العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: نظرات في مقال أمطار غريبة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى بحث النسبية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: حديث عن المخدرات الرقمية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال الكايميرا اثنين في واحد (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى كتاب علو الله على خلقه (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في كتاب رؤية الله تعالى يوم القيامة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مقال فسيولوجية السمو الروحي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى توهم فريجولي .. الواحد يساوي الجميع (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال ثقافة العين عين الثقافة تحويل العقل إلى ريسيفر (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات بمقال هل تعلم أن مكالمات الفيديو(السكايب) كانت موجودة قبل 140 عام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 15-05-2010, 08:00 AM   #101
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

"وادي المخازن".. معركة الملوك الثلاثة

(في ذكرى نشوبها: 30 من جمادى الأولى 986هـ)



عرف التاريخ الإنساني عددا من المعارك الفاصلة التي كانت نقاط تحول تاريخية نتيجة للآثار الإستراتيجية البعيدة التي تركتها تلك المعارك، حيث كانت بمثابة القسمات على وجه التاريخ، وحفرت وقائعها فضلا عن أسمائها في الذاكرة الإنسانية.

ومن هذه المعارك معركة بلاط الشهداء أو لابواتيه التي كانت تحولا في مسار الفتوح الإسلامية بأوربا، وتراجع العثمانيين أمام أسوار فيينا، ومعركة وادي المخازن بين الدولة السعدية في المغرب والعثمانيين من جانب، والبرتغال والأسبان وفلول المتطوعين المسيحيين الأوربيين من جانب آخر.

كان دافع البرتغاليين لخوض هذه المعركة هو استرداد شواطئ شمال أفريقيا وسحب البساط تدريجيا من تحت أقدام الإسلام في تلك المناطق وإرجاعها إلى حظيرة المسيحية، وإحكام السيطرة على طرق التجارة، خاصة مدخل البحر المتوسط من خلال السيطرة على مضيق جبل طارق، محاولين في ذلك استلهام تجربة حروب الاسترداد التي خاضتها أسبانيا ضد الوجود الإسلامي بها.

المتوكل.. على الأسبان والبرتغاليين

كانت الدولة السعدية -التي تعود لمحمد النفس الزكية أحد أئمة آل البيت النبوي- هي التي تسيطر على مراكش (المغرب)، وكان قيامها سنة (923هـ= 1517م) على أساس مجاهدة البرتغاليين، واستطاعت هذه الأسرة أن تحرر الكثير من شواطئ المغرب المطلة على المحيط الأطلنطي -والتي احتلها الأسبان في عدة حملات- حيث استطاعت دخول مراكش سنة (931هـ= 1525م) ثم فاس في (961هـ= 1554م) وكان ذلك بداية قيام تلك الدولة التي استمرت حتى عام (1011هـ=1603م)

وعندما توفي عبد الله الغالب السعدي حاكم الدولة السعدية تولى من بعده ابنه محمد المتوكل الحكم سنة (981هـ=1574م) وعرف عنه القسوة وإتيان المنكرات، فانقلب عليه عماه عبد المالك وأحمد واستنجدا بالعثمانيين -الذين كانوا موجودين بالجزائر- فقدم لهما العثمانيون المساعدات واستطاعا الانتصار على المتوكل في معركتين سنة (983هـ=1576م) واستطاع عبد المالك أن يدخل فاس عاصمة الدولة السعدية وأن يأخذ البيعة لنفسه، وأن يشرع في تأسيس جيش قوي ضم العرب والبربر وعناصر تركية وأندلسية.

ولم تؤد خسارة المتوكل أمام عميه عبد المالك وأحمد إلى أن يرضى بالأمر الواقع فرحل إلى الشواطئ البرتغالية واستنجد بالملك البرتغالي دون سباستيان ليساعده في استرداد ملكه مقابل أن يمنحه الشواطئ المغربية على المحيط الأطلسي.

واستطاعت المخابرات العثمانية في الجزائر أن ترصد هذه الاتصالات بين المتوكل والبرتغاليين، وبعث حسن باشا أمير أمراء الجزائر برسالة مهمة إلى السلطان العثماني بهذا الشأن، وكان العثمانيون في إستانبول على دراية بما يجري في أوربا فقد كان لديها معلومات عن اتصالات يجريها بابا روما ودوق فرنسا منذ عدة أشهر بهدف جمع جنود وإعداد سفن وتحميلها بمقاتلين لمساعدة البرتغال في غزوها للشاطئ المغربي، ورصدت المخابرات العثمانية الاتصالات بين ملك البرتغال سباستيان وخاله ملك أسبانيا فيليب الثاني ولكنها لم تستطع أن تقف على حقيقة الاتفاق الذي جرى بينهما، لكن المعلومات التي رصدتها أكدت أن ملك أسبانيا جمع حوالي عشرة آلاف جندي لمساعدة البرتغال في تأديبه ملك فاس عبد المالك السعدي.

أما الدولة السعدية فقد استطاعت سفنها أن تلقي القبض على سفارة كان قد أرسلها المتوكل إلى البرتغال تطالبهم بالتدخل لمساعدته في استرداد ملكه مقابل منحهم الشواطئ المغربية على المحيط الأطلسي، ولذا بدأ السعديون يأخذون أهبتهم للحرب القادمة من حيث الاستعدادات الحربية وحشد الجنود والاتصال بالعثمانيين الموجودين في الجزائر للحصول على دعمهم في الحرب القادمة ضد البرتغاليين والأسبان.

سباستيان: استرداد استرداد

كانت الهوس الديني مسيطرا على سباستيان وكان يرغب في أن يخوض حرب استرداد مسيحية أخرى في سواحل الشمال الأفريقي، ورأى أن تكون حربا كبيرة لا مجرد غارة خاطفة، ولذا بدأ مشاورات مع عدد من ملوك وأمراء أوربا وعلى رأسهم خاله فيليب الثاني الذي سمح للمتطوعين الأسبان بالتدفق على الجيش البرتغالي، وأمده بقوات من جيشه وسفن لنقل القوات إلى الشواطئ المغربية، وشارك بثلث نفقات الحملة شريطة الاكتفاء باحتلال ميناء العرائش على المحيط الأطلسي وعدم التوغل في الأراضي المغربية وألا تستمر الحرب أكثر من عام.

تدفقت جموع المتطوعين على الجيش البرتغالي من إيطاليا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية، وجمع سباستيان حوالي 18 ألف مقاتل، وكان بالجيش البرتغالي الكثير من المدافع والخيالة الذين كانوا عماد الحرب في تلك الفترة من التاريخ. واختلف في المجموع الكلي لجيش سباستيان وجموع الأسبان والمتطوعين المسيحيين الذين تدفقوا على هذا الجيش؛ إذ رفع البعض عددهم إلى حوالي 125 ألف مقاتل، وفي تقديرات أخرى 80 ألفا، بينما يقول المدققون إنه كان يزيد على 40 ألفا.

وقد ظن البرتغاليون أنهم ذاهبون إلى نزهة على الشواطئ المغربية؛ حيث أخذوا الأمر باستخفاف شديد؛ فقد كانوا واثقين من انتصارهم السهل، حتى إن الصلبان كانت مُعدة لتعليقها على المساجد المغربية الكبيرة في فاس ومراكش، بل وضعت تصميمات لتحويل قبلة جامع القرويين الشهير إلى مذبح كنسي، وكانت بعض النساء البرتغاليات من الطبقة الراقية يرغبن في مصاحبة الجيش لمشاهدة المعركة، وكان بعض البرتغاليين يرتدون الثياب المزركشة المبهرة وكأنهم سيحضرون سباقا أو مهرجانا.

الإبحار والخطة والمواجهة

أبحرت السفن البرتغالية والأسبانية من ميناء لشبونة في (19 ربيع ثان 986هـ= 24 من يونيو 1578م) ورست على شاطئ ميناء أصيلة فاحتلته، وفوجئ سباستيان بأن عدد قوات المتوكل قليل جدا.

بنى السعديون خطتهم للمواجهة على إطالة الفترة التي تبقاها قوات البرتغاليين في الشاطئ دون التوغل في الأراضي المغربية؛ حتى يتمكن السعديون من تجميع قواتهم ودفعها إلى المعركة، ثم بدأ السعديون في محاولة إغراء البرتغال بترك الشواطئ والتوغل في الأرض المغربية الصحراوية لإرهاقها وإبعادها عن مراكز تموينها على شاطئ المحيط.

نجحت خطة عبد المالك واستطاع أن يغري القوات البرتغالية والأسبانية بالزحف داخل المغرب حتى سهل فسيح يسمى سهل القصر الكبير أو سهل وادي المخازن بالقرب من نهر لوكوس، وكان يوجد جسر وحيد على النهر للعبور إلى الوادي.

كانت خطة عبد المالك القتالية أن يجعل القوات البرتغالية تعبر الجسر إلى الوادي ثم تقوم القوات المغربية بنسف هذا الجسر لقطع طريق العودة على البرتغاليين، ومن ثمة يكون النهر في ظهرهم أثناء القتال؛ بحيث لا يجد الجنود البرتغاليون غيره ليهرعوا إليه عند اشتداد القتال؛ وهو ما يعني أنهم سيغرقون به نظرا لما يحملونه من حديد ودروع.

بدأ القتال وكان شديدا نظرا للحماسة الدينية التي كانت تسيطر على كلا الطرفين، وأصيب عبد المالك بمرض شديد أقعده في الفراش، وقيل إن بعض الخدم وضع له سما. وقد زاد ضغط البرتغاليين والأسبان على بعض القوات المغربية فاختلت صفوفها فما كان من عبد المالك إلا أن ركب فرسه وحث جنده على الثبات، لكنه سقط فنقل إلى خيمته وأوصى إن توفاه الله تعالى أن يتم كتمان الخبر حتى الانتهاء من القتال حتى لا يؤثر ذلك في معنويات الجنود، وشاءت إرادة الله تعالى أن يُتوفى عبد المالك، وعمل رجال دولته بوصيته فكتموا الخبر.

استمر القتال حوالي أربع ساعات وثلث الساعة وفي أثنائها بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق للمسلمين فحاول البرتغاليون الهروب من ميدان المعركة والعودة إلى الشاطئ لكنهم وجدوا أن جسر وادي المخازن قد نُسف فألقى الجنود ومعهم سباستيان بأنفسهم في الماء فمات هو وكثير من جنوده غرقا، أما الباقون فقتلوا في ميدان المعركة أو أسروا، أما البقية التي نجت وركبت البحر فقد استطاع حاكم الجزائر حسن باشا وقائده الريس سنان أن يعترض سفنهم وأن يأسر غالبيتهم؛ حيث أسر 500 شخص.

معركة الملوك الثلاثة

لقي في هذه المعركة ثلاثة ملوك حتفهم هم عبد المالك وسباستيان والمتوكل؛ ولذا عرفت بمعركة الملوك الثلاثة، وفقدت البرتغال في هذه الساعات ملكها وجيشها ورجال دولتها، ولم يبق من العائلة المالكة إلا شخص واحد، فاستغل فيليب الثاني ملك أسبانيا الفرصة وضم البرتغال إلى تاجه سنة (988هـ= 1580م)، وورث أحمد المنصور العرش السعدي في فاس، وأرسل سفارة إلى السلطان العثماني يعرض عليه فيها انضمام دولته لدولة الخلافة العثمانية
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-05-2010, 03:11 PM   #102
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

قيام الدولة الخلجية في الهند

(في ذكرى قيامها: 2 جمادى الآخرة 689هـ)

قامت "الدولة الغورية" (543 ـ 613 هـ = 1148ـ1215م) على أنقاض "الدولة الغزنوية" التي حكمت الهند أكثر من قرنين من الزمان، وتوغلت في شبه القارة الهندية، ونشرت الإسلام بين ربوعها، واستعان السلطات "محمد الغوري" في توطيد دعائم حكمه بالمماليك، الذين كان يشتريهم ويخصهم بعنايته، ويعدهم للغزو والجهاد، ويرقي منهم من كانت تؤهله ملكاته ومواهبه للقيادة والحكم.

ولم تطل الحياة بالسلطان الغوري، فقد توفي سنة (603 هـ=1206م)، وخلفه مملوكه "قطب الدين أيبك" الذي كان يحكم ولاية "دلهي"، وكان قائدًا ماهرًا وحاكمًا عادلاً؛ يتمسك بالإسلام، ويكره الظلم، ولم تطُل به الحياة –أيضًا-، فلقي حتفه إثر وقوعه من فوق ظَهْر فرسه سنة (608هـ = 1210م)، وخلفه ابنه "آرام شاه"، ولم يكن مؤهلا للحكم وإدارة شؤون البلاد؛ فخلفه "شمس الدين التمش" أحد مماليك أبيه البارزين سنة (614هـ = 1216م)، وتولى أمر الدولة، وكان رجلا موهوبا صاحب كفاءة عالية في الإدارة والتنظيم، ويُعد المؤسس الحقيقي لدولة المماليك في الهند، واستمرت فترة ولايته حتى سنة (634هـ = 1236م)، وخلفه أبناؤه، وكان من بينهم ابنته "رضية الدين".

ولم يكن من أبناء "التمش" من كان في كفاءته وقدرته، فبرز "غياث الدين بلبن" أحد قادته، فتولى الوزارة لناصر الدين محمود بن التمش، ونجح في إقامة الأمن، وقمع الفتن والاضطرابات، واستطاع أن يرد هجمة التتار الشرسة بقيادة "مانكوخان" على الهند سنة (643هـ = 1245م). وحين كرروا المحاولة ردهم خائبين مرة أخرى سنة (655هـ = 1257م).

ولما قويت قبضة "غياث الدين" على البلاد، وازداد نفوذه استأثر بالحكم، وحل محل بيت "التمش" في إدارة شؤون الحكم، وحكم أبناؤه معه ولايات الهند، لكنهم بعد وفاته سنة (685هـ = 1278م) لم يستطيعوا الاحتفاظ بدولتهم، فسقط حكهم بعد أربع سنوات من حكم عميد الأسرة "غياث الدين بلبن" حيث تمكن الخلجيون من القضاء عليهم.

من هم الخلجيون؟

الخلجيون أصلهم من الترك الأفغانيين، وكانوا أسرة محاربة، ظهر أمرها من أيام الغزنويين، ويرى بعض المؤرخين أنهم ينتسبون إلى "قليج خان" أحد أصهار "جنكيز خان" نزل بجبال "الغور" بعد هزيمة "خوارزم شاه"، وحرف اسمه بعد ذلك إلى "خلج"، وعرف ورثته بـ "الخلجيون"، واندمجوا في الحياة في "أفغانستان"، واعتنقوا الإسلام في عهد سلاطين الدولة الغزنوية، وضم الجيش الغزنوي فرقًا منهم أسهمت في فتح الهند.

وظهر أمرهم منذ أيام الدولة الغورية، وازداد نفوذهم في عهد المماليك، وتولوا حكم إقليم "البنغال"، ونهضوا بالوظائف الكبرى في الدولة.

قيام دولتهم

بعد وفاة "غياث الدين بلبن" تولى حفيدة "كيقباد" الحكم، وكان شابًا لاهيًا منصرفًا عن إدارة الدولة، وهو ما أطمع الخلجيين في الإطاحة بنظام الحكم في "دلهي"، فجمعوا أمرهم تحت قيادة زعيمهم "فيروز"، ودخلوا "دلهي"، وأسقطوا حكم بيت "غياث الدين بلبن"، وأعلن فيروز نفسه سلطانًا، ولقب نفسه بـ "جلال الدين"، وذلك في الثاني من جمادى الآخرة 689هـ = 13 من يونيو1290م).

جلال الدين فيروز شاه

استطاع السلطان جلال الدين أن يجذب القلوب التي كانت نافرة منه بعد اجتياح قواته مدينة "دلهي" وقتلها "كيقباد"، وقد كان شيخًا كبيرًا في السبعين من عمره، يميل إلى الحلم والسماحة؛ فنجح في أن يتألف القلوب من حوله، وبلغ من سماحته أنه عفا عن بعض الثائرين عليه، وفكَّ أغلالهم، وأجلسهم بمجلسه، وقال لهم: كنتم زملائي، وقد جعلني الله ملكًا؛ فأنا أشكر الله على نعمته، ولا أنسى الماضي، وأنتم بوفائكم لأميركم من "آل بلبن" قد قمتم بواجبكم، ولا يمكن أن أحاسبكم على هذا الوفاء.

وقد نجح السلطان "جلال الدين" في رد غارات المغول حين عاودوا هجومهم على الهند، وأسر منهم ألوفًا، وأنزلهم بضواحي "دلهي"، ثم خرج في سنة (694هـ = 1214م) لفتح "الدكن"، وتمكن من التغلب على إمارة "ديوكر" الهندية، ودخل الدكن؛ فكان أول من دخلها من سلاطين المسلمين.

وكان من إفراط السلطان في حسن الظن بمن حوله أن استطاع ابن أخيه علاء الدين محمد أن يستدرجه إلى مقامه في "كره"؛ بدعوى مشاهدة بعض الغنائم الثمينة التي أتى بها من "الدكن"، ودبر له مَن قتله قبل أن يلتقيا في (4 من رمضان 694 هـ = 18 من يوليو 1295م).

علاء الدين الخلجي

بعد أن غدر "علاء الدين" بعمه زحف بجيشه إلى "دلهي"، حين جمعت زوجة جلال الدين أنصار زوجها، ونادت بابنها "ركن الدين إبراهيم" سلطانًا خلفًا لأبيه، لكن علاء الدين هاجم دلهي، وأجبر ركن الدين على الفرار إلى "الملتان"، ونصَّب نفسه على عرش الهند في دلهي سنة (695 هـ = 1295م).

ولما استقرت الأمور لعلاء الدين بدأ يتجه لشؤون الدولة الحربية، ويعنى بالنواحي الاجتماعية، وكان سلطانًا قويًا طموحًا، نجح في دفع الخطر المغولي عن بلاده، وقاد جنده في فتوحات متصلة، حتى أظلت راية الإسلام شبه القارة الهندية كلها لأول مرة في التاريخ.

ولكي يدفع هجمات المغول أقام سلسلة من الحصون على حدوده الغربية، وزودها بالجند والسلاح، ولكن ذلك لم يحُلْ دون هجمات المغول على الهند، فتوالت حملاتهم على الرغم مما كان يتكبدونه من خسائر على أيدي علاء الدين وقادته، مثلما حدث في سنة (698هـ = 1298م) حين سار سلطان المغول "قتلق خواجه" على رأس قوات كثيفة، فتصدى لها علاء الدين وقائداه "ظفرخان" و"ألج خان"، وأنزلوا بالمغول هزيمة قاصمة، لكنها لم تمنعهم من موالاة الهجوم مرات أخرى حتى تمكن القائد "غازي ملك تغلق" من القضاء على خطرهم تمامًا.

وفي الوقت الذي كان فيه "علاء الدين" مشغولا بالقضاء على هجمات المغول كان يعد الجيوش لاستكمال فتح الهند، فأرسل في سنة (699هـ = 1299م) قائديْه "ألنخان" "ونصرت خان" لفتح حصن "رنتنبهور" أعظم حصون إقليم "الراجبوتانا"، فنجحا في مهمتهما بعد حروب دامية، ودخل الإقليم في طاعة "علاء الدين الخلجي"، ثم فتح إمارة "موار"، وكانت أمنع إمارات "الراجبوتانا" بقلعتها الحصينة القائمة على قمة جبل منحوتة في الصخر، ثم استولى على "ملوة" و"أوجين" و" دهري نجري"، ولم يكد يأتي عام (706 هـ = 1306) حتى كان "علاء الدين الخلجي" قد فتح "الهنستان" كلها من "البنغال" إلى "البنجاب".

وواصل علاء الدين فتوحاته؛ فأرسل قائده الحبشي "كافور"، فاخترق أقاليم "ملوة" و"الكجرات"، ثم أردف ذلك بجيش آخر يقوده "أدلوغ خان"، واستولى الجيشان على "ديوكر، وتوالت انتصارات علاء الدين بفضل كافور القائد المظفر، فقاد حملة هائلة في سنة (710 هـ = 1310م) تمكنت من فتح الجنوب الهندي كله.

وقد اغتر علاء الدين بهذه الانتصارات التي تحققت على يديه حتى لُقِّب بالإسكندر الثاني، وأسكرته الغنائم والكنوز التي غنمها في حروبه، وتراءى له أن يفتح العالم بجنده، كما فعل الإسكندر، وسرَحَ به الخيال إلى أبعد من ذلك، فصرح أن قادته هم بمنزلة الخلفاء الراشدين، ولكن عمه القاضي علاء الملك أيقظه من أحلامه الضالة، وذكَّره بأن النبوة قد انتهى زمانها، ورده إلى جادة الصواب، فعاد إليه عقله، وانتبه من غفلته.

الإصلاح الداخلي

وقد وجدت نصيحة القاضي صداها عند علاء الدين؛ فعدل عن رأيه إلى الاهتمام بشؤون دولته والعمل على نهضتها، ووضع النظم الإدارية والمالية التي تصلح من شأن مملكته، وقُدِّر لها أن تلقى قدرًا كبيرا من النجاح؛ فعم البلاد الرخاء، ونَعِمَ الناس بالأمن، وكان لرقابته على الأسواق وشدته في معاقبة التجار المدلسين ومنعه من الاحتكار أثرها في رواج التجارة، ورخص الأسعار، وبلغ من شدته أنه كان يأمر بالمطفِّف من التجار فتُقطَع من لحمه حيًا قطع يستكمل بها الميزان عظة لغيره من التجار.

وكان يفتح خزائن دولته العامرة، ويعطي منها التجار والمزارعين حين تشتد الحالة الاقتصادية أو يفسد الزرع حتى لا يتأثر الناس بقلة المعروض من البضائع كما وعُني بأمر الزراعة، وأسبغ رعايته على العلماء، وقد تحدث "ابن بطوطة" في رحلته عما شاهده من الرخاء الذي ينعم به المسلمون تحت حكم علاء الدين.

نهاية الدولة الخلجية

على أن السلطان علاء الدين حين تقدمت به السن أوكل تصريف شؤون دولته إلى "كافور" قائده المعروف، وانقاد له في كثير من الآراء، حتى إذا توفي سنة (715هـ = 1315م) كان كافور قد استبد بالأمر، وأمسك بزمام الدولة بعد أن أجلس على السلطنة طفلا صغيرًا من أبناء علاء الدين، وقد أدى ذلك إلى اشتعال الفتنة في البلاد، وانتهى الأمر بقتله على يد بعض الأمراء المنافسين له، وأقاموا مكانه سلطانا جديدًا يسمى "مبارك شاه الخلجي" سنة (716 هـ = 1316م).

وبدأ السلطان الجديد عهده بسيرة حسنة؛ فرفع كثيرًا من الضرائب من على كاهل الناس، ورد الأرض المغتصبة إلى أصحابها، وأطق سراح المعتقلين، لكن هذه السياسة لم تستمر كثيرًا، وارتد السلطان عنها دون مبرر واضح، وانغمس في الملذات، وانصرف عن متابعة شؤون الدولة؛ فساءت أحوال الدولة، وعادت سيرتها الأولى، وانتهز هذه الحالة المتردية قائده "خسرو" فتخلص منه بالقتل، وكان هندوكيا يُظهِر الإسلام ويُبطن له العداوة، فعاث في الأرض، وأطلق لأتباعه العنان؛ يفسدون، وينشرون ديانتهم الهندوكية، ويطمحون في القضاء على الإسلام، وبلغ من فسادهم أنهم كانوا يقتحمون المساجد، ويقيمون فيها أوثانهم، ويجعلون من المصاحف قواعد لها، وكاد الأمر يخرج من أيدي المسلمين، ولولا أن سارع "غازي ملك تغلق" قائد الخلجيين بالبنجاب، فقضى على هذه الفتنة العارمة سنة (720هـ = 1320م) لتعرض الإسلام في الهند إلى مخاطر لا يعلم مداها إلا الله، وبقضائه على الفتنة بدأ عصر جديد عُرف في التاريخ الإسلامي بعصر "بني تغلق"، وامتد في الهند نحو قرن من الزمان.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-05-2010, 03:12 PM   #103
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ابن سعد وطبقاته الكبرى

(في ذكرى وفاته: 4 من جمادى الآخرة 230هـ)

نشأ التدوين التاريخي الإسلامي مستقلاً تمامًا عن تواريخ الأمم الأخرى، فلم يتأثر بها أو يتابعها فيما يتصل بالموضوع والاهتمام والمنهج، وجاء التقويم الهجري معبّرًا عن التميز والاستقلال، وقد أعطى روحًا جديدة وشعورًا بالقيمة والأصالة، وكان سببًا رئيسيًا في تنظيم تاريخ الإسلام وفصله الواضح عن التواريخ الأخرى.

ونشأ علم التاريخ الإسلامي وتطور ضمن حركة النهضة الثقافية وعملية الاشتغال بالتدوين في القرنين الثاني والثالث الهجريين، فلم تكن نشأته منعزلة عن العلوم الأخرى، أو منفصلةً عنها، وارتبط في نشأته بعلم الحديث والسيرة النبوية، ونما في أحضانهما، كما ارتبط من ناحية أخرى بعلوم اللغة والأنساب والأدب واستفاد منها.

وهدف علم التاريخ عند المسلمين في بداياته إلى دراسة سيرة النبي (صلى الله عله وسلم) ومغازيه، وتناول حياة الصحابة وأعمالهم؛ باعتبارهم حملة العلم ورواة حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) وجاءت الكتابات الأولى في هذا الاتجاه، مثل: سيرة ابن إسحاق، والمغازي للواقدي، والطبقات الكبرى لابن سعد.

المولد والنشأة

في البصرة كان مولد "أبي عبد الله محمد بن سعد بن منيع" سنة (168هـ = 784م)، ولم يُعلَم شيء عن حياته الأولى، غير أنه ابن لمولى من المدينة يلتحق ولاءً بآل العباس، ثم انتقل إلى المدينة وعاش فيها حقبة من الزمن، ولقي شيوخها وتتلمذ على بعضهم. وتذكر بعض الأخبار أنه كان في المدينة سنة (189هـ = 805م)، أي أنه كان في سن الشباب وطلَبِ العلم، ثم نزل بغداد واتصل بالواقدي ولازمه.

شيوخه

وفي أثناء حِلّه وترحاله كان همه الشاغل هو لقاء الشيوخ وكتابة الحديث وجمع الكتب. وتُبيّن سلسلة رواته الذين اعتمد عليهم في طبقاته الكبرى اتصاله بعلماء البصرة والكوفة والمدينة وبغداد، ومن نزل هذه الأمصار من علماء البلاد الأخرى.

وكان بين شيوخه أهل الحديث والأخبار والسير والفقه والأنساب والنحو، مثل: "أبي زيد الأنصاري البصري النحوي"، و"محمد بن سعدان الضرير" وهو من كبار أهل الإقراء، و"سفيان بن عيينه"، و"أبو الوليد الطيالسي"، و"وكيع بن جراح"، و"سليمان بن حرب"، وهم من كبار المحدثين وممن لا يُشَك في عدالتهم ورسوخهم في علم الحديث.

ولم يكتف بالأخذ عن الشيوخ سماعًا، بل كان يستعين بما في الكتب والصحف، ويصرح هو بذلك بقوله: "نظرت في كتاب... و..."، وكانت مؤلفات هشام بن محمد الكلبي وموسى بن عقبة وابن إسحاق وعبد الله بن عمارة الأنصاري، مما اعتمد عليها واستخدمها في كتابه الطبقات الكبرى. لكل هذا لم يكن غريبًا أن يوصف "ابن سعد" بأنه كثير العلم، كثير الحديث والرواية، كثير الكتب.

اتصاله بالواقدي

اتصل ابن سعد بالواقدي محمد بن عمر، المتوفّى سنة (207هـ = 823م)، وكان قد انتهى إليه علم المغازي والسير، ونال شهرة واسعة في عصره، وقد لازمه ابن سعد والتصق به، حتى لقب بـ "كاتب الواقدي"، واجتمعت عنده كتبه، وهو ما جعل "أحمد بن حنبل" يبعث بأحد تلامذته كل جمعة إلى ابن سعد يأخذ شيئًا من كتب الواقدي، ويردها الجمعة الأخرى ويأخذ غيرها.

ولم تقتصر ثقافة ابن سعد على الحديث والأخبار والسير، بل كان له اهتمام بالفقه والغريب، واللغة وعلم القراءات، والتبحر في علم الإنساب؛ حتى إن هشام الكلبي، وهو من الرواة الذين أخذ عنهم ابن سعد الأنساب وكان عَلَمًا فيه– أخذ عن ابن سعد، وهو ما يدل على تمكنه من علم الأنساب واطلاعه الواسع عليه.

طبقات ابن سعد

لم يصل إلينا من مؤلفات ابن سعد سوى طبقاته، وتتضح فيه ثقافته الواسعة وعلمه الغزير، وقصد به خدمة السُنّة النبوية، فتحدث في مؤلفه ذلك عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة والتابعين إلى عصره.

والكتاب قسمان:

القسم الأول: يتناول أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم)، واستعرض فيه حياة الرسول من صغره حتى بعثته، مع العناية بعلامات النبوة قبل الوحي وبعده، وذكر فترة الدعوة المكية والفترة المدنية، وذكر الوفود، وطريقة حياة النبي وما يختص به، وغزواته، ثم ينهِي هذا القسم بالحديث عن مرض النبي (صلى الله عليه وسلم) ووفاته ودفنه وميراثه وما رثي به من أشعار، وراعى في عرض مادة هذا القسم الترتيب الزمني، مع العناية بالترتيب الموضوعي فيما يتصل بعلامات النبوة وسفارات النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخلاقه، وهذا الجزء كان الأساس الذي نشأ عليه ما يُسمى بشمائل النبي ودلائل النبوة، وهي موضوعات أفردها بعد ذلك كبار المحدثين والحفاظ بكتب مستقلة، مثل: شمائل النبي للترمذي، ودلائل النبوة لأبي نعيم، ودلائل النبوة للبيهقي.

واعتمد ابن سعد في مادته على "الواقدي" و"ابن إسحاق" و"موسى بن عقبة" وغيرهم؛ ولذا يعد هو آخر جامعي السيرة النبوية من المتصلين بالمصادر الأولى، وثاني مؤلف- بعد ابن إسحاق- يصلنا كتابه عن السيرة والطبقات كاملاً.

القسم الثاني: يشمل معظم الكتاب، ويضم تراجم للصحابة والتابعين، وقد انتهج ابن سعد في تخطيط هذا القسم ثلاثة أسس:

* الأساس الأول: نوعيّ؛ حيث قسم تراجمه إلى تراجم للرجال وتراجم للنساء، وجعلها في آخر الكتاب.

* الأساس الثاني: زمنيّ؛ حيث بدأ في تراجم الرجال بالالتزام بحسب الأقدمية والسبق في الإسلام، فبدأ بمن شهد بدرًا، ثم من له إسلام قديم ولم يشهد بدرًا، ثم من أسلم قبل فتح مكة.

وداخل هذا التقسيم راعى اعتبارات أخرى، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقدم في المهاجرين من هو أقرب دمًا وصلة برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفي الأنصار قدم الأوس على الخزرج.

* الأساس الثالث: مكانيّ، فبعد أن فرّغ مادته في طبقات الصحابة القائمة على الأساس الزماني، انتهج أساسًا مكانيًا؛ حيث وضع تراجم وفق المكان والبلد، فترجم لرجال المدينة، فمكة، فالطائف، ثم اليمن، واليمامة، والبحرين، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، وخراسان، والري، وهمدان، وقم، والأنبار، والشام، والجزيرة، ثم العواصم والثغور، فمصر، فإيلة، فإفريقية، فالأندلس.

ثم رتب تراجمه في كل مكان من هذه الأماكن ترتيبًا زمنيًا، فبدأ بالصحابة الذين نزلوا البلد والمصر، إن كان منهم من نزله، ثم الطبقة الأولى من التابعين الذين عاشوا مع الصحابي الذي نزل المدينة أو البلد، ثم الطبقة الثانية، ثم التي تليها...

غير أن هذا التقسيم أوقع ابن سعد في التكرار، فقد يكون مترجما لأحد الأشخاص في أكثر من موضع، كأن يكون من أهل بدر وهاجر إلى مِصْرٍ من الأمصار، فتتكرر ترجمته مرتين، ومع هذا فإن ابن سعد تلافى وضوح هذا الأمر بأن أطال الترجمة في موطن واحد وأوجز في المواطن الأخرى.

أهمية الكتاب

يعد الكتاب من أول ما أُلّف في هذا الموضوع، وكان أحد النماذج الأولى في موضوع التراجم التي تطورت منهجيته بعد ذلك، وتفرع فروعًا عديدة، فأصبح هناك قسم خاص لتراجم الصحابة، وآخر لرواة الحديث وضعت فيه مؤلفات مستقلة، مثلما فعل البخاري في كتابه "التاريخ الكبير"، وانفرد كل علم بالترجمة لرجاله؛ فهناك طبقات للفقهاء والمحدثين والشعراء واللغويين، كما تطورت منهجية التقسيم حتى صار الاعتماد على الترتيب الألفبائي هو الغالب في الترتيب.

وقد اعتمد على هذا الكتاب مَنْ تعرّض لتراجم الصحابة والتابعين؛ فكان مصدرًا مهمًا لابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق"، والذهبي في "سير أعلام النبلاء"، وتاريخ الإسلام وابن حجر في كتابيه: "الإصابة"، و"تهذيب التهذيب".

وقد بدأ في نشر الكتاب جماعة من العلماء الألمان منذ سنة (1321هـ = 1903م) بإشراف "شماو" في "برلين"، ثم تعددت طبعاته بعد ذلك.

تلاميذ ابن سعد

لم تحفظ لنا كتب التاريخ من أسماء تلاميذ ابن سعد إلا عددا قليلا، على الرغم من مكانته، وشهود المعاصرين له بالسبق والتقدم. وتلاميذه هم: الحارث بن أبي أسامة، والحسين بن فهم- وهما اللذان رويا الطبقات الكبرى، وحفظا لنا الطبقات على الصورة التي عليها الآن- وأبو بكر بن أبي الدنيا، والبلاذري المؤرخ المعروف، وأحمد بن عبيد.

وتوفي ابن سعد في بغداد في (4 من جمادى الآخرة 230هـ = 17 من يناير 892م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-05-2010, 03:13 PM   #104
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

القاضي عياض.. حافظ المغرب

(في ذكرى وفاته: 9 من جمادى الآخرة 544هـ)

"مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها التي يبثُّونها في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ وأوراد، وانقطعت تلك الأوراد وباد المريدون بمرور الأزمان، وأئمة العلم ما زالوا بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين في كتابه "المجد الطارف والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره الرفيع بين علماء الإسلام، وليس في كلام الشيخ مبالغة أو تزويد؛ فقد حقق القاضي عياض شهرة واسعة حتى قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما يعنون- أنه أول من لفت نظر علماء المشرق إلى علماء المغرب حتى أواسط القرن السادس الهجري.

المولد والنشأة

يعود نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي "غرناطة" واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية، ثم غادرها جده "عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ = 893م)، واشتهرت أسرته بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه المدينة مولد عياض في (15 من شعبان 476هـ = 28 من ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتعلم، وتتلمذ على شيوخها.

الرحلة في طلب العلم

رحل عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق الروايات، وطاف بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه والحديث؛ فنزل قرطبة أول ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"، و"ابن الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم رحل إلى "مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد الصدفي، وكان حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه الصحيحين البخاري ومسلم، وأجازه بجميع مروياته.

اكتفى عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق مثلما يفعل غيره من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية في الأندلس وظهور عدد كبير من علمائها في ميادين الثقافة العربية والإسلامية، يناظرون في سعة علمهم ونبوغهم علماء المشرق المعروفين.

عاد عياض إلى "سبتة" غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار، والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة 508هـ = 9 من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من عمره، ثم تقلد منصب القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه ستة عشر عامًا، كان موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة" سنة (531هـ = 1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى قضاءها سنة (539هـ = 1144م).

القاضي عياض محدثًا

كانت حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير أن الذي أذاع شهرته، وخلَّد ذكره هو مصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار الأئمة في تاريخ الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة العلم وإتقان الحفظ، وجودة الفكر، والتبحر في فنون مختلفة من العلم.

وكان القاضي عياض في علم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف بطرقه، الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان سعيه الحثيث في سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق له من علو الإسناد والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من المحدِّثين، وكان منهج عياض في الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق المتن، وهو يعد النقل والرواية الأصل في إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أو روايته بالمعنى، وما يجره ذلك من أبواب الخلاف.

وطالب المحدث أن ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه فإنه يجب عليه إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث كما سمعه مع بيان ما يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون قطع برأي يؤدي إلى الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف في الحديث بالرأي.

وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة كتب هي: "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" وهو من أدَلِّ الكتب على سعة ثقافة عياض في علم الحديث وقدرته على الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم والزلل والتصحيف، وقد ضبط عياض في هذا الكتاب ما التبس أو أشكل من ألفاظ الحديث الذي ورد في الصحيحين وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الكتب الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما وقع فيه الاختلاف، أو تصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب هذه الكلمات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.

أما الكتابان الآخران فهما "إكمال المعلم" شرح فيه صحيح مسلم، و"بغية الرائد لما في حديث أم زرع من الفوائد".

وله في علم الحديث كتاب عظيم هو " الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"

... فقيهًا

درس القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهو مؤلَّف يدور عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه الشروح والمختصرات والحواشي، غير أن المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث تتداخل فيها المسائل المختلفة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع الآثار مع المسائل الفقهية.

وقد لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك في كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة" ولا شكَّ أن قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب المالكي وازدهاره.

القاضي عياض مؤرخًا

ودخل القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف " تدريب المدارك"، وهو يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي ورواة "الموطأ" وعلمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل علم أهل المدينة، ودافع عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من أصول التشريع، وحاول ترجيح مذهبه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة للإمام مالك وأصحابه وتلاميذه، وهو يعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه، ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.

والتزم في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا يدرج تحته علماءه من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين خاصة بها، وإن كان ملتزما بنظام الطبقات.

وأفرد لعلمائه وشيوخه الذين التقى بهم في رحلته كتابه المعروف باسم "الغُنية"، ترجم لهم فيه، وتناول حياتهم ومؤلفاتهم وما لهم من مكانة ومنزله وتأثير، كما أفرد مكانا لشيخه القاضي أبي على الحسين الصدفي في كتابه "المعجم" تعرض فيه لشيخه وأخباره وشيوخه، وكان "الصدفي" عالمًا عظيما اتسعت مروياته، وصار حلقة وصل بين سلاسل الإسناد لعلماء المشرق والمغرب؛ لكثرة ما قابل من العلماء، وروى عنهم، واستُجيز منهم.

... أديبًا

وكان القاضي أديبًا كبيرًا إلى جانب كونه محدثًا فقيهًا، له بيان قوي وأسلوب بليغ، يشف عن ثقافة لغوية متمكنة وبصر بالعربية وفنونها، ولم يكن ذلك غريبًا عليه؛ فقد كان حريصًا على دراسة كتب اللغة والأدب حرصه على تلقي الحديث والفقه، فقرأ أمهات كتب الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه مثلما فعل مع كتب الحديث والآثار، فدرس "الكامل" للمبرد و"أدب الكاتب" لابن قتيبة، و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، و"ديوان الحماسة"، و"الأمالي" لأبي علي القالي.

وكان لهذه الدراسة أثرها فيما كتب وأنشأ، وطبعت أسلوبه بجمال اللفظ، وإحكام العبارة، وقوة السبك، ودقة التعبير.

وللقاضي شعر دوَّنته الكتب التي ترجمت له، ويدور حول النسيب والتشوق إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، والمعروف أن حياته العلمية وانشغاله بالقضاء صرفه عن أداء فريضة الحج، ومن شعره الذي يعبر عن شوقه ولوعته الوجدانية ولهفته إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم):

بشراك بشراك فقد لاحت قبابهم

فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار

هذا المحصب، هذا الخيف خيف منى

هذي منازلهم هذي هي الدار

هذا الذي وخذت شوقًا له الإبل

هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل

هذا الذي ما رأتْ عين ولا سمعت

أذْنٌ بأكرمَ من كَفِّهِ إن سألوا


ولا يمكن لأحد أن يغفل كتابه العظيم "الشفا بأحوال المصطفى" الذي تناول فيه سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقصد من كتابه إحاطة الذات النبوية بكل ما يليق بها من العصمة والتفرد والتميز عن سائر البشر، في الوقت الذي كانت فيه آراء جانحة تخوض في مسألة النبوة، وتسوِّي بين العقل والوحي. ولما كان النص الشرعي مصدرًا أساسيًا للمعرفة وأصلا لا يحتمل النزاع فيه متى ثبت بالسند الصحيح، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مصدر هذه المعرفة، فقد انبرى القاضي عياض ببيان مقام النبوة وصيانته من كل ما لا يليق به.

وفاته

عاش القاضي عياض الشطر الأكبر من حياته في ظل دولة "المرابطين"، التي كانت تدعم المذهب المالكي، وتكرم علماءه، وتوليهم مناصب القيادة والتوجيه، فلما حلَّ بها الضعف ودبَّ فيها الوهن ظهرت دولة "الموحدين"، وقامت على أنقاض المرابطين، وكانت دولة تقوم على أساس دعوة دينية، وتهدف إلى تحرير الفكر من جمود الفقهاء والعودة إلى القرآن والسنة بدلاً من الانشغال بالفروع الفقهية، وكان من الطبيعي أن يصطدم القاضي عياض -بتكوينه الثقافي ومذهبه الفقهي- مع الدولة القادمة، بل قاد أهل "سبتة" للثورة عليها، لكنها لم تفلح، واضطر القاضي أن يبايع زعيم "الموحدين" عبد المؤمن بن علي الكومي.

ولم تطُلْ به الحياة في عهد "الموحدين"، فتوفي في (9 من جمادى الآخرة 544 هـ = 14 من أكتوبر 1149م)
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-05-2010, 03:16 PM   #105
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الهمذاني.. رائد القصة والمقالة

(في ذكرى وفاته: 11 من جمادى الآخرة 398هـ)

يعد "بديع الزمان الهمذاني" المبتكر الأول لفن المقامة الذي انتشر على نحو واسع كأحد فنون النثر في الأدب العربي، كما يعد الرائد الحقيقي للصحافة، ليس في الأدب العربي فحسب، وإنما كان الصحفي الأول على الإطلاق؛ فقد كانت رسائله ومقاماته النقدية الاجتماعية هي البدايات الحقيقية الأولى لذلك الفن الذي عُرف فيما بعد بالصحافة.

الميلاد والنشأة

ولد "بديع الزمان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني" في همذان سنة [358 هـ= 969م]، لأسرة عربية ذات علم وفضل ومكانة مرموقة، فقد كان أخوه "الحسين بن يحيى" مفتي همذان.

ونشأ "بديع الزمان" في بيئة علمية خصبة، حيث كانت همذان موطن عدد كبير من العلماء الأعلام الذين تتلمذ عليهم "بديع الزمان"، ومنهم " أحمد بن فارس" اللغوي المعروف، و"أبو بكر محمد بن الحسين الفراء" اللغوي الشهير.

وعندما بلغ "بديع الزمان" الثانية والعشرين من عمره غادر همذان متوجهًا إلى أصبهان حيث اتصل بالصاحب بن عباد وزير "بني بويه".

كانت " أصبهان" -عاصمة "بني بوية"- مدينة جميلة حافلة بالمناظر الساحرة والبساتين البديعة، والقصور الفخمة والطبيعة الفاتنة، ولذلك فقد كانت تجذب إليها الأدباء والشعراء، وكان للصاحب بن عباد دور كبير في تشجيع الأدباء والعلماء وإثراء الحركة الأدبية والعلمية في أصفهان، حتى غدت تلك المدينة، إحدى منارات العلم في ذلك العصر، ومحط أنظار العلماء والأدباء، وكعبة طلاب العلم من كل مكان.

في أصفهان

وأقبل بديع الزمان على مجالس الأدباء والشعراء في أصفهان، وسرعان ما جذب إليه الأنظار ببراعته وقوة حافظته، حتى إنه كان يحفظ و"ينشد الشعر لم يسمعه قط -وهو أكثر من خمسين بيتًا- إلا مرة واحدة، فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها ولا يخرم حرفًا، وينظر في الأربعة أو الخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهذّها عن ظهر قلب هذا ويسردها سردًا".

وكان الهمذاني يميل إلى الإسجاع والإغراب والأحاجي، وكان بارعًا متفردًا في هذا الباب، يروى أنه "كان يُقترح عليه عمل قصيدة وإنشاء رسالة في معنى بديع وباب غريب فيفرغ منها في الوقت والساعة، وكان ربما كتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخره، ثم هلم جرًّا إلى أوله، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه".

وعُرف بسرعة بديهته وحضور ذهنه وقدرته الفائقة على النظم والارتجال، لا يكاد يباديه أحد أو يجاريه إنسان، فكان "يُقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرجله أسرع من الطرف على ريق لم يبلغه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة وفيض اليد ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وكان يترجم ما يُقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية بالأبيات العربية".

الرحيل إلى نيسابور

إلا أن بديع الزمان السُّنّي المتعصب للعرب لم يستطع الاندماج في مجتمع بني بويه وبلاط الصاحب بن عباد الشيعي الخالص، ولم يطل مقام بديع الزمان بأصبهان، فتركها إلى جرحان، حيث أقام في كنف "أبي سعيد محمد بن منصور"، واتصل بأميرها "شمس المعالي قابوس بن وشمكير" أمير الدولة الزبادية، وكان أديبًا بليغًا، وله معه مراسلات بديعية.

غير أن بديع الزمان لم يلبث أن غادر جرحان لخلاف بينه وبين أبي سعيد، فاتجه إلى نيسابور سنة [382هـ= 992م].

وكانت نيسابور أعظم مدن خراسان في ذلك الوقت، وكانت ملتقى العلماء وأعلام الفكر والأدب، وكان العلماء والأدباء كثيرًا ما يعرّجون عليها في رحلاتهم بين المشرق والعراق، فيقيمون فيها بعض الوقت.

وذاعت شهرة بديع الزمان في نيسابور بعد مناظرته الشهيرة مع العالم الأديب "أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي" وانتصاره عليه بشكل لفت الأنظار إلى قدراته الأدبية الفذة، فطار بذلك صيته وعلت شهرته.

واستطاع بديع الزمان خلال فترة إقامته بنيسابور إملاء عدد كبير من المقامات بلغت أربعمائة مقامة، وقد اتصل خلالها بعدد كبير من أدباء نيسابور وأعلامها مثل: الأديب أبي نصر سهل بن المرزبان، وأبي جعفر الميكالي أحد وجهاء آل ميكال المقدّمين، وقد مدحه بديع الزمان ونال عطاءه، كما كانت له صلة طيبة بواحد من أكبر وجهاء نيسابور وهو أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، وكانت له حظوة ومكانة كبيرة عنده.

وطاب المقام لبديع الزمان بنيسابور بعدما نال من الشهرة والحظوة، ورغب في الاستقرار بها، ولكن حساده ومنافسيه سعوا بالوشاية ضده والدسائس عليه حتى أوغروا عليه أبا جعفر الميكالي، والصعلوكي، فحُرِم مما كان ينعم به من الشهرة والجاه والعطاء.


من أقوال العلماء فيه

قال عنه الثعالبي: "هو بديع الزمان ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصور، ومن لم يُدرك قرينه في النثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم يُر أن أحدًا بلغ مبلغة من الأدب وسرّه، وجاء بمثل إعجازه وسمره، فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب".

ويصف الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن دست ـ جامع رسائل الهمذاني ـ بقوله: "وكان أبو الفضل طلق البديهة، سمح القريحة، شديد العارضة، زلال الكلام عذبه، فصيح اللسان غضبه، إن دعا الكتابة أجابته عفوًا، وأعطته قيادتها صفوًا، أو القوافي أتته ملء الصدور على القوافي، ثم كانت له طرق في الفروع هو افترعها، وسننٌ في المعاني هو اخترعها".



وقد انقسمت الرسائل تبعًا لأغراضها وأساليبها إلى نوعين:

الرسائل الديوانية: وهي التي تكتب في شئون الدولة، وتسجل الأحداث التاريخية أو الأوامر والتوجيهات الرسمية إلى الولاة والأمراء والقواد وكبار الموظفين في الدولة.

وكان من أشهر كتاب هذه الرسائل: أبو الفضل بن العميد، والصاحب بن عباد، والوزير المهلبي، والأمير قابوس بن وشمكير.

الرسائل الإخوانية: وهي التي يكتبها الأدباء عامة من غير العاملين في دواوين الدولة، وهي غير محددة بموضوعات معينة، وإنما يكتبها الأدباء في مناسبات خاصة أو مطارحات أدبية ومساجلات بلاغية فيما بينهم.

وكان من أشهر كتاب تلك الرسائل ـ بالإضافة إلى من سبق ـ: أبو حيان التوحيدي، وأبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني.

وقد ترك بديع الزمان تراثًا وافرًا من الرسائل التي عكست بوضوح انطباعاته النفسية العميقة، وحسه الفني المرهف، ومزاجه الأدبي الرفيع، وكشفت بجلاء عن خلجاته وأحاسيسه وكثير من جوانبه النفسية وحالاته الوجدانية من فرح وسرور، أو تشاؤم وحزن، أو شكوى ونقمة، وتظهر شجاعته واعتداده بنفسه، فهو لا يبالي في هجومه على من يتعرض لنقدهم، وإظهار الجوانب السلبية التي يراها في أعمالهم وسلوكهم .

وتناول الهمذاني في رسائله العديد من الأغراض: كالمدح والهجاء، والشكوى والعتاب، والتهنئة والاعتذار، والاستعطاف والاستجداء، والنصح والإرشاد، والصداقة والإخاء، والفخر والاعتزاز بالنفس.

كما حظيت الحياة العامة والجوانب الاجتماعية - وخاصة العيوب والسلبيات التي كانت منتشرة في زمانه- بنصيب وافر من رسائله، ولعله في ذلك يكون أول رائد لفن المقالة الصحفية في الأدب العربي، بل ربما كان أول صحفي على الإطلاق عند العرب وغير العرب، فليست رسائله التي تناول فيها المشاكل العامة نقدًا وبناءً إلا مقالات صحفية مبّكرة، وإذا كانت ميزات الصحافة الحديثة سرعة انتشار الصحيفة، فإن رسائل بديع الزمان شأنها في ذلك شأن غيرها من رسائل معاصريه، فلقد كانت سرعان ما تصل إلى كل مكان من الأرض الإسلامية، يتلقفها الناس ويقرءونها.

ويعنى الهمذاني في رسائله بانتقاء الألفاظ الموسيقية العذبة، كما يحرص على توليد الصور المختلفة في غير تكلف ولا عنت، فهو يردد المعنى الواحد بصور شتى، وصيغ متعددة، كما يحرص على الاقتباس من القرآن الكريم، والشعر العربي، ويهتم بألوان البيان كالاستعارة والتشبيه، كما يولع بالمحسنات البديعية كالسجع والجناس والطباق المقابلة.

مقامات بديع الزمان


ترجع شهرة بديع الزمان الهمذاني إلى مقاماته الشهيرة التي كان له فضل السبق إليها، فهو أول من ابتكر فكرتها، وأطلق عليها هذا الاسم حتى اشتهر بها وقد أعجب كثير من الأدباء بهذا اللون الجديد من فنون الأدب، فاقتفوا أثره ونسجوا على منواله.

وأصل المقامة في اللغة: المجلس والجماعة من الناس، وقد أُطلقت على المحاضرة، كما أطلقت على المجالس التي كان يستقبل فيها الخلفاء الأدباء والعلماء.

ويذكر الثعالبي في ترجمته لبديع الزمان أنه أملى أربعمائة مقامة بنيسابور، ولكن الذي وصلنا منها لا يتجاوز اثنتين وخمسين مقامة فقط. وقد اخترع الهمذاني بطلين لمقاماته، سمى أحدهما عيسى بن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري، وجعل الأول رواية، والثاني بطلا مغامرًا.

