العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: أنا و يهود (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: نقد المجلس الثاني من الفوائد المدنية من حديث علي بن هبة الله الشافعي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: زراعة القلوب العضلية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: غزة والاستعداد للحرب القادمة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال حديقة الديناصورات بين الحقيقة والخيال (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في مقال ثلث البشر سيعيشون قريبا في عالم البعد الخامس (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نقد مقال بوابات الجحيم التي فتحت فوق سيبيريا عام 1908 لغز الانفجار الكبير (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الغرق فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال أمطار غريبة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى بحث النسبية (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 22-04-2010, 06:15 AM   #91
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

العودة إلى مصر

كان كل شيء قد أصبح في يد الإنجليز، وكان أهم أهداف الشيخ "محمد عبده" إصلاح العقيدة، والعمل على إصلاح المؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية.. واتخذ "محمد عبده" قراره بمسالمة الخديوي، وذلك حتى يتمكن من تنفيذ برنامجه الإصلاحي الذي يطمح إلى تحقيقه، والاستعانة بالإنجليز أنفسهم إذا اقتضى الأمر، فوضع تقريرًا بعد عودته حول الإصلاحات التي يراها ضرورية للنهوض بالتعليم، ورفعه إلى "اللورد كرومر" نفسه، فحقيقية الأمر التي لا جدال فيها أنه كان القوة الفاعلة والحاكم الحقيقي لمصر.

وكان الشيخ "محمد عبده" يأمل أن يكون ناظرًا لدار العلوم أو أستاذًا فيها بعد عودته إلى مصر، ولكن الخديوي والإنجليز كان لهما رأي آخر؛ ولذلك فقد تم تعيينه قاضيًا أهليًا في محكمة بنها، ثم الزقازيق، ثم عابدين، ثم عين مستشارًا في محكمة الاستئناف سنة (1313هـ = 1895م).

بدأ يتعلم اللغة الفرنسية وهو قاضٍ في "عابدين"- وكانت سنه حينئذ قد شارفت على الأربعين- حتى تمكّن منها، فاطلع على القوانين الفرنسية وشروحها، وترجم كتابًا في التربية من الفرنسية إلى العربية.

الإمام مفتيًا

وعندما تُوفي الخديوي "توفيق" سنة (1310هـ = 1892م)، وتولي الخديوي عباس، الذي كان متحمسًا على مناهضة الاحتلال، سعى الشيخ "محمد عبده" إلى توثيق صلته به، واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التي تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ "حسونة النواوي"، وكان الشيخ محمد عبده عضوا فيه، وهكذا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر، وهو الحلم الذي تمناه منذ أن وطئت قدماه ساحته لأول مرة.

وفي عام (1317هـ = 1899م) تم تعيينه مفتيًا للبلاد، ولكن علاقته بالخديوي عباس كان يشوبها شيء من الفتور، الذي ظل يزداد على مر الأيام، خاصة بعدما اعترض على ما أراده الخديوي من استبدال أرض من الأوقاف بأخرى له إلا إذا دفع الخديوي للوقف عشرين ألف فرقًا بين الصفقتين.

الحملة الشرسة ضد الإمام

وتحول الموقف إلى عداء سافر من الخديوي، فبدأت المؤامرات والدسائس تُحاك ضد الإمام الشيخ، وبدأت الصحف تشن هجومًا قاسيًا عليه لتحقيره والنيل منه، ولجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة؛ حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر في سنة (1323هـ = 1905م)، وإثر ذلك أحس الشيخ بالمرض، واشتدت عليه وطأة المرض، الذي تبيّن أنه السرطان، وما لبث أن تُوفي بالإسكندرية في (8 من جمادى الأولى 1323 هـ = 11 من يوليو 1905م) عن عمر بلغ ستة وخمسين عامًا.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 26-04-2010, 06:52 AM   #92
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أبو حنيفة.. الإمام الأعظم

(في ذكرى وفاته: 11 من جمادى الأولى 150هـ)

نزل الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود مدينة الكوفة عقب إنشائها على عهد عمر بن الخطاب سنة 17 هـ ليعلّم الناس ويفقّههم في دينهم، فالتف الناس حوله، وكان بحرا زاخرا من بحور العلم، وكان متأثرا بطريقة عمر بن الخطاب في الاستنباط والبحث، والأخذ بالرأي عند افتقاد النص، مع الاحتياط والتحري في قبول الحديث النبوي.

وبرز من تلامذة ابن مسعود عدد من الفقهاء الأفذاذ، يأتي في مقدمتهم عبيدة بن قيس السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي الذي قال عنه شيخه ابن مسعود: لا أعلم شيئا إلا وعلقمة يعلمه، بالإضافة إلى شُريح الكندي الذي ولي قضاء الكوفة في عهد عمر، واستمر على القضاء اثنتين وستين سنة.

وحمل أمانة العلم من بعدهم طبقة لم يدركوا ابن مسعود، ولكن تفقهوا على يد أصحابه، وكان أبرز هذه الطبقة إبراهيم بن يزيد النخعي، فقيه العراق دون منازع، فضلا عن تمكنه الراسخ في علوم الحديث، وهو ينتمي إلى أسرة كريمة، اشتهر كثير من أفرادها بالنبوغ والاشتغال بالفقه.

وعلى يد إبراهيم النخعي تتلمذ حمّاد بن سليمان، وخلفه في درسه، وكان إماما مجتهدا، كانت له بالكوفة حلقة عظيمة، يؤمها طلاب العلم، وكان من بينهم أبو حنيفة النعمان الذي فاق أقرانه وانتهى إليه الفقه وتقلد زعامة مدرسة الرأي من بعد شيخه، والتفّ حوله الراغبون في الفقه، برز منهم تلامذة بررة، على رأسهم أبو يوسف، ومحمد، وزُفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي.

المولد والنشأة

استقبلت الكوفة مولودها النعمان بن ثابت بن النعمان المعروف بأبي حنيفة سنة (80 هـ 699م) وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم، تموج بحلقات الفقه والحديث والقراءات واللغة والعلوم، وتمتلئ مساجدها بشيوخ العلم وأئمته، وفي هذه المدينة قضى أبو حنيفة معظم حياته متعلما وعالما، وتردد في صباه الباكر بعد أن حفظ القرآن على هذه الحلقات، لكنه كان منصرفا إلى مهنة التجارة مع أبيه، فلما رآه عامر الشعبي الفقيه الكبير ولمح ما فيه مخايل الذكاء ورجاحة العقل أوصاه بمجالسة العلماء والنظر في العلم، فاستجاب لرغبته وانصرف بهمته إلى حلقات الدرس وما أكثرها في الكوفة، فروى الحديث ودرس اللغة والأدب، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم في بعض مسائل العقيدة، ثم انصرف إلى الفقه ولزم حماد بن أبي سليمان، وطالت ملازمته له حتى بلغت ثمانية عشر عاما.

شيوخه

وكان أبو حنيفة يكثر من أداء فريضة الحج حتى قيل إنه حج 55 مرة، وقد مكنته هذه الرحلات المتصلة إلى بيت الله الحرام أن يلتقي بكبار الفقهاء والحفّاظ، يدارسهم ويروي عنهم، وممن التقى بهم من كبار التابعين: عامر الشعبي المتوفى سنة (103 هـ= 721م)، وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى سنة (105 هـ = 723م)، ونافع مولى ابن عمر المتوفى (117هـ= 735م)، وزيد بن علي زين العابدين المتوفى سنة (122هـ = 740م)، ويصل بعض المؤرخين بشيوخ أبي حنيفة إلى 4 آلاف شيخ، وتذكر بعض الروايات أنه التقى ببعض الصحابة الذين عاشوا إلى نهاية المائة عام الأولى، وروى عنهم بعض الأحاديث النبوية وهو بذلك ترتفع درجته إلى رتبة التابعين، على أن الراجح أنه وإن صح أنه التقى بعض الصحابة الذين امتدت بهم الحياة حتى عصره فإنه لم يكن في سن من يتلقّى العلم، ولا سيما أنه بدأ العلم في سن متأخرة وأنه انصرف في بداية حياته إلى العمل بالتجارة.

رئاسة حلقة الفقه

وبعد موت شيخه حماد بن أبي سليمان آلت رياسة حلقة الفقه إلى أبي حنيفة، وهو في الأربعين من عمره، والتفّ حوله تلاميذه ينهلون من علمه وفقهه، وكانت له طريقة مبتكرة في حل المسائل والقضايا التي كانت تُطرح في حلقته؛ فلم يكن يعمد هو إلى حلها مباشرة، وإنما كان يطرحها على تلاميذه، ليدلي كل منهم برأيه، ويعضّد ما يقول بدليل، ثم يعقّب هو على رأيهم، ويصوّب ما يراه صائبا، حتى تُقتل القضية بحثا، ويجتمع أبو حنيفة وتلاميذه على رأي واحد يقررونه جميعا.

وكان أبو حنيفة يتعهد تلاميذه بالرعاية، وينفق على بعضهم من ماله، مثلما فعل مع تلميذه أبي يوسف حين تكفّله بالعيش لما رأى ضرورات الحياة تصرفه عن طلب العلم، وأمده بماله حتى يفرغ تماما للدراسة، يقول أبو يوسف المتوفى سنة (182هـ = 797م): "وكان يعولني وعيالي عشرين سنة، وإذا قلت له: ما رأيت أجود منك، يقول: كيف لو رأيت حمادا –يقصد شيخه- ما رأيت أجمع للخصال المحمودة منه".

وكان مع اشتغاله يعمل بالتجارة، حيث كان له محل في الكوفة لبيع الخزّ (الحرير)، يقوم عليه شريك له، فأعانه ذلك على الاستمرار في خدمة العلم، والتفرغ للفقه.

أصول مذهبه

نشأ مذهب أبي حنيفة في الكوفة مهد مدرسة الرأي، وتكونت أصول المذهب على يديه، وأجملها هو في قوله: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وادع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب فلي أن أجتهد كما اجتهدوا".

وهذا القدر من أصول التشريع لا يختلف فيه أبو حنيفة عن غيره من الأئمة، فهم يتفقون جميعا على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة لاستنباط الأحكام منهما، غير أن أبا حنيفة تميّز بمنهج مستقل في الاجتهاد، وطريقة خاصة في استنباط الأحكام التي لا تقف عند ظاهر النصوص، بل تغوص إلى المعاني التي تشير إليها، وتتعمق في مقاصدها وغاياتها.

ولا يعني اشتهار أبي حنيفة بالقول بالرأي والإكثار من القياس أنه يهمل الأخذ بالأحاديث والآثار، أو أنه قليل البضاعة فيها، بل كان يشترط في قبول الحديث شروطا متشددة؛ مبالغة في التحري والضبط، والتأكد من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التشدد في قبول الحديث هو ما حمله على التوسع في تفسير ما صح عنده منها، والإكثار من القياس عليها حتى يواجه النوازل والمشكلات المتجددة.

ولم يقف اجتهاد أبي حنيفة عند المسائل التي تعرض عليه أو التي تحدث فقط، بل كان يفترض المسائل التي لم تقع ويقلّبها على جميع وجوهها ثم يستنبط لها أحكاما، وهو ما يسمى بالفقه التقديري وفرص المسائل، وهذا النوع من الفقه يقال إن أبا حنيفة هو أول من استحدثه، وقد أكثر منه لإكثاره استعمال القياس، روي أنه وضع ستين ألف مسألة من هذا النوع.

تلاميذ أبي حنيفة

لم يؤثر عن أبي حنيفة أنه كتب كتابا في الفقه يجمع آراءه وفتاواه، وهذا لا ينفي أنه كان يملي ذلك على تلاميذه، ثم يراجعه بعد إتمام كتابته، ليقر منه ما يراه صالحا أو يحذف ما دون ذلك، أو يغيّر ما يحتاج إلى تغيير، ولكن مذهبه بقي وانتشر ولم يندثر كما اندثرت مذاهب كثيرة لفقهاء سبقوه أو عاصروه، وذلك بفضل تلاميذه الموهوبين الذين دونوا المذهب وحفظوا كثيرا من آراء إمامهم بأقواله وكان أشهر هؤلاء:

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفى (183هـ = 799م) وهو يعدّ أول من دوّن الكتب في مذهب أبي حنيفة، ووصل إلينا من كتبه "الآثار"، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وساعده منصبه في القضاء على أن يمكّن لمذهب أبي حنيفة الذيوع والانتشار.

محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189هـ = 805م) وهو يعد صاحب الفضل الأكبر في تدوين المذهب، على الرغم من أنه لم يتتلمذ على شيخه أبي حنيفة إلا لفترة قصيرة، واستكمل دراسته على يد أبي يوسف، وأخذ عن الثوري والأوزاعي، ورحل إلى مالك في المدينة، وتلقى عنه فقه الحديث والرواية.

تدوين المذهب

وصلت إلينا كتب محمد بن الحسن الشيباني كاملة، وكان منها ما أطلق عليه العلماء كتب ظاهر الرواية، وهي كتب المبسوط والزيادات، والجامع الكبير والجماع الصغير، والسير الكبير والسير الصغير، وسميت بكتب ظاهرة الرواية؛ لأنها رويت عن الثقات من تلاميذه، فهي ثابتة عنه إما بالتواتر أو بالشهرة.

وقد جمع أبو الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد المتوفى سنة (344هـ = 955م) كتب ظاهر الرواية بعد حذف المكرر منها في كتاب أطلق عليه "الكافي"، ثم قام بشرحه شمس الأئمة السرخسي المتوفى سنة (483هـ = 1090م) في كتابه "المبسوط"، وهو مطبوع في ثلاثين جزءا، ويعد من أهم كتب الحنفية الناقلة لأقوال أئمة المذهب، بما يضمه من أصول المسائل وأدلتها وأوجه القياس فيها.

انتشار المذهب

انتشر مذهب أبي حنيفة في البلاد منذ أن مكّن له أبو يوسف بعد تولّيه منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية، وكان المذهب الرسمي لها، كما كان مذهب السلاجقة والدولة الغرنوية ثم الدولة العثمانية، وهو الآن شائع في أكثر البقاع الإسلامية، ويتركز وجوده في مصر والشام والعراق وباكستان والهند والصين.

وفاة أبي حنيفة

مد الله في عمر أبي حنيفة، ورزقه الله القبول، وهيأ له من التلاميذ النابهين من حملوا مذهبه ومكنوا له، وحسبه أن يكون من بين تلاميذه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن زياد، وأقر له معاصروه بالسبق والتقدم، قال عنه النضر بن شميل: "كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه"، وبلغ من سمو منزلته في الفقه أن قال الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة".

كما كان ورعا شديد الخوف والوجل من الله، وتمتلئ كتب التاريخ والتراجم بما يشهد له بذلك، ولعل من أبلغ ما قيل عنه ما وصفه به العالم الزاهد فضيل بن عياض بقوله: "كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورا عل تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان".

وتوفي أبو حنيفة في بغداد بعد أن ملأ الدنيا علما وشغل الناس في (11 من جمادى الأولى 150 هـ = 14 من يونيو 767م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-04-2010, 06:35 AM   #93
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

من "الدوشرمة" "للأوجاق".. رحلة فن "سنان"

(في ذكرى وفاته: 12 جمادى الأولى 996هـ)


كانت الدولة العثمانية تنقل الأطفال الذين تجمعهم إلى عاصمة الخلافة العثمانية، حيث يدرسون التركية والتاريخ الإسلامي العام والتاريخ العثماني والنظم العثمانية وفق مناهج أعدت بعناية وتعرض عليهم مبادئ الإسلام الصحيحة حتى إذا اعتنقوه شبوا على التمسك به والتعلق بالدولة العثمانية، وإلى جانب ذلك كان يتلقون تربية عسكرية صارمة، وهذه العملية عرفت في التاريخ العثماني باسم "الدوشرمة".

وكانت الدولة تقسمهم إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى تعد لشغل الوظائف والخدمة في القصور السلطانية، والمجموعة الثانية تعد لشغل الوظائف المدنية الكبرى في الدولة، والمجموعة الثالثة يعد أفرادها ليكونوا عصب فرق المشاة في الجيش العثماني التي عرفت بالإنكشارية، ومعناها الجنود الجدد، وكان عددهم ساحقا جدا بالنسبة للمجموعتين الأوليين.

وكان سنان باشا واحدا من أولئك الفتيان الذين ضمتهم الدولة وقامت برعايتهم وتعليمهم، وجاءت شهرته الواسعة من خلال أعماله المعمارية التي تضاهي الآثار العمرانية الأوربية لعصر النهضة، وتقف أعماله التي تزيد عن أربعمائة أثر معماري شاهدة على عبقريته في عالم البناء والتشييد، واعتبرته دائرة المعارف الإسلامية التي أصدرها المستشرقون واحدا من أعظم المعماريين الذين ظهروا في التاريخ.

المولد والنشأة

ولد سنان باشا في قرية "آغير ناص" التابعة لولاية قيصرية في الأناضول سنة (896هـ=1490م) في عهد السلطان بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، وعرف منذ صغره بحبه لشق قنوات المياه في الحدائق، وشغفه ببناء الأكواخ وحظائر الحيوانات.

ولا يعرف على وجه الدقة السنة التي انتقل فيها إلى العاصمة التي تلقى تعليمه في إحدى مدارسها، لكن المعروف أنه التحق بمدرسة ابتدائية تسمى "عجمي أوغلا نلر"، وفيها تعلم القراءة والكتابة والفنون التطبيقية، ثم استكمل تعليمه في "الأوجاق" المعماري الخاص. والأوجاق هو مدرسة العمارة التي تربى فيها كبار المعماريين من أمثال: سنان باشا، وداود أغا، وغيرهما ممن شيدوا أعظم الآثار في تاريخ العمارة العثمانية والعالمية.

الاطلاع على التراث المعماري

كان لانضمام سنان باشا إلى سلاح الانكشارية واشتراكه في الحروب العثمانية في الشرق والغرب أثر كبير في تنمية خبراته ومعارفه المعمارية والفنية؛ نتيجة لمشاهداته للطرز المعمارية في البلاد التي فتحها العثمانيون، والوقوف عليها دارسا ومتأملا، حيث اشترك مع الجيش العثماني في موقعة جالديران سنة (920هـ=1514م) بين العثمانيين والصفويين التي انتهت بدخول العثمانيين مدينة "تبريز" عاصمة الصفويين، وفي هذه المدينة العظيمة شاهد سنان المباني المعمارية الصفوية بخصائصها الفنية والجمالية المعبرة عن الفن الإيراني الشهير، كما رافق الجيش العثماني عند دخوله حلب ودمشق حيث جذبت الطرز المعمارية العربية اهتمامه. وفي القاهرة وقف على العمارة المملوكية المعروفة بضخامتها وبهائها.

واشترك في عهد السلطان سليمان القانوني في كثير من حملاته على أوربا التي حقق فيها انتصارات مدوية، وفي كل هذه الحملات كان سنان مشغولا بالوقوف على روائع العمارة الأوربية في اليونان والمجر.

وكانت نقطة البداية لظهور سنان المعماري سنة (948هـ=1534م) حين اشترك في الحملة العثمانية على إيران تحت قيادة لطفي باشا الصدر الأعظم الذي كلفه ببناء سفن للنقل العسكري لاجتياز "بحيرة وان" فأنجز سنان هذه المهمة على خير وجه.

وبعد وفاة "عجم علي" كبير المعماريين الرسميين في الدولة العثمانية عين سنان باشا في منصبه تقديرا لكفاءته سنة (945هـ=1538م)، وكان رئيس المهندسين تابعا للسلطان، ولم يكن عضوا في الديوان الهمايوني (السلطاني)، وبتوليه هذا المنصب أصبح مسئولا عن إقامة الأعمال المعمارية من قصور ومدارس وأضرحة وسبل مياه وحمامات ومطاعم خيرية، ومتوليا شق الطرق في العاصمة وبناء الأرصفة، ومراقبة أعمال البناء في كل أرجاء الدولةالعثمانية، وكانت له صلاحية اتخاذ القرارات الخاصة بهدم الأبنية المخالفة للنظام، والإشراف على أبنية القلاع، وعهد إليه بالإشراف على المهندسين المعماريين في الخاصة السلطانية، وكانوا أهم الشخصيات الفنية في عصره مثل: المعماري داود أغا الذي بنى الجامع الجديد "يني جامع"، في إستانبول وهو أثر معماري عظيم، والمعماري محمد أغا الصدفكار الذي شيد جامع السلطان أحمد المشهور بالجامع الأزرق الذي يعد أحد التحف المعمارية الخالدة في العالم.

بدايات سنان المعمارية

كانت أول أعمال سنان باشا المعمارية قيامه ببناء المجمع الذي يضم بداخله مصحة بتكليف من "خاصكي خرم سلطان" زوجة السلطان سليمان القانوني سنة (946هـ=1539م)، وعرفت هذه المصحة باسم "دار شفا خاصكي" وقد خصصت هذه الدار فيما بعد لعلاج النساء وحدهن.

كما قام بتشييد جامعين في "أوسكودار" و"وأدرنة قابي" بتكليف من الأميرة "مهرماه" ابنة السلطانة "خرم" مع بعض العمائر الأخرى. أما التكليف الأول الذي تلقاه من السلطان سليمان القانوني فهو تشييد "جامع شهرزادة" الذي انتهى من بنائه سنة (955هـ=1548م) واستغرق بناؤه أربع سنوات، وهذا الجامع يقع في شهرزادة باشي في إستانبول، وقد أمر السلطان سليمان ببنائه تخليدا لذكرى ابنه الأمير محمد من السلطانة خرم الذي توفي شابا.

ويتكون هذا المبنى من جامع ومطعم خيري ومطبخ وكتاب للصبيان ومدرسة وضريح، والجامع مكون من ثلاثة أجزاء: الصحن الخارجي والصحن الداخلي ويحيط به أروقة مغطاة بست عشرة قبة، والأعمدة التي ترتكز عليها الأروقة من الرخام، وفي وسط هذا الصحن ميضأة ذات ثماني زوايا، والجامع مغطى بقبة مركزية قطرها 42 و18 مترا. وتقع المقبرة خارج المسجد حيث يوجد ضريح الأمير محمد بن السلطان سليمان، وقد وصل سنان في تخطيط هذا المسجد إلى نظام الجامع ذي القبة الضخمة، وهو أول أعماله الكبيرة في عالم البناء والعمارة.

جامع السليمانية


ويعد جامع السليمانية من أشهر الأعمال المعمارية التي أنجزها سنان باشا في عهد السلطان القانوني، بل في التاريخ العثماني كله، وهو يمثل أكثر مراحل سنان نضجا وتطورا، بناه في إستانبول سنة (946هـ=1557م)، على ربوة عالية تطل على القرن الذهبي، وهو يتكون إلى جانب الجامع من دار لإطعام الفقراء وبيمارستان ومدرسة للطب وحمام وكتاب للصبية وأربع مدارس عالية وعدد كبير من الحوانيت. وتوجد خلف الجامع مقبرة تضم ضريحين، أحدهما للسلطان سليمان والآخر لزوجته خرم. كما شيد سنان لنفسه فيما بعد ضريحا عند رأس المجمع.

واستخدم سنان في بناء جامع السليمانية نظام القبة الوسطى التي تفتح على الجانبين بزوج من القباب الإضافية وتوسعت بأنصاف القباب، ويبلغ ارتفاع القبة الوسطى عن الأرض 53 مترا، وقطرها 27 مترا، وتغطي مساحة الجزء الداخلي من الجامع.

ولم يبخل السلطان على مسجده بالمال فأنفق عليه في سخاء، فهناك الرخام المنقوش والنوافذ الملونة والأبواب البرونزية والشبكات الحديدية على النوافذ.

وعهد سنان إلى أشهر خطاطي عصره مثل حسن أفندي جلبي القره حصاري بكتابة خطوط المسجد التي جاءت غاية في الفن والتجويد والإبداع.

أما عن مآذن الجامع فهي أربعة، كل منها في زاوية من زواياه، والمئذنتان الأماميتان قصيرتان نسبيا، وفي كل واحدة منهما شرفتان، والمئذنتان الأخريان أكثر طولا، وفي كل منهما ثلاث شرفات، وبذلك يكون في جامع السليمانية أربع مآذن ترمز كما أراد لها سنان إلى أن السلطان سليمان القانوني هو رابع السلاطين العثمانيين منذ فتح القسطنطينية، وترمز الشرفات العشر إلى أن السلطان هو عاشر سلاطين آل عثمان منذ عثمان مؤسس الدولة العثمانية.

السليمية أعظم أعمال سنان


وصل سنان إلى القمة في عالم البناء والتشييد في جامع السليمية الذي يعد أعظم ما بني حسب رأي خبراء العمارة، وقد شيده بناء على أمر من السلطان سليم الثاني الذي خلف والده سليمان القانوني في حكم الدولة العثمانية، واختار سنان أعلى ربوة في أدرنة ليقيم عليها الجامع بحيث يمكن مشاهدته من أنحاء المدينة، وبدأ سنان في بنائه سنة (976هـ=1568م)، وكان عمره آنذاك أربعة وثمانين عاما، وانتهى منه بعد ست سنوات.

ويقول سنان عن دواعي إبداعه في هذا المسجد: إن المعماريين الآخرين يقولون إننا متفوقون على المسلمين لأن عالم الإسلام يخلو من قبة عظيمة مثل آيا صوفيا، وإن بناء مثل هذه القبة الضخمة أمر غاية في الصعوبة، وكان لكلامهم هذا تأثيره المؤلم في قلب هذا العبد العاجز (يقصد نفسه)، لذلك بذلت الهمة العالية في بناء هذا الجامع، وبعون الله ثم بتشجيع السلطان سليم خان قمت بإظهار المقدرة، وأقمت قبة هذا الجامع أعلى من قبة آيا صوفيا بستة أذرع وأعمق بأربعة أذرع.

وغطى سنان المكان كله في الجامع بقبة واحدة قطرها 5 و31 مترا دون اللجوء إلى أنصاف القباب التي كان قد استخدمها من قبل في جامع شهرزادة والسليمانية، وترتفع كل مئذنة من مآذن الجامع الأربع 81 و70مترا، وهي دقيقة نحيلة، وهي من أعلى المآذن في العالم، وتقع كل واحدة منها في زاوية من زوايا الجامع الأربع، وكل منها ذات ثلاث شرفات، وتتميز المئذنتان الواقعتان ناحية الباب الرئيسي بأن لكل شرفة من شرفاتها الثلاث سلالم مستقلة، أما المئذنتان الأخريان فلكل منها سلم واحد. ومنبر الجامع وميضأته من الرخام، وكتب خطوطه المولوي حسن بن قره حصاري. وجامع السليمية مبني على شكل كلية تشمل إلى جانب الجامع مدرسة للصبيان ودارا للقراء ودارا للحديث.

أعمال سنان الأخرى

ولم تقتصر أعمال سنان المعمارية التي بلغت 441 عملا معماريا على العاصمة، بل امتدت لتشمل كثيرا من أنحاء الدولة العثمانية، فشيد جامع محمد باشا البوسني في صوفيا عاصمة بلغاريا، وجامع خسرو باشا المعروف بجامع الخسروية في حلب، وجامع السلطان سليمان، ومطعم السلطان الخيري في دمشق، وقام في مكة بترميم قباب الحرم المكي وبناء مطعم خيري باسم خاصكي سلطان، ومدرسة السلطان سليمان، وله إلى جانب ذلك أعمال معمارية في البصرة والقدس والمدينة المنورة.

وأعمال سنان متنوعة تشمل الجوامع والكليات التي تعني في العمارة العثمانية مجموعة المنشآت الخيرية والمدارس المحيطة بالجامع، والحمامات وبيوت القوافل، والكباري والجسور والطرق وسبل المياه والأضرحة، غير أن الأعمال التي طيرت شهرته وحفرت اسمه بين عباقرة العمارة في التاريخ هي: جامع شهرزادة، وجامع السليمانية في إستانبول، وجامع السليمية في أدرنة.

وكان لسنان تلاميذ كثيرون انتشروا في أنحاء العالم الإسلامي، ساروا على نهجه في العمارة فيقول الرحالة التركي المعروف أوليا جلبي في رحلته إلى مصر في القرن السابع عشر: إن جامع إسكندر باشا في القاهرة جامع عثماني الطراز لطيف جدا، تم بناؤه تقليدا لخطة المعماري سنان في جامع رستم بإستانبول، كما أن تلاميذه قلدوه في بناء جامع السلطان أحمد.

وفاته

امتدت حياة سنان باشا حتى اقترب من المائة، وعاصر خمسة من سلاطين الدولة العثمانية، هم بايزيد الثاني، وسليم الأول، وسليمان القانوني، وسليم الثاني، ومراد الثالث، وبعد حياة مليئة بجلائل الأعمال توفي سنان باشا في (12 من جمادى الأولى سنة 996هـ= 9 من أبريل سنة1588م) تاركا ذكرى لا تضيع.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 01-05-2010, 07:34 AM   #94
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الأندلس.. مرسوم بتنصير المسلمين!

(في ذكرى صدوره: 16 جمادى الأولى 931هـ)


سقطت غرناطة –آخر قلاع المسلمين في إسبانيا- سنة (897هـ=1492م)، وكان ذلك نذيرًا بسقوط صرح الأمة الأندلسية الديني والاجتماعي، وتبدد تراثها الفكري والأدبي، وكانت مأساة المسلمين هناك من أفظع مآسي التاريخ؛ حيث شهدت تلك الفترة أعمالاً بربرية وحشية ارتكبتها محاكم التحقيق (التفتيش)؛ لتطهير أسبانيا من آثار الإسلام والمسلمين، وإبادة تراثهم الذي ازدهر في هذه البلاد زهاء ثمانية قرون من الزمان.

وهاجر كثير من مسلمي الأندلس إلى الشمال الإفريقي بعد سقوط مملكتهم؛ فرارًا بدينهم وحريتهم من اضطهاد النصارى الأسبان لهم، وعادت أسبانيا إلى دينها القديم، أما من بقي من المسلمين فقد أجبر على التنصر أو الرحيل، وأفضت هذه الروح النصرانية المتعصبة إلى مطاردة وظلم وترويع المسلمين العزل، انتهى بتنفيذ حكم الإعدام ضد أمة ودين على أرض أسبانيا.

ونشط ديوان التحقيق أو الديوان المقدس الذي يدعمه العرش والكنيسة في ارتكاب الفظائع ضد الموريسكيين (المسلمين المتنصرين)، وصدرت عشرات القرارات التي تحول بين هؤلاء المسلمين ودينهم ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم، فقد أحرق الكردينال "خمينس" عشرات الآلاف من كتب الدين والشريعة الإسلامية، وصدر أمر ملكي يوم (22 ربيع أول 917هـ=20 يونيو 1511) يلزم جميع السكان الذي تنصروا حديثًا أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم، ثم تتابعت المراسيم والأوامر الملكية التي منعت التخاطب باللغة العربية وانتهت بفرض التنصير الإجباري على المسلمين، فحمل التعلق بالأرض وخوف الفقر كثيرًا من المسلمين على قبول التنصر ملاذًا للنجاة، ورأى آخرون أن الموت خير ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهدًا للكفر، وفر آخرون بدينهم، وكتبت نهايات متعددة لمأساة واحدة هي رحيل الإسلام عن الأندلس.

محاكم التحقيق

توفي فرناندو الخامس ملك إسبانيا في (17 ذي الحجة 921هـ=23 يناير 1516م) وأوصى حفيده شارل الخامس بحماية الكاثوليكية والكنيسة واختيار المحققين ذوي الضمائر الذين يخشون الله لكي يعملوا في عدل وحزم لخدمة الله، وتوطيد الدين الكاثوليكي، كما يجب أن يسحقوا طائفة محمد!

وقد لبث "فرناندو" زهاء عشرين عامًا بعد سقوط الأندلس ينزل العذاب والاضطهاد بمن بقي من المسلمين في أسبانيا، وكانت أداته في ذلك محاكم التحقيق التي أنشئت بمرسوم بابوي صدر في (رمضان 888هـ= أكتوبر 1483م) وعين القس "توماس دي تركيمادا" محققًا عامًا لها ووضع دستورًا لهذه المحاكم الجديدة وعددًا من اللوائح والقرارات.

وقد مورست في هذه المحاكم معظم أنواع التعذيب المعروفة في العصور الوسطى، وأزهقت آلاف الأرواح تحت وطأة التعذيب، وقلما أصدرت هذه المحاكم حكمًا بالبراءة، بل كان الموت والتعذيب الوحشي هو نصيب وقسمة ضحاياها، حتى إن بعض ضحاياها كان ينفذ فيه حكم الحرق في احتفال يشهده الملك والأحبار، وكانت احتفالات الحرق جماعية، تبلغ في بعض الأحيان عشرات الأفراد، وكان فرناندو الخامس من عشاق هذه الحفلات، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها.

وبث هذا الديوان منذ قيامه جوًا من الرهبة والخوف في قلوب الناس، فعمد بعض هؤلاء الموريسكيين إلى الفرار، أما الباقي فأبت الكنيسة الكاثوليكية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الذي أجبروا على اعتناقه؛ لأنها لم تقتنع بتنصير المسلمين الظاهري، بل كانت ترمي إلى إبادتهم.

شارل الخامس والتنصير الإجباري

تنفس الموريسكيون الصعداء بعد موت فرناندو وهبت عليهم رياح جديدة من الأمل، ورجوا أن يكون عهد "شارل الخامس" خيرًا من سابقه، وأبدى الملك الجديد –في البداية- شيئًا من اللين والتسامح نحو المسلمين والموريسكيين، وجنحت محاكم التحقيق إلى نوع من الاعتدال في مطاردتهم، وكفت عن التعرض لهم في أراجون بسعي النبلاء والسادة الذين يعمل المسلمون في ضياعهم، ولكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم سوى بضعة أعوام، وعادت العناصر الرجعية المتعصبة في البلاط وفي الكنيسة، فغلبت كلمتها، وصدر مرسوم في (16 جمادى الأولى 931هـ=12 مارس 1524م) يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من إسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصر أو الخروج في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تحول جميع المساجد الباقية إلى كنائس.

ولما رأى الموريسكيون هذا التطرف من الدولة الإسبانية، استغاثوا بالإمبراطور شارل الخامس، وبعثوا وفدًا منهم إلى مدريد ليشرح له مظالمهم، فندب شارل محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق، برئاسة المحقق العام لتنظر في شكوى المسلمين، ولتقرر ما إذا كان التنصير الذي وقع على المسلمين بالإكراه، يعتبر صحيحًا ملزمًا، بمعنى أنه يحتم عقاب المخالف بالموت.

وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد مناقشات طويلة، بأن التنصير الذي وقع على المسلمين صحيح لا تشوبه شائبة؛ لأن هؤلاء الموريسكيين سارعوا بقبوله اتقاء لما هو شر منه، فكانوا بذلك أحرارًا في قبوله.

وعلى أثر ذلك صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين تنصروا كرهًا على البقاء في أسبانيا، باعتبارهم نصارى، وأن ينصر كل أولادهم، فإذا ارتدوا عن النصرانية، قضى عليهم بالموت أو المصادرة، وقضى الأمر في الوقت نفسه، بأن تحول جميع المساجد الباقية في الحالة إلى كنائس.

وكان قدر هؤلاء المسلمين أن يعيشوا في تلك الأيام الرهيبة التي ساد فيها إرهاب محاكم التحقيق، وكانت لوائح الممنوعات ترد تباعًا، وحوت أوامر غريبة منها: حظر الختان، وحظر الوقوف تجاه القبلة، وحظر الاستحمام والاغتسال، وحظر ارتداء الملابس العربية.

ولما وجدت محكمة تفتيش غرناطة بعض المخالفات لهذه اللوائح، عمدت إلى إثبات تهديدها بالفعل، وأحرقت اثنين من المخالفين في (شوال 936هـ=مايو 1529م) في احتفال ديني.

الموريسكيون وشارل الخامس

كان لقرارات هذا الإمبراطور أسوأ وقع لدى المسلمين، وما لبثت أن نشبت الثورة في معظم الأنحاء التي يقطنونها في سرقسطة وبلنسية وغيرهما، واعتزم المسلمون على الموت في سبيل الدين والحرية، إلا أن الأسبان كانوا يملكون السلاح والعتاد فاستطاعوا أن يخمدوا هذه الثورات المحلية باستثناء بلنسية التي كانت تضم حشدًا كبيرًا من المسلمين يبلغ زهاء (27) ألف أسرة، فإنها استعصت عليهم، لوقوعها على البحر واتصالها بمسلمي المغرب.

وقد أبدى مسلمو بلنسية مقاومة عنيفة لقرارات التنصير، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية (بني وزير)، فجردت الحكومة عليهم قوة كبيرة مزودة بالمدافع، وأرغمت المسلمين في النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن يتنصروا، وعدلت عقوبة الرق إلى الغرامة، وافتدى الأندلسيون من الإمبراطور حق ارتداء ملابسهم القومية بمبلغ طائل.

وكانت سياسة التهدئة من شارل الخامس محاولة لتهدئة الأوضاع في جنوب الأندلس حتى يتفرغ للاضطرابات التي اندلعت في ألمانيا وهولندا بعد ظهور مارتن لوثر وأطروحاته الدينية لإصلاح الكنيسة وانتشار البروتستانتية؛ لذلك كان بحاجة إلى توجيه كل اهتمامه واهتمام محاكم التحقيق إلى "الهراطقة" في شمال أوروبا، كما أن قيام محاكم التحقيق بما يفترض أن تقوم به كان يعني إحراق جميع الأندلسيين؛ لأن الكنيسة تدرك أن تنصرهم شكلي لا قيمة له، يضاف إلى ذلك أن معظم المزارعين الأندلسيين كانوا يعملون لحساب النبلاء أو الكنيسة، وكان من مصلحة هؤلاء الإبقاء على هؤلاء المزارعين وعدم إبادتهم.

وكان الإمبراطور شارل الخامس حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين، وعد بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى في الحقوق والواجبات، ولكن هذه المساواة لم تتحقق قط، وشعر هؤلاء أنهم ما زالوا موضع الريب والاضطهاد، ففرضت عليم ضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى، وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئًا فشيئًا، حتى أصبحوا أشبه بالرقيق والعبيد، ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة، صدر قرار في سنة (948هـ=1514م)، يحرم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرم عليهم النزوح إلى بلنسية التي كانت دائمًا طريقهم المفضل إلى الهجرة، ثم صدر قرار بتحريم الهجرة من هذه الثغور إلا بترخيص ملكي، نظير رسوم فادحة. وكان ديوان التحقيق يسهر على حركة الهجرة ويعمل على قمعها بشدة.

ولم تمنع هذه الشدة من ظهور اعتدل من الإمبراطور في بعض الأوقات، ففي سنة (950هـ=1543م) أصدر عفوًا عن بعض المسلمين المتنصرين؛ تحقيقًا لرغبة مطران طليطلة، وأن يسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلص، ولا تصادر المهور التي دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التي ارتكبوها.

وهكذا لبثت السياسة الأسبانية أيام الإمبراطور شارل الخامس (922هـ=1516م) حتى (963هـ=1555م) إزاء الموريسكيين تتردد بين الشدة والقسوة، وبين بعض مظاهر اللين والعفو، إلا أن هؤلاء المسلمين تعرضوا للإرهاق والمطاردة والقتل ووجدت فيهم محاكم التحقيق الكنسية مجالاً مفضلاً لتعصبها وإرهابها.

الألخمادو

وكانت الأمة الأندلسية خلال هذا الاستشهاد المحزن، الذي فرض عليها تحاول بكل وسيلة أن تستبقي دينها وتراثها، فكان الموريسيكيون بالرغم من دخولهم في النصرانية يتعلقون سرًا بالإسلام، وكثير منهم يؤدون شعائر الإسلام خفية، وكانوا يحافظون على لغتهم العربية، إلا أن السياسة الإسبانية فطنت إلى أهمية اللغة في تدعيم الروح القومية؛ لذلك أصدر الإمبراطور شارل الخامس سنة ( 932 هـ=1526م) أول قانون يحرم التخاطب بالعربية على الموريسكيين، ولكنه لم يطبق بشدة؛ لأن هؤلاء الموريسكيين دفعوا له (100) ألف دوقة حتى يسمح لهم بالتحدث بالعربية، ثم أصدر الإمبراطور فيليب الثاني سنة (964هـ1566م) قانونًا جديدًا يحرم التخاطب بالعربية، وطبق بمنتهى الشدة والصرامة، وفرضت القشتالية كلغة للتخاطب والتعامل، ومع ذلك وجد الموريسكيون في القشتالية متنفسًا لتفكيرهم وأدبهم، فكانوا يكتبونها سرًا بأحرف عربية، وأسفر ذلك بمضي الزمن عن خلق لغة جديدة هي "الألخميادو" وهي تحريف إسباني لكلمة "الأعجمية"، ولبثت هذه اللغة قرنين من الزمان سرًا مطمورًا، وبذلك استطاعوا أن يحتفظوا بعقيدتهم الإسلامية، وألف بها بعض الفقهاء والعلماء كتبًا عما يجب أن يعتقد المسلم ويفعله حتى يحتفظ بإسلامه، وشرحوا آيات القرآن باللغة الألخميادية وكذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أشهر كتاب هذه اللغة الفقيه المسمى "فتى أبيرالو" وهو مؤلف لكتب التفسير، وتلخيص السنة، ومن الشعراء محمد ربدان الذي نظم كثيرًا من القصائد والأغنيات الدينية؛ وبذلك تحصن الموريسيكيون بمبدأ "التقية" فصمدوا في وجه مساعي المنصرين الذين لم تنجح جهودهم التبشيرية والتعليمية والإرهابية في الوصول إلى تنصير كامل لهؤلاء الموريسيكيين، فجاء قرار الطرد بعد هذه الإخفاقات.

ولم تفلح مساعي الموريسيكيين في الحصول على دعم خارجي فعال من الدولة العثمانية أو المماليك في مصر، رغم حملات الإغارة والقرصنة التي قام بها العثمانيون والجزائريون والأندلسيون على السفن والشواطئ الأسبانية، ودعم الثوار الموريسيكيين.

واستمرت محاكم التحقيق في محاربة هؤلاء المسلمين طوال القرن السادس عشر الميلادي، وهو ما يدل على أن آثار الإسلام الراسخة في النفوس بقيت بالرغم من المحن الرهيبة وتعاقب السنين، ولعل من المفيد أن نذكر أن رجلاً أسبانيًا يدعى "بدية" توجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج سنة (1222هـ=1807م) أي بعد 329 سنة من قيام محاكم التحقيق.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 04-05-2010, 06:00 AM   #95
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

فتح القسطنطينية.. بشارة نبوية

(في ذكرى فتحها 20 من جمادى الأولى 857هـ)



انتظر المسلمون أكثر من ثمانية قرون حتى تحققت البشارة النبوية بفتح القسطنطينية، وكان حلمًا غاليا وأملا عزيزا راود القادة والفاتحين لم يُخب جذوته مر الأيام وكر السنين، وظل هدفا مشبوبا يثير في النفوس رغبة عارمة في تحقيقه حتى يكون صاحب الفتح هو محل ثناء النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".

وقد بدأت المحاولات الجادة في عهد معاوية بن أبي سفيان وبلغ من إصراره على فتح القسطنطينية أن بعث بحملتين الأولى سنة 49 هـ = 666، والأخرى كانت طلائعها في سنة 54 هـ = 673م، وظلت سبع سنوات وهي تقوم بعمليات حربية ضد أساطيل الروم في مياه القسطنطينية، لكنها لم تتمكن من فتح المدينة العتيدة، وكان صمود المدينة يزيد المسلمين رغبة وتصميما في معاودة الفتح؛ فنهض "سليمان بن عبد الملك" بحملة جديدة سنة (99 هـ = 719م) ادخر لها زهرة جنده وخيرة فرسانه، وزودهم بأمضى الأسلحة وأشدها فتكا، لكن ذلك لم يعن على فتحها فقد صمدت المدينة الواثقة من خلف أسوارها العالية وابتسمت ابتسامة كلها ثقة واعتداد أنها في مأمن من عوادي الزمن وغوائل الدهر، ونامت ملء جفونها رضى وطمأنينة.

ثم تجدد الأمل في فتح القسطنطينية في مطلع عهود العثمانيين، وملك على سلاطينهم حلم الفتح، وكانوا من أشد الناس حماسا للإسلام وأطبعهم على حياة الجندية؛ فحاصر المدينة العتيدة كل من السلطان بايزيد الأول ومراد الثاني، ولكن لم تكلل جهودهما بالنجاح والظفر، وشاء الله أن يكون محمد الثاني بن مراد الثاني هو صاحب الفتح العظيم والبشارة النبوية الكريمة.

محمد الفاتح

ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ= 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرا بالسلطنة والنهوض بتبعاتها؛ فحفظ القرآن وقرأ الحديث وتعلم الفقه ودرس الرياضيات والفلك، وأتقن فنون الحرب والقتال، وأجاد العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك في الحروب والغزوات، وبعد وفاة أبيه في (5 من المحرم 855هـ = 7 من فبراير 1451م) تولى الفاتح السلطنة فتى في الثانية والعشرين من عمره وافر العزم شديد الطموح.

بناء قلعة رومللي حصار

كان السلطان بايزيد الأول قد أنشأ على ضفة البوسفور الآسيوية في أثناء حصاره للقسطنطينية حصنا تجاه أسوارها عُرف باسم قلعة الأناضول، وكانت تقوم على أضيق نقطة من مضيق البوسفور، وعزم محمد الفاتح أن يبني قلعة على الجانب الأوروبي من البوسفور في مواجهة الأسوار القسطنطينية، وقد جلب لها مواد البناء وآلاف العمال، واشترك هو بنفسه مع رجال دولته في أعمال البناء، وهو ما ألهب القلوب وأشعل الحمية في النفوس، وبدأ البناء في الارتفاع شامخ الرأس في الوقت الذي كان فيه الإمبراطور قسطنطين لا يملك وقف هذا البناء، واكتفى بالنظر حزنا وهو يرى أن الخطر الداهم سيحدق به دون أن يملك مندفعه شيئا.

ولم تمض ثلاثة شهور حتى تم بناء القلعة على هيئة مثلث سميك الجدران، في كل زاوية منها برج ضخم مغطى بالرصاص، وأمر السلطان بأن ينصب على الشاطئ مجانيق ومدافع ضخمة، وأن تصوب أفواهها إلى الشاطئ، لكي تمنع السفن الرومية والأوروبية من المرور في بوغاز البوسفور، وقد عرفت هذه القلعة باسم "رومللي حصار"، أي قلعة الروم.

بوادر الحرب

توسل الإمبراطور قسطنطين إلى محمد الفاتح بالعدول عن إتمام القلعة التي تشكل خطرًا عليه، لكنه أبي ومضى في بنائه، وبدأ البيزنطيون يحاولون هدم القلعة والإغارة على عمال البناء، وتطورت الأحداث في مناوشات، ثم لم يلبث أن أعلن السلطان العثماني الحرب رسميا على الدولة البيزنطية، وما كان من الإمبراطور الرومي إلا أن أغلق أبواب مدينته الحصينة، واعتقل جميع العثمانيين الموجودين داخل المدينة، وبعث إلى السلطان محمد رسالة يخبره أنه سيدافع عن المدينة لآخر قطرة من دمه.

وأخذ الفريقان يتأهب كل منهما للقاء المرتقب في أثناء ذلك بدأ الإمبراطور قسطنطين في تحصين المدينة وإصلاح أسوارها المتهدمة وإعداد وسائل الدفاع الممكنة، وتجميع المؤن والغلال، وبدأت تردد على المدينة بعض النجدات خففت من روح الفزع التي سيطرت على الأفئدة، وتسربت بعض السفن تحمل المؤن والغذاء، ونجح القائد الجنوبي "جون جستنياني" مع 700 مقاتل محملين بالمؤن والذخائر في الوصول إلى المدينة المحاصرة؛ فاستقبله الإمبراطور قسطنطين استقبالا حسنًا وعينه قائدًا عامًا لقواته، فنظم الجيش وأحسن توزيعهم ودرب الرهبان الذي يجهلون فن الحرب تمامًا، وقرر الإمبراطور وضع سلسلة لإغلاق القرن الذهبي أمام السفن القادمة، تبدأ من طرف المدينة الشمالي وتنتهي عند حي غلطة.

استعدادات محمد الفاتح

كان السلطان محمد الثاني يفكر في فتح القسطنطينية ويخطط لما يمكن عمله من أجل تحقيق الهدف والطموح، وسيطرت فكرة الفتح على عقل السلطان وكل جوارحه، فلا يتحدث إلا في أمر الفتح ولا يأذن لأحد من جلسائه بالحديث في غير الفتح الذي ملك قلبه وعقله وأرقه وحرمه من النوم الهادئ.

وساقت له الأقدار مهندس مجري يدعى "أوربان"، عرض على السلطان أن يصنع له مدفعا ضخما يقذف قذائف هائلة تكفي لثلم أسوار القسطنطينية؛ فرحب به السلطان وأمر بتزويده بكل ما يحتاجه من معدات، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى تمكن أوربان من صنع مدفع عظيم لم يُر مثله قط، فقد كان يزن 700 طن، ويرمي بقذائف زنة الواحدة منها 12 ألف رطل، ويحتاج جره إلى 100 ثور يساعدها مائة من الرجال، وعند تجربته سقطت قذيفته على بعد ميل، وسمع دويه على بعد 13 ميلا، وقد قطع هذا المدفع الذي سُمي بالمدفع السلطاني الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين.

بدء الحصار

وصل السلطان العثماني في جيشه الضخم أمام الأسوار الغربية للقسطنطينية المتصلة بقارة أوروبا يوم الجمعة الموافق (12 من رمضان 805هـ= 5 من إبريل 1453م) ونصب سرادقه ومركز قيادته أمام باب القديس "رومانويس"، ونصبت المدافع القوية البعيدة المدى، ثم اتجه السلطان إلى القبلة وصلى ركعتين وصلى الجيش كله، وبدأ الحصار الفعلي وتوزيع قواته، ووضع الفرق الأناضولية وهي أكثر الفرق عددًا عن يمينه إلى ناحية بحر مرمرة، ووضع الفرق الأوروبية عن يساره حتى القرن الذهبي، ووضع الحرس السلطاني الذي يضم نخبة الجنود الانكشارية وعددهم نحو 15 ألفًا في الوسط.

وتحرك الأسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة في مدينة "جاليبولي" قاعدة العثمانيين البحرية في ذلك الوقت، وعبر بحر مرمرة إلى البوسفور وألقى مراسيه هناك، وهكذا طوقت القسطنطينية من البر والبحر بقوات كثيفة تبلغ 265 ألف مقاتل، لم يسبق أن طُوقت بمثلها عدة وعتادًا، وبدأ الحصار الفعلي في الجمعة الموافق (13 من رمضان 805هـ = 6 من إبريل 1453م)، وطلب السلطان من الإمبراطور "قسطنطين" أن يسلم المدينة إليه وتعهد باحترام سكانها وتأمينهم على أرواحهم ومعتقداتهم وممتلكاتهم، ولكن الإمبراطور رفض؛ معتمدًا على حصون المدينة المنيعة ومساعدة الدول النصرانية له.

وضع القسطنطينية

تحتل القسطنطينية موقعا منيعا، حبته الطبيعة بأبدع ما تحبو به المدن العظيمة، تحدها من الشرق مياه البوسفور، ويحدها من الغرب والجنوب بحر مرمرة، ويمتد على طول كل منها سور واحد. أما الجانب الغربي فهو الذي يتصل بالقارة الأوروبية ويحميه سوران طولهما أربعة أميال يمتدان من شاطئ بحر مرمرة إلى شاطئ القرن الذهبي، ويبلغ ارتفاع السور الداخلي منهما نحو أربعين قدمًا ومدعم بأبراج يبلغ ارتفاعها ستين قدما، وتبلغ المسافة بين كل برج وآخر نحو مائة وثمانين قدما.

أما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدما، ومحصن أيضا بأبراج شبيهة بأبراج السور الأول، وبين السورين فضاء يبلغ عرضه ما بين خمسين وستين قدما، وكانت مياه القرن الذهبي الذي يحمي ضلع المدينة الشمالي الشرقي يغلق بسلسلة حديدية هائلة يمتد طرفاها عند مدخله بين سور غلطة وسور القسطنطينية، ويذكر المؤرخون العثمانيون أن عدد المدافعين عن المدينة المحاصرة بلغ أربعين ألف مقاتل.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 04-05-2010, 06:02 AM   #96
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

اشتعال القتال

بعد ما أحسن السلطان ترتيب وضع قواته أمام أسوار القسطنطينية بدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار لا تكاد تنقطع، وكان دوي اصطدام القذائف بالأسوار يملأ قلوب أهل المدينة فزعا ورعبا، وكان كلما انهدم جزء من الأسوار بادر المدافعون عن المدينة إلى إصلاحه على الفور، واستمر الحال على هذا الوضع.. هجوم جامح من قبل العثمانيين، ودفاع مستميت يبديه المدافعون، وعلى رأسهم جون جستنيان، والإمبراطور البيزنطي.

وفي الوقت الذي كانت تشتد فيه هجمات العثمانيين من ناحية البر حاولت بعض السفن العثمانية تحطيم السلسلة على مدخل ميناء القرن الذهبي واقتحامه، ولكن السفن البيزنطية والإيطالية المكلفة بالحراسة والتي تقف خلف السلسلة نجحت في رد هجمات السفن العثمانية، وصبت عليها قذائفها وأجبرتها على الفرار.

وكانت المدينة المحاصرة تتلقى بعض الإمدادات الخارجية من بلاد المورة وصقلية، وكان الأسطول العثماني مرابطا في مياه البوسفور الجنوبية منذ (22 من رمضان 805هـ = 15 من إبريل 1453م)، ووقفت قطعة على هيئة هلال لتحول دون وصول أي مدد ولم يكد يمضي 5 أيام على الحصار البحري حتى ظهرت 5 سفن غربية، أربع منها بعث بها البابا في روما لمساعدة المدينة المحاصرة، وحاول الأسطول العثماني أن يحول بينها وبين الوصول إلى الميناء واشتبك معها في معركة هائلة، لكن السفن الخمس تصدت ببراعة للسفن العثمانية وأمطرتها بوابل من السهام والقذائف النارية، فضلا عن براعة رجالها وخبرتهم التي تفوق العثمانيين في قتال البحر، الأمر الذي مكنها من أن تشق طريقها وسط السفن العثمانية التي حاولت إغراقها لكن دون جدوى ونجحت في اجتياز السلسلة إلى الداخل.

السفن العثمانية تبحر على اليابسة!!

كان لنجاح السفن في المرور أثره في نفوس أهالي المدينة المحاصرة؛ فانتعشت آمالهم وغمرتهم موجة من الفرح بما أحرزوه من نصر، وقويت عزائمهم على الثبات والصمود، وفي الوقت نفسه أخذ السلطان محمد الثاني يفكِّر في وسيلة لإدخاله القرن الذهبي نفسه وحصار القسطنطينية من أضعف جوانبها وتشتيت قوى المدينة المدافعة.

واهتدى السلطان إلى خطة موفقة اقتضت أن ينقل جزءًا من أسطوله بطريق البر من منطقة غلطة إلى داخل الخليج؛ متفاديا السلسلة، ووضع المهندسون الخطة في الحال وبُدئ العمل تحت جنح الظلام وحشدت جماعات غفيرة من العمال في تمهيد الطريق الوعر الذي تتخلله بعض المرتفعات، وغُطي بألواح من الخشب المطلي بالدهن والشحم، وفي ليلة واحدة تمكن العثمانيون من نقل سبعين سفينة طُويت أشرعتها تجرها البغال والرجال الأشداء، وذلك في ليلة (29 من رمضان 805هـ = 22 من إبريل 1453م).

وكانت المدافع العثمانية تواصل قذائفها حتى تشغل البيزنطيين عن عملية نقل السفن، وما كاد الصبح يسفر حتى نشرت السفن العثمانية قلوعها ودقت الطبول وكانت مفاجأة مروعة لأهل المدينة المحاصرة.

وبعد نقل السفن أمر السلطان محمد بإنشاء جسر ضخم داخل الميناء، عرضه خمسون قدما، وطوله مائة، وصُفَّت عليه المدافع، وزودت السفن المنقولة بالمقاتلين والسلالم، وتقدمت إلى أقرب مكان من الأسوار، وحاول البيزنطيون إحراق السفن العثمانية في الليل، ولكن العثمانيين علموا بهذه الخطة فأحبطوها، وتكررت المحاولة وفي كل مرة يكون نصيبها الفشل والإخفاق.

الهجوم الكاسح وسقوط المدينة

استمر الحصار بطيئا مرهقا والعثمانيون مستمرون في ضرب الأسوار دون هوادة، وأهل المدينة المحاصرة يعانون نقص المؤن ويتوقعون سقوط مدينتهم بين يوم وآخر، خاصة وأن العثمانيين لا يفتئون في تكرار محاولاتهم الشجاعة في اقتحام المدينة التي أبدت أروع الأمثلة في الدفاع والثبات، وكان السلطان العثماني يفاجئ خصمه في كل مرة بخطة جديدة لعله يحمله على الاستسلام أو طلب الصلح، لكنه كان يأبى، ولم يعد أمام السلطان سوى معاودة القتال بكل ما يملك من قوة.

وفي فجر يوم الثلاثاء (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453م)، وكان السلطان العثماني قد أعد أهبته الأخيرة، ووزَّع قواته وحشد زهاء 100 ألف مقاتل أمام الباب الذهبي، وحشد في الميسرة 50 ألفًا، ورابط السلطان في القلب مع الجند الإنكشارية، واحتشدت في الميناء 70 سفينة _بدأ الهجوم برًا وبحرًا، واشتد لهيب المعركة وقذائف المدافع يشق دويها عنان السماء ويثير الفزع في النفوس، وتكبيرات الجند ترج المكان فيُسمع صداها من أميال بعيدة، والمدافعون عن المدينة يبذلون كل ما يملكون دفاعا عن المدينة، وما هي إلا ساعة حتى امتلأ الخندق الكبير الذي يقع أمام السور الخارجي بآلاف القتلى.

وفي أثناء هذا الهجوم المحموم جرح "جستنيان" في ذراعه وفخذه، وسالت دماؤه بغزارة فانسحب للعلاج رغم توسلات الإمبراطور له بالبقاء لشجاعته ومهارته الفائقة في الدفاع عن المدينة، وضاعف العثمانيون جهدهم واندفعوا بسلالمهم نحو الأسوار غير مبالين بالموت الذي يحصدهم حصدا، حتى وثب جماعة من الانكشارية إلى أعلى السور، وتبعهم المقاتلون وسهام العدو تنفذ إليهم، ولكن ذلك كان دون جدوى، فقد استطاع العثمانيون أن يتدفقوا نحو المدينة، ونجح الأسطول العثماني في رفع السلاسل الحديدية التي وُضعت في مدخل الخليج، وتدفق العثمانيون إلى المدينة التي سادها الذعر، وفر المدافعون عنها من كل ناحية، وما هي إلا ثلاث ساعات من بدء الهجوم حتى كانت المدينة العتيدة تحت أقدام الفاتحين.

محمد الفاتح في المدينة

ولما دخل محمد الفاتح المدينة ظافرا ترجل عن فرسه، وسجد لله شكرا على هذا الظفر والنجاح، ثم توجه إلى كنيسة "أيا صوفيا"؛ حيث احتشد فيها الشعب البيزنطي ورهبانه، فمنحهم الأمان، وأمر بتحويل كنيسة "أيا صوفيا" إلى مسجد، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري"، وكان ضمن صفوف الحملة الأولى لفتح القسطنطينية، وقد عثر الجنود العثمانيون على قبره فاستبشروا خيرًا بذلك.

وقرر الفاتح الذي لُقِّب بهذا اللقب بعد الفتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم "إسلام بول" أي "دار الإسلام"، ثم حُرفت واشتهرت بـ "إستانبول"، وانتهج سياسة سمحة مع سكان المدينة، وكفل لهم حرية ممارسة عبادتهم، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار والرجوع إلى منازلهم، ومنذ ذلك الحين صارت إستانبول عاصمة للبلاد حتى سقطت الخلافة العثمانية في (23 من رجب 1342 هـ= 1 مارس 1924م)، وقامت دولة تركيا التي اتخذت من أنقرة عاصمة لها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 05-05-2010, 08:14 PM   #97
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

خير الدين بارباروسا.. قبودان البحرية العثمانية

في ذكرى حصاره لمدينة نيس بفرنسا: 21 جمادى الأول 950 هـ





اتجه الإسبان بعد سقوط الأندلس في أيديهم إلى شمال إفريقيا، متطلعين إلى بسط أيديهم على تلك المناطق، فاحتلوا "المرسى" الكبير في غرب الجزائر سنة (911هـ = 1505م)، واستولوا على مدن: مليلة، والجزائر، وبجاية، وطرابلس، ووهران، وغيرها من المدن الساحلية، وكان ذلك خطرًا داهمًا هدد المسلمين في شمال إفريقيا، ولم تكن هناك قوى منظمة يمكنها دفع هؤلاء الغزاة الجدد.

وأثار هذا الخطر عددًا من البحارة المسلمين من سكان تلك المناطق، فتحركت في نفوسهم نوازع الجهاد والغيرة على بيضة الإسلام، وكانوا قد خدموا من قبل في الأسطول العثماني، فتكونت لديهم خبرة جيدة بالبحر وبفنون القتال، فتعاهدوا على مواجهة الغزاة الجدد، واتخذوا من جزيرة "جربة"، التونسية مركزًا للقيام بعملياتهم الحربية في البحر المتوسط، وكان يقوم على هذه العمليات الأخَوَان "عروج" و"خير الدين بارباروسا".

وقد أثمرت سياسة هؤلاء البحارة في مهاجمة سفن الإسبان، فتوقفوا عن مهاجمة الثغور الإسلامية، وأحجمت الدول الأوروبية التي كانت تنوي انتهاج هذه السياسة. وتوج الأخوان جهودهما باستعادة ميناء "بجاية" الجزائري من الإسبان سنة (921 هـ = 1515م) ونقل عروج قاعدة عملياته البحرية إلى ميناء "حيجل" الجزائري؛ ليتمكن من توجيه ضربات موجعة للإسبان.

استطاع عروج أن يقيم حكومة قوية في الجزائر، وأن يطرد الإسبان من السواحل التي احتلوها، ويوسع من نطاق دولته حتى بلغت "تلمسان". وفي هذه الأثناء اتصل بالسلطان العثماني "سليم الأول"، وكان قد تمكن من ضم مصر إلى دولته، وأعلن طاعته وولاءه للدولة العثمانية، غير أن إسبانيا هالها ما يفعله "عروج" ورجاله، ورأت في ذلك خطرًا يهدد سياستها التوسعية، ويقضي على أحلامها ما لم تنهض لقمع هذه الدولة الفتية، فأعدت حملة عظيمة بلغت خمسة عشر ألف مقاتل، تمكنت من التوغل في الجزائر ومحاصرة تلمسان، ووقع عروج أسيرًا في أيديهم، وقتلوه في (شعبان 924 هـ = أغسطس 1518م).

ولاية خير الدين على الجزائر

خلف "خير الدين بارباروسا" أخاه في جهاده ضد الإسبان، ولم تكن قواته تكفي لمواجهة خطر الإسبان، فاستنجد بالدولة العثمانية طالبًا العون منها والمدد، فلبّى السلطان "سليم الأول" طلبه، وبعث إليه قوة من سلاح المدفعية، وأمده بألفين من جنوده الإنكشارية الأشداء، ثم واصل السلطان "سليمان القانوني" هذه السياسة، ووقف خلف خير الدين يمده بالرجال والسلاح.

ولم يكن خير الدين أقل حماسة وغَيْرة من أخيه، فواصل حركة الجهاد، وتابع عملياته البحرية حتى تمكن من طرد الإسبان من الجيوب التي أقاموها على ساحل الجزائر، وضمّ إلى دولته مناطق جديدة، وقادته رغبته الجامحة في مطاردة الإسبان إلى غزو السواحل الإسبانية، الأمر الذي أفزع الغزاة، وألقى الهلع في قلوبهم، ثم قام خير الدين بعمل من جلائل الأعمال؛ حيث أنقذ سبعين ألف مسلم أندلسي من قبضة الإسبان الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، فنقلهم في سنة (936هـ = 1529م) على سفنه إلى شمالي إفريقيا.

خير الدين في إستانبول

قام السلطان سليمان القانوني باستدعاء خير الدين بارباروسا إليه في إستانبول، وعهد إليه بإعادة تنظيم الأسطول، والإشراف على بناء عدد من سفنه، ثم وكل إليه مهمة ضم تونس إلى الدولة العثمانية، قبل أن يتمكن السلطان الإسباني "شارل الخامس" من الاستيلاء عليها، وكانت ذات أهمية كبيرة لموقعها المتوسط في السيطرة على الملاحة في حوض البحر المتوسط.

غادر خير الدين العاصمة العثمانية على رأس ثمانين سفينة وثمانية آلاف جندي، واتجه إلى تونس، ونجح في القضاء على الدولة الحفصية التي كانت تحكم تونس، وأعلن تبعيتها للدولة العثمانية سنة (941 هـ = 1534م).

أثار هذا النصر شارل الخامس وزاده حنقًا، ورأى فيه تهديدًا للمواصلات البحرية التي تربط بين إيطاليا وإسبانيا، وانتصارًا للإسلام، وتشجيعًا لمجاهدي شمال إفريقيا على مواصلة الهجوم على السواحل الإسبانية واستنقاذ المسلمين الأندلسيين؛ ولهذا تحرك على الفور، وقاد حملة جرارة على تونس، تمكنت من الاستيلاء عليها في السنة نفسها، ورد خير الدين على هذا الانتصار بغارة مفاجئة على جزر البليار في البحر المتوسط، فأسر ستة آلاف من الإسبان، وعاد بهم إلى قاعدته في الجزائر، ووصلت أنباء هذه الغارة إلى "روما" وسط احتفالات البابوية بانتزاع تونس من المسلمين.

قادة الأسطول العثماني

أراد السلطان سليمان القانوني مكافأة خير الدين على جهوده وخدماته للإسلام، فعيّنه قائدًا عامًّا للأسطول العثماني، وجعل في منصبه بالجزائر ابنه "حسن باشا"، الذي واصل جهود أبيه في مهاجمة الإسبانيين في غرب البحر المتوسط.

وقاد "خير الدين بارباروسا" عدة حملات بحرية موفقة، كان من أشهرها فوزه العظيم في معركة "بروزة" بالبحر المتوسط. كانت معركة هائلة تداعت لها أوربا؛ استجابة لنداء البابا في روما، فتكوّن تحالف صليبي من 600 سفينة تحمل نحو ستين ألف جندي، ويقوده قائد بحري من أعظم قادة البحر في أوربا هو "أندريا دوريا"، وتألفت القوات العثمانية من 122 سفينة تحمل اثنين وعشرين ألف جندي، والتقى الأسطولان في بروزة في (4 من جمادى الأولى 945 هـ = 28 من سبتمبر 1538م)، وفاجأ "خير الدين" خصمه قبل أن يأخذ أهبته للقتال، فتفرقت سفنه من هول الصدمة، وهرب القائد الأوروبي من ميدان المعركة التي لم تستمر أكثر من خمس ساعات، تمكن في نهايتها خير الدين من حسم المعركة لصالحه.

وقد أثار هذا النصرُ الفزعَ والهلعَ في أوربا، وأعاد للبحرية العثمانية هيبتها في البحر المتوسط، في الوقت الذي استقبل فيه السلطان سليمان القانوني أنباء النصر بفرحة غامرة، وأمر بإقامة الاحتفالات في جميع أنحاء دولته.

خير الدين يغزو فرنسا

كانت فرنسا ترتبط بعلاقات وثيقة مع الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني؛ ولذلك لم يتأخر السلطان عن تقديم المساعدات الحربية التي طلبها منه "فرانسوا الأول" ملك فرنسا في أثناء الحرب التي اشتعلت من جديد بينه وبين الإمبراطور شارل الخامس حول "دوقية ميلان" شمال إيطاليا.

كلّف السلطان القانوني قائده الباسل خير الدين بقيادة الحملة، وكانت آخر مرة يقود فيها إحدى حملاته المظفرة، فغادر إستانبول في (23 من صفر 950 هـ = 28 من مايو 1543م) على رأس قوة بحرية كبيرة، استولت وهي في طريقها إلى فرنسا على مدينتي "مسينة" التابعة لصقلية و"ريجيو" الإيطالية دون مقاومة، ثم استولت على ميناء "أوستيا" الإيطالي، وواصلت سيرها حتى دخلت ميناء طولون قاعدة البحرية الفرنسية في البحر المتوسط، ورفعت السفينة الفرنسية الأعلام العثمانية، وأطلقت مدافعها تحية لها، ودخل الأسطول الفرنسي المكون من أربع وأربعين قطعة تحت إمرة خير الدين، وتحرك الأسطولان إلى ميناء "نيس"، ونجحا في استعادة الميناء الفرنسي في (21 من جمادى الأولى 950 هـ = 22 من أغسطس 1543م).

ميناء طولون قاعدة إسلامية


ونظرًا للعلاقة الحسنة التي كانت تربط السلطان سليمان القانوني بفرانسوا الأول، فقد تم عقد معاهدة بين الدولتين بعد استعادة ميناء "نيس" في (16 من جمادى الآخرة 950 هـ = 16 من سبتمبر 1543م)، تنازلت فيها فرنسا عن ميناء طولون الفرنسي برضاها للإدارة العثمانية، وتحول الميناء الحربي لفرنسا إلى قاعدة حربية إسلامية للدولة العثمانية، التي كانت في حاجة ماسة إليه؛ حيث كان الأسطول العثماني يهاجم في غير هوادة الأهداف العسكرية الإسبانية التي كانت تهدد دول المغرب الإسلامي والملاحة في البحر المتوسط.

وفي الفترة التي تم فيها تسليم ميناء طولون للدولة العثمانية أُخلي الثغر الفرنسي من جميع سكانه بأوامر من الحكومة الفرنسية، وتحول إلى مدينة إسلامية عثمانية، رُفع عليها العلم العثماني، وارتفع الأذان في جنبات المدينة، وظل العثمانيون ثمانية أشهر، شنوا خلالها هجمات بحرية ناجحة بقيادة خير الدين على سواحل إسبانيا وإيطاليا.

وفاة خير الدين بارباروسا

كانت هذه الحملة المظفرة هي آخر حملة يقودها خير الدين، فلم تطل به الحياة بعد عودته إلى إستانبول، وتوفي في (5 من جمادى الأولى 953 هـ = 4 من يوليو 1546م)، مسطرًا صفحة مجيدة من صفحات التضحية والفداء والإخلاص للإسلام، وردع القوى الصليبية الباغية.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 11-05-2010, 05:56 AM   #98
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أبو بكر الطرطوشي.. سراج الملوك

(في ذكرى وفاته: 26 من جمادى الأولى 520هـ)


كان المسلمون الأوائل يعتقدون أن الإقامة في الرباطات والحياة في الثغور نوع من الجهاد، لأنهم يحرسون الحدود ويكونون طلائع الجيوش الإسلامية التي تصد هجمات الأعداء، وكانت الإسكندرية واحدة من تلك الثغور التي احتشدت بالمجاهدين والمرابطين منذ فتحها عمرو بن العاص وأشرق عليها نور الإسلام، وجذبت إليها عددًا كبيرًا من المسلمين وبخاصة من المغرب والأندلس.

وكان المسلمون في هذه البلاد النائية يمرون بالإسكندرية وهم في رحلتهم الشاقة إلى الحجاز للقيام بمناسك الحج، أو في طريقهم إلى حواضر العلم في المشرق الإسلامي لتلقي العلم ومشافهة العلماء والأخذ منهم، فإذا ما ألقوا رحالهم وطلبوا الراحة من وعثاء السفر، عاودوا رحلتهم إلى حيث يريدون.

وكان كثير من هؤلاء المارين تجذبهم الحياة في الإسكندرية فيقيمون بها ويتخذونها موطنًا لهم، فينالون شرف المرابطة في الثغور، أو المساهمة في إثراء حلقات العلم التي كانت تمتلئ بها مساجد الإسكندرية، وذلك إن كانوا من حملة العلم والفقه.

وازداد توثق الإسكندرية بالمغرب قوة وترابطًا بعد قيام الدولة الفاطمية، وهي التي قامت في بلاد المغرب ثم انتقلت إلى مصر وأنشأت القاهرة واتخذتها عاصمة لها، وأصبح المغرب منذ ذلك الحين ولاية تابعة لمصر، وكان من شأن هذا أن كثرت رحلات المغاربة والأندلسيين إلى مصر وإلى ثغرها البديع، ومن بين من جذبتهم الإسكندرية للحياة فيها العالم الزاهد والفقيه الكبير: أبو بكر الطرطوشي.

المولد والنشأة

في مدينة طرطوشة الأندلسية ولد أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف المعروف بأبي بكر الطرطوشي نسبة إلى بلده، وهي مدينة كبيرة تقوم على سفح جبل إلى الشرق من مدينتي بلنسية وقرطبة، بينها وبين البحر المتوسط عشرون ميلا، ومحاطة بسور منيع له أربعة أبواب، وبها دار لصناعة السفن، وتزدهر بها التجارة، وتعمر أسواقها بالبضائع وكان مولده في (26 من جمادى الأولى 451 هـ = 10 من يوليو 1059م).



وكانت طرطوشة يومئذ ثغر مملكة سرقطسة التي تتمتع في ظل أمرائها من بني هود بالرخاء وسعة العيش، وفي الوقت نفسه كانت من حواضر العلم في الأندلس، وتموج بالعلماء وحلقاتهم التي تمتلئ بطلبة العلم، وكان أبو الوليد الباجي أحد علمائها الكبار الذين تُشدّ إليهم الرحال، وعُدّ إمام عصره في الفقه وفي مسائل الخلاف.

حفظ الطرطوشي في بلده القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والكتاب، ودرس شيئا من الفقه قبل أن ينتقل إلى مدينة سرقسطة ويتصل بكبير علمائها أبي الوليد الباجي، ويتتلمذ عليه وهو في العشرين من عمره أو نحوها، أي حوالي سنة (470 هـ = 1077م)، وظل ملازمًا له ينهل من علمه الواسع ويتأثر بمنهجه في التفكير.

الرحلة إلى المشرق

غادر الطرطوشي وطنه سنة (476 هـ = 1083م) وهو فتى غض الإهاب في السادسة والعشرين إلى المشرق العربي، فنزل مكة، وأدى مناسك الحج وألقى بعض الدروس، ثم قصد بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وملتقى أئمة العلم، ومحط طلاب المعرفة من أرجاء الدنيا، وكان الوزير نظام الملك قد أنشأ المدارس التي سميت باسمه "المدارس النظامية" وكان أول من أنشأ معاهد مستقلة للعلم، يتفرغ فيها المعلمون للتدريس والتلاميذ للتعلم، وأوقف عليها أموالا طائلة حتى تنهض برسالتها السامية، وقد شهد الطرطوشي نظامية بغداد وهي في أوج تألقها وازدهارها، وتتلمذ بها.

وفي بغداد تفقه الطرطوشي على عدد من أعلام بغداد، فتتلمذ على كبير الفقهاء الشافعية في بغداد أبي بكر الشاشي، وكان يتولى التدريس بالمدرسة النظامية، ولزم أبا أحمد الجرجاني، وأبا سعد بن المتولي، وهم يومئذ أئمة الفقه الشافعي، ثم رحل إلى البصرة وتتلمذ فيها على أبي علي التستري المتوفى سنة (479 هـ = 1086م) وسمع منه سنن أبي داود.

ثم رحل إلى الشام، وطوّف في مدنه، فزار حلب وإنطاكية ونزل بمدينة بيت المقدس –رد الله غربتها، وأعادها إلى أحضان المسلمين، وخلصها من رجس اليهود-، وتجمع المصادر التي ترجمت له على أنه قضى الفترة التي عاشها في الشام معلمًا متمكنًا تهفو إلى علمه النفوس وتقبل عليه القلوب، وكان لزهده وورعه أثر في ذلك فاجتمع عليه الناس أينما حل.

في الإسكندرية

اتجه الطرطوشي بعد إقامته في الشام فترة من عمره إلى الإسكندرية تسبقه سمعته الطيبة وتهيئ له مكانًا في القلوب، فاشتاقت إلى رؤيته، ونزل الثغر في سنة (488 هـ = 1095م) وكانت مصر في تلك الفترة قد أمسك بزمامها الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي، الذي استبد بالحكم دون الخلفاء الفاطميين، فلم يعد لهم حول ولا قوة، وأصبح تصريف الأمور كلها في يد الوزير القوي.

استقر الطرطوشي في الإسكندرية وأقبل عليه طلاب العلم، وامتلأت حلقاته الدراسية بالراغبين في تعلم الفقه والحديث ومسائل الخلاف، ولم يمض وقت على مجيئه حتى تزوج بسيدة موسرة من نساء الإسكندرية، فتحسنت أحواله ولانت له الحياة، ووهبته دارًا من أملاكها، فاتخذ من دورها العلوي سكنا له معها، وجعل طابقها السفلي مدرسة يلقي فيها دروسه.

الدين النصيحة

وبعد أن استقرت به الحياة خرج الطرطوشي إلى القاهرة عاصمة البلاد وحاضرة الخلافة الفاطمية، وفي أثناء إقامته هناك زار الوزير الكبير الأفضل بن بدر الجمالي، لا ليمدحه أو يقدم له آيات الشكر، وإنما لينصحه ويعظه دون نظر إلى مكانته وهيبته، فقد امتلأ قلب الطرطوشي بخشية الله والخوف منه، فانتزع منه كل خوف لما سواه، واستوى عنده كل شيء، وهذا ما عبر عنه أحد الصالحين حين شاهد الطرطوشي وحضر دروسه في الشام فقال: "الذي عند أبي بكر الطرطوشي من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره.. دينه".

ومما قاله الطرطوشي لهذا الوزير: "... واعلم أن هذا الملك الذي أصبحت فيه إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يديك مثل ما صار إليك؛ فاتق الله فيما حولك من هذه الأمة، فإن الله سائلك عن النقير والقطمير والفتيل، قال الله تعالى: "فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 11-05-2010, 05:57 AM   #99
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

العلم في الهواء الطلق

عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية ليستأنف نشاطه وسيرته الأولى مع تلاميذه الذين التفوا حوله، وكانت له طريقة محببة جعلت قلوب تلامذته تتعلق به وتأنس معه، فلم يكتف بما يعقده لهم من حلقات دراسية في بيته أو في المسجد، بل كان يصطحبهم في رحلات إلى البساتين والأماكن الجميلة، وهناك في الهواء الطلق يلقي دروسه أو يذكرهم بما حفظوه ودروسه.

وأترك أحد تلامذته يصف لنا ما يحدث في تلك الرحلات حيث يقول: "كان صاحب نزهة مع طلبته في أكثر الأوقات، يخرج معهم إلى البستان، فيقيمون الأيام المتوالية في فرحة ومذاكرة ومداعبة مما لا يقدح في حق الطلبة، بل يدل على فضلهم وسلامة صدرهم، وخرجنا معه في بعض النزهة فكنا ثلاثمائة وستين رجلا لكثرة الآخذين عنه المحبين في صحبته وخدمته".

غير أن هذا الإقبال جلب له خصومة قاضي المدينة "مكين الدولة بن حديد"، وزادها اشتعالا ما كان يثيره الطرطوشي من نقد حول تصرفات القاضي المالية حول المكوس والمغارم الظالمة، وكذلك أطلق الطرطوشي لسانه في نقد كثير من العادات التي تنافي الشرع الحكيم، وقد جمعها في كتاب أطلق عليه "بدع الأمور ومحدثاتها"، وأصدر فتاوى أثارت الرأي العام مثل فتواه بحرمة تناول الجبن الذي يأتي به الروم إلى المدينة.

وقد ضاق قاضي المدينة وأعوانه بمسلك الطرطوشي، وبعثوا على الوزير الأفضل بشكاواهم، وصدّر الوزير الأمر على أنه بداية للخروج على النظام وإثارة للشغب، ولا بد من التصرف بشدة مع الطرطوشي الذي اجتمع عليه الناس لعلمه وورعه وزهده، وما كان من الوزير إلا أن بعث في طلب الطرطوشي، فلما قدم عليه قابله مقابلة طيبة، وأمره بالإقامة في مسجد الرصد بالفسطاط، ومنع الناس من الاتصال به، وقرر له راتبًا شهريًا، وسمح لخادمه بالإقامة معه. وظل الطرطوشي محدد الإقامة منذ أواخر سنة (514 هـ = 1120م) حتى (شوال سنة 515 هـ = 1121م)، ثم انكشفت الغمة بمقتل الأفضل وتولي مأمون البطائحي أمور الوزارة، فأفرج عن الشيخ وأحسن وفادته.

سراج الملوك



عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية واستأنف حياته السابقة: حياة الدرس والإقراء، وبدأ يؤلف كتابًا في فن السياسة والحكم، وما يجب أن يكون عليه الراعي والرعية، وأتم هذا الكتاب في سنة واحدة وسماه "سراج الملوك" وتوجه به إلى القاهرة (516 هـ = 1122م) ليقدمه إلى الوزير الجديد "مأمون البطائحي"، فاستقبله أحسن استقبال وجلس بين يديه؛ إمعانًا في التقدير والإجلال، وأغدق عليه عطفه ورعايته.

ولم يكن الطرطوشي ليكتفي بالاستقبال الطيب دون أن يعرض عليه ما يراه منافيًا للشرع، وبخاصة فيما يتعلق بالنظم المتبعة للمواريث، حيث كان القضاة الشيعة يفتون بأن ترث البنت كل تركة أبيها إذا كانت وحيدة لا أخ لها ولا أخت، وكان هذا مخالفًا للشرع؛ حيث تحرم العصبة من المشاركة في الميراث، فلما عرض الطرطوشي الأمر على الوزير وذكّره بأن هذا مخالف للمذاهب السُّنّية التي تقضي بألا ترث البنت في هذه الحالة أكثر من نصف التركة، وبعد مناقشة طويلة اعتذر الوزير بأنه لا يملك تغيير ما يقضي به المذهب الشيعي، لكنه وافق على حل وسط يرضي المذهب الشيعي ويرضي ما يقوله الطرطوشي، وأصدر أمرًا للقضاة بأن يُتّبع في الميراث مذهب الميت، فإن كان سنيًا اتُّبع المذهب السني، وإن كان شيعيًا اتبع المذهب الشيعي.

موضوع الكتاب

وكتاب "سراج الملوك" يتألف من أربعة وستين فصلا تتناول سياسة الملك وفن الحكم وتدبير أمور الرعية، وقد تناول في كتابه الخصال التي يقوم عليها الملك، والخصال المحمودة في السلطان والتي تمكّن له ملكه، وتسبغ الكمال عليه، والصفات التي توجب ذم السلطان، وعرّج على ما يجب على الرعية فعله إذا جنح السلطان إلى الجور، وتناول صحبة السلطان وسيرته مع الجند، وفي اقتضاء الجباية وإنفاق الأموال.

وتحدث الطرطوشي في كتابه عن الوزراء وصفاتهم وآدابهم، وتكلم عن المشاورة والنصيحة باعتبارهما من أسس الملك، وعرض لتصرفات السلطان تجاه الأموال والجباية، ولسياسته نحو عماله على المدن، وتناول سياسة الدولة نحو أهل الذمة، وما يتصل بذلك من أحكام، وتحدث عن شئون الحرب وما تتطلبه من سياسة وتدبير.

وللطرطوشي إلى جانب هذا الكتاب القيم عدد آخر من الكتب منها: مختصر تفسير الثعالبي، وشرح لرسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، في الفقه المالكي، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف، وكتاب الفتن، وكتاب الحوادث والبدع، أو بدع الأمور محدثاتها.

وكان الطرطوشي إلى جانب تضلعه في أمور الشريعة ومسائل الخلاف أديبًا بارعًا، ويظهر ذلك في أسلوبه الرشيق الجميل في كتابه سراح الملوك، وكان شاعرًا محسنًا، وقد احتفظ كتابه هذا بنماذج طيبة من شعره، ظلت أبيات منها سائرة على الألسنة حتى يومنا هذا، مثل قوله:

إن لله عبادًا فطنا
طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا

فكروا فيها، فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا

جعلوها لجّة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سُفنا


وفاة الشيخ

بلغ أبو بكر الطرطوشي مكانة عالية، وصار من أقطاب الفقه المالكي في عصره، وأصبح ملجأ الناس في الفتوى يلوذون به حتى تضل بهم السبل، ثقة منهم في علمه ودينه وأمانته، وتطلع إليه الحكام التماسًا للرأي والمشورة وطلبا للفتيا فيما يقدمون عليه من أعمال، فطلب منه عاهل دولة المرابطين "يوسف بن تاشفين" فتواه في إقدامه على خلع ملوك الطوائف في الأندلس لانغماسهم في اللهو وانصرافهم عن الرعية، فأفتاه بذلك، متفقًا مع ما أفتى به فقهاء المغرب والأندلس من جواز ذلك.

نجح الشيخ أثناء إقامته بالإسكندرية، من إحداث نشاط علمي وافر، وتتلمذ عليه عدد كبير من الفقهاء، حمل بعضهم الراية من بعده، مثل: سند بن عنان الذي خلف الطرطوشي في مدرسته، وأبي طاهر بن عوف، وكانت له مدرسة مستقلة.

ظل الطرطوشي يواصل عمله في مدرسته حتى توفي في (26 من جمادى الأولى 520 هـ = 20 من يونيو 1127م) وهو في التاسعة والستين من عمره.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-05-2010, 06:30 AM   #100
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

معركة أجنادين.. الطريق إلى فتح الشام

(في ذكرى نشوبها: 27 من جمادى الأولى 13هـ)


كان الصحابي الجليل "خالد بن سعيد بن العاص"، أول قائد عقد له أبو بكر الصديق لواء فتح الشام ، وأمره بأن يعسكر بجيشه في تيماء شمالي الحجاز، وأوصاه بعدم البدء في القتال إلا إذا قُوتل، وكان الخليفة الحصيف يقصد من وراء ذلك أن يكون جيش خالد عونًا ومددًا عند الضرورة، وأن يكون عينه على تحركات الروم لا أن يكون طليعة لفتح بلاد الشام .

وحدث ما كان منه بدٌ، فقد اشتبك خالد بن سعيد مع الروم التي استنفرت بعض القبائل العربية من بهراء وكلب ولخم وجذام وغسان لقتال المسلمين ، ولم تكن قوات خالد تكفي لقتال الروم ، فُهزم هزيمة قاسية في "مرج الصفر" في (4 من المحرم 13 هـ = 11 من مارس 634م) واستشهد ابنه في المعركة، ورجع بمن بقي معه إلى "ذي مروة" ينتظر قرار الخليفة.

الصديق يعقد أربعة ألوية

ولما وصلت أنباء الهزيمة إلى الخليفة أبي بكر الصديق أهمه الأمر، وجمع كبار الصحابة لتبادل الرأي والمشورة، واستقر الرأي على دفع العدوان، ورد الروم الذين قد يغرهم هذا النصر المفاجئ فيهددون أمن الدولة التي بدأت تستعيد أنفاسها بعد قضائها على حروب الردة، وتوالي أنباء النصر الذي تحقق في جبهة العراق.

جهّز الخليفة الصديق أربعة جيوش عسكرية، واختار لها أكفأ قواده، وأكثرهم مرانًا بالحرب وتمرسًا بالقتال، وحدد لكل جيش مهمته التي سيقوم بها.

أما الجيش الأول فكان تحت قيادة "يزيد بن أبي سفيان"، ووجهته "البلقاء"، وهي اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية، ويذكر "المدائني" أنه كان أول أمراء الشام خروجًا.

- وكان الجيش الثاني بقيادة "شرحبيل بن حسنة"، ووجهته منطقة "بُصرى".

- وجعل أبو بكر الصديق قيادة الجيش الثالث لـ "أبي عبيدة بن الجراح"، ووجهته منطقة "الجابية"، وقد لحق خالد بن سعيد الذي ذكرناه آنفًا بجيش أبي عبيدة.

- أما الجيش الرابع فكان بقيادة "عمرو بن العاص"، ووجهته "فلسطين". وأمرهم أبو بكر الصديق بأن يعاونوا بعضهم بعضًا، وإذا اجتمعوا معًا فالقيادة العامة لـ أبي عبيدة بن الجراح.

وصية الصديق للقادة

وكان الصديق كلما خرج لتوديع جيش من الجيوش الأربعة يوصي قائده بوصايا جامعة، تبين سلوك الفاتحين المسلمين وأخلاقهم في التعامل مع أهالي البلاد القادمين إليها. وأقتطف من وصية الصديق لـ يزيد بن أبي سفيان هذه الكلمات: "وإني موصيكم بعشر كلمات فاحفظوهن: لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًا صغيرًا ولا امرأة، ولا تهدموا بيتًا ولا بيعة، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تعقروا بهيمة إلا لأكل، ولا تحرقوا نخلاً ولا تُغرقوه، ولا تعص، ولا تجبن…"

وجاء في وصيته لـ عمرو بن العاص: ".. اسلك طريق إيلياء حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وإياك أن تكون وانيًا عما ندبتك إليه، وإياك والوهن، وإياك أن تقول: جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به، واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك.. وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك، والصلاة ثم الصلاة، أذن بها إذا دخل وقتها، واحذر عدوك، وأمر أصحابك بالحرس، ولتكن أنت بعد ذلك مطلعًا عليهم..".

وكان مجموع تلك القوات نحو 24 ألف مقاتل، وقد نجحت تلك الجيوش في التوغل في جنوبي الشام، واشتبكت في مناوشات صغيرة مع الروم، واضطر قيصرهم إلى حشد ما يملك من قوات وعتاد حتى يدفع جيوش المسلمين التي أقبلت، ولا هم لها سوى فتح تلك البلاد ونشر العدل والمساواة فيها، ولما رأى المسلمون ما يحشده الروم من قوات ضخمة أرسلوا إلى الصديق يخبرونه بحالهم ويطلبون منه المدد، فأمدهم بعكرمة بن أبي جهل ومن معه من الرجال، وكان الصديق قد استبقاهم في المدينة تحسبًا لأي طارئ أو مفاجأة تحدث في أثناء الفتح، غير أن جبهة القتال لم يحدث فيها تغيير، ولم يغير المدد شيئًا مما يجري، وتجمد الموقف دون قتال يحسم الموقف في الوقت الذي كان فيه خالد بن الوليد في جبهة العراق ينتقل من نصر إلى نصر، والأبصار متعلقة بما يحققه من ظفر لا تكاد تصدق أن تتهاوى قوة الفرس أمام ضربات خالد حتى سقطت الحيرة في يديه.

الاستعانة بخالد بن الوليد

هال الخليفة أبا بكر أن تبقى الأوضاع في الشام دون تحريك، وأن يعجز القادة المجتمعون على تحقيق النصر في أول الجولات بينهم وبين قوات الروم التي لم تكن ضعيفة الجانب قليلة الجند، وإنما كانت تعيش فترة زاهية بعد فوزها على الفرس وعودة الثقة إليها.

وعزم الصديق على بث روح جديدة تعودت الفوز والظفر، ومشى النصر في ركابها كأنه قدرها المحتوم، ولم يكن غير خالد من يمكنه تغيير الأوضاع، وإثارة الهمم، ووضع الخطط التي تأتي بالنصر، وكان الصديق أكثر الناس ثقة في كفاءة خالد وقدرته العسكرية، فأطلق كلمته السائرة التي رددتها كتب التاريخ: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد".

وبعث الصديق إلى خالد بأن يقدم إلى الشام ومعه نصف قواته التي كانت معه في العراق، حتى يلتقي بأبي عبيدة بن الجراح ومن معه، ويتسلم القيادة العامة للجيوش كلها، وفي الوقت نفسه كتب الصديق إلى أبي عبيدة يخبره بما أقدم عليه، وجاء في كتابه: ".. فإني قد وليت خالدًا قتال الروم بالشام، فلا تخالفه، واسمع له وأطع أمره، فإني قد وليته عليك، وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبل الرشاد والسلام عليك ورحمة الله".

امتثل خالد بن الوليد لأوامر الخليفة، وخرج من الحيرة بالعراق في (8 من صفر 13 هـ = 14 من أبريل 634م) في تسعة آلاف جندي، فسار شمالاً ثم عرج حتى اجتاز صحراء السماوة في واحدة من أجرأ المغامرات العسكرية في التاريخ، وأعظمها خطرًا؛ حيث قطع أكثر من ألف كيلو متر في ثمانية عشر يومًا في صحراء مهلكة حتى نزل بجيشه أمام الباب الشرقي لدمشق، ثم سار حتى أتى أبا عبيدة بالجابية؛ فالتقيا ومضيًا بجيشهما إلى "بصرى".

تجمعت الجيوش كلها تحت قيادة خالد بن الوليد، وحاصر بصرى حصارًا شديدًا واضطرت إلى طلب الصلح ودفع الجزية، فأجابها خالد إلى الصلح وفتحها الله على المسلمين في (25 من شهر ربيع الأول 13 هـ = 30 من مايو 634م)، فكانت أول مدينة فُتحت من الشام صلحًا على أن يؤمنوا على دمائهم وأموالهم وأولادهم، نظير الجزية التي سيدفعونها.

الاستعداد لأجنادين

بعد سقوط بُصرى استنفر هرقل قواته، وأدرك أن الأمر جد لا هذر فيه، وأن مستقبل الشام بات في خطر ما لم يواجه المسلمون بكل ما يملك من قوة وعتاد، حتى تسلم الشام وتعود طيعة تحت إمرته، فحشد العديد من القوات الضخمة، وبعث بها إلى بصرى حيث شرحبيل بن حسنة في قواته المحدودة، وفي الوقت نفسه جهّز جيشًا ضخمًا، ووجّهه إلى أجنادين من جنوب فلسطين، وانضم إليه نصارى العرب والشام.

تجمعت الجيوش الإسلامية مرة أخرى عند أجنادين، وهي موضع يبعد عن "بيت جبرين" بحوالي أحد عشر كيلو مترًا، وعن الرملة حوالي تسع وثلاثين كيلو مترًا، وكانت ملتقى مهمًا للطرق.

نظم خالد بن الوليد جيشه البالغ نحو 40 ألف جندي، وأحسن صنعه وترتيبه على نحو جديد، فهذه أول مرة تجتمع جيوش المسلمين في الشام في معركة كبرى مع الروم الذين استعدوا للقاء بجيش كبير بلغ 90 ألف جندي.

شكّل خالد جيشه ونظّمه ميمنة وميسرة، وقلبًا، ومؤخرة؛ فجعل على الميمنة "معاذ بن جبل"، وعلى الميسرة سعيد بن عامر، وعلى المشاة في القلب "أبا عبيدة بن الجراح"، وعلى الخيل "سعيد بن زيد"، وأقبل خالد يمر بين الصفوف لا يستقر في مكان، يحرض الجند على القتال، ويحثهم على الصبر والثبات، ويشد من أزرهم، وأقام النساء خلف الجيش يبتهلن إلى الله ويدعونه ويستصرخنه ويستنزلن نصره ومعونته، ويحمسن الرجال.

وتهيأ جيش الروم للقتال، وجعل قادته الرجالة في المقدمة، يليهم الخيل، واصطف الجيش في كتائب، ومد صفوفهم حتى بلغ كل صف نحو ألف مقاتل.

اشتعال المعركة

وبعد صلاة الفجر من يوم (27 من جمادى الأولى 13 هـ = 30 من يوليو 634م) أمر خالد جنوده بالتقدم حتى يقتربوا من جيش الروم، وأقبل على كل جمع من جيشه يقول لهم: "اتقوا الله عباد الله، قاتلوا في الله من كفر بالله ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، ولكن أقدموا كإقدام الأسد وأنتم أحرار كرام، فقد أبيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولكم ما ترون من كثرتهم فإن الله منزل عليهم رجزه وعقابه، ثم قال: أيها الناس إذا أنا حملت فاحملوا".

وكان خالد بن الوليد يرى تأخير القتال حتى يصلوا الظهر وتهب الرياح، وهي الساعة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحب القتال فيها، ولو أدى ذلك أن يقف مدافعًا حتى تحين تلك الساعة.

أعجب الروم بكثرتهم وغرتهم قوتهم وعتادهم فبادروا بالهجوم على الميمنة؛ حيث يقف معاذ بن جبل، فثبت المسلمون ولم يتزحزح أحد، فأعادوا الكرة على الميسرة فلم تكن أقل ثباتًا وصبرًا من الميمنة في تحمل الهجمة الشرسة وردها، فعادوا يمطرون المسلمين بنبالهم، فتنادى قادة المسلمين طالبين من خالد أن يأمرهم بالهجوم، حتى لا يظن الروم بالمسلمين ضعفا ووهنا ويعاودون الهجوم عليهم مرة أخرى، فأقبل خالد على خيل المسلمين، وقال: احملوا رحمكم الله على اسم الله" فحملوا حملة صادقة زلزلزت الأرض من تحت أقدام عدوهم، وانطلق الفرسان والمشاة يمزقون صفوف العدو فاضطربت جموعهم واحتلت قواهم.

فلما رأى القبقلار قائد الروم أن الأمر خرج من يده، وأن الهزيمة واقعة لا محالة بجنوده قال لمن حوله: لفوا رأسي بثوب، فلما تعجبوا من طلبه قال: يوم البئيس لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يومًا أشد من هذا، وما لبث أن حز المسلمون رأسه وهو ملفوف بثوبه، فانهارت قوى الروم، واستسلمت للهزيمة، ولما بلغ هرقل أخبار الهزيمة أسقط في يده وامتلأ قلبه رعبًا.

بطولة وفداء

وفي هذه المعركة أبلى المسلمون بلاءً حسنًا، وضربوا أروع الأمثلة في طلب الشهادة، وإظهار روح الجهاد والصبر عند اللقاء، وبرز في هذا اليوم من المسلمين "ضرار بن الأزور"، وكان يومًا مشهودًا له، وبلغ جملة ما قتله من فرسان الروم ثلاثين فارسًا، وقتلت "أم حكيم" الصحابية الجليلة أربعة من الروم بعمود خيمتها.

وبلغ قتلى الروم في هذه المعركة أعدادًا هائلة تجاوزت الآلاف، واستشهد من المسلمين 450 شهيدًا.

وبعد أن انقشع غبار المعركة وتحقق النصر، بعث خالد بن الوليد برسالة إلى الخليفة أبي بكر الصديق يبشره بالنصر وما أفاء الله عليهم من الظفر والغنيمة، وجاء فيها: ".. أما بعد فإني أخبرك أيها الصديق إنا التقينا نحن والمشركين، وقد جمعوا لنا جموعا جمة كثيرة بأجنادين، وقد رفعوا صلبهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنون أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعناهم بالرماح، ثم صرنا إلى السيوف، فقارعناهم في كل فج.. فأحمد الله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنيع لأوليائه"؛ فلما قرأ أبو بكر الرسالة فرح بها، وقال: "الحمد لله الذي نصر المسلمين، وأقر عيني بذلك".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .