بسم الله الرحمن الرحيم
هذه القصيدة قرأتها الجمعة الماضية في جريدة الأهرام ، وهي تؤكد دائمًا أن اللحظة والموقف
في كثير من الأحيان تكونان أقوى من الشاعر وقدرته على التعبير.
ما قرأته في هذه القصيدة كان من الممكن أن يختصر بلا مبالغة إلى الربع وكأن القصيدة تقول
لنا شتان بين الشاعر وليد الفكرة والشاعر وليد اللحظة وهذا هو فاروق جويدة الشاعر الكبير
الذي رغم تاريخه الفني العظيم فلا يمكن أن نتجاوز عن لحظيته التي هو وليدها والتي في
ثناياها تضيع الرؤى والأفكار القيمة .
لو فاضلنا بين القصيدة هذه والقصيدة التي كتبها الشاعر الفذ هشام مصطفى إلى غزة
المعنونة بالعنوان الوقوف بين يدي مقاوم لاتضح لنا الفرق في كل من الصورة والفكرة،
والتراتبية والحالة والبناء والتماسك النصي .....إلخ .
كذلك لو فاضلنا بين قصيدة أمل دنقل لا تصالح والتي كتبها ليلة كامب ديفيد وبين هذه
القصيدة لوجدنا هذه القصيدة أقل بكثير من لا تصالح لأسباب يطول الخوض فيها. ليست
هذه المرة الأولى التي نرى فيها فاروق جويدة شاعرًا صارخًا غاضبًا يعيد إلينا فكرة
أغراض الشعر وشعراء الهجاء . بل إنه سبق له أن أمطرنا بقصائد كثيرة لا تكاد ترى
فيها شيئًا يُذكر كقصيدته لن أرفع راياتي وقصيدته إلى بوش العظيم والأخرى التي كان مطلعها:
ارحل عن القدس واترك ساحة الحرم
لا يستوي القزم يا عربيد بالهرم ِ
بل إنه حين تفاضل بين قصيدتيه ماذا تبقى من بلاد الأنبياء والتي كتبها ليلة الذكرى الخمسين
لنكبة فلسطين وبين هذه القصيدة لرأينا الفرق الواضح ؛فهذه القصيدة لا تكاد ترى لها معالم،
وما أراها خرجت شبرًا واحدًا عن قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
ما ارانا نقول إلا معارًا
أو معادًا في لفظنا مكرورا
القصيدة اتسمت بالطول الممل والتكرار المستفيض غير المفيد لحالة شعورية ، كما
أنها لم تطرح إشكالية ذات قيمة إلا فقط في هذا الأشطر :
الوافدون أمام بيتك يرفعون رؤوسهم
وتطل أيديهم من الأكفان
مازلت تسأل عن ديانتهم
وأين الشيخ.. والقديس.. والرهبان ؟
هذي أياديهم تصافح بعضها
وتعود ترفع راية العصيان
يتظاهر العربي.. والغربي
والقبطي والبوذي
ضد مجازر الشيطان
وفيها تجسيد رائع للغاية لا سيما في السطر الثاني . أما عدا ذلك ولا سيما في ذكره
سورة الإنسان والاقتباس من سورة الرحمن كان بدائيًا للغاية غير مقنع وكان كما نصف
في العامية (أكلشيه) كأنه عبارة توضع في دفتر معايدة أو autograph أوتوجراف .
رغم تاريخ فاروق جويدة العظيم باعتباره واحدًا من الأصوات الشاعري بكل ما تعنيه
الكلمة من معنى إلا أن القصيدة قد تملكته ولم يتملكها هو .
وهذه الأشطر كانت موفقة نوعًا ما في إيصال الحالة الشعورية :
ارحل وعارك في يديك
مازلت تنتظر الجنود العائدين..
بلا وجوه.. أو ملامح
صاروا علي وجه الزمان
خريطة صماء تروي..
ما ارتكبت من المآسي.. والمذابح
قد كنت تحلم أن تصافحهم
ولكن الشواهد والمقابر لا تصافح
إن كنت ترجو العفو منهم
كيف للأشلاء يوما أن تسامح
فكرة إنسانية الروح وتوحد الأديان على كراهية العنف هي السائدة في الأشطر الأولى وفكرة
السيريالية والتاريخ كانت حاضرة ولأنها واضحة لا تحتاج إلى تأكيد فلا داعي لشرحها الآن على الأقل.
لكن هذه القصيدة كأنها مدرسة لأكثر أنواع الخطأ شيوعًا والتي يجب على الشعراء تحاشيها .
وهذه القصيدة كأنها رسالة للشباب الناشئ لا تغتر بكل ما يُكتب حولك . لا تنبهر
بالأسماء ، لا تستعجل إصدار الأحكام ، الشعراء ليسوا أنبياء معصومين من الخطأ .
هذه القصيدة كأنها رسالة أن غلطة الشاطر بعشرة وأن الخطأ حينما يكون بهذا
القدر من الفداحة يكون من المتوقع أن يُنقد بشكل عنيف كما أنه حينما يصيب يصفّـَق له
بحرارة .
مرة أخرى شاعرنا العظيم فاروق جويدة .. القصائد تعبير عن حالة ولكن حينما لا تكون
الحالة واضحة المعالم يكون تأجيل إصدار الحكم للقلم بالكتابة هو قمة الشجاعة .