ولم يحرص بديع الزمان على أن يظهر أبا الفتح في جميع المقامات، بل كان يقلل من شأن مغامراته أحيانًا ويغفل ذكره أحيانًا، وشخصية أبي الفتح الإسكندري شخصية مثيرة متعددة الجوانب، تثير العجب وتدعو إلى الإعجاب، فهو يحترف الكُدية (التسول)، ويتميز بالفصاحة في اللسان، والبراعة في الشعر، كما أنه شخصية فكاهية مرحة، يتسم بالذكاء وخفة الظل، محب للمغامرة وارتياد المجهول.

وموضوعات المقامات -في معظمها- ذات صلة بالناس، وتتعلق بالحياة اليومية والمشكلات العامة، وتصور أخلاق المعاصرين وأحوال العصر أحسن تصوير.

وتتميز المقامات بكثرة الشواهد الشعرية، وحسن المواءمة بين الشعر والنثر، كما تظهر فيها قدرات الهمذاني البيانية العالية، وبراعته الفائقة في استخدام المحسنات البديعية.

بديع الزمان شاعرًا

لم يكن الهمذاني وحده من بين أدباء عصره الذي اقتحم ميدان الشعر، فإن كثيرًا من معاصريه مارسوا نظم الشعر حتى أصبح ذلك تقليدًا متبعًا عند قدامى الكتاب الذين حافظوا على تلك الظاهرة، وتوارثوها، حتى إننا لنجد أثرًا منها لدى كثير من الكتاب في العصر الحديث، مثل عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، ومصطفى صادق الرافعي، وطه حسين.

ويحتل المديح الجانب الأكبر من ديوان الهمذاني، وتتوزع بقية الأغراض في الجزء المتبقي من الديوان. ويتفاوت شعره من حيث الجودة، وأجود شعره في أغراض المدح، فإذا كتب في غيره من الأغراض قل نصيبه من الجودة، وصارت طبيعة الكاتب هي الغالبة عليه.

ومن شعره الجيد في الحكمة:

يا من يطيل بناءه متوقيًا *** ريب المنون وصرفه لا تُحْرَجِ

فالموت يفرغ كل قصر شامخٍ *** والموت يفتح كل باب مرْتَجِ

ومن شعره في الوصف، ويتجلى فيه كلفه بالمحسنات البديعية:

خلع الربيع على الربى *** وربوعها خزًا وبزّا

أَوَما ترى الأقطار قد *** أخذت من الأمطار عِزّا

ومن شعره في مدح السلطان محمود بن سبكتكين:

أطلت شمس محمود *** على أنجم ساحان

وأمسـى آل بهـرام *** عبيدًا لابن خاقان

إذا ما ركـب الفيـل *** لحرب أو لميدان

رأت عيناك سلطانا *** على منكب شيطان

وتوفي بديع الزمان الهمذاني في [11 من جمادى الآخرة 398هـ= 23 من فبراير 1008م] عن عمر بلغ أربعين عامًا، وتذكر الروايات أنه مات بالسكتة، وعُجّل بدفنه فأفاق في قبره، وسمع صوته بالليل، فنُبش عنه، فوجدوه قابضًا على لحيته، ولكن ابن خلكان يذكر أنه مات مسمومًا دون أن يشير إلى من دس له السم، أو أن له أعداء.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-05-2010, 03:17 PM   #106
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

السلطان أحمد الأول وإنقاذ مسلمي "الأندلس"

(في ذكرى مولده: 12 من جمادى الآخرة 998هـ)


يشترك السلطان العثماني أحمد الأول مع السلطان المملوكي "حسن بن محمد الناصر" في أن كليهما تولى الحكم في سن صغيرة، وتوفيا وهما دون الثلاثين، وأن كلاً منهما ترك أثرًا خالدًا يثير الدهشة والإعجاب، وهو ما جعل اسميهما يترددان على الألسنة مثلما ترددت أسماء مشاهير القادة وعباقرة الأدب والفن وجهابذته، وهما لم يكونا كذلك.

أما أحدهما- وهو السلطان حسن- فقد ترك بالقاهرة مسجدًا عظيمًا يحمل اسمه، ويجمع بين قوة البناء وعظمة التخطيط، وجمال الزخرفة ورقة النقوش، ولا يزال حتى الآن يدهش زائريه بفخامته وعمارته.

وأما الآخر- وهو السلطان أحمد الأول- فقد ترك أيضا مسجدًا عظيمًا عرف باسمه وهو "مسجد السلطان أحمد الأول"، والذي يعد من أعظم عمائر الدولة العثمانية، وأفخمها بناء، وأجملها هندسة، وصاحب هذا الأثر هو موضوع حديثنا.

المولد والنشأة

في "مانيسا" بغربي تركيا كان مولد أحمد الأول في (12 من جمادى الآخرة 998هـ = 18 من إبريل 1590م)، ونشأ في حجر أبيه محمد الثالث، الذي لم يكن قد تولّى خلافة الدولة. وبعد نحو خمس سنوات تولَّى محمد الثالث الحكم خلفًا لأبيه مراد الثالث، ودامت سلطنته تسع سنوات، وكان مثقفًا ثقافة عالية، وله ديوان شعر، وقد عُني بتربية ولده أحمد وإعداده ليكون أهلا لتحمل تبعات الخلافة الجسيمة، وعيّنه في ولاية العهد وهو في الثانية عشرة من عمره، ولم يمكث أحمد في ولاية العهد سوى عام ونصف العام؛ إذ توفّي أبوه السلطان محمد الثالث وتولى هو الخلافة من بعده، وهو في نحو الرابعة عشرة من عمره في (18 من رجب 1012هـ = 22 من يناير 1603م).

تولّى أحمد الأول السلطنة ولم يكن قد مارس إدارة الدولة، أو خرج لجبهات القتال، ولكن حاول أن يعمل ما وسعه الجهد في حماية مصالح الدولة التي كانت تمر بأزمة عنيفة؛ فقد كانت الدولة مشتبكة في قتال مع النمسا، والدولة الصفوية تتربص بها الدوائر.

الحرب مع النمسا

كانت الدولة العثمانية مشتبكة في حرب مع النمسا منذ سنة (1003هـ = 1594م)؛ بسبب قيام النمسا بالاعتداء على البوسنة، وقُتل حاكمها في معركة "سيساك" سنة (1002هـ = 1593م)، وكانت بداية الحرب سيئة بالنسبة للدولة العثمانية، ولحقت بها عدة خسائر، فخلعت ملداقيا وولاشيا وتراتسلفانية طاعة السلطان العثماني محمد الثالث سنة (1003هـ = 1594م)، وانضمت للنمسا، وتعرضت طرق مواصلات الدولة مع "بودا" و"بلجراد" للخطر، ولم يكن أمام السلطان العثماني سوى أن يقود الجيش بنفسه، فاشتعل الحماس في نفوس جنوده، وتمكّن من انتزاع حصن "إيجر"، ثم حقق نصرًا هائلاً في معركة "هاجوفا"، وأباد معظم الجيش النمساوي.

وبدلاً من أن يتقدم العثمانيون إلى الأمام لفتح بلاد جديدة عادوا إلى الخلف، وكانت فكرة المحافظة على ما تملكه الدولة قد سيطّرت على عقول سلاطين الدولة الذين فقدوا روح الفتوحات وطاقة التحرك، وظلت الجبهة العثمانية النمساوية مفتوحة، واستمرت المناوشات بعد ذلك.

ولما تولَّى السلطان أحمد الأول استمرت الحرب مع النمسا، واستعاد العثمانيون "إستركون" بعد حصار شديد بعد أن ظلت أسيرة في أيدي النمساويين عشر سنوات، كما استعادوا بعض القلاع، ووصل الجيش العثماني إلى أقصى الشمال الشرقي من المجر.

أدركت النمسا خسارتها في الحرب فطلبت الصلح، وكان هذا مطلبًا عثمانيًا حتى تتفرغ الدولة لحربها مع إيران، فعُقدت معاهدة بين الطرفين عُرفت باسم معاهدة "ستفاتوروك" في (10 من رجب 1015هـ = 11 من نوفمبر 1606م)، وانتهت بها تلك الحرب التي استمرت نحو ثلاث عشرة سنة ونصف السنة.

وبمقتضى هذه المعاهدة دفعت النمسا إلى الدولة العثمانية غرامة حرب قدرها 67000 سكة ذهبية، وأُلغيت الجزية التي كان يدفعها إمبراطور النمسا إلى الدولة العثمانية كل سنة، وثبتت الحدود على أساس أن لكلٍ الأراضي الموجودة تحت سيطرته، وأن تخاطب الدولة العثمانية حاكم النمسا باعتباره إمبراطورًا لا ملكًا، يقف على قدم المساواة مع السلطان العثماني.

الصراع مع إيران

بدأت الحرب بين الدولة العثمانية وإيران بهجوم الصفويين على تبريز في السنوات الأخيرة من حكم السلطان محمد الثالث، ونجح الشاه "عباس الكبير" في الاستيلاء على "تبريز"، منهيًا بذلك الحكم العثماني بها، وقد توغل في الأراضي العثمانية بعد أن عجزت الدولة العثمانية عن إيقاف هذا الزحف.

وقبل الطرفان الصلح، ووقّعا معاهدة عُرفت باسم معاهدة "إستانبول" في (24 من شعبان 1021هـ = 20 من نوفمبر 16012م)، وانتهت الحرب التي دامت نحو أربعة عشر عامًا بين البلدين، وبمقتضى هذه المعاهدة استعادت إيران ما يقرب من 400,000 كم2 من الأراضي التي كانت قد استولت عليها الدولة العثمانية من قبل، بما فيها مدينة بغداد.

القضاء على الثورات الداخلية

لم تكن الصراعات الخارجية وحدها موضع اهتمام السلطان أحمد وعنايته، وإنما واجهته مشكلات داخلية وقيام حركات التمرد والانفصال داخل أراضي الدولة العثمانية، وقد نجح في إخمادها والقضاء عليها؛ حيث قام الصدر الأعظم "مراد باشا"- وكان قائدًا محنكًا قد تجاوز الثمانين من عمره- بالقضاء على فتنة "جان بولاد" الكردي في حلب سنة (1016هـ = 1067م)، واضطر بولاد بعدها إلى الهرب إلى السلطان معتذرًا، فقبل السلطان عذره وعفا عنه.

كما نجح الصدر الأعظم في هزيمة "فلندر أوغلي" والي أنقرة، بعد أن استولى على "بروسة" و"مانيسا"، وشنَّ حملة على الأمير الدرزي "فخر الدين المعنّى" حاكم لبنان، الذي جمع حوله الأتباع من النصارى والدروز والنصيريين- وكانت تدعمه إيطاليا- وأعلن العصيان على الدولة سنة (1022هـ = 1613م)، وبعد هزيمته فر إلى إيطاليا.

إنقاذ مسلمي إسبانيا

بعد مائة وعشرين سنة من سقوط "غرناطة" آخر معاقل الإسلام في الأندلس سنة (898 هـ = 1429م) لم يعد هناك مسلم في إسبانيا والبرتغال، بعد صدور مرسوم ملكي في إسبانيا باسم "فيليب الثالث" سنة (1018هـ = 1609م) ينذر فيه المسلمين الموجودين في إسبانيا بتركهم الأراضي الملكية خلال 72 ساعة، وكان هذا أمرًا مستحيلاً في هذا الوقت، وكان الغرض من القرار هو إفناء آخر من بقي من المسلمين. واستمرت هذه المأساة الدامية عشرة أشهر، قُتل في أثنائها نحو 400,000 (أربعمائة ألف) مسلم، وفرّ من تبقّى إلى الجزائر، وتنصر بعضهم فوهبت له الحياة النصرانية.

في هذه الفترة أرسل السلطان أحمد الأول في سنة (1019هـ = 1610م) الحاج "إبراهيم أغا" إلى لندن سفيرًا فوق العادة، وكان الغرض الحقيقي من ذهابه إلى أوروبا الغربية جمع الأندلسيين الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى شمال إفريقيا فلجئوا إلى غرب أوروبا، وكان أكثرهم في عداد العبيد، وقد نجح الحاج إبراهيم في جمع العائلات التي تمكّن من العثور عليها، وقام بنقلها إلى الأراضي العثمانية.

مسجد السلطان أحمد الأول


أقام السلطان أحمد الأول في ساحة "آط ميدان" بإستانبول مسجدًا عظيمًا يحمل اسمه، وتولّى الفنان الصّداف "محمد أغا" مهمة إنشائه، وقد بدأ العمل في البناء سنة (1019هـ = 1069م)، وانتهى من تشييده بعد سبع سنوات ونصف السنة.

ويعد هذا المسجد أرحب ما أنشئ من المساجد السلطانية، وأكثرها مآذنَ؛ حيث ترتفع له ست مآذن سامقة، وتبلغ مساحة المسجد ما يعادل 64× 72 مترًا، وقطر قبته 23.50 مترًا، ويبلغ ارتفاعها 43 مترًا، وترتكز على أربع دعائم أسطوانية، قطر الواحدة منها خمسة أمتار، وتغطي جدران المسجد 21043 بلاطة خزفية تجمع أكثر من خمسين تصميمًا، وتشغل الزخارف المدهونة كل جزء من أجزاء المبنى، وقد أضفى لونها الأزرق على جو المسجد من الداخل إحساسًا قويًا بسيطرة هذا اللون؛ ولذا سُمي بـ"الجامع الأزرق".

السلطان أحمد في التاريخ

تولّى السلطان أحمد الحكم في سن صغيرة، وكان هذا من بين الأسباب التي أدت إلى تعرض الدولة إلى اضطرابات داخلية، غير أنه ما لبث أن أظهر جلدًا وحزمًا، وعمل بجدية في إدارة شؤون الدولة، ولم يترك كل شيء لوزرائه، وحاول جاهدًا حماية مصالح الدولة، وامتاز- إلى جانب ذلك- بأنه كان متدينًا، معتدلا في مظهره، شاعرًا، فارسًا، يستخدم السلاح بمهارة.

وفي عهده تحددت الامتيازات الأجنبية لكل من إنجلترا وفرنسا وهولندا وبولندا، واستطاعت هولندا من خلال تلك الامتيازات أن تدخل تجارة التبغ في العالم الإسلامي.

وفاة السلطان

استطاع السلطان أحمد الأول في الفترة الأخيرة من حكمه أن يكتسب خبرات واسعة، وأصبح سلطانًا ناضجًا عاقلا، وأظهر قدرات في الحكم أشبه بقدرات سلاطين الدولة العثمانية العظماء، لكن القدر لم يمهله فأصيب بالحمى في بطنه، ودام مرضه عدة أسابيع، ثم لم يلبث أن تُوفّي في (23 من ذي القعدة سنة 1026 هـ = 22 من نوفمبر 1617م)، ولم يكن قد أكمل الثامنة والعشرين من عمره.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-05-2010, 03:18 PM   #107
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الوليد بن عبد الملك.. العصر الذهبي للدولة الأموية

(في ذكرى وفاته: 15 من جمادى الآخرة 96هـ)


تُوفي الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بعد أن ترك دولة قوية مترامية الأطراف متماسكة البناء، ثرية بالموارد، غنية بالرجال والقادة، وقد استغرق تحقيق ذلك سنوات طويلة من عمر خلافته، قضاها في تنظيم الدولة، وإدارة شئونها، وإعادة الوحدة إليها بعد أن نازعه في الخلافة عبد الله بن الزبير، والمختار الثقفي، لكنه نجح في التخلص منهما بعد جهود مضنية وسنوات شاقة، وكان ساعده الأيمن في تحقيق الوحدة الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان سياسيًّا ماهرًا، وإداريا كفئًا وقائدًا مغوارًا استخدم الشدة والعزم في تثبيت أركان الدولة، وإعادة الهيبة لسلطانها، لكنه اشتط في تطبيق سياسته الحازمة، وأسرف في معاملة الناس.

وقد أنجز عبد الملك بن مروان أعمالاً إدارية ضخمة دفعت بدولته إلى طريق الرقي والتقدم بعد أن استتب الأمن وأُسكنت الفتنة، فقام بتعريب الدواوين والنقود وتنظيم شئون البريد، فلما تُوفي سنة (86هـ = 705م) كانت الدولة مستقرة تمامًا، وكان على خليفته الوليد بن عبد الملك أن يكمل المسيرة، ويرتقي بالدولة أشواطًا أبعد على طريق الرقي والإصلاح، وأن يزيد من رقعة دولته، ويفتح للإسلام آفاقًا جديدة وهذا ما كان.

المولد والنشأة

وُلد الوليد بن عبد الملك في خلافة معاوية بن سفيان حوالي سنة (50هـ = 670م) في المدينة المنورة، حيث كان يقيم أبوه "عبد الملك بن مروان بن الحكم"، وكان أكبر أبنائه، وحين هاجر مروان بن الحكم إلى الشام كان الوليد معه ضمن أسرته، والمعروف أنه ترك المدينة في ربيع الآخر سنة (64هـ = ديسمبر 683م) بعد أن أعلن عبد الله بن الزبير الدعوة إلى نفسه بالخلافة.

وكان عبد الملك بن مروان قبل أن يلي الخلافة ينهل من علم أهل المدينة وفقهائها، ويتأدب بأدبهم وأكثر من مجالسة العلماء، وروى عنه جماعة من التابعين، مثل: خالد بن معدان، وعروة بن الزبير، والزهري، ورجاء بن حيوة، وقد اشتهر بالفقه حتى قيل: كان فقهاء المدينة أربعة سعيد بن المسيب، وعروة، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان، والأخبار تكاد تتواتر على فقهه وغزارة علمه ورجاحة عقله.

وعرف عن عبد الملك أنه كان حريصًا على تربية أبنائه تربية صحيحة وإعدادهم لجسام الأمور، وأولى أكبر أبنائه عناية خاصة، وعُني بتدريبه على الإدارة والسياسة وفنون القتال، وحثه على التزود من العلم؛ فشبَّ الوليد على حب العربية، وكان أبوه يقول له: لا يلي العرب إلا من يحسن لغتهم، ونشأ على مداومة تلاوة القرآن؛ فكان يختمه في كل ثلاثة أيام، وقيل: في كل سبع، ولم يهمل هذا الورد حتى بعد أن تولى الخلافة وكثرت مهامه.

تولِّيه الخلافة

كان عبد العزيز بن مروان وليًّا للعهد في خلافة أخيه عبد الملك بن مروان، فلمّا تُوفي عبد العزيز سنة (85هـ = 704م) عين عبد الملك ابنه الوليد في ولاية العهد وبايعه الناس، فتولى الخلافة عقب وفاة أبيه في (15 من شوال 86هـ = 9 من أكتوبر 705م).

تولى الوليد الخلافة وهو في شرخ الشباب مزودًا بثقافة واسعة وخبرة إدارية ونضوج عقل، وتسلّم مقاليد الأمور، ودولته يسودها السلام بعد أن قضى أبوه معظم خلافته في القضاء على الفتن والحروب الداخلية التي كادت تمزق أوصال الدولة، وبدأ في الإصلاح والتعمير، وإحياء حركة الفتوحات الإسلامية في المشرق والمغرب؛ فتم على يديه في المدة التي قضاها في الخلافة وهي لا تعدو عشر سنوات ما قد تعجز الدول عن تحقيقه في قرون عديدة.

الحجاج الثقفي واستقرار الأمن

استعان الوليد بن عبد الملك بواليه على العراق "الحجاج بن يوسف الثقفي" في إقرار الأمن في شرق العالم الإسلامي، وتوسيع رقعته، وكان الوليد يعرف فضله ومكانته فتمسك به، وأطلق يده في شئون المشرق الإسلامي الذي كان منبع الثورات في العصر الأموي، ولم تهدأ أحوال المشرق، وتسكن ثوراته إلا على يد الحجاج الثقفي، وكان فضله على استقرار دولة عبد الملك بن مروان لا ينكر، وكانت وصية عبد الملك لأبنائه في مرض موته: أكرموا الحجاج؛ فإنه الذي وطأ لكم هذا الأمر.

وكان الحجاج مخلصًا لدولة بني أمية، لم يأل جهدا في توطيد سلطانهم وفي إقرار الأمن، والقيام بالإصلاحات، فلم يكن قائدًا عسكريًا بصيرًا بأساليب الحرب والسياسة فحسب، بل كان إداريًا حازمًا ومصلحًا ماليًا، فلما هدأت الفتنة واستقرت الأحوال انتقل الحجاج إلى ميادين جديدة من الإصلاح والتعمير، وكانت أياديه ظاهرة فيها، فاستكمل الحجاج في عهد الوليد بن عبد الملك الفتوحات الإسلامية في الجناح الشرقي للدولة، وعمل على إنعاش البلاد التي أنهكتها الحروب والثورات، فاهتم بإصلاح القنوات التي تخرج من دجلة والفرات، وأعاد فتح القنوات القديمة التي رُدمت، وشق قنوات جديدة، وعُني بإصلاح السدود، وتجفيف المستنقعات، وإحياء الأرض البور.

حركة الفتوحات الإسلامية

شهد عصر الوليد بن عبد الملك أعظم حركة للفتوحات الإسلامية في الدولة الأموية؛ فبسط المسلمون أيديهم على أكبر بقعة من العالم القديم المعروف آنذاك، واتسعت دولتهم على نحو لم تشهده من قبل، وبرز في عهده عدد من القادة الأكفاء الذين اتسموا بالقدرة العسكرية والمهارة الحربية وعُرفوا بالشجاعة والتضحية، فقاموا بعبء هذه الفتوحات وأعادوا للأذهان ذكرى الفتوحات التي تمت في عهد الخلفاء الراشدين.

ففي الجناح الشرقي للدولة حمل الحجاج الثقفي أهل العراق على الاشتراك في جيش "قتيبة بن مسلم الباهلي" لفتح بلاد ما وراء النهر، واستغرقت جهوده في الفتح عشر سنوات (86-96هـ = 705-714م)، فتح خلالها بخارى وسمرقند ووصل إلى إقليم كاشغر الذي يلامس حدود الصين.

وأرسل الحجاج ابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح إقليم السند في شبه القارة الهندية سنة (89هـ = 707م)، وكان دون العشرين من عمره، لكنه كان قائدًا عظيمًا، نجح في مهمته، وبسط سلطان الدولة في هذه البقاع، وفتح مدينة الديبل، وهي تبعد نحو 45 ميلا شرقي جنوب كراتشي في باكستان، وامتدت فتوحاته إلى ملتان في جنوب إقليم البنجاب.

وأما في الجناح الغربي فقد نجح موسى بن نصير وطارق بن زياد في عبور البحر المتوسط إلى شبه جزيرة أيبريا (إسبانيا) سنة (92هـ = 711م)، وتمكنا من فتح تلك البلاد التي أطلق عيها المسلمون اسم الأندلس، ولم يقف طموح موسى بن نصير عند هذا الحد بل عزم على فتح بلاد غالة (فرنسا الحالية) على أن يتجه شرقًا حتى يصل إلى القسطنطينية التي عجز المسلمون عن فتحها، ثم يستمر في فتوحاته حتى يصل إلى دمشق حاضرة الخلافة، لكن الخليفة الوليد حذره من مغبة القيام بهذا العمل، والتوغل في دروب مجهولة، وأمره بالعودة إلى دمشق.

ودأب الوليد على محاربة الدولة البيزنطية؛ لتأمين حدود دولته معها، وكان أخوه مسلمة بن عبد الملك بطل هذه الحروب، واشترك معه أبناء الخليفة الوليد في منازلة البيزنطيين وفتح حصونهم، وظلت الحملات تتوالى على بلاد الروم منذ سنة (88هـ = 706م)، ولا يكاد يخلو عام من حملة على الروم، واستعد الوليد لإرسال حملة برية وبحرية لغزو القسطنطينية، لكن المنية عاجلته قبل أن ينفذ هذا المشروع، فنهض به أخوه سليمان بن عبد الملك الذي ولي الخلافة من بعده.

النهضة العمرانية

عرف الوليد بن عبد الملك بأنه كان مغرمًا بالبناء والتشييد، محبًا للعمارة على نحو لم يعرفه خلفاء بني أمية؛ فحفر الآبار والعيون، وأصلح الطرق التي تربط بين أجزاء دولته المترامية الأطراف، وبنى المساجد والمستشفيات.

وأثنى المؤرخون على جهوده العظيمة في هذا الميدان الذي شمل معظم أرجاء دولته؛ فعُني بتجديد الكعبة وتوسيع المسجد الحرام، وأعاد بناء المسجد النبوي، وزاد فيه من جهاته كلها، فأدخل فيه حجرات أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعهد بهذه المهمة إلى ابن عمه وواليه على المدينة عمر بن عبد العزيز، وبعث إليه بالأموال والرخام والفسيفساء وبثمانين صانعا من الروم والقبط من أهل الشام، وجدد أيضا المسجد الأقصى بفلسطين ، ويعزى إليه فكرة عمل المحاريب المجوفة في المساجد، وإقامة المآذن، كما أرسل إلى واليه في مصر بتجديد جامع عمرو بن العاص.

أما أبدع ما أنشأه الوليد فهو الجامع الأموي بدمشق، الذي جاء آية من آيات الفن البديع والعمارة الإسلامية، وبالغ في تشييده وتزيينه؛ ليكون مظهرًا لقوة الدولة ومبلغ حضارتها، وأنفق عليه أموالاً طائلة واستغرق بناؤه عهد الوليد كله، وبقيت منه أعمال أنجزها أخوه سليمان بن عبد الملك من بعده.


قصر الوليد

وأنشأ الوليد قصر عمرة، وهو قصر صغير يقع على بعد خمسين ميلا شرقي عمان في الأردن، ولم يُعرف هذا القصر إلا في سنة (1316هـ = 1898م)؛ حيث اكتشفته البعثة العلمية التي كان يرأسها موزل، ويمتاز القصر بتصاوير جدرانه الرائعة ونقوش جميلة لطيور وحيوانات وزخارف نباتية.

استكمال التعريب

كانت عملية التعريب عملية طويلة بدأها عبد الملك وسار الوليد على نهجها؛ فأمر واليه على مصر عبد الله بن عبد الملك بتدوين الدواوين في مصر باللغة العربية بعد أن كانت تُكتب بالقبطية، فكان هذا تتمة لما بدأه عبد الملك بن مروان في سياسة التعريب التي لم تتم نهائيا إلا بعد تعريب دواوين خراسان سنة (124هـ = 741م)، وقد ساعد التعريب على شيوع اللغة العربية وانتشارها بين الموالي، وأصبحت لغة الثقافة، بالإضافة إلى كونها لغة الدين.

كان من نتيجة استقرار الدولة أن زادت ماليتها وتكدست خزائنها بالأموال، وأنفق الوليد جزءًا منها على البناء والتشييد، وخصص جزءًا آخر لتقديم الخدمات للناس دون أجر، فأمر بتشييد المستشفيات لذوي الأمراض المزمنة، وأعطى رواتب لذوي العاهات من العميان والمجذومين وغيرهما، ومنح كل مُقعد خادمًا، وكل ضرير قائدًا.

وفـــاته

نجح الوليد في مدة خلافته التي لم تتجاوز عشر سنوات أن يقيم دولة عظيمة، وأن ينعم الناس في ظلها بالرخاء، وأن تنشط حركة العمران، وتزدهر الثقافة وحلقات العلم في المساجد الكبرى، حتى صارت دولته أقوى دولة في العالم آنذاك، ولم تطل به الحياة فتوفي في (منتصف جمادى الآخرة سنة 96هـ = 25 من فبراير 715م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 04-06-2010, 08:31 AM   #108
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أبو بكر.. رقة بغير ضعف

(بمناسبة ذكرى وفاته: 21 من جمادى الآخرة 13هـ)


بالرغم من أن فترة خلافة أبي بكر الصديق لم تدم أكثر من عامين وثلاثة أشهر، فإنها كانت حافلة بالإنجازات العظيمة والأحداث الخطيرة، وكانت مسرحًا للعديد من الحوادث الجسام التي كادت تعصف بدولة الإسلام في مهدها، لولا أن قيّض الله لها ذلك الرجل الذي استطاع بحكمته وحزمه أن يصل بالسفينة إلى بر الأمان، فقد كان الصدّيق طرازًا فريدًا من الرجال، امتزجت فيه الشدة بالرحمة، والحكمة بالقوة، واللين بالحزم، ولعل أصدق ما يوصف به قول هيكل: "هذا الرجل الوديع السمح الأسيف، السريع إلى التأثر، وإلى مشاركة البائس في بؤسه والضعيف في ضعفه، تنطوي نفسه على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى قدرة ممتازة في بناء الرجال، وفي إبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام، ينفقون فيها كل ما أتاهم الله من قوة ومقدرة".

نسبه وصفاته ونشأته

إنه عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وينتهي نسبه إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ويلتقي في نسبه مع النبي (صلى الله عليه وسلم) عند مرة بن كعب، وينسب إلى "تيم قريش"، فيقال: "التيمي".

كان أبو بكر يُسمَّى في الجاهلية "عبد الكعبة"؛ فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) عبد الله، ولقّبه عتيقا؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: أنت عتيق من النار.

وقيل لجمال وجهه، وقيل لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، كما سُمِّي بالصدّيق لتصديقه خبر الإسراء والمعراج.

وأمه سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم وهي بنت عم أبيه، وتُكنَّى أم الخير. نشأ أبو بكر في مكة، فلما جاوز الصبا إلى الشباب عمل في التجارة، فكان بزازًا يبيع الثياب، واستطاع أن يحقق نجاحًا كبيرًا في تجارته، فتزوج في بداية شبابه من قتيلة بنت عبد العزى، فولدت له عبد الله، وأسماء (رضي الله عنهما)، ثم تزوج بعد ذلك من أم رومان بنت عامر بن عويمر، فأنجب منها عبد الرحمن، وعائشة (رضي الله عنهما).

وكانت تجارته تزداد اتساعا وتزيد معها أرباحه وثروته، وقد هيأت له شخصيته القوية وأخلاقه الكريمة بعض أسباب نجاح تجارته، فقد كان رجلاً رضي الخلق، رقيق الطبع، رزينا لا يغلبه الهوى، ولا تملكه الشهوة، يتميز برجاحة العقل وسداد الرأي، وكان لا يشارك قومه في عقائدهم وعاداتهم، فلم يشرب خمرًا قط في الجاهلية، وكان وجيها من وجهاء قريش ورؤسائها، عارفا بالأنساب بل أعلم قريش بها، وقد كانت إليه الأشناق (الديات) في الجاهلية.

حياة أبي بكر في مكة

عاش أبو بكر في حي التجار والأثرياء في مكة، وهو الحي الذي كانت تعيش فيه خديجة بنت خويلد، ومن هنا نشأت الصداقة بينه وبين النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكان لتقاربهما في السن وفي كثير من الصفات والطباع أكبر الأثر في زيادة الألفة بينهما، فقد كان أبو بكر يصغر النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحو عامين.

وحينما بُعث النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أبو بكر أول من آمن به، ما إن عرض عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) الإسلام حتى أسلم ولم يتردد لحظة في الإيمان به، وشارك منذ اللحظة الأولى في الدعوة إلى الله بنفسه وماله، وكان لحب الناس له وإلفهم إياه أثر كبير في استجابة الكثيرين منهم للإسلام؛ فقد أسلم على يديه عدد من كبار الصحابة، منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وغيرهم كثيرون من أهل مكة.

دور أبي بكر في نصرة الإسلام

كان إيمان أبي بكر قويًا عظيمًا، يتعدى كل الحدود، وتسليمه بصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) يفوق كل وصف، ولعل أصدق ما يوصف به قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده فيه كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم حين ذكرت له، وما تردد".

ولعل مرد العجب هنا يكمن في شخصية أبي كبر ذاتها؛ فهو مع حكمته ورجاحة عقله وجرأته تاجر تقتضي منه تجارته أن يضع حسابا لصِلاته بالناس، وعدم مواجهتهم بما يخالف مألوف آرائهم وعقائدهم؛ خشية ما يجره ذلك على تجارته، ومعاملاته، ولكنه ارتفع بنفسه فوق ماديات الحياة، وآثر العقيدة الصحيحة على زيف الحياة وبهرج متاعها.

وكان لإسلام أبي بكر دور كبير في تثبيت دعائم الدين الجديد، والتمكين له؛ فهو لم يقف من تأييد الإسلام ونصرته عند حدود الدعوة والإقناع لكسب مزيد من الأتباع، وتعزية الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الذين يلاقون الكثير من العنت والاضطهاد والتعذيب من الكفار والمشركين، وإنما كان يبذل من نفسه وماله؛ فقد أعتق أبو بكر سبعة ممن كانوا يُعذّبون في الله، منهم بلال بن رباح وعامر بن فهيرة.

حتى إنه أنفق ثروته التي اكتسبها من تجارته، والتي كانت تقدر بنحو أربعين ألف درهم.. أنفقها كلها في سبيل الله، فلما هاجر إلى المدينة بعد نحو عشر سنوات لم يكن معه من ذلك كله غير خمسة آلاف درهم.

وقد ذكر له النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك وأثنى عليه فقال: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر".

موقف الصديق من حادثة الإسراء

كانت حادثة الإسراء امتحانا حقيقيا لإيمان المسلمين في صدر الدعوة، فبعد وفاة أبي طالب عم النبي (صلى الله عليه وسلم) ووفاة خديجة زوجة النبي (رضي الله عنها)، وقد كانا نعم العون له في دعوته، وبعد ما لقيه (صلى الله عليه وسلم) من إعراض أهل الطائف وتعرضهم له وتحريضهم سفهاءهم وصبيانهم عليه -أراد الله تعالى أن يُسرِّي عن نبيه، فأسرى به إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ولكن الكفار والمشركين اتخذوا هذه الحادثة مثارا للتندر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) والسخرية منه، والتشكيك في دعوته، وقد انساق وراءهم بعض ضعاف الإيمان، ممن أسلموا، وتردد آخرون، فلما جاء أبو بكر إلى المسجد واستمع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يصف بيت المقدس وكان قد زاره من قبل صدّقه في وصفه الذي طابق ما رآه، فأخرس ذلك ألسنة المشركين، وثبّت قلوب المؤمنين وأعاد الثقة في نفوسهم، وقضى على البلبلة التي أراد هؤلاء المشركون إثارتها.

الهجرة إلى المدينة

ازداد تعرض المشركين للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وهاجر كثير من المسلمين إلى الحبشة، ولكن أبا بكر بقي مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعندما هاجر المسلمون إلى المدينة ظل أبو بكر إلى جوار النبي (صلى الله عليه وسلم) ينصره ويسانده في دعوته.

وظل أبو بكر في مكة ينتظر اليوم الذي يهاجر فيه مع النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، بعد أن سبقهما المسلمون إليها، حتى أذن الله لنبيه بالهجرة.

وكان أبو بكر قد أعد العدة لهذا اليوم، وجهَّز راحلتين للهجرة إلى المدينة، وفي الثلث الأخير من الليل خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من داره بعد أن أعمى الله عيون فتيان قريش المتربصين حول الدار يريدون الفتك به، وكان أبو بكر في انتظاره وهو يغالب قلقه وهواجسه، فخرجا إلى غار ثور ليختبئا فيه حتى تهدأ مطاردة قريش لهما.

ووصل المشركون إلى الغار، وصعد بعضهم أعلى الغار للبحث عنهما، ولم يدر بخلد أحد منهم أنه لا يفصلهم عن مطارديهما سوى ذلك النسيج الواهن الذي نسجته العنكبوت على فتحة الغار. ونظر أبو بكر الصديق إلى أقدام المشركين على باب الغار، فهمس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم): لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فرد النبي (صلى الله عليه وسلم) بإيمان وسكينة: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".

حتى إذا ما يئس المشركون من العثور عليهما انصرفوا راجعين، فخرجا من مخبئهما يكملان الطريق إلى المدينة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 04-06-2010, 08:31 AM   #109
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أبو بكر في المدينة



عاش أبو بكر في المدينة حياة هادئة وادعة، وتزوج من حبيبة بنت زيد بن خارجة فولدت له أم كلثوم، ثم تزوج من أسماء بنت عميس فولدت له محمدًا.

وظل أبو بكر إلى جوار النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة، بل كان أقرب الناس إليه حتى تُوفي (صلى الله عليه وسلم) في (12 من ربيع الأول 11هـ = 3 من يونيو 632م).

وكان لوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وقع شديد القسوة على المسلمين؛ فقد أصابهم الذهول ودارت الدنيا من تحت أقدامهم غير مصدقين، أو أنهم لا يريدون أن يصدقوا ذلك الخبر، حتى إن عمر بن الخطاب ذهب به الغضب مذهبا كبيرا، وراح يتوعد الذين يرددون ذلك الخبر، ويأخذ به الجزع فيقول: ما مات رسول الله، وإنما واعده الله كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليقطعن أيدي ناس وأرجلهن.

ولكن أبا بكر برغم ما عُرف به من الرقة والوداعة، يقف قويا متماسكا يستشعر خطورة الموقف، ويستشرف الأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين، فيزداد تماسكا وقوة، يدفعه إيمانه الشديد بالله، وحبه وإخلاصه لنبيه إلى اتخاذ موقف إيجابي لإنقاذ المسلمين من هوة الخلف والاختلاف، والعمل على الحفاظ على وحدتهم وتماسكهم، وتتجلى قوته النفسية وبُعد نظره إلى المستقبل في تلك الساعة العصيبة التي أخذت بألباب المسلمين وعقولهم، حينما يقترب من جسد النبي (صلى الله عليه وسلم) المُسجّى، فيكشف عن وجهه، ويكب عليه يقبله، وهو يقول: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله طبت حيا وميتا".

ثم أتى المسجد فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". ثم قرأ: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" (آل عمران: 144). فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل إلا ذلك اليوم.

الأنصار في السقيفة

ما إن علم الأنصار بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتشاورون ولا يدرون ماذا يفعلون، وبلغ ذلك المهاجرين فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر بل نمشي إليهم، فسار إليهم ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح؛ فتراجع الفريقان الكلام وكثر الجدل واللغط بين الفريقين حتى كاد الشر يقع بينهما أكثر من مرة، فقال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء؛ فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "الأئمة من قريش"، وقال: "أوصيكم بالأنصار خيرًا: أن تقبلوا من محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم".

واستمر الجدل والخلاف بين الفريقين حتى قال عمر: "أنشدتكم الله هل تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه، ونستغفر الله.

وسارعوا جميعا بالبيعة لأبي بكر، فكان لتلك البيعة الفضل في تجميع كلمة المسلمين وتجنيبهم فتنة ضارية وانقسامًا وخيمًا وحربًا ضروسًا بين أبناء الدين الواحد لا يعلم مداها إلا الله وحده.

بعث جيش أسامة

كان أول أمر أصدره الخليفة أبو بكر الصديق بعد أن تمت له البيعة هو إنفاذ جيش أسامة الذي جهزه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبيل وفاته لغزو الروم، والذي كان يضم كبار الصحابة والمهاجرين والأنصار.

وقد أبدى بعض المسلمين عدم رضاهم لتولية أسامة قيادة الجيش لصغر سنه، وأفضوا إلى أبي بكر بمخاوفهم من أن تنقضّ عليهم بعض قبائل العرب المتربصة بالمسلمين وجماعات المرتدين الذين نفضوا أيديهم من الإسلام، منتهزين فرصة خروج الجيش من المدينة، وأظهروا له تخوفهم من أن تفترق عنه جماعة المسلمين، فقال أبو بكر بثقة ويقين: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".

فلم يجد الصحابة بدًّا من الإذعان لأمر الخليفة، والامتثال له، وخرج أبو بكر يشيّع الجيش وهو ماش وأسامة راكب ليشعرهم بإمارة أسامة فيسلموا له ولا يخالفوه، وأحس أسامة بالحرج فأراد النزول عن دابته، وقال: "يا خليفة رسول الله، والله لتركبنّ أو لأنزلنّ".

فقال أبو بكر: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أغبّر قدمي في سبيل الله ساعة.

وحينما حان الوداع خطب أبو بكر في رجاله قائلاً: "أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان من الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله، أقناكم الله بالطعن والطاعون".

تلك الوصية الخالدة التي صارت تمثل دستور المسلمين في القتال، وتعبر عن مدى ما بلغه المسلمون من تحضر وإنسانية في الحروب، في عصور ساد فيها الجهل وفشت الفوضى والغوغاء، وسيطرت الهمجية على الأمم والشعوب.

ولم يخيب أسامة رجاء الخليفة فيه، فقد استطاع أن يحرز النصر على الروم، واقتحم تخومهم، وتوغل في ديارهم ثم عاد بجيشه إلى المدينة، وقد حقق الغاية التي خرج من أجلها وهي تأمين حدود الدولة الإسلامية، وإلقاء الرهبة والهيبة في قلوب الروم، فلا يحاولون التحرش بالمسلمين، كما أدت إلى كف عرب الشمال عن محاولات التعرض للمدينة والهجوم عليها.

حرب المرتدين والتصدي للمتنبئين

انتهزت بعض القبائل التي لم يتأصل الإسلام في نفوسها انشغال المسلمين بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) واختيار خليفة له، فارتدت عن الإسلام، وحاولت الرجوع إلى ما كانت عليه في الجاهلية، وسعت إلى الانشقاق عن دولة الإسلام والمسلمين سياسيا ودينيا، واتخذ هؤلاء من الزكاة ذريعة للاستقلال عن سلطة المدينة، فامتنعوا عن إرسال الزكاة وأخذتهم العصبية القبلية، وسيطرت عليهم النعرة الجاهلية.

واستفحل أمر عدد من أدعياء النبوة الذين وجدوا من يناصرونهم ويلتفون حولهم، فظهر "الأسود العنسي" في اليمن، واستشرى أمر "مسيلمة" في اليمامة، و"سجاح بنت الحارث" في بني تميم، و"طلحة بن خويلد" في بني أسد، و"لقيط بن مالك" في عُمان. وكان هؤلاء المدعون قد ظهروا على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولكن لم يستفحل أمرهم ويعظم خطرهم إلا بعد وفاته.

وقد تصدى أبو بكر لهؤلاء المرتدين بشجاعة وجرأة وإيمان، وحاربهم بالرغم من معارضة بعض الصحابة له، وكان بعضهم يدعوه إلى الرفق بهم والصبر عليهم، فيجيب في عزم قاطع: "والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقاتلتهم عليه، والله لأقاتلن من فرَّق بين الزكاة والصلاة".

وأرسل أبو بكر الجيوش لقتالهم حتى قضى على فتنتهم، وأعاد تلك القبائل على حظيرة الإسلام، وقد اتسم أبو بكر ببعد النظر والحكمة وذلك بإصراره على التصدي لهؤلاء المرتدين، ورفض المساومة على فرض من فروض الدين، فقد قطع بذلك عليهم الطريق إلى المزيد من المساومات، كما كان ذلك إعلانا واضحا أنه لا تهاون ولا تنازل في أمر يخص الدين أو يتعلق بالعقيدة، أمام كل من تسول له نفسه من القبائل أن يحذو حذو هؤلاء.

جمع القرآن الكريم

استشهد عدد كبير من كبار الصحابة ممن يحفظون القرآن الكريم في حروب الردة التي استغرقت أكثر عهد الصديق، وقد زاد من جزع المسلمين لاستشهاد هؤلاء الأعلام من الصحابة ما يمثله فقد هؤلاء من خطر حقيقي على القرآن الكريم والسنة المشرفة، وكان عمر بن الخطاب من أوائل الذين تنبّهوا إلى ذلك الخطر، وبعد تفكير عميق هداه الله إلى فكرة جمع القرآن الكريم، فلما عرض ذلك على أبي بكر تردد في أول الأمر، وقال: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟.

ولكن عمر ظل يراجعه ويجادله حتى شرح الله صدره لهذا الأمر، واقتنع برأي عمر فدعا زيد بن ثابت وكلفه بتنفيذ تلك المهمة الجليلة، فانطلق زيد يجمع القرآن الكريم من الرقاع والعظام وجريد النخل والحجارة الرقيقة، ثم أخذ يرتبه في آيات وسور، واتبع في ذلك طريقة عملية دقيقة مُحكّمة، فكان لا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى ثبوتها بشهادة العدول من الصحابة الحفاظ، ولا يمنعه من ذلك أنه يحفظ القرآن حتى أتم تسجيله وتدوينه، كما نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم).

فكان ذلك العمل هو أعظم أعمال الصديق على الإطلاق على كثرة أعماله وعظمة إنجازاته، فقد ساهم في حفظ كتاب الله من الضياع، وصانه من الوهم والخطأ واللحن.

وفاته

وتُوفي أبو بكر الصديق يوم الجمعة (21 من جمادى الآخرة 13 هـ = 22 من أغسطس 634م)، ودفن مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في بيت عائشة (رضي الله عنها)، وقد اختُلف في سبب وفاته، فذكروا أنه اغتسل في يوم حار فحمّ ومرض خمسة عشر يومًا حتى مات، وقيل بأنه أصيب بالسل، وقيل أنه سُمّ، وقد رثاه عمر فقال: "رحم الله أبا بكر فقد كلف من بعده تعبا".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 05-06-2010, 09:04 AM   #110
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

عهد الفاروق.. دولة العدل والفتوحات

(في ذكرى توليه الخلافة: 22 من جمادى الآخرة 13 هـ)


لم تتحقق الدولة الإسلامية بصورتها المثلى في عهد أيٍّ من عهود الخلفاء والحكام مثلما تحققت في عهد الخليفة الثاني "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه) الذي جمع بين النزاهة والحزم، والرحمة والعدل، والهيبة والتواضع، والشدة والزهد.

ونجح الفاروق (رضي الله عنه) في سنوات خلافته العشر في أن يؤسس أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ، فقامت دولة الإسلام، بعد سقوط إمبراطورتي "الفرس" و"الروم" - لتمتد من بلاد فارس وحدود الصين شرقًا إلى مصر وإفريقية غربًا، ومن بحر قزوين شمالا إلى السودان واليمن جنوبًا، لقد استطاع "عمر" (رضي الله عنه) أن يقهر هاتين الإمبراطوريتين بهؤلاء العرب الذين كانوا إلى عهد قريب قبائل بدوية، يدبُّ بينها الشقاق، وتثور الحروب لأوهى الأسباب، تحرِّكها العصبية القبلية، وتعميها عادات الجاهلية وأعرافها البائدة، فإذا بها - بعد الإسلام - تتوحَّد تحت مظلَّة هذا الدين الذي ربط بينها بوشائج الإيمان، وعُرى الأخوة والمحبة، وتحقق من الأمجاد والبطولات ما يفوق الخيال، بعد أن قيَّض الله لها ذلك الرجل الفذّ الذي قاد مسيرتها، وحمل لواءها حتى سادت العالم، وامتلكت الدنيا.

مولد عمر ونشأته

وُلِد عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العُزَّى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزَاح بن عديّ (رضي الله عنه) في مكة ونشأ بها، وكان أبوه "الخطاب" معروفًا بشدَّته وغلظته، وكان رجلاً ذكيًّا، ذا مكانة في قومه، شجاعًا جريئا، كما كان فارسًا من فرسان العرب، شارك في العديد من الحروب والمعارك، وكان على رأس بني عدي في حرب الفجار، وقد تزوَّج "الخطاب" عددًا من النساء، وأنجب كثيرًا من الأبناء.

وحظي عمر (رضي الله عنه) - في طفولته - بما لم يَحْظَ به كثير من أقرانه من أبناء قريش، فقد تعلَّم القراءة والكتابة، ولم يكن يجيدها في قريش كلها غير سبعة عشر رجلاً.

ولما شبَّ عُمر (رضي الله عنه) كان يرعى في إبل أبيه، وكان يأخذ نفسه بشيء من الرياضة، وقد آتاه الله بسطة من الجسم، فأجاد المصارعة، وركوب الخيل، كما أتقن الفروسية والرمي.

وكان عمر (رضي الله عنه) - كغيره من شباب "مكة" قبل الإسلام - محبًّا للهو والشراب، وقد ورث عن أبيه ميلاً إلى كثرة الزوجات، فتزوَّج في حياته تسع نساء، وَلَدْن له اثني عشر ولدًا (ثمانية بنين وأربع بنات)، ولم يكن كثير المال، إلا أنه عرف بشدة اعتداده بنفسه حتى إنه ليتعصب لرأيه ولا يقبل فيه جدلاً.

وعندما جاء الإسلام وبدأت دعوة التوحيد تنتشر، أخذ المتعصِّبون من أهل مكة يتعرضون للمسلمين ليردوهم عن دينهم، وكان "عمر" من أشدِّ هؤلاء حربًا على الإسلام والمسلمين، ومن أشدهم عداء للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه.

إسلام عُمر

وظلَّ "عمر" على حربه للمسلمين وعدائه للنبي (صلى الله عليه وسلم) حتى كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، وبدأ "عمر" يشعر بشيء من الحزن والأسى لفراق بني قومه وطنهم بعدما تحمَّلوا من التعذيب والتنكيل، واستقرَّ عزمه على الخلاص من "محمد"؛ لتعود إلى قريش وحدتها التي مزَّقها هذا الدين الجديد! فتوشَّح سيفه، وانطلق إلى حيث يجتمع محمد وأصحابه في دار الأرقم، وبينما هو في طريقه لقي رجلاً من "بني زهرة" فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا، فقال: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم! وأخبره بإسلام أخته "فاطمة بنت الخطاب"، وزوجها "سعيد بن زيد بن عمر" (رضي الله عنه)، فأسرع "عمر" إلى دارهما، وكان عندهما "خبَّاب بن الأرت" (رضي الله عنه) يقرئهما سورة "طه"، فلما سمعوا صوته اختبأ "خباب"، وأخفت "فاطمة" الصحيفة، فدخل عمر ثائرًا، فوثب على سعيد فضربه، ولطم أخته فأدمى وجهها، فلما رأى الصحيفة تناولها فقرأ ما بها، فشرح الله صدره للإسلام، وسار إلى حيث النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فلما دخل عليهم وجل القوم، فخرج إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأخذ بمجامع ثوبه، وحمائل السيف، وقال له: أما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال، ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فكبَّر رسول الله والمسلمون، فقال عمر: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى، قال: ففيم الاختفاء؟ فخرج المسلمون في صفين حتى دخلوا المسجد، فلما رأتهم قريش أصابتها كآبة لم تصبها مثلها، وكان ذلك أول ظهور للمسلمين على المشركين، فسمَّاه النبي (صلى الله عليه وسلم) "الفاروق" منذ ذلك العهد.

الهجرة إلى المدينة

كان إسلام "الفاروق" عمر في ذي الحجة من السنة السادسة للدعوة، وهو ابن ست وعشرين سنة، وقد أسلم بعد نحو أربعين رجلاً، ودخل "عمر" في الإسلام بالحمية التي كان يحاربه بها من قبل، فكان حريصًا على أن يذيع نبأ إسلامه في قريش كلها، وزادت قريش في حربها وعدائها للنبي وأصحابه؛ حتى بدأ المسلمون يهاجرون إلى "المدينة" فرارًا بدينهم من أذى المشركين، وكانوا يهاجرون إليها خفية، فلما أراد عمر الهجرة تقلد سيفه، ومضى إلى الكعبة فطاف بالبيت سبعًا، ثم أتى المقام فصلى، ثم نادى في جموع المشركين: "من أراد أن يثكل أمه أو ييتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي".

وفي "المدينة" آخى النبي (صلى الله عليه وسلم) بينه وبين "عتبان بن مالك" وقيل: "معاذ بن عفراء"، وكان لحياته فيها وجه آخر لم يألفه في مكة، وبدأت تظهر جوانب عديدة ونواح جديدة، من شخصية "عمر"، وأصبح له دور بارز في الحياة العامة في "المدينة".

موافقة القرآن لرأي عمر

تميز "عمر بن الخطاب" بقدر كبير من الإيمان والتجريد والشفافية، وعرف بغيرته الشديدة على الإسلام وجرأته في الحق، كما اتصف بالعقل والحكمة وحسن الرأي، وقد جاء القرآن الكريم، موافقًا لرأيه في مواقف عديدة من أبرزها: قوله للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى: فنزلت الآية ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [ البقرة: 125]، وقوله يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب: (وإذا سألتموهن متاعًا فسألوهن من وراء حجاب) [الأحزاب: 53].

وقوله لنساء النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد اجتمعن عليه في الغيرة: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن) [ التحريم: 5] فنزلت ذلك.

ولعل نزول الوحي موافقًا لرأي "عمر" في هذه المواقف هو الذي جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه".

وروي عن ابن عمر: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر بن الخطاب، إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .