الديمقراطية عميقة الجذور في التعاليم الاسلامية
الديمقراطية تعد واحدة من أهم القضايا التي تواجه أمتنا في الفترة الراهنة، ولا أبالغ اذا قلت ان قضية الديمقراطية تمثل التحدي الاساسي في طريق نهضتنا والسؤال الجوهري الذي لابد ان نجيب عنه إذا أردنا لهذه الامة ان تنهض من عثرتها وتلحق بركب الحضارة والمدنية لاسيما وقد تتابعت علينا الاتهامات بأننا لانملك فكراً يتبنى الديمقراطية ولا ديناً يستوعبها كنظام سياسي.
وان كان واقع الحال يدعو للرثاء فإن إصرار البعض منا على الدفاع عن هذا الواقع البائس وتبريره اكثر اثارة للحزن والغم.
إن مايؤسف له ان قطاعاً عريضاً من نخبنا السياسية والثقافية مازالت تنظر الى الديمقراطية كنظام سياسي نظرة شك وريبة، ومازال هناك من يربط بينها وبين الغرب مدعياً ان مبادئ الديمقراطية غريبة عن تراثنا وديننا.. وأنها لاتتفق والاسلام بل هي خروج عليه وتعد على شرائعه.
وليس خافياً إنّ من يتبنون هذا المنهاج المعوج ويروجون لهذا المنطق الملتوي انما يفعلون ذلك دفاعاً عن واقع يكرسه استمرار الاستبداد الذي هو أصل كل ماتعانيه هذه الأمة من امراض، وسبب جل ما حل بها من كوارث ونكبات.
لن أمل تكرار عبارة الشيخ محمد عبده رحمه الله، بأن الاسلام نظيف والقرآن نظيف وإنما لوثه المسلمون بأعمالهم، ولن أمل تكرار ان ليس في الاسلام مايعادي الديمقراطية، بل على العكس لا أعرف ديناً كالإسلام في تبنيه لمبادئ الحرية ودفاعه عن الديمقراطية، وعدائه للطغاة الجبارين.
أليس جوهر الديمقراطية-بعيداً عن التعريف والمصطلحات الاكاديمية- أن يختار الناس من يحكمهم ويسوي أمرهم وألا يفرض عليهم حاكماً يكرهونه أو نظام يبغضونه.
أليس جوهرها أن يكون للناس حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله وتغييره، إذا انحرف وألا يساقون، رغم أنوفهم الى اتجاهات ومناهج اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية لايعرفونها ولا يرضون عنها، فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤهم التنكيل والتشريد بل والتقتيل.
إذا اتفقنا على أن هذا هو جور الديمقراطية الحقيقية، وأن البشرية قد وجدت لها صيغاً وأساليب عملية مثل الانتخابات والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الاحزاب السياسية وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة وإستقلال القضاء.
أقول : إذا اتفقنا على كل هذا فكيف يخرج من بيننا من يقول بأن الديمقراطية في جوهرها الذي ذكرناه، تنافي الاسلام؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يؤيد هذا الزعم؟
والله ما رأيت كتاباً مثل القرآن الكريم في ذمه للطغاة، بل وللشعوب التي تسير في ركاب الجبارين المفسدين في الأرض فتزين لهم بصمتها واستكاناتها ان يتمادوا في الغي والاستكبار.
إن الدولة التي ينادي بها الاسلام لاتقوم على التسلط والإحتكار بل أساسها العدالة والعلم والحكمة ورضاء الناس بالحاكم، والإمام، أو الخليفة، أو رئيس الدولة، في حكم الاسلام، هو أحد الناس يصيب ويخطئ، ويحسن ويسيئ، وعلى المسلمين ان يعينوه ما أصاب، وأن يقوموه اذا أخطأ، كما أعلن ذلك الخليفة الأول في أولى خطبه (لقد وليت عليكم ولست بخيركم فأعينوني ما أطعت الله فيكم، وقوموني إذا عصيته) فليس للامام أو الخليفة عصمة ولا صفة مقدسة تجعله فوق المساءلة وخارج مجال المحاكمة، وقد كان هناك من الخلفاء من وقف أمام القضاة مثل خصمه، سواء بسواء.. ويقول الخليفة الثاني عمر الفاروق : «ياأيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومني» ويرد عليه أحدهم فيقول : «والله يا ابن الخطاب لو رأينا فيك إعوجاجاً لقومناك بحد سيوفنا» ويعقب عليه عمر بقوله : «الحمد لله الذي جعل في الامة الاسلامية من يقوم اعوجاج عمر بحد السيف».. ولاننسى مقولة الخليفة عمر لوالي مصر عمرو بن العاص التي اصبحت حكمة خالدة تقرع سمع الزمان : «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً».
إن هذه الامثلة كلها انما أسوقها لكي اقرر حقيقة لايجادل فيها إلاّ من في نفوسهم مرض، أو غرض، وهي ان مبادئ الديمقراطية عميقة الجذور في التعاليم الاسلامية والتراث الاسلامي.
لقد انحرف المسلمون عن هذه المبادئ التي تضع على الحاكم قيوداً وتجعله مسؤولاً امام الناس، فتحولت الخلافة الى حكم مطلق حيث لا مجال لمشاركة الناس في اختيار حكامهم ولامساحة لمحاسبتهم وتقويمهم.
ونحن مع الرأي القائل بأن هناك فرق بين الاستشارة والشورىِ، فالاستشارة تعني ان يستشير الحاكم من يرى أهليته لذلك، وهنا له ان يأخذ برأيه الاستشاري أو يرفضه أما الشورى فهي مبدأ اسلامي أمر به الله تعالى في كتابه الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : «وشاورهم في الأمر» وهي هنا تعني أخذ رأي مجموعة من الصفوة من أهل العلم والرأي والاختصاص وماينتهي اليه أهل الاغلبية يكون ملزماً ولاينبغي الخروج عليه.
اننا نحتاج الآن اكثر من اي وقت ان نركز على الجوانب المضيئة في تراثنا لتكون ملهمة لنا في الانطلاق نحو المستقبل. والشورى كما وضعها الاسلام هي اقرب ما تكون الى روح الديمقراطية المعاصرة التي تترجم هذه الفكرة الاسلامية الاصيلة في شكل مؤسسات وعمليات وقوانين واجراءات.
ولانرى بأساً في تطوير مبدأ الشورى وصبغه بصبغة معاصرة بحيث يترجم الى واقع سياسي فعال، ولاضير هنا من الاستعانة بما توصل اليه الآخرون من نظم واجراءات تقرر سيادة الامة، ومسؤولية الحاكم امامها.. ولانبالغ اذا قلنا ان تطوير الشورى وتحويلها الى اطار مؤسسي عملي، هو فرض عين على فقهاء الامة، ومثقفيها وحكامها ومحكوميها.
ولامناص من الاقرار بأن الامة العربية صارت تعرف بين امم العالم بتفشي نظم الشمولية بأشكالها المختلفة، ودرجاتها المتفاوتة، ولايحتاج المرء الى مجهود كبير لكي يدرك ان الاستبداد السياسي قد قاد امتنا الى نكبات ومهالك جعلتها في آخر الأمر نهباً للطامعين ومغنماً للمتربصين.
ولايبدو ان النظم العربية قد وعت الدرس أو استفادت من التجربة فمما يسترعي الانتباه في الفترة الأخيرة سعي هذه النظم - بدرجات متفاوتة- الى فرض مزيد من القيود على الحريات العامة وهم في ذلك يتخذون من أجواء محاربة الارهاب عذراً ويضربون المثل بالديمقراطيات الغربية التي صارت تفرض قيوداً غير مسبوقة على الحريات بعد احداث 11 سبتمبر.
وتنسى نظمنا العربية أو تتناسى عن عمد ان الاصلاح السياسي لم يعد ترفاً وان الاعذار التي نتذرع بها لتأجيله الى ماشاء الله لم تعد تجدي في ظل ظرف تاريخي بالغ الخطورة فرض على امتنا تحديات غير مسبوقة تهدد امنها بل ووجودها ذاته.
وعلى الرغم من اصلاحات تتخذها بعض النظم بين الحين والآخر، فان ماتحقق أبعد مايكون عن المأمول فأفضل النظم العربية من حيث مستوى الحريات والديمقراطية تظل بعيدة عن مستوى طموحاتنا وتوقعاتنا خصوصاً وان دولاً أقل بكثير في المستوى الاقتصادي والتطور الاجتماعي قد سبقت المنطقة العربية في مجال التحول الديمقراطي ومن بينها دول في افريقيا جنوب الصحراء.