القصيدة يا أخي العزيز من أجمل ما كتبت، العمل إنساني من الدرجة الأولى ، رومانسي بالدرجة الثانية والذي أتبينه أنه عن صداقة تنتهي بشكل مأساوي . لعل الصداقة ومضمونها الإنساني هو مضمون هذا العمل .كانت سيرورة العمل فيه هادئة والانتقالات من جوانب لأخرى غير مرهقة .
الخطوة الأولى..
الكلمة ..الأولى..
شروع نحو باب ٍ..لباب ِ
تُرى أيفتح على مصراعيه..؟
سماء..
لاتمل عن احتضان سحاب ِ !
جميل هنا ما تقوم به من البداية ذات الطابع الحركي المتسم بالبطء ، والاقتران بين الكلمة والخطوة بين الصوت والصورة كان له طابع تصويري جميل يدل على عمق الرؤية والتصور الذهني للعمل .
وفي النهاية حينما يكون الباب هذا هو السماء ، فإن التوصيف يكون أكثر مفاجأة .هذا الأسلوب المفاجئ يبرز الكيفية التي يفكر بها الأديب والطريقة التي من خلالها تتجمع الأفكار المختلفة فيوزعها على العمل وفق الحالة المناسبة .
2
رشق القمر ُ
من الماء ..وجهه..
لملم الموج هالتهُ..
القى على الضفاف فضتهُ..
في سكونه النهرُ
اجتازها ..وغاب..
الفعل رشق مع كلمة القمر أعطاني صورة غير مفهومة ، لكن أعجبني للغاية عنصر التصوير والدلالة الرمزية له كانت عبقرية فهذه الضفاف والنهر والموج والهالات كلها توصيفات لجوانب تتعلق بالإنسان ، والصداقة بين الموج والفضة حينما تنفصم عراها تكون المأساة الإنسانية لا عمق لها .تستطيع أنت إسقاط هذه المفردات على أشياء كثيرة كالحب كالوطن كالهوية.....إلخ
في سكونه النهرُ
اجتازها ..وغاب..
تقديم النهر بل سكون النهر له دلالة على النهر وقيمته .النهر منبع الماء العذب يوازي القلب منبع الأحاسيس الإنسانية السامية يجتاز كل هذه القيم العدائية وهو رومانسي يؤثي الغياب لأن الخير لا يكون إلا ضعيفًا منسحبًا لا يتمكن من الإغراق .وإن كنت أرى أن هذه الصورة المجازية لا تتحقق فعلاً وفيها مخالفة للمنطق ،فالنهر حقيقة لا يتجاوز الموج الذي هو جزء منه .
3
أطفأ ..آخر شمعة..
وأندس في لجة الظلام..
هزم الأشباح ..صمتاً..
في سكون الترقب..
غافله الوسن ..
أوهنهُ..
فأوغل في المنام..!
كأننا هنا إزاء الصورة البشرية ، لهذا الفرد وقد بدأت تتضح ، هذا الذي يظهر من نقطة الظل ، ويحسب لك الانتقال من مرحلة لأخرى بهدوء شديد ، بل إن الصورة تبدو وكأنها حالة استرجاع لحلم أو كابوس مر به .
4
حاولت الأغصان..
أن تمسكَ بتلابيب الظلال..
لن تمنحها فرصتها ..
ككل يوم في .. الهروب..
ولا محاولة الاختباء..
خلف الأطلال..
ابتسمت الشمس بحزن
وهي تجر ..إزارها..
تعجل الأرتماء
على وسادة الغروب !قمة السمو الإنساني في هذا المشهد .. الشمس أم العطاء حينما ترى أبناءها في حالة شجار تنتحر لا تتحمل ، كذلك النهر ، هذا الأب الذي ما أطاق العداء ، فانسحب وغاب .الصورة الإنسانية هي أن الخير أو الفضيلة تتوسط بين رذيلتين ، وهذا الشعور وصلني بقوة والصور كانت متقنة والتعبيرات المجازية كانت مسبوكة بشكل متقن الشمس ترتمي على وسادة الغروب .
هذه الصورة أعجبتني للغاية :
حاولت الأغصان..
أن تمسكَ بتلابيب الظلال..
لن تمنحها فرصتها ..
ككل يوم في .. الهروب
إن محاولة اجتياز المنطق ومسلمات الطبيعة هي محاولة مكتوب عليها الفشل المطلق ، ويا لتعاسة هذه الأغصان وهي تحاول بلا فائدة تحقيق ما لا يتحقق ، فلا يبقى للشمس غير الهروب من هذه الفظاعة .إن العقلاء الإنسانيين لا يقبلون هذه التجاوزات فلا يؤثرون غير الموت .والدلالات هنا تنسحب على الوطن والأرض والهوية والإنسان ...إلخ
5
رغم الصحبة..
لن ادعوه يوماً رفيقي..
هذا التبغ..
يشابهني في احتراقي..
يترك خلفهُ الرماد..
الرعود تبحث عن بريق
عطر الدخان ..
احزاني..
لا يحمل معه في الرحيل..
سعير حريقي..!!
كأنها النهاية والحكمة التي يعزفها نايك الحزين ، جاءت بشكل ساخر وكأنها قطعة مسرحية ، كأن هذا الذي أطفأ آخر شمعة هو الذي يقول هذا الكلام .والرؤية كانت عميقة للغاية الرعود تبحث عن بريق ، دلالة الرعود على الرعب ولكنه رعب جنى على نفسه، هو نفسه يحتاج إلى ضياء .إن هذه التقسيمات الثنائية للنهر والضفة ، الرعد والبرق ،الشمس والغابة كلها تحمل مضامين إنسانية تحمل في واقعها الرفض المطلق لفكرة الفراق والغدر ، وتحمل فلسفة إنسانية عظيمة مفادها أن
الجميع خاسر لا محالة ، حينما يغدو الإنسان كالتبغ ، فماذا يتبقى في الحياة ؟!!
نص متميز وما زاده جمالاً هو الأفعال المضارعة التي تفيد استمرارية لا توجد قرينة على موعد انتهائها .
العنوان إزار كان متماشيًا للغاية مع الحالة ، فالحالة حالة خزي حالة عار ، لا تحتاج إلى إلا مواراة لأنها كلها تقع في العالم السفلى عالم الغدر والخيانة مما استدعى الغطاء ، وهذا الإزار في النهاية هو يستر لكنه لا يغير ، مما يدل على استمرارية الحزن لأجل غير مسمى .
نص موفق وفيه كالعادة اقتران ما بين الرمزية والمباشرة ، والقصيدة لم يكن بها تداع ، والمضمون كان أكثر إنسانية والرؤية أعمق ..وفقك الله ولك مني خالص الشكر والتحية .