطع والده المتمدد على ظهره أن يخفي بروز كرشه وهو مستلقي

خيم الفراغ على الأسرة وأصبحت أجواءها مملة، فلم يعد والده يتابع من يسقي (الطرشات) أي حيوانات البيت، فقد تم بيعها كلها، ولم يعد صغار الأسرة يكلفون بأي مهمة، ولم تعد والدته تعجن وتخبز و تهيئ (فرن التنور) لإعداده لليوم التالي ..

ما الذي سيملأ أكياس الوقت بعد أن فرغت، ما الذي سيشغل رجال البلدة الذين كرسوا كل وقتهم للحديث عن نقاوة البذار أو عن جودة الموسم؟ ما الذي سيثير انتباه النساء بعد أن زادت ساعات يومهن من أربع وعشرين ساعة ممتلئة الى أربع وعشرين ساعة خاوية؟ وما الذي سيهد حيل الأطفال الذين كانوا يجبروا على النمو وتحمل المسئولية بسرعة؟

أسئلة كثيرة دارت برأس خالد الذي أخذ عن جده مخلف الأصالة، فكان وعيه لا يختص بإعادة تكوين صور الماضي، بل تخطاها للتنبؤ بما سيرتسم من صور للمستقبل ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .