العودة   حوار الخيمة العربية > القسم العام > الخيمة السيـاسية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: نظرات فى بحث النسبية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: حديث عن المخدرات الرقمية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال الكايميرا اثنين في واحد (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى كتاب علو الله على خلقه (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في كتاب رؤية الله تعالى يوم القيامة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مقال فسيولوجية السمو الروحي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى توهم فريجولي .. الواحد يساوي الجميع (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال ثقافة العين عين الثقافة تحويل العقل إلى ريسيفر (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات بمقال هل تعلم أن مكالمات الفيديو(السكايب) كانت موجودة قبل 140 عام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى بحث مطر حسب الطلب (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 30-11-2009, 03:04 PM   #21
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

ارتجاج وخضخضة. سلكوا طريقا غير معبد. زاد خوفي وتأكدت من وجهتي...يا للهول...تمارة مرة أخرى[1]. وما أدراك ما تمارة. لا أقصد تلك المدينة الصغيرة الوديعة التي كانت تنام في هدوء على ضفاف الأطلسي بجانب العاصمة. والتي لم يكن القطار ولا الحافلات تتوقف بمحطاتها خاصة بعد ما شقها الطريق السيار إلى شطرين غربي يتوسد البحر وشرقي يتمنطق بحزام من غابة أشجار الأوكالبتوس.

لم تكن تذكر تلك المدينة الهادئة إلا حين ذكر حديقة الحيوانات الوطنية التي توجد عند مدخلها الشمالي حين تريد دخولها من جهة العاصمة. كانت تلك الحديقة هي مفخرتها قبل أن تصفى مؤخرا بشكل يوضح بجلاء أن كل شيء في هذه البلاد أصبح نهبة لأصحاب الملايير ممن إغتنوا بين عشية وضحاها. فاحت رائحة الفضيحة على صفحات كل الجرائد بعد أن فوتت الأرض التي توجد عليها الحديقة الوطنية لملياردير صاعد بقوة النفوذ والعلاقات مع (الكبار) علاقة من يمتلكها فكأنه يمتلك مصباح علاء الدين الأسطوري ( شبيك لبيك وكل شيء بين يديك) فوتت له أرض الحديقة وما جاورها من مساحات خضراء بثمن أغرب من غريب 10 دراهم. ثمن زوج جوارب من النوع الرديء. ما يعادل أورو واحد فقط. وحين فاحت الفضيحة وتكلمت عنها الجرائد وطالبت بلجان تحقيق وذرا للرماد في العيون. زودوا المبلغ إلى عشرين درهما . أهملت حيواناتها المسكينة وهجرها الزوار بعد أن مسخ الأسد فصار بحجم القط البري والتمساح كضب بئيس يتغدى على أكياس البلاستيك السوداء أما القرود المسكينة فصار بكاؤها جوعا يسمع من بعيد. أما الضباع فقد اختفت من مدة بعد أن بيعت لمن يطلبنها من نساء علية القوم لاستخدام أمخاخها في وصفات المشعوذين لتضبيع أزواجهن. وبالمناسبة فجل الجلادين ضباع مضبوعة..

ضلوا لسنوات عدة ينفون وجود معتقل تازمامارت الرهيب ودرب مولاي الشريف وقلعة مكونة وغيرها...أغلقت سراديب ...وشرعت أخرى لاتقل عنها همجية وفتكا أبوابها ...واستمرت اللعبة الموروثة عن العهد الماضي لعبة النفي, نفي وجود أي معتقل سري في البلد وأن كل شيء يمر بوضوح وتحت سيادة القانون. نفس الأسطوانة المشروخة... واستمر النفي رغم أن المكان أصبح أشهر من نار على علم ونشرت شهادات زواره من أبناء البلد أو من استقدموا من طرف أمريكا للتحقيق معهم هنا بالوكالة. رغم كل هذا استمر النفي الرسمي, مع مفارقة غريبة في بلد الغرائب وهي أن من تولوا الدفاع عن ( حجاج العهد الجديد) وتولوا مهمة نفي وجود معتقلات سرية أيامنا هذه. هم بعض ضحايا ( ومناضلي) الأمس, مناضلي اليسار الشيوعي ممن اكتووا بنيرانها. بعد ما دجنوا أكثر من اللازم وتمخزنوا أكثر من المخزن نفسه وأصبحوا ملكيين أكثر من الملك ... عالم غريب... عالم جنون ... عالم منافق ...

داس السائق المتوتر فرامل السيارة معلنا الوصول ... جف حلقي وازداد خفقان قلبي, جذبوني بعنف إلى الخارج " اللية الزينة من العصر باينه"
سمعت جدتي تكررها مرارا وفي مناسبات عدة.

أجلسوني على ركبتي في وضع ضرب العنق. رأسي مدلى للأمام كمن ينتظر السياف... أرضية معبدة تؤلم. انتهت مهمتهم هنا. أوصلوا الأمانة إلى أهلها. ربما عادوا ليستقدموا أمانة أخرى.

آه... لقد نسيت هؤلاء زوار الليل لا يشتغلون إلا تحت جنح الظلام كاللصوص. بل هم اللصوص يضعون في جيوبهم كل صغير الحجم وغالي الثمن ورقة مائة درهم وسلسلة ذهبية كتذكار بليد لخطوبة مفسوخة هي كل ما احتوته حقيبة شقيقتي اليدوية دسها أحدهم في جيبه وهاتف شقيقي اختفى هو الآخر بعد مغادرتهم والمبلغ الذي بعت به دراجتي النارية وأنا أستعد للسفر تحول إلى النصف بعد دخولي السرداب.

في السجن التقيت بمن سرقوا لأسرته تحويشة العمر وأحد من التقيتهم سرقوا مبلغا كانت زوجته قد تسلمته لتوها كنصيب في ميراث والدها. آخر من مدينة فاس ضل يكدح بالليل والنهار طيلة عمره لشراء بيت يقي أبناءه حر وقر البيت الصفيحي, اختفى المبلغ مع اختفاء صاحبه وفوق هذا كله جنت زوجته المسكينة.

شمس الصباح بدأت تبزغ. انتهت مهمة اللصوص = الزوار هنا.
جذبتني يد قوية خشنة من لحيتي مع لهجة آمرة بالوقوف "زيد يا لحية الشيطان"ّّ!!!
تساءلت مع نفسي كيف عرف أن للشيطان لحية؟! ربما يشتغل معهم هناك كمتدرب و متمرن. ألم يقل الشاعر. أن الشيطان قد خاطبهم معلنا استقالته قائلا: "دوري أنتم ستلعبونه."
__________________





آخر تعديل بواسطة أوان النصر ، 30-11-2009 الساعة 03:12 PM.
أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 03:06 PM   #22
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

تحاملت على ركبتي اللتان لم تعودا تقويان على حملي... خارت قواي من هول الصدمة وزادت قيود الأرجل من إعاقة حركتي ... وصرخاتهم تحثني على الإسراع... أجر رجلي... صرت كصغير حمار وحشي داهمت أمه السباع, تحته على الإسراع وهو لا يقوى. صرير باب حديدي, أكز أسناني.

"انزل...انزل..." باب سقر الدنيوية قد فتح..."انزل...انزل...". لم أتعود بعد على قيود الأرجل ." انزل..." كيف أنزل؟؟ تلكأت قليلا خوفا من السقوط. فجاءتني اللكمات متتالية. لكمات محترف يعرف أين يضرب.

"انزل مال أمك مشلول أو معاق"
نعم أنا مشلول وأعمى لا أرى شيئا أمامي. خاطبت نفسي طبعا ...

رفعني اثنان بعنف من تحت إبطي... بضع درجات إلى الأسفل ,ثم جروني بضع أمتار, ألقوني أرضا,
شرعوا في نزع قيودي وأزالوا الكيس عن رأسي.

سحبت نفسا عميقا كنت في حاجة له من منخري وفمي معا. مسحت الغرفة المتوسطة الحجم بسرعة من غير لفت الانتباه. مكتب يحتل إحدى زواياها, أربعة كراسي, ثقب مرحاض, صنبور ماء, قارورات مختلفة الأحجام والأشكال بعضها مكسرة الرؤوس,عصي, حبال, أدوات تعذيب وآثار دماء... فهمت الرسالة التي تعنيني من هذا المشهد.

هناك وجوه حين تنظر لها تعلمك الحب وتشعر معها بالسعادة والمرح... أمي... جدتي ... وجوه أطفال الجيران البريئة... وهناك وجوه تقرأ على صفحاتها الصدأة سطور البغض والكراهية... والشقاء الأبدي... سحناتهم كالحة... بياض عيونهم تحول إلى حمرة ,وأجفانهم أحاط بها السواد والزرقة.

ساءلت نفسي مرارا . هل يضحكون ومتى يفعلون ذلك؟؟
شرعا في تفتيشي تفتيشا دقيقا وسريعا لم أكن أرتدي سوى لباس نوم خفيف
"فايت لك دايز عندنا هنا...؟؟" = سبق وأن مررت من هنا؟؟؟

أجبته دون النظر إليه" نعم دوزت هنا ثلاثة أشهر ...ثلاثة أشهر وأيام... زدت في نفسي لكنها كثلاثة قرون. نعم لا أبالغ إن قلت ذلك...

"مرحبا بيك...الدار دارك...أنت كليان =زبون قديم... بلا ما نوصيك... أنت عارف كل شيء هنا ما ينفع غير الصح..." حركت رأسي نعم أعلم...

ولج الغرفة رجل مقنع لا تبدو منه سوى عيناه. قناع أسود. ذكرني بمليشيات الموت الرافضية التي جاءت خلف دبابات الاحتلال لتنشر الرعب في العراق. أخبرني -ع- في إحدى رسائله أنهم عيون التتار الجدد كأجدادهم ابن العلقمي وصحبه. كانوا يحملون قوائم موت بأسماء للتصفية بدعوى الانتماء لحزب البعث البائد وعناوين كل أدمغة العراق. علماء, أطباء, مهندسون, جامعيون... من أهل السنة طبعا.

كان يحمل معه آلة تصوير حديثة. لم أعد أذكر كم عدد الصور التي أخذ لي الرجل المقنع أمام خلف, يمين, يسار... بعدها أخذ بصماتي وعينة من لعب فمي.
عصبوا عيني هذه المرة بخرقة سوداء تنبعث منها رائحة البول المعتق وأعقاب السجائر وصفدوا يدي إلى الأمام هذه المرة.

تذكر رقمك ولا تنساه حين تسمع النداء عليك, ارفع يدك وقم من مكانك... إياك أن تكلم من بجانبك ... المرحاض مرتين في اليوم... حذار من إنزال البانضة... صرت مجرد رقم في لائحة طويلة لا تكاد تنتهي...

ما الذي يجري؟؟!! في المرة السابقة كنت في زنزانة لوحدي. أنزع العصابة عن عيني بمجرد ولوجها حين عودتي من التحقيق. وكان لي مرحاضي عبارة عن ثقب في زاوية أجلس فيه كما أشاء ومتى أريد؟؟!!

بدأت أفك بعض الطلاسم والألغاز حين رموني وسط كومة من الأجساد المنهكة في ممر بارد يؤدي إلى غرف التحقيق. رائحة العرق والقيء الكريهة تعم المكان والأنين لا يكاد يكف أو يهدأ. كغرفة في قسم مستعجلات اكتظت بضحايا حادث سير جماعي. يبدو أنني جئت أو جيء بي في أيام الذروة. لم تعد الزنازن تكفي. اللهم سلم ... اللهم سلم...
__________________





آخر تعديل بواسطة أوان النصر ، 30-11-2009 الساعة 03:18 PM.
أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 03:08 PM   #23
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

صدقت يا -ع- كررها علي مرارا وهو يحثني على الإسراع بالرحيل ويحذرني
"أنج بنفسك قبل أن تجد نفسك بين عشية وضحاها مجبرا على أن تمثل دورا في إحدى مسرحياتهم التي يبدو أنها لن تنتهي قريبا. هذا إن لم تكن أنت هو البطل...

لم أكد أضع جنبي على الأرض حتى سمعت النداء يتكرر. قمت فزعا مرعوبا... رقمي ,,,رقمي,,, نعم إنه رقمي,,, زممت شفتي بعد أن أحسست بخرقي لنظام التعليمات...
"ومال أمك ناعس كتشخر..."

ساقاني أحدهما خلفي بكف غليظة يمسك رقبتي بقوة وآخر أمامي يجرني من ذراعي كأعمى فقد عكازه. ما إن ولجت الغرفة حتى تلقفتني الزبانية..
"هذا هو ... نعم هو هذا... حذرناك ألا تعود, وعدت..."

لم أعد هم من أتوا بي. وبدأت الحفلة ... حفل الإستقبال... كل من مر من هناك يعلم كيف تدور الرحى... حفل الإستقبال لابد من شره بعد الولوج مباشرة.عادة لا تطرح فيه أسئلة, وليس للتحقيق.

تعذيب فقط من أجل التعذيب وإرهاب الضيف لجعله طيعا متعاونا إلى أبعد حد. وليعلم أين هو وأي القوم هؤلاء الذين سقط بين مخالبهم.

ككرة مستطيلة تتقاذفني أيديهم وأرجلهم , أو ككيس رمل معلق في نادي ملاكمة. حاولت الصبر أول الأمر ووقاية وجهي. ما أصعب الأمر وأنت معصوب العينين لا تدري أين ستنزل الضربات...

صراخهم وشتائمهم لا تنتهي. وصراخي يعلو ... ويعلو... ويعلو... كانوا ثلاثة أة أربعة, لم يسلم موضع في بدني من ركلاتهم ولكماتهم. فجأة بدأت الأنابيب والحبال المطاطية تعزف سيمفونية حزينة مؤلمة صعودا ونزولا على جسدي الهزيل...

"حافظ النشيد الوطني؟؟" = هل تحفظ النشيد الوطني؟؟
"نعم حافظوا ,,, حافظوا,,, حافظوووووو....
هيا سمعنا...سمعنا النشيد الوطني يا خائن...قول ... قووول ... قوووول...
شرعت متلعثما "منبت الأحرار... مشرق الأنوار... منتدى... منتدى...
اختلطت الكلمات بشهيقي... جسدي يرتجف وشفتي تهتزان... ودموع الساخنة لم أستطع إخفائها صرت تبلل الخرقة السوداء المنتنة
"قول...قووول...كمل يا خائن" يزداد تلعثمي
"شوفو الز...كيبكي بحال الق...قوول زيد..."= أنظروا اللوطي يبكي كعاهرة هيا زد ... قل أكمل...
"دمت منتدى وحماه...غلبني الشهيق...تلعثمت ...انهالت علي الضربات أكثر..." نيفو باك + سنتين جامعة وما حافظش النشيد الوطني أولد الق...أعطيو ليماه...أعطيو لكلب..."

ركنت نفسي في زاوية الغرفة, كملاكم منهزم في مباراة غير متكافئة ينتظر صفارة الحكم مستسلما للكمات خصمه. غير أنه لاحكم هنا إلا الله ,العدل,الحكم...لا حكم سوى الله...ألا له الحكم والأمر...

لم أعد أقوى على الوقوف بدأت أخور كثور انغرزت في ظهره السهام . جلست أرضا وضعا رأسي بين ركبتي... تكومت كالكرة, أمسك أحدهم بأذني محاولا رفعي وإرغامي على الوقوف.

صراخي يزداد ويتعالى. قررت ألا أتوسل... لكن لكل شيء نهاية... خفتت الضربات تدريجيا... تعبوا أو بلغوا مرادهم, أو جائتهم إشارة بالتوقف.لا أدري.

أي بشر هؤلاء؟ وأي وظيفة هذه؟ قلوب قدت من حجر. وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار. وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء.

توقف الضرب فجأة. أمروني بالوقوف فلم أستطع. تنملت أطرافي. كأن تيارا كهربائيا يسري في بدني. فسحبني أحدهم من شعر رأسي بقوة إلى أعلى.

بكائي اللائرادي وشهيقي لا يتوقف أحسست بالغبن فصرخت بأعلى صوتي أنا مظلوم... أنا مظلوم...
"حتى أنا مظلوم...مظلوم...." أجابني أحدهم وهو يخبط رأسي على الحائط.

عالم غريب... عالم مقرف... كل يوم أصادف في هذه الدنيا أشياء لم أجدها فيما سمعته أوقرأته من كتب. ربما قرأت يوما ما عن الظلم والتعذيب لكن تأثري بذلك كان ساذجا ربما انفعلت وحزنت لذلك, أو دمعت عيني. لكن سرعان ما جفت الدموع. وعندما دخلت سرداب إبليس وأقبيته. وذقت طعم العلقم. وجدت الفرق هائلا, بين ما قرأته وما أعيشه اليوم.
__________________





آخر تعديل بواسطة أوان النصر ، 30-11-2009 الساعة 03:19 PM.
أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 03:09 PM   #24
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

أعادوني محمولا ورموا بي بين الأجساد المنهوكة. أسمع الأنين من حولي... الموت أهون من كل هذه الإهانات.

ليومي هذا أشعر بالقرف والاشمئزاز حينما أسمع أو أتذكر أولئك الذين يتحدثون ليل نهارعن الحرية والعدالة ودولة الحق والقانون . تفو... تفو... تفو... ابصق عليهم في التلفزيون وصفحات الجرائد وألعنهم. إنهم أغبياء. فالتطرف الذي يرمونني وغيري به. لا يصنع ولا ينبت ولا يولد ويزداد إلا هنا. لا ينمو ولا يترعرع إلا في قاع الجب العميقة, الدهاليز والأقبية المظلمة. وكأن جنكيز خان لم يمت ونسله يحكمون في الأرض إلى هذه الساعة .

ارتفعت الموسيقى. كلماتها غريبة وغير مفهومة, لهذا ربما يسمونها شعبية كل ماهو رديء ينسبونه للشعب المسكين. ربما اختاروا بعناية ما يذيعونه هنا. زيد دردك... عاود دردك... ما الذي يريدون قوله؟!

زاد بغضي وكرهي لهذه الرداءة التي يسمونها موسيقى شعبية.
أحد المساكين يبدو أنه فقد صوابه هنا, شرع يردد مع الشريط بصوت مبحوح. ضحك أحدهم لم يتمالك نفسه فقهقه عاليا, سحبوه للمسلخ... ارتفعت صرخاته وشتائمهم...
"تضحك يا ولد الق...تحسب راسك في مسرح ...اللي فيك ما هناك... لا يعور ولا يعرج إلا البلاء المسلط..."

لم يتركوا أحدا حتى المعاقون هنا. سمعنا قيئه... قيع... قيع... قيع... قيئوه.
رموه بجانبي رائحته عطنة كريهة, ما أن استعاد أنفاسه حتى شرع يسب ويلعن ويدعو عليهم بصوت شبه خافت. استغربت أمره وجرأته. بدأ يتلو القرءان, سورة الكهف. صوته ندي رائع وترتيله متقن.

سمعوه وصاح فيه أحدهم معيرا إياه بإعاقته.
"سكتنا أداك لعرج... أولد القواده... مال أمك كيف الحمار لحمك ياكلك ماكترتاح غير بالعصا"
همهم رادا عليه فسمعته "القواده هي أمك يا ولد الخيرية" = "أمك هي القواده يا ابن الملجئ الخيري. وصلتني كلماته فوقف شعر رأسي وتشوك بدني. ماذا لو سمعوه يقول هذا الكلام؟؟؟!!!

أشفقت عليه. رغبت في نصحه فلم أستطع. تذكرت أحد رفاق الطفولة كان معاقا من إحدى رجليه, وعنيدا, وشقيا, لم يتفوق عليه أحد من أقرانه في السباحة ولا في تسلق الأشجار, لذلك كنا نلقبه ب(قريده) ساعدته مواهبه تلك في الهجرة سرا إلى أوربا( متشعبطا) أسفل شاحنة نقل دولي. لم يعد. سمعت أنه يشتغل في سرك متنقل.


يتبع بحول الله تعالى...

[1] تمارة هو اسم مدينة شاطئية في ضواحي العاصمة الرباط أصبح اسمها أشهر من نار على علم بعد انتشار خبر معتقلها السري الذي يسام فيه أبناء الإسلام سوء العذاب على أيدي عبيد أمريكا الجدد



__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-12-2009, 02:50 PM   #25
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

نواصل الحلقة الرابعة
__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-12-2009, 02:53 PM   #26
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي الحلقة الرابعة

4
...الفطور ...الفطور ...الفطور...أمدوني بكأس بلاستيكي دافئ وقطعة خبز خبز محشوة بشيء من الزبدة والمربي " كول باش تقول " صاح الموزع كعادته ساخرا . كلما وزعوا وجبة كرروا هذه اللازمة .

لن آكل سأتحدى. سأضرب عن الطعام احتجاجا على ظلمي وتواجدي هنا.
فزعت من الفكرة. وتراجعت عنها فورا حين ذكرت ما حكاه لي أحد المارين سابقا من هنا. حيث أرغموه على أكل "دانون" مخلوط بالبراز حين امتنع عن الأكل. ح -خ. بدوره حدثني أنهم سقوه في ولاية أمن مدينة فاس قارورة مياه مجاري, وبول آدمي. ونصف خبزة محشوة بعلبة سردين وكمية من البراز بعد تجويعه ومنع الماء عنه لمدة خمس أيام في عز أيام الحر كاد يهلك فيها جوعا وعطشا. حدث هذا قبل أن يرحلوه صوب المعتقل السري بتمارة حيث تبولوا مباشرة في فمه وأدخلوا عصا في دبره . ثم حاكموه بعشرين سنة سجنا مع الصائر . أي صائر ؟ّ! الله أعلم!!

شعرت بالقيء والتقزز, وأسرعت إلى الكأس. بصعوبة بالغة كنت أرفع يدي المقيدتان نحو شفتي المتورمتين . حولت القهوة الدافئة إلى حمام فم
(Bain bouche)

فكرة جيدة تكمد جراحات فمي الداخلية. اللهاة, اللثة, اللسان...رغم ما بدلته من جهد لحماية وجهي فقد وصلتني لكماتهم. أمضمض بالجرعة الدافئة أحولها في كل أرجاء فمي. وأحس ببعض من لذة وراحة مؤقتة من الألم أغرغرها في حلقي وحين تبرد أبتلعها.
.
.آلحاج...آلحاج...زدني شويه دالقهوه الله يرحم الوالدين "
في نبرات صوته مسحة من جنون وحمق. نجا من قبل حين شرع في الغناء مرددا مع الشريط...زيد دردك ...عاود دردك...لا أظنه ينجو هذه المرة خاصة وأن اليوم في أوله وقد يحتاجون لمن يفطروا عليه.
"مال أمك تحسب راسك في أوطيل خمس نجوم..."

نزلت على المسكين بضع ركلات من كل جانب وشرع في الصياح والإستغاثة بأمه "وآآآامي...وآآآمي... وآآآمي... بعد أن تركوه وانصرفوا نصحه جاره هامسا:
استغث بالله يا أخي هو المغيث...أمك لن تصنع لك شيئا هنا...الله هو المغيث القادر...ومثل هذه الإستغاثة بغيره لاتجوز...

فصرخ مرة أخرى : "...آلحاج...آلحاج... "
" مال أمك ياولد الق...ماشبعتش نزيدوك ..."
لا...لا آلحاج هذا راه كيتكلم معايا "
شكون هو فين هو دين مو ...جاؤوا يركضون...
"هذا...هذا أمسك بصاحبه ولم ينتظر أن يسألوه عما كان يكلمه به " يقول لي اسثغت بالله وحده لا شريك له..."

صاح أحدهم في غضب "هذا يحسب راسو عايق وشبعان فلسفه جيبو يماه"
جروا المسكين . ثم انهالوا عليه تعالى صراخه على الموسيقى الصاخبة. شرع جاري المعاق يتململ وكأنه يتوسد الشوك : اللهم سلم يا رب. خمنت أنه يريد ارتكاب حماقة هو الآخر. صراخ المسكين يزداد ويتعالى...

وكأن هذا العالم المجنون قد وضع سدادات في أذنيه وأحكم غلقهما حتى لا يسمع الآهات والأنين المنبعث من هنا. وما أدراك ما هنا!! حمزة لا بواكي له. صدقت يا -ع- " لن تبك عليك غير أمك "
__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-12-2009, 02:58 PM   #27
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

الموت الرهيب لا نهاية له . والسياط والأيدي الخشنة والألسنة الطويلة قطعها الله تعزف مقطوعة دامية رهيبة .

مرة أخرى عرفت معنى "الحكرة" والقهر الحقيقي . وبدا لي أن الإنتماء الحق لهموم هذه الأمة وأحزانها يعني الموت في كثير من الأحيان. وعلى يد من؟هذا هو ما يجنني! على أيدي من يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا. تبا لهم...

الموت...!!!نعم الموت...هددوني به مرارا. وقال لي أحدهم في الزيارة السابقة. وأنا معلق أتأرجح في الهواء كخروف عيد:" سنقتلك ككلب مسعور يحمل داءا معديا "

يستطيعون فعلها. وقد فعلوها بغيري هنا. وادعوا أنه كان يعاني مرضا مزمنا. لن يخسروا شيئا . تقرير طبي....وعناوين بالبنط العريض على صفحات أبواقهم الأولى...وفاة زعيم الخلية الإرهابية المفككة مؤخرا نتيجة إصابته بمرض مزمن . أو وفاة زعيم الإرهابيين متأثرا بجراحه بعد محاولة فرار فاشلة من قبضة قوات أمننا الباسلة . ثم مقتطفاة من بيان بارد رديء لجمعية حقوقية مخترقة يطالب بإجراء خبرة طبية نزيهة لكشف أسباب الوفاة!!! صيحة مبحوحة في واد سحيق.

أعادوه يئن ويتألم ورموا به مهددين ومتوعدين كل من كلم جاره بنفس المصير.

اللعنة عليهم ... أنسوني صلاة الصبح . تيممت وصليت إيماء برأسي من غير أن أتحرى القبلة. فكرت أن أسألهم عن اتجاهها وتراجعت في الأخير. قد أسبب لنفسي في وجبة أنا في غنى عنها . لو كانوا يعرفون القبلة لما كانوا هنا . ولما تفننوا في سب الخالق قبل المخلوق.

تكثر وتكبر أشواقي .هنا وتصير الأشياء التي لم أكن ألقي لها بالا ذات أهمية كبيرة. أشتاق فعلا للبادية.

كم أحب الخضرة؟! آخر مرة زررتها بعد خروجي الأول. انتابني إحساس بأن العالم قد تنكر لي . الكل يتحاشاني . أشجعهم من كان يسلم في سرعة ثم ينطلق لا يلوي على شيء.

إعتكفت في البيت, أصارع آلام نذوب في داخلي أبت أن تنمحي. ألحت علي أمي في السفر لتغيير الجو بعدم رفضت بقوة فكرة زيارة الطبيب . لم أومن يوما بشيء اسمه الطب النفسي . بل كنت أعتبر أصحابه مجرد بائعي كلام يحتاجون للعلاج أكثر من غيرهم.

أخذت منهم ترخيصا شفهيا, وخضعت لاستنطاق مطول بعد عودتي. حتى الحمير التي امتطيتها هنالك سألوا عن ألوانها وعلموا من يمتلكها...

مشيت حينها وسط الحقول الخضراء . وانتشيت بجو الصباح العليل. ووجوه الناس الباسمة عكس أهل الحاضرة ... خيل إلي ، الأرض تغني أغنية عاشق متيم . كانت أغصان الأشجار في تلك الأيام الربيعية تبدو لي وكأنها تتراقص في دلال ...

فرح بي أهل الوالدة هنالك منهم من لم أعرفه أو أراه من قبل. بدأت أفكر حينها في إطالة إقامتي هنالك . ولم لا أشتغل في الفلاحة وأستغل نصيب الوالدة من الأرض .على أغيب وجهي عنهم أو ينسونني.؟ عشت الفرح لأيام ...إلى أن أفسدوه علي كعادتهم في إفساد كل جميل. خلوتي وهدوئي هناك. ماكدت أبلغ اليوم الرابع حتى رن الهاتف. صوت جاف يأمرني بالعودة فورا.لم يمهلني الخبيث حتى أبرر له سبب رغبتي في البقاء هناك أكثر.

قطع الخط, فقطعت المسافة عائدا صوب بيت أسرتي فورا حتى لا أخلق لنفسي مشاكل أنا في غنى عنها ...كل هذا الإفزاع ليعرض علي صورة كالعادة سائلا: هل تعرف هذا؟ هل سبق أن رأيته وأين؟ لا ينتظر جوابي بالنفي ليقول لي نريد أن نعرف كنيته وأين هو الآن؟.

وخزات كالإبر تعم كامل جسمي. والأنين من حولي لا يتوقف,وجاري المشاغب لايكف عن الحركة ووكزي بين الفينة والأخرى طالبا مني الدردشة معه لأنهم ليسوا هنا. كان يهمس لي في كل مرة وبإلحاح بالغ:

" نزل البانظة راهم مكينينش"( أنزل العصابة إنهم غير موجودين).
أتجاهله احتياطا و خوفا...ويواصل إصراره على جعلي أتكلم كان يراني ولا أراه :" الأخ جابوك جديد." أصمت ولا أجيب.

" قل لهم يعطيوك صنداله وتريكو تلبسهم على البرد "
(أطلب منهم نعلا تنتعله وقميصا صوفيا لتحمي نفسك من البرد).
__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-12-2009, 03:02 PM   #28
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

كان يعرف متى ينزل البانضة عن عينيه ومتى يردها. غريب أمره.

في كل مرة ينادون رقما معينا, ترتعد فرائصي ويرتجف جسدي. يأخذون الضحية نحو المسلخ .

ناذرا ماتمر جلسات التحقيق دون عنف وجلد. كل من يذهب به يعود محمولا. مجرورا يبكي , يتألم وينتحب . تتقطع نياط قلبي لآلام الآخرين.

في كل مرة أبلغ قمة اليأس أحاول مواساة نفسي خفية لأخفف عن بعض آلامي. أقول لها مستحضرا ما قرأته عن الإبتلاء وسنن التمكين : إن العقبات دائما تعترض سبيل المصلحين وأهل التوحيد الحق لذلك وجب الصبر والمصابرة في مثل هذه المواطن . هكذا سير الأنبياء والمؤمنين وزعماء الإصلاح. وقادة الجيوش الكبار. ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة.

إذن مادام الأمر كذلك فعلي الصبر . وكيف لا أصبر وأنا من كنت أزعم أنني أريد إهراق دمي قربة لهذا الدين العظيم ونصرة لأهله المستضعفين. فليكن ما أراده الله. هكذا أعزي نفسي. فأرتاح .

الخبثاء يفسدون الأفراح وكل ما هو جميل. ويعطلون المشاريع ويحاولون وضع العصا في عجلة التاريخ وسيرورة الحياة . تبا لهم . أولاد كلب.

لم أمكث سوى شهور قلائل حتى أعادوني. حاولت بعد الخروج أن أتغلب على جراحاتي النازفة. وكوابيسي اللامتناهية . مخلفات شهور عندهم.

أرهقتني فاتورة الأدوية التي لم أعد أستطيع النوم والعيش بدونها . نصحني الطبيب النفسي الذي ساقوني إليه مغلوبا على أمري قائلا:
"اسمعني جيدا عليك أن لا تترك الدواء الذي وصفته لك. وأن تشغل وقتك وتملأ فراغك بشيء ما ...وحاول النسيان...إنس مافات وابدأ من جديد... فكر في المستقبل ولا تضل مرتهنا بالماضي السيء ...و...و...و...

أنظر إليه كالأبله وأردد في نفسي ,أنت لا تعلم شيئا . كل ما يهمك هو أن أأدي للفتاة الذميمة المتعجرفة التي في الإستقبال مبلغ المائتي درهم قبل أن تسمح لي بالدخول لرؤية وجهك والإنصات لكلامك الذي حفظته عن ظهر قلب من كثرة التكرار.

وجدت عملا في القطاع الخاص بعد وساطة من أحد معارف الأسرة الذي كان شرطه الوحيد أن لا يعلم أحد بالأمر. لم يتركوني أكمل الشهر حتى ظهروا في طريقي من جديد. ناداني المدير الفاسي لمكتبه الفخم, فتوجست. لعنت إبليس ودخلت عليه الباب بعد طرقه طبعا. بدون مقدمات خاطبني صارخا وقد إكتسى وجهه المنتفخ كوجه طفل من أبناء الأغنياء حمرة غضب:
" لأول مرة في حياتي أخضع بسببك للإستجواب. إذهب بعيدا عني...لم يمهلني لحظة لأشرح له...إنتهت المقابلة...اذهب بعيدا عني...لا أريد أن أراك مرة أخرى هنا...وإلا هاتفت الشرطة . نادى الكاتبة التي سلمتني ظرفا فيه أجرتي.غادرت ونظرات الشفقة والشماتة أيضا تتابعني. بقيت بعدها شهرا أبحث , لم يكن من اليسير أن أجد عملا.

أعرض شهاداتي وخبرتي وأحاول إخفاء شبهتي التي صارت تطاردني كما كانوا هم يطاردونني. كلما اقتربت من الظفر كانوا يظهرون في طريقي كأشباح مفزعة تعكر علي أحلامي الجميلة. ساءت نفسيتي أكثر ...

كنت أسائل نفسي لم كل هذا الغل؟؟

أمروني أن لا أحكي ما جرى لي لأحد ولا أتصل بجمعية أو صحيفة ففعلت. أمروني أن لا أغادر المدينة إلا بعد إخبارهم ففعلت. وأن أحظر كلما رغبوا في مثولي أمامهم ففعلت. ألا أستعمل غير هاتف واحد برقم لا يتغير ففعلت. أذعنت لأوامرهم صابرا منتظرا الفرج والفرصة للخلاص.

فبلغ بهم الأمر أن حاصروني في لقمة عيشي وأسباب رزقي. كانوا يريدون دفعي نحو مزيد من المرض أو الجنون واليأس والإنتحار أو أصبح عميلا لهم . لن أفعل سأرفع التحدي وأظهر لهم التمسكن والدروشة حتى يحين الفرج. هكذا قررت.
__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-12-2009, 03:06 PM   #29
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

كنت أحس بألم عميق وأنا أرى أختي تخرج كل صباح للعمل فيما أنا لم أجد ما أعمله. في الأخير اهتديت لفكرة العربة المدفوعة. صنعتها بيدي وتوكلت على الله, أبيع العصير البارد متجولا طيلة اليوم, وفي الليل أركنها عند رأس الزقاق.

أبيع سمك السردين الرخيص مقليا وما بقي من عصير النهار ( أكلة خفيفة) تغير لوني وشكلي. لفحت حرارة الصيف وجهي فمال لوني للسمرة وازداد جسدي ظمورا.

رغم كل هذا فقد كنت أحس بسعادة بالغة وأنا أمد الوالدة مساهما في مصروف البيت,وأسمع دعائها لي بالرضى والبركة والتيسير .

بدأت أخرج من قوقعتي وتلعثمي. ثم شرعوا في الظهور . كانوا يحرضون السكارى والمنحرفين لافتعال المشاكل والمشاجرات معي ليلا.

فكنت أكبح جماح غضبي وأهدأ أعصابي التي تغلي وتفور رغم الضربات العنيفة التي تتلقاها عربتي المجرورة ومحاولات قلبها المستمرة.

مرة , التقيت أحد أولئك المغرر بهم في حمام الحي الشعبي. ما أن لمحني حتى سارع إلى إلى معانقتي بحرارة والاعتذار بشتى الأعذار, حدثني وهو يساعدني في حك ظهري وهي عادة تضامنية اجتماعية تعرفها الحمامات الشعبية. أنهم استغلوا إدمانه , اشتروا له قارورة خمر رخيص وبضع حبات (قرقوبي) مهلوسة وأغروه بكسر عربتي ومنعي من عرض تجارتي في رأس الدرب .

وليبرهن لي على صدق توبته وندمه على ما اقترف في حقي ووبخته عليه أسرته حينها أشد التوبيخ كما قال. فقد أسر لي بلائحة طويلة من عملائهم وعيونهم في الحي ممن يترددون على مكتب الحاج ويتردد عليهم باستمرار.

صعقت!! منهم من لا يتخلف عن حضور الصف الأول في الصلوات الخمس . الجزار, الخضار , الإسكافي ,صاحب الفرن, البقال , جارتكم فلانة, بنت الحاج فلان ...لائحة طويلة من (المتطوعين) الذين لا ينتظرون جزاءا على خدمتهم ولا شكورا .

لطفك يارب ورحماك... عالم مهووس...عالم ملغوم...عالم مجنون...
بعد أيام من الكد والتعب(وقف علي) قائد مقاطعة الحي وكوكبة من المخازنية (رجال القوات المساعدة) بلباسهم الكاكي الباهت.

أطفئوا الغاز وصبوا الزيت الساخن من المقلاة جانب الرصيف ,ثم ساقوا العربة أمامهم نحو ( الفوريان البلدي) الذي ترمى فيه محجوزات المواطنين قبل عرضها في مزاد الخردة العلني. ترجيته دون إلحاح وترجاه بعض كبار السن ممن حضروا الموقف دون جدوى.

صعد سيارته غير مبال بي. في الغد زرته في مكتبه باقتراح من مقدم الحي لعلي أسترجع العربة . بعد انتظار طويل دخلت مكتبه الذي خرجت منه إمرأة شابة تركت رائحتها القوية في كل أرجائه. تغامز وتلامز مجموعة من الموظفين بعد خروجها مما يوحي أن الأمر فيه إن بل إن وأخواتها.
برر لي تصرفه بكثرة الشكاوى المقدمة ضد سمكي المقلي الذي كان سببا في عدد من حالات التسمم والإسهال ...هكذا زعم ...!!!

شكوت له حالي وصحتي المعتلة ووضعت أوراق الطبيب وفاتورة الأدوية الغالية على مكتبه. سكت قليلا,وتظاهر بالإنصات والإشفاق والتأثر لحالي.

اسمع يا بني . والله لقد تأثرت لك كثيرا. لكن لا عليك عندي لك حلا. هل تريد أن تعمل عملا شريفا وبمدخول جيد ومستقبل مضمون.

كنت ألمس خبثه من كلماته وأعرف من أوصاه بهذا السناريو لكني تظاهرت بالغباوة. أطنبت في كلمات الشكر والدعاء له بموفور الصحة والعافية . دون أن أسأله عن طبيعة العمل تابع قائلا :
"الأجر الشهري ضعيف لا عليك هذا لا يهم لأن هناك قنوات أخرى حلالا طيبا الناس شيدوا المنازل ذوات الطوابق الثلاث والأربع واشتروا منها السيارات والعقارات...

أظهرت السرور لكلامه فأطنبت في كلمات الشكر والثناء له ودون أن أسأله عن طبيعة هذا العمل المغري تابع قائلا :
"عندنا مقدم حي كبير السن ومصاب بداء السكري سيحال على التقاعد آخر هذا الشهر بعد أن أمن مستقبل أبنائه وبنى بيتا من ثلاثة طوابق ...

سأبدل مجهودا وأتصل بالجهات المسؤولة لتشغل أنت مكانه وسأقول لهم أنني أضمنك !!!

تملكتني الدهشة واستمر يمثل علي دوره كمونولوج فردي ساخر . لم يتوقف عن الكلام الذي بدا لي أنه أجهد نفسه لحفظه . لم أتمالك نفسي, ومن غير شعور انفجرت في نوبة ضحك هستيرية...انتهت المقابلة بطردي من مكتبه ...

عدت للعطالة والكآبة والإنزواء ...بإلحاح من والدتي صنعت عربة أخرى بعد ما ذقت طعم العزلة القاتلة لأيام أخرى. غيرت منطقة نفوذ( صاحبي) القائد . لعبة القط والفأر لا تنتهي . لم يتأخر رد فعلهم.

نفس السيناريو يتكرر. غير أنهم في المرة الثانية لم يدفعوا العربة بل حطموها أمام ناظري واستنكار بعض الزبناء والمارة الذين واسوني بكلماتهم . كوموا حطامها في شاحنة البلدية لحرقه بعيدا عن المساكن.

كان صاحبي الأول أرحم من الثاني. خلفت الحادثة في داخلي نذبا عميقا لن يمحى . انضاف إلى نذوبي الكثيرة الغائرة.

كلما تخيلتني مقدم حي أضحك حتى تغرورق عيني. وأسخر من نفسي. لشد ما أكره هذه المهنة منذ صغري وازداد كرهي لها الآن . عيون وزارة الداخلية التي تحصي أنفاس العباد وتحشر أنوفها في كل شيء في محتوى قفة البيت وضيوفه وعدد الخبزات التي تعجن ونوع الهاتف المستعمل وكل ما لا يخطر على البال .

لن أنسى ذاك اليوم وأنا صغير. رزأ حينا بمقدم من أخبث مخلوقات الله زوجته عاهرة قواده و أمه كانت مشعوذة وجهها وجه شيطان نفزع منها ونحن صغار أما أبناؤه منحرفون لا يغادرون السجون إلا ليعودوا لها بالتناوب . وأحيانا دفعة واحدة . ذرية بعضها من بعض.

عدنا من المدرسة في زوال ذاك اليوم الخريفي أثارتنا جمهرة الناس من سكان الدرب وغيرهم من الدروب المجاورة والمارة وبشغفنا الطفولي وشغبنا تسللنا لمقدمة الجموع لنفاجأ بالمقدم يخرجون به شبه عار يرتدي سرواله فقط ويلقى به في سيارة الأمن.

كاد الأمر أن يتحول إلى مصادمات بين المواطنين الذين علا صفيرهم وأصوات احتجاجاتهم مستنكرين فعل المقدم وهجومه على امرأة وحيدة في عز النهار.
__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-12-2009, 03:08 PM   #30
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

إلى هنا كانت الأمور تجري بشكل عاد فالقصة لا تعدو عن مثيلاتها الكثيرة الوقوع في الحارات الشعبية التي يكون في كثير من الأحيان أبطالها بعض أعوان السلطة ورجالاتها.

في الغد بدأت الحقيقة تنجلي على لسان السكان بتشفي ونكاية في هذا الجربوع كانت القصة كالتالي : صاحبة هذا البيت هي زوجة أحد تجار المخذرات الذي دخل السجن وحوكم بسنتين نافذة مع الغرامة لشركة التبغ والجمارك صاحبنا الجربوع زاغت عينه حين تقدمت له تطلب إمدادها بشهادة السكنى التي تتفاوت تعرفتها في بلادنا من منطقة لأخرى حسب شطارة المرء وولائه للسلطة وعلاقته بأعوانها وعلى رأسهم مقدم الحي طبعا . وهكذا كل الوثائق الإدارية الأخرى.

راودها عن نفسها كما كان يفعل مع غيرها فكان منها أن تبسمت له لا لشبهة فيها فالكل كان يعرفها امرأة شريفة رغم وضع زوجها وتجارته. لكنها تبسمت لتحصل على مرادها(الشهادة) وحتى لا تحرم حقها هذا. فظن الغبي أنها دابت في حبه وأعجبت بوجهه القبيح الذي كان يشبه وجه جرد أجرب خرج لتوه من بالوعة مجاري. فبدأ في مطاردتها و اختلاق الأسباب العديدة لطرق بيتها
في كل مرة,ضاقت به ذرعا فكلمت زوجها المسجون بذلك,وبما أنه سجين وليس له ما يخسره فقد نسق خطة محكمة مع أشقائه وبعض أصحابه خارج السجن للإيقاع بالجرد . وأي إيقاع؟ انتقام من نوع خاص!!!

تظاهرت المرأة برضوخها لنزوة المقدم وواعدته في بيتها ليلا بعد ما تهدأ الحركة وينام الجميع. فما كان منه إلا الاستعداد والمجيء لحتفه وهو يمشي على قدميه . ما إن ولج البيت ونزع ملابسه حتى وجد المفجأة في انتظاره

خرج له أشقاء الزوج السجين وأصدقاؤه من مخابئهم فكان الإنتقام الفظيع تناوبوا على اغتصابه بعدما كبلوا يداه وأخرسوا فمه . تناوبوا على اغتصابه ,كانوا ستة أو سبعة أو ثمانية . لايهم اختلاف الرواة. رواة الحي في عدد من قاموا بالفعلة. المهم أنهم فعلوها وانصرفوا لترفع بعد ذلك المرأة عقيرتها للسماء مستغيثة مستنجدة بالسكان. وبعد توتر الوضع . تنكر له أسياده. وحوكم بالهجوم على مسكن الغير ومحاولة الاغتصاب. خرج من السجن فاختفى رحل غير مأسوف عليه وترك حكايته التي أصبحت مثار سخرية للأجيال.

لازمتني هذه الصورة عن هذه الوظيفة الحقيرة . وغيرها من الصور والحكايات الكثيرة عن المقدمين . أما الآن فازداد كرهي لها ولأهلها. وانضافت لها في فترة شبابي وبعد سجني لائحة طويلة من المهن والوظائف البغيظة إلى نفسي...سجان ...جلاد...صحفي موجه عن بعد...مغرق...الله يلعن بوها حرفة كما يقول المثل الشعبي....

يتبع بعون الله

__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .