شاهدت قبل شهور عينة من بذور (القمح) أحضرها أحد الأصدقاء العاملين في أحد مراكز البحث العلمي بوزارة الزراعة، وقد أخبرني أن تلك العينة هي نتاج جيل ثاني من بذور عثر عليها أحد المنقبين في آثار منطقة (طبقة فحل)*1 وقد وجدت محفوظة بطريقة معينة في أحد الأوعية الفخارية، وقد قدر الخبراء عمر تلك البذور بحوالي ألفي عام، ومع ذلك أنتجت بعد زراعتها بعض السنابل التي شاهدت حبوبها (وهي أمامي الآن على المنضدة) كانت بذرة القمح تزيد بطولها عن مرتين ونصف عن بذرة القمح الاعتيادية.
ما هو الصنف
في التقسيم النباتي والحيواني، تقسم المملكة الحيوانية الى أقسام وصفوف ورتب وعائلات وأنواع وأصناف وتحت أصناف. فإذا كان التفاح مثلا، نوع يتبع للعائلة التفاحية التي تتبع للرتبة الوردية، فإن (أحمر مايس أو الجولدن) هما صنفان من نوع، ويكون صنف للأبقار هذا (جيرسي) وهذا (فريزيان)، وللدجاج اللاحم، هذا (لوهمان) وهذا (هبرد) ويكون تحت الصنف تطويرا للصنف فنقول: أن (جيفي هبرد) لون أو تحت صنف من (هبرد) .
هذا باختصار شديد، من يكون من أعمارنا ويحاول تذكر أصناف الدجاج السائدة بالخمسينات والستينات من القرن الماضي، سيتذكر الدجاج (الأندلسي) وهو ما كان يُطلق عليه (بلدي). كذلك كان يرى أصنافا من الأبقار ضئيلة الحجم قليلة الإنتاج، عجولها صغيرة جدا بحجم (الجدي الصغير)، وكان يتذوق بعض أصناف البندورة (الطماطم) حامضة صغيرة الحجم، وكان يطبخ أصناف من البطاطا (البطاطس) والقرع مختلفة عما هي عليه الآن.
لسنا بصدد المذاق الذي هو على علاقة بالذاكرة الموظفة للتقييم، وهي مهمة، وغالبا ما نسمع من ينتقد أصناف هذه الأيام ويقارنها مع ما كان منتشرا في السابق، فيترحم على خيار أيام زمان وعلى البيض البلدي الخ، وهذه مسألة لا وزن لها، عندما نناقش موضوع ملائمة الصنف للبيئة وغزارة إنتاجه، والكيفية التي يكون لدينا قليل من العاملين في الزراعة باستطاعتهم تأمين الغذاء لباقي المواطنين، الذين ينصرفون لتغطية أعمال أخرى.
كيفية تطوير الأصناف
الصنف الموجود في المنطقة أصلا، هو أكثر الأصناف الملائمة للمنطقة، وهي نقطة أساسية لا يمكن إغفالها حتى في البحث العلمي. فالأصناف البرية من التفاح والكمثرى في شمال العراق، موجودة بصورة وحشية، دون تدخل الإنسان في تكثيرها ورعايتها. وأغنام (العواسي) الموجودة في غرب العراق وكامل بلاد الشام أكثر ملائمة للبيئة من تلك المستوردة كما هي أصناف (النعيمي) في جنوب العراق وعموم بلدان الجزيرة العربية، كما هي الأصناف الموجودة في السودان والصومال من (السواكن).
هذا بالأساس، لكن، يبحث المنتج باستمرار لتطوير الأصناف لديه، فهذا يشتري كبشا شُهد لأمه بكثرة الإنتاج، وهذا يشتري فحلا من الإبل، وهذا يختار سنابل من القمح داخل حقله ليحسن البذور لديه. هذا على الصعيد الأهلي والتطوعي للمزارعين والمربين.
أما على صعيد الحكومات، فقد ظهر نشاط لا يمكن الانتقاص من أهميته في عموم الأقطار العربية. فتم إنشاء محطات البحث العلمي، وتم التعاون مع المنظمات الدولية كالأمم المتحدة أو منظمة الزراعة والغذاء التابعة للجامعة العربية، وتلك الجهود ساهمت وتسهم في تطوير الأصناف وإيجاد تقليد علمي اقتصادي يسير على بداية طريق لحل مشاكل الغذاء في المنطقة العربية.
ماذا نريد من الصنف؟
1ـ زيادة إنتاجه، فإن كان أصنف (شملالي) من الزيتون (تونسي)، و(الليصي) أو (الصوري) الموجود في بلاد الشام، تمتاز بارتفاع نسبة الزيت فيها، فإنها قليلة الإنتاج، مقارنة مع أصناف (كاردينال وجرافة و نابالي).
2ـ تغطية أطول فترة ممكنة من التسويق، فلا يهم حسن مذاق صنف (دكس رد) من الخوخ (الدراق) أو صنف (شدة سوداء) من العنب، إذا كانت فترة وجوده بالسوق لا تتعدى عشرة أيام، فلا بد من اختيار سلسلة من الأصناف تغطي أطول فترة ممكنة، فيتم اختيار (ديس العنز) و (الحلواني) الى جانب (شدة سوداء) لبقاء أصناف العنب 4ـ 5 شهور وهكذا.
3ـ مقاومة الأمراض والظروف الجوية. هناك أصناف تعيش في مناطق مختلفة في العالم بنجاح، ولكن عند نقلها الى قطر عربي، يسوء إنتاجها، فبرتقال (بعقوبة) في العراق أكثر ملائمة من (أبو صرة) مثلا. وصنف الأبقار الشامية التي كانت في (غوطة دمشق) أكثر ملائمة من صنف (هولشتاين فريزيان) التي غزت المنطقة. وهذا يقال عن أصناف دجاج (لوهمان) الأكثر ملائمة من (الروس).
4ـ الاستساغة، هناك أصناف يقبل عليها الأوروبيون، لا يستسيغها المستهلك العربي، لخاصية في عاداته وارتباطها بالذاكرة وطرق تحضير الطعام.
ماذا عن الأصناف المحلية؟
رغم تفوق الكثير من الأصناف العالمية في غزارة إنتاجها على الأصناف المحلية، فإن الدعوة للحفاظ على الأصناف المحلية تبقى جديرة بالاهتمام، لأغراض البحث العلمي وتهجينها مع الأصناف المستوردة.
لذا، ندعو وزارات الزراعة في تأسيس متاحف أو حدائق أو مؤسسات تحصر فيها الأصناف المحلية وتعزلها عن الخلط مع الأصناف المستوردة، للرجوع إليها في عمليات البحث، خيرا من أن تنقرض ونعلن الندم في وقت لا يفيد فيه.
هامش
ـــــــ
*1ـ طبقة فحل، موقع أثري في الأردن كان من (الديكا بولس) أي المدن العشرة المهمة في العهد الروماني
__________________
ابن حوران
|