العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة فى مقال فن التحقيق الجنائي في الجرائم الإلكترونية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال مونوتشوا رعب في سماء لوكناو الهندية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: A visitor from the sky (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: قراءة فى مقال مستقبل قريب (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مقال ماذا يوجد عند حافة الكون؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: أهل الكتاب فى عهد النبى (ص)فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: المنافقون فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: النهار فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في لغز اختفاء النياندرتال (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الشكر فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 15-09-2010, 09:34 AM   #161
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

"المتوكل على الله"..

(في ذكرى وفاته: 3 من شوال 247هـ)




يُعَدُّ عهد الخليفة "المتوكل" هو بداية عصر ضعف الدولة العباسية وانحلالها، والذي انتهى بسقوطها على أيدي "التتار" سنة (656هـ = 1258م).

وكان من أهم أسباب ضعف الدولة العباسية اعتماد العباسيين على العناصر الأجنبية في النواحي العسكرية والإدارية في الدولة، وهو ما قوّى شوكتهم ونفوذهم في بلاد الخلافة على حساب العرب الذين ضعفت عصبيتهم، وتدنَّت منزلتهم في الدولة، ولم يَعُد لهم مكان في المناصب العليا فيها.

وقد أدى استبداد تلك العناصر بالحكم إلى إثارة حفيظة العرب عليهم، واشتعال نار الحقد والعداوة في نفوسهم؛ وهو ما أجَّج الصراع والعداء بينهم. وكثرت الفتن والصراعات في المجتمع، وظهر العديد من الفرق والمذاهب التي ساهمت في بثِّ الفرقة والانقسام بين المسلمين وتفتيت وحدة الأمة وتعريضها للخطر؛ فظهر الملاحدة والزنادقة كالخرمية والراوندية، كما ظهرت طوائف المتكلمين كالمعتزلة وغيرهم.

وضع "المتوكل" في خلافة أخيه

وُلِد "أبو الفضل المتوكل على الله جعفر بن المعتصم" بـ"فم الصلح" -على نهر دجلة– في (شوال 206هـ = مارس 822م) لأم خوارزمية الأصل اسمها "شجاع"، وكان له أخوان هما "محمد" و"الواثق" الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبيه "المعتصم".


ولم يكن "المتوكل" يحظى بثقة أخيه الخليفة "الواثق" حتى إنه وكَّل به رجلين من حاشيته يراقبانه ويسجلان له أخباره في كل حين، وقد جرَّأ هذا المسلك عليه رجال الدولة، فكانوا يعاملونه بجفاء، وكانوا يتعنتون معه في صرف أرزاقه التي كانت تجرى له كغيره من أبناء بيت الخلافة.

الخليفة "الواثق" وولاية العهد

وحينما مرض "الواثق" مرضه الأخير سأل رجال الدولة أن يوصي بالخلافة، وزين له بعضهم أن يعهد بها لابنه "محمد" الذي كان صبيًّا صغيرًا لا يصلح للخلافة، ولكن الواثق أبى أن يوصي بها لأحد، ورأى أن يجعل ذلك الأمر لاختيار أهل الشورى من المسلمين من بعده، مقتديًا في ذلك بالفاروق "عمر بن الخطاب"، وقال كلمته الشهيرة: "لا يراني الله أتقلدها حيًّا وميتًا".

وربما كان "الواثق" لا يجد في أبناء البيت العباسي –في ذلك الوقت– من يصلح لتولي خلافة المسلمين، وتحمل تلك التبعة الخطيرة؛ فربأ بنفسه أن يوليها من لا يستحقها وهو في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة.

الطريق إلى الخلافة

لما تُوفِّي الواثق اجتمع نفر من كبار رجال الدولة، وتشاوروا فيمن يتولى أمور الخلافة، ووقع اختيارهم في البداية على محمد بن الواثق، وكادوا يولونه ويعلنون البيعة له، فلما أجلسوه وألبسوه ثوب الخلافة وجدوا فيه طفلاً صغيرًا لا يصلح للإمامة في الصلاة، فضلاً عن إمامة دولة وقيادة أمة، فرجعوا عن عزمهم، واختاروا "المتوكل" فبايعوه بالخلافة في (24 من ذي الحجة 232هـ = 11 من أغسطس 847م)، وهو اليوم نفسه الذي توفِّي فيه "الواثق".

المتوكل وإحياء السنة

كان "المتوكل" يميل إلى أهل السنة، ويعلي من شأنهم، وينتصر لهم، ويُروى أنه ضرب رجلاً بالسياط؛ لأنه سبَّ "أبا بكر" و"عمر" و"عائشة" و"حفصة". كما عمل على إحياء السنة وإظهارها، ودعا إلى نشرها، واهتم بعلمائها، وهو الذي أطلق الإمام "أحمد بن حنبل" من محبسه، وقضى على المعتزلة، ولقي ذلك تقدير الناس؛ فلقي حبهم، وزادت منزلته في قلوبهم، كما عظَّمه بذلك العلماء، بل وبالغوا في الثناء حتى جعلوه في منزلة "أبي بكر الصديق" و"عمر بن عبد العزيز" فقالوا: "الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في ردة المظالم، والمتوكل في إحياء السنة".

عداء المتوكل للعلويين

إلا أن سياسة الشدة والعنف التي انتهجها المتوكل في معاملة العلويين أثارت ضده حفيظة كثير من المسلمين، خاصة بعدما أمر بهدم قبر "الحسين بن علي" بكربلاء سنة (237هـ = 851م)، وهدم ما حوله من الدور والمنازل، وحوَّل مكانه إلى حديقة كبيرة، ومنع الناس من زيارته، وتوعَّد من يخالفه بالسجن، وناصب العلويين العداء وتعقب أئمتهم بإبعادهم والإساءة إليهم، فأثار ذلك ضده العامة وخاصة من العلويين وأشياعهم.

بين المتوكل ووزرائه

كان أول وزير في عهد الخليفة المتوكل هو "محمد بن عبد الملك الزيات" الذي كان وزيرًا لأخيه وأبيه من قبل، ولكن المتوكل كان ناقمًا على هذا الوزير لسوء معاملته له في حياة أخيه، ولم ينسَ له المتوكل أنه هو الذي رشَّح "محمد بن الواثق" للخلافة بعد وفاة أبيه، وسنحت له الفرصة لتصفية حساباته مع الوزير والانتقام منه في (7 من صفر 233هـ = 22 من سبتمبر 847م)، فقبض عليه وصادر جميع أمواله وممتلكاته، وأنزل به من العذاب والمهانة ما لم تحتمله نفسه وبدنه، حتى مات تحت وطأة العذاب، وهو من هو في المكانة والشهرة وعلو الشأن!!.

ثم استوزر –بعد ذلك– "محمد الفضل الجرجرائي" وكان أديبًا فاضلاً وشاعرًا بليغًا، فاستمر في الوزارة نحو ثلاثة أعوام، حتى غضب عليه المتوكل، واختار من بعده "عبيد الله بن يحيى بن خاقان" وزيرًا له، وكان رجلاً كريمًا حسن الخلق عفيفًا، فأحبته العامة واحترمه الجند، وقد ظلَّ هذا الرجل وزيرًا للمتوكل إلى أن مات.

المتوكل والأتراك

أدرك المتوكل مدى توغل الأتراك في الدولة، وسيطرتهم على جميع المناصب الإدارية والعسكرية، وتدخلهم في أمور الحكم، واستبدادهم بأمور الخلافة وإدارة الجيش، فأراد أن يضعف شوكتهم ويقلل من نفوذهم، ويحجم من سلطانهم الذي يكاد يطغى على سلطان الخليفة وهيبته؛ فاحتال حتى استطاع القبض على "إيتاخ" الذي كان يستأثر بالعديد من المناصب، ويحشد حوله الكثير من الأعوان والأنصار؛ فهو على رأس الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة... وغيرها، فسجنه هو وابنيه "منصور" و"مظفر" وبعض أعوانه المقربين، ولكنه لم يحتمل وطأة السجن والهوان فتُوفِّي سنة (235هـ = 849م).

الحوادث والاضطرابات في عهد المتوكل

حدثت في عهد المتوكل بعض الحوادث والفتن والاضطرابات التي استطاع إخمادها والقضاء عليها؛ من أشهرها: تمرد "محمد بن البعيث بن حليس" على الخلافة، وتحصنه بمدينة "مرند" في "أذربيجان"، فأرسل المتوكل عدة حملات للقضاء على تمرده والقبض عليه، ولكنها لم تفلح جميعًا حتى أرسل إليه "عمرو بن سيسل بن كال" في عدد من القواد الذين سبقوا إلى الزحف على تلك المدينة، فاستطاعوا أَسْرَه والقضاء على أنصاره، وسيق إلى المتوكل مع مَن تم أَسْرهم من رجاله، فأمر المتوكل بحبسهم جميعًا، ثم أمر بضرب عنق ابن البعيث، ولكنه عفا عنه في اللحظة الأخيرة بعدما سمع حسن استعطافه، ورقة اعتذاره، وتوسله إليه.

كما استطاع أيضًا إخماد حركة التمرد في "أرمينية"، وقضى على الاضطرابات التي قام بها أهلها، بعد أن ثاروا على "يوسف بن محمد" عامل الخليفة عليهم وقتلوه، فبعث المتوكل "بغا الشرابي" إلى "أرمينية"، فقاتلهم حتى انتصر عليهم، وقضى على رؤوس الفتنة والتمرد.

كذلك فقد شهد عهد المتوكل بعض الحوادث والكوارث التي أودت بحياة الكثيرين، فقد وقعت عاصفة شديدة على "بغداد"، و"البصرة"، و"الكوفة"... وغيرها من مدن العراق، فاحترق الزرع، وهلكت الماشية؛ وهو ما أدى إلى حدوث المجاعات، وانتشار الأوبئة، وموت كثير من الناس.

الصراع بين الروم والخلافة العباسية

وقد شجعت الحالة المتردية التي أصابت الدولة في عهد المتوكل الروم على الإغارة على الدولة العباسية، فأغاروا على مصر من جهة دمياط في سنة (238هـ = 852م)، في نحو (300) مركب؛ فدخلوا المدينة، وأفسدوا فيها، وأحرقوا الكثير من الدور والمساجد، وسَبُوا كثيرًا من نساء المسلمين، وسلبوا كل ما استطاعوا الوصول إليه من المغانم.

وفي سنة (242هـ = 856م) أغار الروم على "شمشاط" ونهبوا عدة قرى، وأسروا عددًا كبيرًا من المسلمين. ثم عادوا في سنة (245هـ = 859م) فأغاروا على "سميساط"، وقتلوا وأسروا نحو (500) من المسلمين.

وكان المتوكل يرسل بالصوائف إلى الروم في محاولة للرد على هجماتهم، فيأسرون منهم من يستطيعون أَسْره؛ ليتم بعد ذلك تبادل الأسرى، والفداء بين الفريقين.

مكانة العلماء والأدباء في بلاط المتوكل

وبالرغم من كل ما مرّ بعهد المتوكل من حوادث وفتن واضطرابات، وما ماج به عصره من صراعات ومحن، فقد شهدت الخلافة العباسية في عهد المتوكل –الذي دام نحو خمس عشرة سنة- قدرًا كبيرًا من الرفاهية والأمن والرخاء.

وحظي العلماء والشعراء والأدباء في ظل خلافته بقسط وافر من الرعاية والتكريم؛ فقد كان "المتوكل" محبًّا للعلم والعلماء، شغوفًا بالشعر والأدب، يجزل العطاء للشعراء ويشجع الأدباء، فحفل مجلسه بنوابغ الشعراء والعلماء والأدباء، كما شهد المذهب السني في عهده بعثًا وإحياءً جديدًا لم يشهده على مر سنوات طوال.

فتنة ولاية العهد

وفي سنة (235هـ = 850م) أراد المتوكل أن يعقد ولاية العهد لأبنائه من بعده، وقرر أن يقدم ابنه عبد الله (المعتز) على أخويه محمد (المنتصر) وإبراهيم (المؤيد)، بعدما نجح رجال بلاطه في الإيعاز إليه بإقصائهما، وتقديم المعتز عليهما. وقد أدى ذلك إلى غضب المنتصر فدبَّر مع بعض عناصر الأتراك المقربين من الخليفة مؤامرة لاغتيال أبيه، والوثوب على العرش، فتمكنوا من اغتياله في (3 من شوال 247هـ = 10 من ديسمبر 861م)، وسار المنتصر إلى العرش على دماء أبيه. وقد صوَّر البحتري تلك المأساة تصويرًا رائعًا ينضح بالمرارة والأسى، فقال:

أكان وليُّ العهدِ أضمرَ غدرَهُ
فمن عجبٍ أنَّ وليَّ العهد غادرَهُ؟

فلا مَلَكَ الباقي تراثَ الذي مَضى
ولا حملَتْ ذاك الدعاء منابـره!


وبرغم تعجل المنتصر الخلافة وغدره بأبيه في سبيل الوثوب إليها والظفر بها، فإنه لم يهنأ بمقعده فيها أكثر من ستة أشهر، حتى أصابته العلة التي قضت عليه سريعًا!!.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 15-09-2010, 09:38 AM   #162
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

جمال الدين الأفغاني.. مصلح رغم الجدل

(في ذكرى وفاته: 5 من شوال 1314هـ)





ترجع نهضة الأمم والدول إلى جهود المصلحين المخلصين من أبنائها الذين يسعون دائمًا إلى توحيد أبناء الأمة، وإيقاظ وعيهم بقضايا ومشكلات أمتهم، وتحريك همتهم نحو الإصلاح والتجديد، والوقوف صفًا واحدًا في وجه أطماع المستعمرين والطامعين.

وفي أواسط القرن التاسع عشر قام رجال مصلحون من أبناء الشرق الإسلامي، دقّوا ناقوس الخطر لأمتهم، وحذّروا ملوكهم وحكامهم من الخطر الوشيك الذي يتربص بالأمة الإسلامية، وتعالت أصواتهم بالدعوة إلى التعجيل بالإصلاح قبل وقوع الخطر، وكان من هؤلاء الرواد: مصطفى رشيد باشا في تركيا، وميلكم خان في إيران، وأمير علي في الهند، وخير الدين باشا في تونس، وكان جمال الدين الأفغاني أحد هؤلاء الرواد المصلحين الذين وقفوا حياتهم كلها على الدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي، وتحرير شعوبه من الاستعمار والاستغلال.

ولكن كانت دعوة كل واحد من هؤلاء وتأثيره محدودين بحدود بلاده، ولم يكن صوته الإصلاحي يتجاوز أبناء وطنه، أما جمال الدين الأفغاني فقد تجاوز صدى دعوته حدود الأوطان والقوميات، واتسع ليشمل العالم الإسلامي كله.

الميلاد والنشأة

ولد السيد جمال الدين الأفغاني في ( شعبان 1254هـ= أكتوبر 1838م)، لأسرة أفغانية عريقة ينتهي نسبها إلى الحسين بن علي (رضي الله عنه)، ونشأ في كابول عاصمة الأفغان. وتعلم في بداية تلقيه العلم اللغتين العربية والفارسية، ودرس القرآن وشيئًا من العلوم الإسلامية، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتم دراسته للعلوم، ثم سافر إلى الهند لدراسة بعض العلوم العصرية، وقصد الحجاز وهو في التاسعة عشرة لأداء فريضة الحج سنة (1273هـ= 1857م)، ثم رجع إلى أفغانستان حيث تقلد إحدى الوظائف الحكومية، وظل طوال حياته حريصًا على العلم والتعلم، فقد شرع في تعلم الفرنسية وهو كبير، وبذل كثيرًا من الجهد والتصميم حتى خطا خطوات جيدة في تعلمها.

وحينما وقع خلاف بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان بمثابة وزير دولة، وحدث صدام بينه وبين الإنجليز، فرحل جمال الدين عن أفغانستان سنة (1285هـ= 1868م)، ومر بالهند في طريقه إلى مصر حيث أقام بها مدة قصيرة تردد في أثنائها على الأزهر، وكان بيته مزارًا لكثير من الطلاب والدارسين خاصة السوريين. ثم سافر إلى "الأستانة" في عهد الصدر عال باشا، فعظم أمره بها، وذاعت شهرته وارتفعت منزلته، ولقيت دعوته بضرورة التعجيل بالإصلاح صدى طيبًا لدى العثمانيين، حتى قال المستر بلنت الإنجليزي: "إن سعي العثمانيين في تحويل دولتهم إلى دستورية في بادئ الأمر قد ينسب إلى شيء من تأثير جمال الدين، فقد أقام في عاصمتهم يحاورهم ويخطب فيهم".

في مصر

وعُيِّن جمال الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، وهناك لقي معارضة وهجومًا من بعض علماء الأستانة وخطباء المساجد الذين لم يرقهم كثير من آرائه وأقواله؛ فخرج من الأستانة إلى مصر، فلقي في مصر من الحفاوة والتكريم من أهلها ما حمله على البقاء بها، وكان لجرأته وصراحته أكبر الأثر في التفاف الناس حوله، فأصبح له مريدون كثيرون، فحسده الشيوخ لحظوته عند الناس.

وخاض الأفغاني غمار السياسة المصرية، ودعا المصريين إلى ضرورة تنظيم أمور الحكم، وقد أدى ذلك إلى تنكر ولاة الأمور له، ونفورهم منه، وتوجسهم به، خاصة أنه كان يعلن عن بغضه للإنجليز، ولا يخفي عداءه لهم في أية مناسبة.

مع محمد عبده في باريس

وكانت مقالاته مثار غضب شديد من الإنجليز ومن الحكام في مصر على حد سواء. فلما تولى الخديوي توفيق باشا حكم البلاد أخرجه من مصر، فانتقل الأفغاني إلى الهند سنة (1296هـ= 1879م)، بعد أن أقام في مصر نحو ثماني سنوات.

ثم غادر الهند إلى لندن، ومنها انتقل إلى باريس حيث اتصل بالشيخ محمد عبده، وأصدرا معًا جريدة "العروة الوثقى"، ولكنها ما لبثت أن توقفت عن الصدور بعد أن أوصدت أمامها أبواب كل من مصر والسودان والهند. ولكن الأفغاني لم يتوقف عن الكتابة في السياسة، فكانت صحف باريس منبرًا لمقالاته السياسية النقدية الساخنة.

في إيران

ودعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحضور إلى طهران واحتفى به وقربه، وهناك نال الأفغاني تقدير الإيرانيين وحظي بحبهم، ومالوا إلى تعاليمه وأفكاره، ولكن الشاه أحس بخطر أفكار الأفغاني على العرش الإيراني، وتغيرت معاملته له، وشعر الأفغاني بذلك، فاستأذنه في السفر، وذهب إلى موسكو ثم بطرسبرج، وكان يلقى التقدير والاحترام في كل مكان ينزله، ويجذب الكثيرين من المؤيدين والمريدين.

وحينما زار الأفغاني معرض باريس سنة (1307هـ= 1889م) التقى هناك بالشاه ناصر الدين، وأظهر له الشاه من الود والتقدير ما دعاه إلى العودة مرة أخرى إلى طهران، ولكن ما لبث الشاه أن تغير عليه ثانية، خاصة بعدما راح يصرح برأيه في إصلاح الحكومة، ويجاهر بنقده للأوضاع السياسية في الدولة. ولم يطق الشاه صبرًا، ورأى في بقاء الأفغاني خطرًا محققًا على أركان عرشه، فأرسل إليه قوة عسكرية، فساقوه من فراش مرضه إلى حدود تركيا.

اتجه الأفغاني إلى البصرة، ومنها إلى لندن حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهجوم على الشاه، وكشف ما آلت إليه أحوال إيران في عهده، وكان تأثير الأفغاني قويًا على الإيرانيين، حتى بلغ من تأثيره أنه استطاع أن يحمل بعض علماء إيران على إصدار فتوى بتحريم "شرب" الدخان، فأصدر الميرزا "محمد حسن الشيرازي" فتوى حرّم فيها على الإيرانيين شرب الدخان، فامتنعوا عن شربه امتناعًا شديدًا، حتى إن العامة ثاروا على الشاه، وأحاطوا بقصره، وطلبوا منه إلغاء الاتفاق مع إحدى الشركات العربية لتأسيس شركة "ريجي" في إيران؛ فاضطر الشاه إلى فسخ الاتفاق، وتعويض الشركة بمبلغ نصف مليون ليرة إنجليزية.

دسائس الوشاة ومكائد الحاقدين

وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الشاه يلجأ إلى السلطان عبد الحميد ليوقف الأفغاني عن الهجوم عليه، واستطاع السلطان أن يجذب الأفغاني إلى نزول الأستانة سنة (1310هـ=1892م)، وأراد السلطان أن يُنعم على الأفغاني برتبة قاضي عسكر، ولكن الأفغاني أبى، وقال لرسول السلطان: "قل لمولاي السلطان إن جمال الدين يرى أن رتبة العلم أعلى المراتب".

وفي أثناء وجود الأفغاني بالأستانة زارها الخديوي عباس حلمي، والتقى بالأفغاني لقاءً عابرًا، ولكن الوشاة والحاسدين من أعداء الأفغاني المقربين إلى السلطان وجدوا في ذلك اللقاء العابر فرصة سانحة للوقيعة بينه وبين السلطان، فبالغوا في وصف ذلك اللقاء، وأضفوا عليه ظلالاً من الريبة والغموض، وأوعزوا إلى السلطان أنهما تحادثا طويلاً في شئون الخلافة، وحذّروه من الخطر الذي يكمن وراء تلك المقابلة؛ فاستدعى السلطان العثماني جمال الدين الأفغاني وأطلعه على تلك الأقوال، فأوضح له الأفغاني حقيقة الموقف بجرأة، وانتقد هؤلاء الوشاة بشجاعة لم تعهد لغيره.

منهج الأفغاني في الإصلاح الديني

كانت الدعوة إلى القرآن الكريم والتبشير به من أكبر ما يطمح إليه "الأفغاني" في حياته، وكان يرى أن القاعدة الأساسية للإصلاح وتيسير الدين للدعوة هي الاعتماد على القرآن الكريم، ويقول: "القرآن من أكبر الوسائل في لفت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو يدعوهم بلسان حاله إليه. لكنهم يرون حالة المسلمين السوأى من خلال القرآن فيقعدون عن اتباعه والإيمان به". فالقرآن وحده سبب الهداية وأساس الإصلاح، والسبيل إلى نهضة الأمة: "ومن مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا توصف؛ فلم يمض عليهم قرن ونصف قرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسة وعلمًا وفلسفة وصناعة وتجارة".. فالإصلاح الديني لا يقوم إلا على القرآن وحده أولاً، ثم فهمه فهمًا صحيحًا حرًا، وذلك يكون بتهذيب علومنا الموصلة إليه، وتمهيد الطريق إليها، وتقريبها إلى أذهان متناوليها.

جمال الدين بين السنية والتشيع

يرى بعض الباحثين أن جمال الدين كان إيرانيًا من "أسد آباد" بالقرب من همدان، وأنه كان شيعيًا جعفري المذهب، وذلك بالرغم من اشتهار أمر جمال الدين بانتسابه إلى بلاد الأفغان وأنه سني المذهب، وبالرغم من حرصه على تلقيب نفسه بالأفغاني، وانخراطه في علماء أهل السنة في جميع البلدان الإسلامية التي زارها أو أقام فيها.

ويحاول هؤلاء إيجاد الأدلة، وتدبيج البراهين التي تعضد موقفهم، وتؤيد ما ذهبوا إليه، ومن ذلك:

- وجود عائلة جمال الدين في إيران، وعدم وجود أي أثر لها في أفغانستان.

- إن اسم والد جمال الدين "صفدر"، وهو اسم إيراني شيعي يعني: البطل ممزق الصفوف.

- اهتمام جمال الدين بإيران ومشكلاتها أكثر من اهتمامه بأي قطر إسلامي آخر.

- إجادة جمال الدين اللغة الفارسية باللهجة الإيرانية.

- تمجيد جمال الدين للإيرانيين وإشادته بذكائهم.

وهي في مجملها قرائن لا ترقى إلى الأدلة الجازمة، أو البراهين القاطعة تنقضها كتابات جمال الدين وسيرة حياته، التي توضح أنه كان أفغانيًا سنيًا لا إيرانيًا شيعيًا.

فهو في كتابه "تتمة البيان في تاريخ الأفغان" ينتقد الشيعة في انصرافهم عن بعض أركان الدين إلى ظواهر غريبة عنه وعادات محدثة، فيقول: "وجميع الأفغانيين متمذهبون بمذهب أبي حنيفة، لا يتساهلون رجالاً ونساءً وحضريين وبدويين في الصلاة والصوم، سوى طائفة (نوري)، فإنهم متوغلون في التشيع، يهتمون بأمر مأتم الحسين (رضي الله عنه) في العشر الأول من محرم، ويضربون ظهورهم وأكتافهم بالسلاسل مكشوفة".

وقد تصدى لهذا الزعم عدد من الباحثين والمفكرين، في مقدمتهم د. "محمد عمارة" الذي رأى أن الرجل لن يعيبه أن يكون إيرانيًا أو أفغانيًا، ولن ينقص من قدره أن يكون شيعيًا أو سنيًا؛ لأنه مسلم تشرف به كل أقاليم الإسلام وجميع مذاهبه.

وأن الذي جعل قضية الخلاف حول موطن جمال الدين وحول المذهب الديني الذي تمذهب به تأخذ بعدًا آخر، أخرجها من هذا الإطار المألوف، هو أن الذين ادعوا إيرانيته وشيعته قد أرادوا –من وراء هذه الدعوى- إثبات كذب الرجل، فقد قال عن نفسه بأنه أفغاني، ونطقت أفكاره وكتاباته بأنه سني، فالمقصد من وراء تلك الدعوة هو هدم الرجل (الرمز) الذي يعتز به الجميع.

الأفغاني والماسونية

انتظم جمال الدين في سلك الماسونية؛ لينفسح له المجال أمام الأعمال السياسية، وقد انتخب رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة (1395هـ=1878م)، ولكنه حينما اكتشف جبن هذا المحفل عن التصدي للاستعمار والاستبداد، ومسايرته لمخطط الإنجليز في مصر استقال منه، وقد سجل الأفغاني تجربته تلك في كلمته التي أدان فيها ماسونية ذلك المحفل الذي يتستر تحت شعارات براقة وأهداف عريضة، لكنه في الحقيقة لا يخرج في ذلك كله عن حيز القول إلى الفعل، بل ربما كان أدنى إلى تحقيق أهداف المستعمر وترسيخ أطماعه بعيدا عن تأكيد مبادئ الحق والحرية والمساواة التي يرفعها مجرد شعار.

هل مات مسمومًا؟

وتوفي الأفغاني في الأستانة –بعد حياة شاقة مليئة بالمتاعب والصعاب- عن عمر بلغ نحو ستين عامًا، وكما حفلت حياته بالجدل والإثارة، فقد ثار الجدل أيضًا حول وفاته، وشكك البعض في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيل بالسم.

فبالرغم من أن الشيخ عبد الرشيد إبراهيم –الرحالة الروسي الشهير- يؤكد أنه كان مريضًا، وأنه توفي متأثرًا بمرضه، وكان قد زاره قبيل ساعتين من وفاته، فإن ابن أخته "ميرزا لطف الله خان" يزعم أنه مات مسمومًا، ويتهم الحكومة الإيرانية بقتله، ويذكر أن الحكومة الإيرانية أوفدت "ناصر الملك" لقتل "جمال الدين" بعدما رفضت الدولة العثمانية تسليمه لها.. وكانت وفاته في (5 من شوال 1314هـ= 10 من مارس 1897م).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدراسة وضعها الباحث: سمير الحلبي من موقع اسلام أون لاين
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 16-09-2010, 06:21 AM   #163
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

مجمع اللغة العربية بدمشق.. نهوض باللغة وإحياء للتراث

(في ذكرى إنشائه: 7 من شوال 1338هـ)




بعد قيام الحكومة العربية في دمشق في (29 من ذي الحجة 1336هـ= 5 من أكتوبر 1918م) واجهت الدولة قضية اللغة العربية، وكانت بالغة الأهمية؛ فاللغة التركية هي لغة البلاد الرسمية في الحكومة والتدريس، والأتراك يتولون معظم رئاسات المصالح والدوائر الحكومية، والموظفون العرب أنفسهم يجهلون الإنشاء العربي؛ فكان لا بد من تدارك الموقف وعلاجه؛ فأنشأت الحكومة الوليدة شُعَبًا إدارية وفنية لمختلف أعمال الدولة أشبه ما تكون بالوزارات، كان من بينها شعبة للترجمة والتأليف، ضمت إليها أمور المعارف، وجعلتها كلها ديوانًا للمعارف، وعهدت برئاسته إلى العالم الكبير "محمد كرد علي" في (1 من ربيع الأول 1338هـ = 24 من نوفمبر 1919م).

وعهدت الحكومة إلى الديوان بالعناية بأمر اللغة العربية، ونشر الثقافة بين الموظفين، واستبدال المصطلحات العربية بالتركية في الجيش ودوائر الحكومة؛ فنهض الديوان لهذه المهمة، واستعان في تحقيقها بأساتذة اللغة العربية وأدبائها، واستحدث دروسًا خاصة للموظفين لتعليم الإنشاء العربي، ومراجعة الكتب العربية القديمة ونشرات الحكومة المصرية؛ لإيجاد المصطلحات وتقرير أفصح الأساليب التي تليق بحكومة عربية واعدة.

ونهض الديوان بتنظيم ميزانية المدارس، وتصحيح الكتب المدرسية المعدة للطبع، وإنشاء المدارس وتعيين المعلمين، والنظر في القوانين المتعلقة بالمعارف وترجمتها، والعناية بأساليب التربية الحديثة، والاهتمام برفع شأن اللغة العربية بالمدارس.

ظهور المجمع العلمي العربي

ونظرًا لاتساع أعمال ديوان المعارف، وازدياد حركة التأليف والترجمة قامت الحكومة العربية في دمشق بتقسيم الديوان قسمين في (7 من شوال 1338هـ= 8 من يونيو 1919م)؛ اختص الأول بأعمال المعارف العامة، واختص الثاني بأمور إصلاح اللغة العربية، وتنشيط التأليف والتعريف، والإشراف على المكتبات والآثار، وسُمي هذا القسم "المجمع العلمي"، وعُهد برئاسته إلى محمد كرد علي، وكان هذا إيذانًا بميلاد مجمع اللغة العربية الدمشقي.

وضمّ المجمع عند تأسيسه عددًا من فحول اللغة والأدب، وهم: محمد كرد علي، وأمين سويد، وأنيس سلوم، وسعيد الكرمي، ومتري قندلفت، وعيسى إسكندر معلوف، وعبد القادر المغربي، وعز الدين علم الدين، وطاهر الجزائري.

أهداف المجمع وغاياته

كان أعضاء المجمع يعقدون جلساتهم في إحدى الغرف العلوية بدار الحكومة العربية، حتى تسلم المجمع مبنى المدرسة العادلية القديمة؛ فقام بترميمها وإعادتها إلى طرازها العربي القديم، وعقد أولى جلساته فيها في (3 من ذي القعدة 1337هـ= 30 من يوليو 1919م)، ثم أصدر المجمع أهدافه في بيان نشره تضمن ما يلي:

- النظر في اللغة العربية وأوضاعها العصرية، ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها، وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون من اللغات الأوربية، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب.

- العناية بجمع الآثار القديمة، وخاصة العربية والمخطوطات القديمة الشرقية والمطبوعات العربية والإفرنجية، وتأسيس دار كتب عامة.

- جمع الآثار القديمة عربية وغير عربية، وتأسيس متحف لها.

- إصدار مجلة للمجمع لنشر أعماله وأفكاره؛ لتكون رابطة بينه وبين دور الكتب والمجامع العلمية، وعلى الفور أتبع المجمع القول بالعمل؛ فعمد إلى ترجمة المصطلحات الإدارية إلى اللغة العربية، وبعث بها إلى رؤساء الدواوين ورجال الصحافة لاستعمالها، وقام بترجمة وتنقيح كثير من القوانين، وإصلاح الكتب المدرسية، واستعان بأهل الاختصاص من أساتذة المعاهد العليا للعمل على وضع المصطلحات الفنية الحديثة التي تستعملها مدرستا "الطب" و"الحقوق".

دار الكتب الظاهرية

بعد أن استقل المجمع عن ديوان المعارف، وضعت دار الكتب الظاهرية تحت إشرافه، وكانت تضم آلاف الكتب المخطوطة والمطبوعة، وتحتوي على نفائس المخطوطات، وقام المجمع بوضع نظام داخلي للدار، وسعى إلى تزويدها بالكتب الجديدة، وعمل على اجتذاب القراء إليها، ووضع فهرسًا لها، وعهد المجمع إلى الشيخ "طاهر الجزائري" بإدارتها، وظل بها حتى وفاته في (جمادى الأولى 1338هـ= فبراير 1920م)، ثم أُسندت إلى "حسني الكسم"، وبقي يشرف على الدار حتى سنة (1355هـ= 1936م)، وكان المجمع يندب أحد أعضائه للإشراف على سير المكتبة.

متحف الآثار العربية

وكان من جملة أهداف المجمع العلمي العناية بجمع الآثار القديمة وخاصة العربية، وكانت الآثار تُنقل خلال العهد العثماني إما إلى الغرب عن طريق البعثات الأثرية، أو إلى متحف إستانبول الذي أُسس في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وقد خُصصت لهذا المتحف الناشئ أربع غرف في المدرسة العادلية، وكانت المجموعة الأثرية المخزونة في مستودع مديرية المعارف هي النواة الأولى للمتحف، وبدأ العمل في جمع الآثار المبعثرة في المساجد والمؤسسات الرسمية؛ ونظرًا لعدم وجود علماء أثريين تألفت لجنة للآثار في المجمع من بعض الأجانب وتجار الآثار، كانت تفتش عن الآثار أو تشتريها لحساب المتحف، كما كانت تقوم بتصنيف الآثار وعرضها في الغرف المخصصة لها وفقًا لموضوعها ومادتها المصنوعة منها.

أنشطة المجمع العلمية

كان المجمع العلمي وافر النشاط، سباقا إلى جعل الآذان تعتاد الفصحى في وقت لم تكن فيه إذاعة أو تلفاز؛ فعمد إلى إقامة المحاضرات الدورية في قاعة خُصصت لهذا الغرض في مقر المجمع، وكانت المحاضرة الأولى من نصيب العالم الكبير "عبد القادر المغربي"، وذلك في (8 من شعبان 1339هـ= 17 من إبريل 1921م)، ثم توالت المحاضرات، وتزايد إقبال الناس على سماعها، واستمر إلقاء هذه المحاضرات حتى سنة (1365هـ= 1946م)، وكانت تلقى مرة كل أسبوعين، ولم يقتصر إلقاء المحاضرات على الرجال، بل نُظمت محاضرات للنساء في موضوعات علمية وأخلاقية وأدبية، وفي اليوم المخصص لمثل هذه المحاضرات النسائية كان يخلى المجمع من الرجال.

وكان المحاضرون من أعضاء المجمع، أو ممَّن يكلفهم المجمع بإلقاء المحاضرات من الرجال والنساء؛ من سوريا أو من الأشقاء العرب أو المستشرقين، وقد زادت تلك المحاضرات في تلك المواسم على الأربعمائة، طُبعت مختارات منها في مجلدات.

وأقام المجمع مهرجانًا لشاعر العربية الأكبر "أبي الطيب المتنبي" سنة (1355هـ = 1936م) استمر أسبوعًا، وبعد ثمانية أعوام أقام مهرجانًا للشاعر الفيلسوف "أبي العلاء المعري" سنة (1363هـ= 1944م) بمناسبة مرور ألف عام على مولده استمر أيضًا أسبوعًا، وشارك في المهرجانين وفود من أقطاب "الأدب" من مختلف البلاد العربية.

وحرص المجمع على تأبين الراحلين من أعضائه، مثل: الشيخ طاهر الجزائري، وأحمد كمال باشا، ومحمود شكري الآلوسي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومحمد رشيد رضا، كما أقام حفلات تكريم لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم.

مجلة المجمع ومطبوعاته

كانت فكرة إنشاء مجلة للمجمع قديمة صاحبَت إنشاءه، وصدر العدد الأول منها في (21 من ربيع الآخر 1339هـ= يناير 1921م) في اثنين وثلاثين صفحة، متضمنًا عددًا من المقالات بأقلام أعضائه، وظلت تصدر شهرية عدة سنوات، لكنها جابهت صعوبات مادية، جعلتها تصدر كل شهرين بدءًا من سنة (1351هـ= 1931م)، ثم أخذت المجلة تصدر فصلية ابتداء من سنة (1379هـ = 1949م).

ولا تزال تصدر حتى اليوم على هذا النحو؛ ونظرًا لأهمية موضوعات المجلة وصعوبة الوصول إلى مقالاتها ذات القيمة العلمية؛ فقد قام العالم الموسوعي السوري "عمر رضا كحالة" بإعداد فهارس خاصة لكل عشر سنوات من عمرها، وصدر المجلد الأول سنة (1375هـ= 1956م) لهذا الفهرس الضخم، ويتضمن الفهرس ما صدر من المجلة في السنوات العشر الأولى، ثم توالت الأجزاء الأخرى من الفهرس.

وتضمن نشاط المجمع إحياء التراث العربي، وكان هذا هدفًا من أهدافه التي تناولها بيانه الأول، وقد توالى صدور الكتب التي قام المجمع على إحيائها؛ مثل: "رسالة الملائكة" لأبي العلاء المعري، و"الدارس في تاريخ المدارس" للنعيمي، وديوان الوأواء الدمشقي، على أن المشروع الكبير الذي ينهض المجمع به هو تحقيق كتاب "تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر، وهو كتاب ضخم جدًا، وقد صدر منه ما يزيد على عشرة مجلدات، وما يزال المتبقي من الكتاب يحتاج إلى مزيد من الجهد حتى يتم نشره كاملاً. والجدير بالذكر أن مطبوعات المجمع قد تجاوزت أكثر من مائتي كتاب.

أعضاء المجمع ورؤساؤه

يتألف المجمع من عشرين عضوًا عاملاً من سوريا، يشكلون لجان المجمع، مثل: لجنة المخطوطات وإحياء التراث، ولجنة المصطلحات، ولجنة المجلة والمطبوعات، ولجنة اللهجات العربية المعاصرة، ولجنة ألفاظ العربية.

وإلى جانب هؤلاء الأعضاء العاملين يوجد عدد غير محدود من الأعضاء المراسلين من العرب أو من غيرهم، وقد ضمّ المجمع منذ إنشائه كوكبة من أعلام اللغة والأدب في العالم العربي، من أمثال: مصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد تيمور، وحافظ إبراهيم، والرافعي، والمازني، والعقاد والزيات، وطه حسين من مصر. والطاهر بن عاشور وحسن حسني عبد الوهاب من تونس. والزهاوي، ومعروف الرصافي ومحمد رضا الشبيبي من العراق. وإسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وعادل زعيتر من فلسطين. ولويس شيخو، وأمين الريحاني، وشكيب أرسلان من لبنان، وحمد الجاسر من السعودية.

ويُنتخَب رئيس المجمع لمدة أربع سنوات من قِبل أعضائه، وقد تعاقب على المجمع منذ إنشائه خمسة من كبار الأدباء والعلماء في المشرق العربي هم:

- محمد كرد علي، وهو مؤسس المجمع وأول رئيس له، وكان واسع العلم والاطلاع موفور النشاط على كبر سنه، وهو من أعلام الفكر في القرن الرابع عشر الهجري، من أهم كتبه: "خطط الشام" في ستة مجلدات، وقد دامت فترة رئاسته حتى وفاته سنة (1372هـ = 1953م).

- خليل مردم بك، وهو الرئيس الثاني للمجمع، وهو شاعر محلق، جمع إلى جانب موهبته في الشعر غزارة العلم والمعروفة، تولى وزارة المعارف والخارجية، وتولى رئاسة المجمع بعد محمد كرد علي، وظل رئيسًا للمجمع حتى وفاته سنة (1379هـ= 1959م).

- مصطفى الشهابي، وهو الرئيس الثالث للمجمع، انتُخب عقب وفاة خليل مردوم بك، وكان متخصصًا في الزراعة، وله معجم مشهور بعنوان "معجم الألفاظ الزراعية"، وقد أهدى المجمعَ أَنفَسَ ما في مكتبته من مطبوع ومخطوط، وظل رئيسًا للمجمع حتى وفاته سنة (1388هـ= 1968م).

- حسني سبح، وهو الرئيس الرابع للمجمع، وهو طبيب يحسن التركية والفرنسية والإنجليزية والألمانية، وله نشاط معجمي بارز، انتُخب رئيسًا للمجمع عقب وفاة مصطفى الشهابي، وظل رئيسًا للمجمع حتى وفاته سنة (1407هـ= 1986م).

- شاكر الفحام، وهو الرئيس الحالي للمجمع، انتُخب بعد وفاة حسني سبح، وهو متخصص في الأدب، وله نتاج معروف في هذا الشأن.

تطور في حياة المجمع

تأسس المجمع باسم "المجمع العلمي العربي" بدمشق، وسُميت مجلته بهذا الاسم، ثم عدلت التسمية إلى "مجمع اللغة العربية" تأسيًا بالمجامع العربية الأخرى، وذلك في سنة (1386هـ= 1967م)، وقد تم توحيد هذا المجمع مع نظيره في القاهرة سنة (1380هـ= 1960م) بعد قيام الوحدة السورية مع مصر، فصدر قرار جمهوري بتوحيد مجمعيْ القاهرة ودمشق، واعتبارهما فرعين لمجمع واحد مقره القاهرة، يتكون أعضاؤه من ثمانين عضوًا عاملاً؛ نصفهم من المصريين، وعشرون من السوريين، وعشرون من ممثلي البلاد العربية الأخرى، غير أن هذا الاندماج لم يدُم طويلاً، فانفكّت عراه بعد انهيار الوحدة المصرية السورية، وانفصل المجمعان، وعاد كل منهما إلى ما كان عليه من الاستقلال.

وظل المجمع قائمًا في المدرسة العادلية وسط دمشق القديمة، حتى ضاقت غرفه بدوائر المجمع ولجانه المتزايدة، وقد تم بناء مقر حديث للمجمع ذي طوابق متعددة، نُقل إليه سنة (1400هـ= 1980م)، وإن بقيت بعض دوائره تشغل المبنى القديم.

ولا يزال المجمع يقوم برسالته في خدمة اللغة العربية، وإحياء التراث العربي، ووضع المصطلحات الجديدة للمستحدثات الجديدة
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 17-09-2010, 10:10 AM   #164
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

البيمارستان العضدي.. رعاية فوق العادة

(في ذكرى وفاة منشئه: 8 من شوال 372هـ)



ظهر بنو بويه في أوائل القرن الرابع الهجري، وتمكنوا من تأسيس دولة لهم في بلاد فارس، ثم أغراهم ما كانت عليه الخلافة العباسية من ضعف وهزال إلى تطلع السيطرة عليها، ولم يجد أحمد بن بويه -أحد الإخوة الثلاثة الذين قامت على أكتافهم الدولة البويهية- صعوبة في دخول بغداد والسيطرة عليها دون قتال في (11 من جمادى الأولى 334 هـ = 19 يناير 946م)..

وبدخول أحمد بن بويه عاصمة الخلافة ابتدأ عصر نفوذ البويهيين الذي استمر أكثر من مائة عام، خضع لهم أثناءها خلفاء بني العباس، ولم يبق لهم من النفوذ والسلطان إلا بعض المظاهر الدينية كالدعاء لهم في الخطب، وكتابة أسمائهم على السكة، بينما استأثر البويهيون بالحكم وتلقبوا بألقاب الملوك والسلاطين.

ويعد عماد الدولة علي بن بويه مؤسس هذه الدولة، وكان متصفًا بالحكمة والأناة، اتخذ من شيراز قاعدة لدولته، وخص أخويه بمنطقة يحكمها كل واحد منهما باسمه، فكان الجزء الشمالي من بلاد فارس تحت حكم ركن الدولة حسن بن بويه، أما العراق فكان يحكمها أخوه الأصغر أحمد بن بويه.

وبعد موته انتقلت رئاسة البيت البويهي إلى ركن الدولة سنة (338هـ = 949م)، وانتقلت عاصمة البويهيين إلى "الري" حيث كان يقيم ركن الدولة، وتولى ابنه عضد الدولة حكم شيراز.

بروز عضد الدولة

برز عضد الدولة بعد وفاة عمه عماد الدولة، حيث خلفه في حكم أصبهان وشيراز وبلاد الكرج، وتطلعت طموحاته إلى الاستيلاء على العراق التي كانت تحت يد ابن عمه بختيار بن معز الدولة، لكنها كانت تصطدم بيقظة أبيه ركن الدولة الراغب في أن يعم السلام أسرة بني بويه، فلما توفي في سنة (36هـ = 9769) آلت رئاسة البيت البويهي إلى ابنه عضد الدولة، وانفتح الباب أمامه لانتزاع العراق من ابن عمه بختيار، فزحف إليه، واشتعلت بينهما عدة معارك انتهت لصالح عضد الدولة، وتمكن من القبض على بختيار وقتله في سنة (367هـ = 978م)، واستولى على ما تحت يديه، واستقر في بغداد، وأصبحت عاصمة الخلافة عاصمة لبني بويه، وخُطب له على منابرها إلى جانب الخليفة العباسي.

وبعد ذلك شرع في مواصلة سياسة التوسع الإقليمي، فاستولى على الموصل وديار بكر وديار ربيعة وما حولها من الحمدانيين، وضم الأقاليم الخاضعة لأخيه فخر الدولة بسبب وقوفه إلى جانب بختيار، فاستولى على همدان والري وما بينهما من البلاد، وبسط نفوذه إلى بلاد جرجان وطبرستان، فتعاظم بذلك نفوذ عضد الدولة وذاع صيته، وخلع عليه الخليفة الطائع العباسي ما لم يخلعه على غيره، وعقد له لواءين، ولقبه بالملك وبتاج الملك، وأمر أن يُخطب له على منابر بغداد، فكان أول من خطب له بعد الخلفاء.

الإنجازات الحضارية

بلغت الدولة البويهية شأنًا كبيرًا في عهد عضد الدولة، وشهدت إنجازات حضارية راقية على يديه، إلى جانب نجاحه في توحيد مناطق الدولة وجمعها تحت نفوذه، فبعد دخوله في بغداد بدأ في عمارتها وإعادة ما تهدم من مساجدها وأسواقها، وأقام الميادين، والمتنزهات، وأصلح الطريق بين مكة والعراق، وأقام سد السهيلة بالقرب من مدينة النهروان بالعراق، وأعاد حفر الأنهار التي اندثرت وهو ما أسهم في ازدهار الزراعة، وشيد مشهدًا عظيمًا على قبر الإمام علي رضي الله عنه.

ويذكر له أنه أمر بإخراج أموال الصدقات وتسليمها للقضاة والأعيان، لإعانة من يستحق من الفقراء وذوي الحاجات، وإعانة العاطلين الذين لا يجدون أعمالاً يقتاتون منها.

وشهدت الحياة العلمية في عهده ازدهارًا واسعًا، حيث قرب إليه العلماء، وأكرم وفادتهم، وأغدق عليهم العطاء وأحاطهم بكل مظاهر التكريم والتبجيل، وكان مجلسه منتدى يجتمع فيه الفقهاء والمحدثون والنحاة، والأدباء والشعراء، والأطباء والمهندسون، تدور فيه المناقشات العلمية، وتطرح القضايا على مائدة البحث، يدلي كل منهم بما عنده، وكان عضد الدولة يشترك معهم في هذه المناقشات.

ومن أبرز من اتصلوا به: أبو علي الفارسي وهو واحد من أكبر علماء العربية، ألّف له كتاب "الإيضاح" و"التكملة" في النحو، وكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي في النحو، ومنهم أيضا أبو إسحاق الصابي الذي ألف له كتاب "التاجي في أخبار بني بويه"، وعلي بن العباسي المجوسي الذي صنف "الكناش العضدي" في الطب، وأبو الحسن ابن عمر الرازي، وكان فلكيًا كبيرًا صنع لعضد الدولة كرة كبيرة تمثل السماء بما فيها من نجوم وكواكب.

وكان عضد الدولة يحب الشعر ويتذوقه، ويغمر الشعراء بكريم عطاياه، فقصدوا بلاطه، ويأتي في مقدمتهم أبو الطيب المتنبي الذي خصه بمدائح عظيمة، وأبو الحسن السلامي أبرز شعراء العراق في ذلك الوقت، وكان عضد الدولة يقول عنه: "إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد قد نزل من الفلك إليَّ ووقف بين يدي".

البيمارستان العضدي

غير أن أعظم إنجازات عضد الدولة البويهي إنشاؤه لبيمارستان كبير نسب إليه، فعرف باسم البيمارستان العضدي، أقامه سنة (371هـ = 192م) في الجانب الغربي من بغداد، وزوده بما يحتاج إليه من الأطباء والممرضين والخدم والطباخين والأدوات والأدوية، وألحق به بيمارستانًا للمجانين، وكان يعمل به ما يزيد عن ستين طبيبًا في مختلف الاختصاصات، استقدم بعضهم عضد الدولة للعمل في البيمارستان من أماكن مختلفة، ومن هؤلاء الأطباء: جبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو عيسى بقية، والكحال أبو نصر الرحبي، وأبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وكان يتولى رئاسة الأطباء في البيمارستان.

والبيمارستان كلمة فارسية الأصل تعني المستشفى أو دار المرضى، وهي مركبة من كلمتين: بيمار وتعني المريض، وستان وتعني الدار. وقد تحولت الكلمة مع مرور الزمن إلى "مارستان" التي لا تزال تطلق الآن على مستشفى الأمراض العقلية. ويعد البيمارستان العضدي واحدا من أشهر المؤسسات العلاجية التي أنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية.

وكانت تلك البيمارستانات تسير وفق نظام دقيق وترتيب غاية في الإحكام، فهي تنقسم إلى قسمين منفصلين، أحدهما للذكور والآخر للإناث، ويضم كل قسم قاعات فسيحة لمختلف التخصصات الطبية كالأمراض الباطنية، والجراحة، والكحال (الرمد)، والتجبير (العظام).

ولكل قسم من هذه الأقسام مجموعة من الأطباء الاختصاصيين في مختلف فروع الطب يتناوبون العمل فيما بينهم، ويقوم على كل طائفة منهم رئيس لإدارتها وتفقد أحوال المرضى، ويعاون الأطباء مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم.

وإلى جانب هذا النظام الداخلي لعلاج المرضى كان يوجد عيادات خارجية تقوم على خدمة المرضى وعلاجهم مما لا تحتاج حالتهم إلى استبقائهم داخل البيمارستان، فكان الطبيب يجلس على دكة، يكتب لمن يرد عليه من المرضى أوراقًا يعتمدون عليها، ويأخذون بها الأدوية والأشربة من صيدلية البيمارستان ليتابع العلاج في بيته، وهي تعد جزءًا مهمًا من مرافق البيمارستانات يقوم عليها الصيادلة، وتحتوي على أنواع مختلفة من الأدوية والأشربة والمعاجين.

رسالة من مريض إلى أبيه

ويحسن هنا أن أنقل ما كتبته المستشرقة الألمانية "سيجريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تطلع على الغرب" عن مريض كان يعالج في أحد مستشفيات قرطبة كتب رسالة إلى أبيه يصف له ما وجده من غيابه في المستشفى، يقول:

"لقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة، وعرضوني على رئيس الأطباء، ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فحمّني حمامًا ساخنًا، وألبسني ثيابًا نظيفة من المستشفى، وحينما تصل ترى إلى يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاب، وإذا ما نظرت وراءك يقع نظرك على ممر يؤدي إلى قسم النساء، ولذلك عليك أن تظل سائرًا نحو اليمين، فتمر بالقسم الداخلي والقسم الخارجي مرورا عابرا، فإذا سمعت موسيقى أو غناء ينبعثان من قاعة ما، فادخلها وانظر بداخلها، فلربما كنت أنا هناك في قاعة النُقَّه (جمع ناقه) حيث تشنف آذاننا الموسيقى الجميلة ونمضي الوقت بالمطالعة المفيدة.. واليوم صباحًا جاء كالعادة رئيس الأطباء مع رهط كبير من معاونيه. ولما فحصني أملى على طبيب القسم شيئًا لم أفهمه، وبعد ذهابه أوضح لي الطبيب أنه بإمكاني النهوض صباحًا، وبوسعي الخروج قريبًا من المستشفى صحيح الجسم معافى، وإني والله لكاره هذا الأمر، فكل شيء جميل للغاية ونظيف جدًا، الأسِرّة وثيرة وأغطيتها من الدمقس الأبيض، والملاء بغاية النعومة والبياض كالحرير، وفي كل غرفة من غرف المستشفى تجد الماء جاريًا فيها على أشهى ما يكون، وفي الليالي القارسة تدفأ كل الغرف...".

وكانت تلك البيمارستانات تُرصد لها الأوقاف؛ ليصرف من ريعها على رواتب الأطباء والعاملين، علاج المرضى، وخصص لإدارتها ناظر يقوم على أمرها وعلى الأموال والأوقاف المخصصة لها، وكان هذا المنصب من الوظائف الديوانية العظيمة في الدولة لا يُختار له إلا الأكفاء من ذوي القدرة والأمانة.

وفاة عضد الدولة

لم تطل الحياة بعضد الدولة بعد أن قام بتلك الأعمال بعد توحيده العراق وفارس تحت حكمه وازداد نفوذه، فتوفي بداء الصرع في بغداد في (8 من شوال 372هـ = 26 من مارس 983م) عن ثمانية وأربعين عامًا.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 18-09-2010, 12:15 PM   #165
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ابن سيرين.. رائد تفسير الأحلام

(ذكرى وفاته: 9 من شوال 110هـ)


عُرف محمد بن سيرين بالزهد والورع، وكان محدثًا بارعًا وفقيهًا متمكنًا، وقد اجتمع على حبه أهل زمانه، حيث وجدوا فيه من العلم والحكمة والأدب والزهد والتواضع ما جعله يتربع في أفئدتهم ونفوسهم وعقولهم ويحظى بتلك المنزلة الرفيعة.

الميلاد والنشأة

ولد أبو بكر محمد بن سيرين البصري الأنصاري في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (33 هـ = 653م)، فهو من التابعين الذين عُرفوا بالزهد والورع، وكان إمام عصره في علوم الدين، وقد اشتهر بالعلم والفقه وتعبير الرؤيا.

وكان أبوه مولى لأنس بن مالك، وهو من سبي "عين التمر"، وقد كاتبه أنس على عشرين ألف درهم، فأداها وعُتِقَ. وكانت أمه صفية مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.

شيوخه وتلاميذه

وقد سمع محمد بن سيرين من عدد من الصحابة منهم: عبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله البجلي، وأبو هريرة، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، وعدي بن حاتم، وسليمان بن عامر، وأم عطية الأنصارية.

كما سمع من عدد من التابعين منهم: عبيدة السلماني، ومسلم بن يسار، وشريح، وقيس بن عباد، وعلقمة، والربيع بن خيثم، ومعبد بن خيثم، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأخته حفصة بنت أبي بكر، وغيرهم كثيرون.

وذكر أنه أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وروى عنه عدد كبير من التابعين، منهم: الشعبي وأيوب، وقتادة وسليمان التيمي وغيرهم.

زهده وورعه

كانت حياة ابن سيرين تفيض بالروحانية وتشع بالزهد والورع، فقد كان كثير الصوم والذكر، يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان اليوم الذي يفطر فيه يتغدى ولا يتعشى، ثم يتسحر ويصبح صائمًا.

وكان دائم الذكر والدعاء لله ، وكان له سبعة أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيء قرأه في النهار، وكان يحيي الليل في رمضان.

روى هشام بن حسان قال: "ربما سمعت بكاء محمد بن سيرين في جوف الليل وهو يصلي،

وكان إذا ذُكر الموت مات كل عضو منه على حِدَتِهِ، وتغيّر لونه واصفر، وكأنه ليس بالذي كان". وقد وصفه الحافظ أبو نعيم في طبقاته بقوله: "كان ذا ورع وأمانة وحيطة وحسانة، كان بالليل بكّاء، وبالنهار بسّامًا سائحًا، يصوم يومًا ويفطر يومًا". وقال عنه بكر بن عبد الله المزني: "من سره أن ينظر إلى أورع أهل زمانه؛ فلينظر إلى محمد بن سيرين، فوالله ما أدركنا من هو أورع منه".

قدوة حتى في السجن

وكان ابن سيرين على قدر من الثراء، وكان له ثلاثون ولدًا، ولكنه امتُحن بفقد المال والولد؛ فقد توفي أبناؤه جميعًا فلم يبق منهم غير عبد الله.

كما فقد أمواله حينما أصيب بخسارة كبيرة في تجارته، وقد تعرض للسجن، فقد حُبس في دين ركبه لغريمٍ له، فقد كان اشترى زيتًا بأربعين ألف درهم، فوجد في زقٍ من هذه الصفقة فأرة، فما كان منه إلا أن صب الزيت كله، ولم يبع شيئًا منه، فقد أبت عليه أمانته وخلقه وورعه أن يطعمه الناس أو يبيعهم إياه؛ حيث ظن أن الفأرة كانت في المعصرة.

وقد ضرب ابن سيرين أروع الأمثلة في الأمانة والصدق وحسن الخلق حتى وهو في سجنه، حيث إنه لمّا حبس في دينه، وهو من هو في زهده وورعه وعلمه، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق وعرفه الناس وعلموا فضله ومكانته، فقد تعاطف معه سجانه، وأبت عليه مروءته أن يبات هذا العالم الجليل في جنبات السجن، وأن يقضي ليله خلف القضبان كالمجرمين، فقال له: "إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، وإذا أصبحت فتعال"، فما كان من ذلك العالم القدوة إلا أن أجابه بثقة وإيمان: "لا والله لا أعينك على خيانة السلطان".

وتجلت أمانته وصدقه في موقف آخر تعرض له وهو في سجنه أيضا؛ فحينما حضرت الوفاة أنس بن مالك أوصى أن يغسّله محمد بن سيرين، فلما أتوه في ذلك قال: "أنا محبوس"! قالوا: قد استأذنّا الأمير فأذن لك. فإذا به يجيبهم بتلك الهمة العالية، والوعي الشديد: "إن الأمير لم يحبسني، وإنما حبسني الذي له الحق"، فلما أذن له صاحب الحق خرج فغسّله.

في حياته الخاصة

كان ابن سيرين مثالا صادقًا للمسلم الحق وللخلق الرفيع، وكانت حياته حافلة بالصور الرائعة للأمانة والزهد والبر والتواضع، يقدم في حياته وسلوكه القدوة والنموذج للداعية الواعي والعابد المخلص والصديق الناصح والابن البار والعالم المجتهد والتاجر الأمين.

لقد كان بارًا بأمه شديد اللين والتواضع لها، يخفض لها جناح الذل والرحمة حتى لا يُسمع له صوت بحضرتها ولا يكلمها إلا عن ضعف وخضوع، حتى قال عنه بعض آل سيرين: "ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه إلا وهو يتضرع".

تغلب ابن سيرين على محنته بالصبر والإيمان والتسليم بقضاء الله ، فحينما ركبه الدين لم يقنط ولم ييئس، وإنما كان صابرًا شاكرًا، ووجد في الزهد الدواء لكل داء، ووجد في الذكر والدعاء البرء والشفاء، فخفّف من مطعمه حتى كان أكثر أدمه السمك الصغار، ووصل ليله بنهاره في الصلاة والذكر والدعاء.

ثناء العلماء والفقهاء عليه

نال ابن سيرين حب وثناء وتقدير الكثير من العلماء ممن عاصروه وممن جاءوا من بعده، وشهد له كثيرون بالفضل والزهد والورع والعلم والفقه.

فقال عنه الخطيب البغدادي في تاريخه: "كان ابن سيرين أحد الفقهاء المذكورين بالورع في وقته". وقال عنه مورق العجلي: "ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين". وقال ابن عون: "كان ابن سيرين من أرجى الناس لهذه الأمة وأشدهم أزرًا على نفسه". وقال عثمان البتي: "لم يكن بهذه البلدة أحد أعلم بالقضاء من محمد بن سيرين". وقال خلف: "كان محمد بن سيرين قد أُعطي هديًا وسمتًا وخشوعًا فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله". وقال يونس بن عبيد: "أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما". وقال سفيان بن عيينة: لم يكن في كوفي ولا بصرى ورع مثل ورع محمد بن سيرين".

رواياته من الحديث

روى محمد بن سيرين عددًا من الأحاديث، فقد سمع عن عدد من الصحابة وروى عنهم، ومما أسند ابن سيرين من أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) ما رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل ناسيًا وهو صائم فليتم فإنما أطعمه الله وسقاه" أخرجه البخاري.

وروى أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه" أخرجه البخاري. وروى عنه أيضا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من هم بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت" أخرجه مسلم.. وقد بلغ عدد مروياته في الكتب التسعة (874) حديثًا.

آثاره ومؤلفاته

عرف ابن سيرين بالحكمة والزهد، وكان بليغًا فصيحًا في مواعظه، ومن أقواله التي صارت تجري مجرى الأمثال لفصاحتها وبلاغتها، ويسرها: "إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرًا جعل له واعظًا من قلبه يأمره وينهاه".. "ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره".. "الكلام أوسع من أن يكذب فيه ظريف".. "لا تكرم أخاك بما يشق عليك".. "العزلة عبادة".

تفسير الأحلام

ويعد ابن سيرين الرائد الأول لعلم تفسير الأحلام، وهو أول من أفرد له التصانيف، وجعله علمًا له أدواته وأصوله وقواعده وشروطه.

وقد صنف ابن سيرين كتابين يعدان أساسًا لمن صنّف بعده في هذا الفن وهما: تعبير الرؤيا، وتفسير الأحلام الكبير. وقد طبعا مرارًا.

منهجه في تفسير الأحلام

أوضح ابن سيرين في مقدمة كتابه "تعبير الرؤيا" شروط تعبير الرؤيا التي يجب أن يكون عليها من يتعرض لهذا الفن، فيقول: "إن الرؤيا لما كانت جزءًا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، لزم أن يكون المعبر عالمًا بكتاب الله ، حافظًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيرًا بلسان العرب واشتقاق الألفاظ، عارفًا بهيئات الناس، ضابطًا لأصول التعبير، عفيف النفس، طاهر الأخلاق، صادق اللسان؛ ليوفقه الله لما فيه الصواب ويهديه لمعرفة معارف أولي الألباب".

ويرى ابن سيرين أن الرؤيا قد تُعبّر باختلاف أحوال الأزمنة والأوقات، فتارة تعبر من كتاب الله ، وتارة تعبر من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما قد تعبر بالمثل السائر. فأما التأويل من القرآن فكالبيض يُعبّر عنها بالنساء ، لقوله تعالى: "كأنهن بيض مكنون"، وكالحجارة يعبر عنها بالقسوة، لقوله تعالى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة".

وأما التأول من حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) فكالضلع يعبر عنه بالمرأة؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "المرأة خُلقت من ضلع أعوج"، وكالفأرة يعبر عنها بالمرأة الفاسقة لقوله (صلى الله عليه وسلم) "الفأرة فاسقة"، وكالغراب الذي يعبر عنه بالرجل الفاسق؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) سمّاه فاسقًا.

نماذج من تفسير الرؤيا عنده

جعل ابن سيرين لكل رمز من الرموز التي يراها النائم في منامه معنى يدل عليه في سياق الجو الذي يحيط به والملابسات والحوادث التي يظهر من خلالها؛ فمن رأى أنه دخل الجنة، فإنه يدخلها، وهي بشارة له بما تقدم من صالح الأعمال، فإن رأى أنه يأكل ثمارها، أو أعطاها غيره فإن ثمار الجنة كلام طيب، مثل كلام البر والخير بقدر ذلك.

أما رؤيا المطر فإنها دليل غيث ورحمة، وكذلك الغمام، فإن كان خاصًا في موضع دار أو محلة دون غيرها كان ذلك أوجاعًا أو أمراضًا، أو خسارة في الدنيا تقع بأهل ذلك الموضع المخصوص بها.

ورؤية الحية تأويلها عدو كاتم العداوة مبالغ فيها بقدر عظم الحية وهيبتها في المنظر. والنور في التأويل هداية. والظلمة ضلال. والطريق طريق الحق، والميل عنه ميل إلى الباطل. والأسد عدو متسلط ذو سلطان وبأس شديد. أما الكلب فعدو غير بالغ في عدواته، وقد ينقلب صديقًا، ولكنه دنيء النفس قليل المروءة.

وفاته

توفي ابن سيرين بالبصرة في (9 من شوال 110هـ = 15 من يناير 729م) عن عمر بلغ نحو ثمانين عامًا.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 19-09-2010, 02:07 PM   #166
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سبع خطوات سلطانية لـ"شيخ الإسلام"

(في ذكرى وفاة شيخ الإسلام أسعد أفندي: 10 من شوال 1166هـ)





السلطان محمد الفاتح أول من أطلق هذا المنصب

عرفت الدولة العثمانية منصب شيخ الإسلام في فترة مبكرة من تاريخها، ترجع إلى عهد السلطان محمد الفاتح، فبعد أن فتح مدينة القسطنطينية أطلق عليها اسم "إسلام بول" الذي تحرف مع الوقت إلى إستانبول، أي "دار السلام"، وجعلها عاصمة لدولته، ونقل إليها مؤسسات الدولة، وأحدث تغييرات في مناصب الدولة، كان من بينها أن أطلق على مفتي العاصمة أو المفتي الأكبر لقب شيخ الإسلام؛ تقديرا لمهامه التي يقوم بها، وتمييزا له عن سائر رجال الإفتاء الذين يعملون في الأقاليم والمدن الكبرى في أنحاء الدولة العثمانية.

ويعد شيخ الإسلام أكبر شخصية دينية في الدولة العثمانية، والرئيس الفعلي للهيئة الدينية التي كانت تضم القضاة بمختلف فئاتهم ودرجاتهم والمفتين وأساتذة الشريعة وهيئات التدريس في المدارس الإسلامية.

اختصاصات شيخ الإسلام

وكان الصدر الأعظم والوزراء يلتمسون رأيه في بعض القضايا الهامة والمسائل العاجلة، ويعرضون عليه مشروعات القوانين الوضعية ومدى ملاءمتها لمبادئ الشريعة الإسلامية قبل إقرارها بصفة نهائية، وكانت تحال عليه القضايا الجنائية التي صدر حكم بإعدام المتهم فيها ليرى رأيه قبل تنفيذ الحكم، ويطمئن على سلامة الإجراءات والتحقيق وصدق الأدلة الثابتة على المتهم.

وبلغ من اتساع اختصاصات شيخ الإسلام أن السلطان كان لا يقدم على الدخول في حرب من الحروب دون أن يستصدر فتوى من شيخ الإسلام أن هذه الحرب لا تتعارض مع الدين، وأن لها أسبابا قوية توجب الدخول فيها، وكان شيخ الإسلام يوفد الوعاظ إلى سائر الأنحاء للإعلان أن الحرب التي تخوضها الدولة إنما هي حرب دينية تستلزم تأييد الناس لها ووقفوهم في جانبها.

وحين حاول السلطان الأول تخيير رعاياه المسيحيين بين اعتناق الإسلام أو القتل، وقف له شيخ الإسلام، وأصدر فتوى أن الشريعة الإسلامية تسمح للمسيحيين وغيرهم من أهل الكتاب الخاضعين للدولة الإسلامية بالبقاء على دينهم، ما داموا يدفعون الجزية باعتبارها بديلا نقديا يعفيهم من التجنيد بممارسة شعائر دينهم في حرية تامة، وأن تقوم الدولة بالمحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم ما داموا ملتزمين بقوانين الدولة، وإزاء هذه الفتوى القوية أذعن السلطان لها، وتراجع عما كان ينوي الإقدام عليه.

وكان لشيخ الإسلام دون سواه الحق في إصدار الفتوى بعزل السلطان القائم بالحكم إذا بدا منه انحراف عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية تطبيقا سليما، أو ثبت إصابته بمرض لا يرجى شفاؤه، ومن السلاطين العثمانيين الذين صدرت فتاوى من شيخ الإسلام بعزلهم: إبراهيم خان الأول، وسليم الثالث، وعبد العزيز خان، ومراد الخامس.

شيخ الإسلام والصدر الأعظم

بلغ من تكريم الدولة لشيخ الإسلام أنه كان هو والصدر الأعظم الوحيدين في الدولة اللذين يتسلمان قرار تعيينهما في منصبهما من يد السلطان، وكان من التقاليد المتبعة في الاحتفالات الرسمية ألا يتقدم أحدهما على الآخر بل كانا يسيران جنبا إلى جنب، وإذا قام أحدهما بزيارة رسمية للآخر اتبع في استقباله وتوديعه مراسم التكريم والتشريف التي تتبع في استقبال الآخر وتوديعه، وكان شيخ الإسلام إذا ذهب لمقابلة السلطان خفّ لاستقباله متقدما سبع خطوات، في حين لم يكن يتقدم لاستقبال الصدر الأعظم أو الوزراء سوى ثلاث خطوات.

وظل هذا المنصب قائما محاطا بكل أنواع التكريم من قبل السلطان أو الرعية حتى ألغي مع إلغاء نظام السلطنة في سنة (1341 هـ= 1922م)، وكان آخر من تولى هذا المنصب الجليل هو العلامة "مصطفى صبري".

هذه مقدمة موجزة جدا عن منصب شيخ الإسلام قبل أن نتناول ترجمة أسعد أفندي، وهو واحد ممن تولوا هذا المنصب في الدولة العثمانية.

مولد أسعد أفندي ونشأته

ولد أسعد أفندي في مدينة إستانبول في ذي القعدة (1096 هـ= أكتوبر 1685م)، ونشأ في بيت علم وفضل؛ فأبوه أبو إسحاق إسماعيل أفندي كان يتولى مشيخة الإسلام، وجده الشيخ إبراهيم العلائي واحد من كبار علماء الدولة، وعلى يدي هذين تلقى أسعد أفندي أول دروسه في العلم، ثم انتقل إلى غيرهما من العلماء للتلمذة عليهم.

وقد أظهر التلميذ النابه نبوغا مبكرا وتفوقا في تحصيل العلوم الشرعية، من فقه وحديث وتفسير وأصول وتفسير، حتى نال رتبة "الملازمة العلمية"، وهي شهادات مرموقة أتاحت له التدريس في مدرسة "جلطة سراي".

العمل بالقضاء

وبعد فترة من عمله بالتدريس انتقل إلى سلك القضاء، وتدرج في مناصبه، فعين في تفتيش الحرمين وفي أمانة الفتوى الملحقة بمكتب شيخ الإسلام، التي تقوم ببحث المسائل الشرعية التي يطلب إلى شيخ الإسلام إصدار فتاوى بشأنها، ثم تولى قضاء مدينة سلانيك ثم المدينة المنورة سنة (1146 هـ= 1732م)، ثم انتقل إلى مكة وتولى قضاءها سنة (1147هـ= 1734م)، وكان أخوه إسحاق أفندي في تلك الفترة يتولى مشيخة الإسلام في إستانبول.

المشاركة في الغزو

وفي عهد السلطان محمود الأول عين أسعد أفندي في (ذي القعدة 1150هـ= مارس 1737م) قاضيا للجيش العثماني، وشارك من خلال منصبه بالجهاد في أوربا؛ فشهد الحرب التي خاضتها الدولة العثمانية ضد النمسا وألحقت بها هزيمة كبيرة وأجبرتها على الجلاء من بلاد البوسنة والصرب والتقهقر إلى ما وراء نهر الدانوب في سنة (1152هـ= 1739م)، واضطرت النمسا إلى طلب الصلح، وكان أسعد أفندي من ضمن الفريق المكلف بالتباحث وعقد الصلح بين البلدين، وبمقتضاه تنازلت النمسا عن مدينة بلجراد للدولة العثمانية، فدخلها الفاتحون العثمانيون في (جمادى الآخرة 1152هـ= سبتمبر 1739م).

قاضي عسكر الرومللي

ثم تولى سعد أفندي منصب قاضي عسكر الرومللي فيما بين سنتي (1157– 1159هـ= 1744-1746م)، وكان شاغل هذا المنصب يتولى تعيين جميع القضاة الذين يعملون في أوربا، والعاملين في المساجد التي أقيمت في الولايات العثمانية الأوروبية، كما كان يصحب الجيش العثماني حين يتوغل في أوربا ويخوض المعارك.

وكان قاضي عسكر الرومللي وزميله قاضي عسكر الأناضول الذي يليه في المنزلة، ويمارس اختصاصاته فيما يختص بالأقاليم العثمانية في آسيا، يليان شيخ الإسلام في الرتبة، ويشتركان مع الصدر الأعظم الذي يتولى رئاسة الديوان في نظر القضايا التي تعرض عليه.

شيخ الإسلام

ثم اختير أسعد أفندي ليتولى منصب شيخ الإسلام في (24 من رجب 1161هـ=20 من يوليو 1748م) بعد أن سبقه لتولي هذا المنصب أبوه وأخوه، وكان ذلك في عهد السلطان محمود الأول السلطان الرابع والعشرين في سلسلة سلاطين الدولة العثمانية، ولكن الشيخ لم يبق في منصبه مدة طويلة، حيث عُزل عن منصبه بعد أكثر من عام في (شعبان 1162هـ= أغسطس 1749م)؛ بسبب شدته في الحق، وأبعد عن العاصمة إلى مدينة سينوب ثم غاليبوني، ثم عاد إلى إستانبول في (ربيع الآخر 1165هـ= مارس 1752)، وقضى بها ما تبقى من عمره محاطا بكل تقدير من الناس الذين رأوا فيه صدقا في الخلق وسعة في العلم وشجاعة في الحق والتزاما بالواجب.

وفاته

كان الشيخ إلى جانب علمه الواسع في الشريعة وقدرته على الإفتاء متبحرا في التركية، وله فيها مؤلفات قيمة أشهرها معجمه المعروف "لهجة اللغات"، وقد طبع في إستانبول سنة (1216هـ= 1810م)، وكان له إلمام عميق بالموسيقى والألحان، وترك في تناول ذلك أكثر من كتاب، منها "أطرب الآثار في تذكرة عرفاء الأدوار"، وهو يشمل ترجمة لمائة من علماء الموسيقى، وطبع في إستانبول سنة (1311هـ= 1893م).

وبعد عودته إلى إستنابول لم تطل به الحياة فلقي الله وهو في السبعين من عمره في (10 من شوال 1166هـ= 10 من أغسطس 1753م)، ودفن في فناء المسجد الذي بناه والده.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 22-09-2010, 11:07 AM   #167
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الخوارزميون ومواجهة الإعصار المغولي

(في ذكرى وفاة علاء الدين خوارزم: 13 من شوال 617هـ)






نشأت الدولة الخوارزمية بين أحضان دولة السلاجقة التي حكمت مناطق واسعة في الشرق الإسلامي، فقد ظهر في عهد السلطان السلجوقي "ملكشاه" مملوك نابه في بلاطه، يسمى "أنوشتكين" نجح في أن يحظى بتقدير السلطان ونيل ثقته، فجعله واليًا على إقليم خوارزم، وظل على ولايته حتى وفاته سنة (490هـ=1097م)، فخلفه ابنه محمد وكان على مقدرة وكفاية مثل أبيه، فظل يحكم باسم الدولة السلجوقية ثلاثين عامًا، نجح في أثنائها في تثبيت سلطانه، ومد نفوذه، وتأسيس دولته وعُرف باسم خوارزم شاه، أي أمير خوارزم، والتصق به اللقب وعُرف به.

وبعد وفاته سنة (522هـ=1128م) خلفه ابنه "أتسز" بموافقة السلطان السلجوقي سنجر، وكان أتسز واليًا طموحًا مد بصره فرأى دولة السلاجقة توشك على الانهيار، فتطلع إلى بسط نفوذه على حسابها، واقتطاع أراضيها وإخضاعها لحكمه، ودخل في حروب مع السلطان سنجر الذي وقف بالمرصاد لطموحات أتسز، ولم يمكنه من تحقيق أطماعه، وأجبره على الاعتراف بتبعيته له، وظل يحكم خوارزم تحت سيادة السلاجقة حتى وفاته في سنة (551هـ=1156م).

وفي الوقت الذي بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة السلجوقية كانت الدولة الخوارزمية تزداد قوة وشبابًا، حتى تمكنت من إزاحة دولة السلاجقة والاستيلاء على ما كان تحت يديها من بلاد، وكان السلطان "تكش" بطل هذه المرحلة، وتعد فترة حكمه التي امتدت أكثر من ربع قرن (568-596هـ=1173-1200م) العصر الذهبي للدولة الخوارزمية.

علاء الدين

ولما توفي "تكش" سنة (596هـ=1199م) خلفه ابنه "علاء الدين محمد"، وكان كأبيه طموحًا يتطلع إلى توسيع دولته وبسط نفوذها، فدخل في حروب مع جيرانه، فاستولى على معظم إقليم خراسان، وقضى على دولة الخطا سنة (606هـ=1209م)، واستولى على بلاد ما وراء النهر، وأخضع لسلطانه مكران وكرمان والأقاليم الواقعة غربي نهر السند، وسيطر على ممتلكات دولة الغور في أفغانستان، وبلغت بذلك الدولة أقصى اتساعها في عهده، حيث امتدت من حدود العراق العربي غربًا إلى حدود الهند شرقًا، ومن شمال بحر قزوين وبحر آرال شمالاً إلى الخليج العربي والمحيط الهندي جنوبًا.

ظهور جنكيزخان

وتزامن مع اتساع الدولة الخوارزمية وازدياد نفوذها ظهور المغول وبروز دولتهم على يد "تيموجين" المعروف بجنكيزخان الذي نجح في السيطرة على قبائل المغول، وإحكام قبضته عليهم، وما كاد يهل عام (602هـ=1206م) حتى كان قد أخضع لسلطانه كل بدو صحراء جوبي، واتخذ من مدينة "قراقورم" مقرًا له، ووضع للقبائل الخاضعة لها نظامًا يحكمها وقوانين يحتكمون إليها، سميت بالياسا، وهو دستور اجتماعي وعسكري صارم، أساسه الطاعة العمياء للسلطان.

وبعد أن رسخت أقدام جنكيزخان ووثق من قوته تطلع إلى توسيع رقعة دولته، ومد بصره إلى بلاد الصين، حيث الخصب والنماء، فشن حملات عليها، واستولى على مساحات شاسعة من بلاد الصين وتوج جهوده بالسيطرة على العاصمة بكين سنة (612هـ=1215م).

الاحتكاك بين الدولتين

تجاورت الدولتان القويتان، ولم يكن هناك مفر من الصدام بينهما، وكان كل منهما ينتظر الفرصة للانقضاض على الآخر، وحدث ما لم يكن منه بد، فالتقى السلطان محمد خوارزم وهو في طريقه إلى إحدى الغزوات بفرقة من الجيش المغولي كان يقودها "جوجي بن جنكيزخان"، وعلى الرغم من ضخامة جيش الخوارزميين، فإنه لم يفلح في تحقيق نصر حاسم على تلك الفرقة لمهارتها في القتال وأساليبها المبتكرة في الحرب التي اندهش لها الجيش الخورازمي.

وكان لهذا اللقاء أثر في نفس السلطان الخوارزمي، فاستشعر الخوف من هؤلاء الجيران الجدد، ولم يأمن غدرهم، فبدأ يتابع أخبارهم، ولما وصلت إليه أنباء استيلاء جنكيزخان على بكين لم يصدق هذه الأخبار، وأرسل وفدًا إلى بكين للوقوف على جلية الأمر، ومقابلة جنكيزخان، فلما وصل إلى هناك استقبلهم وأحسن وفادتهم وبعث معهم برسالة ودية إلى السلطان الخوارزمي.

وبدلاً من أن ينصرف السلطان إلى تقوية دولته والقضاء على المغول الذين يهددون دولته أو مسالمتهم، انصرف إلى النزاع مع الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وطمع في أن يكون له الهيمنة على بغداد والخلافة العباسية كما كانت لسلاطين السلاجقة، فحرك جيوشه الجرارة تجاه بغداد، لكن الأمطار الغزيرة والعواصف الشديدة تكفلت بالأمر وتصدت له، فمات عدد كبير من جند الخوارزميين وهلكت خيولهم، واضطر السلطان إلى العودة إلى بلاده سنة (614هـ=1217م)، يجر أذيال الخيبة والفشل وكانت هذه أول صدمة قاتلة قابلته منذ أن ولي الحكم في سنة (596هـ-1199م).

حادثة قتل التجار

رجع السلطان بعد فشل أمله في السيطرة على بغداد إلى بلاد ما وراء النهر، واستقبل هناك وفدًا من تجار المغول المسلمين يحملون رسالة من جنكيزخان إلى السلطان يعرض عليه إبرام معاهدة تجارية بين البلدين فوافق السلطان على مضض، بعد أن شعر أن الرسالة تحمل في طياتها التهديد والوعيد، وكان في السلطان أنفة وكبرياء، فأسّرها في نفسه وإن لم يبدها في الحال.

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد قدم جماعة من التجار من رعايا جنكيزخان إلى مدينة "أترار" التابعة للدولة الخوارزمية، فارتاب فيهم "ينال خان" حاكم المدينة دون تثبت، وبعث إلى السلطان الخوارزمي يخبره بالأمر، وبشكوكه فيهم، فبعث إليه يأمره بالقبض عليهم وقتلهم؛ باعتبارهم جواسيس من قبل جنكيزخان.

وكان من الطبيعي أن تسوء العلاقة بين الدولتين بعد الحادث الطائش الذي أقدم عليه السلطان، دون أن يدري أن كل قطرة من دماء هؤلاء التجار كلفت المسلمين سيلاً من الدماء لم ينقطع لفترة طويلة، وأرسل جنكيزخان إلى السلطان يطلب منه تسليم حاكم "أترار" ليحاكمه ما دام قد تصرف من تلقاء نفسه دون أن يرجع إليه، لكن السلطان رفض احتجاج جنكيزخان، ولم يلجأ إلى اللين والتلطف، وتملكته العزة بالإثم فأقدم على قتل الوفد الذي يحمل الرسالة دون بصر بعواقب الأمور، قاطعًا كل خيط لإحلال السلام محل الحرب.

الاستعداد للحرب

كان قتل الرسل يعني إعلان الحرب بين الدولتين وقطع كل أمل لحسن الجوار وحدوث السلام، فأخذ كل فريق يستعد للآخر، وشرع السلطان الخوارزمي يستطلع أخبار المغول، ويجهز الجيوش، ويبني الأسوار حول المدن، ويفكر في رسم الخطط الحربية، حتى صار لا يتكلم إلا في موضوع الحرب الذي شغل قلبه، وفي الوقت نفسه كان جنكيزخان يستعد للصدام المرتقب بينهما، فجهز جيوشه، وأعد أسلحته، وحشد كل ما يمكن حشده.

وبعد أن أكمل جنكيزخان استعداداته انطلق بجيشه نحو بلاد ما وراء النهر في خريف سنة (616هـ= 1219م) وهو يعتقد أنه سيقابل خصمًا قويًا، يحسب له ألف حساب، وبدلاً من أن يخرج الجيش الخوارزمي لملاقاة المغول استقر رأي قادته على ترك المغول يعبرون نهر سيحون، واصطيادهم بعد ذلك في بلاد ما وراء النهر التي لا يعرفون مسالكها، بحيث تنقطع الإمدادات عنهم.

الإعصار المغولي

بلغ جنكيزخان وجيشه نهر سيحون على مقربة من مدينة أترار في رجب (616هـ=1219م) ولم يشأ أن يهاجم الخوارزميين من جهة واحدة، بل من جهات متعددة تربك استعداداتهم، وتشتت وحدتهم، فقسم جيشه الذي يبلغ ما بين مائة وخمسين ألفًا إلى مائتي ألف جندي إلى أربعة جيوش:

- الأول بقيادة ابنيه جغتاي وأوكتاي ومهمته فتح مدينة أترار.

- والثاني بقيادة ابنه جوجي وهو الابن الأكبر لجنكيز خان، ووجهته البلاد الواقعة على ساحل نهر جيجون.

- أما الثالث فمهمته الاستيلاء على مدينتي بنكات وخسجند على نهر سيحون.

- والجيش الرابع كان تحت قيادة جنكيزخان، ويتألف من معظم الجيش المغولي ويضم القوى الضاربة، وكانت وجهته مدينة بخارى الواقعة في قلب إقليم ما وراء النهر، وكانت مهمة هذا الجيش هي التصدي لقوات الخوارزميين، والحيلولة دون وصولهم إلى المدن المحاصرة على نهر سيحون من ناحية الشرق.

وقد نجحت الجيوش الثلاثة فيما وكل إليها من مهام، فسقطت مدينة أترار، بعد أن صمدت للحصار شهرًا كاملاً، وأبلى حاكمها بلاءً حسنًا في الدفاع حتى فقد معظم رجاله، ونفدت المؤن والأقوات، ولم تكن المدن الأخرى بأسعد حالا من أترار فسقطت هي الأخرى أمام الجيشين الثاني والثالث.

سقوط بخارى وسمرقند

أما الجيش الرابع الذي ضم معظم قوات المغول، فقد تحرك إلى بخارى تلك الحاضرة العظيمة، وهاجم المدينة بضراوة شديدة، ودارت معارك عنيفة بين الجيش الموكل بالدفاع عن المدينة وقوات المغول لمدة ثلاثة أيام، انهارت بعدها قوى الخوارزميين ولم يكونوا قليلي العدد، بل كانوا عشرين ألف مقاتل، وشعروا باليأس، فقرروا الانسحاب ليلاً، وتمكنوا من اختراق الجيش المغولي الذي يحاصر المدينة، وأجبروه على الارتداد، ولو أنهم صبروا وتابعوا عدوهم المتقهقر لكان خيرًا لهم، ولكنهم آثروا السلامة تاركين المدينة المنكوبة لقدرها المحتوم أمام المغول الهمج، فاجتاح المغول المدينة الآمنة كالجراد المنتشر في (ذي الحجة 616هـ= فبراير 1219م)، وقاتلوا من اعتصم بقلعتها، وطردوا أهلها بعد أن سلبوا ما في المدينة من أموال، ثم أعملوا السيف فيمن بقي بداخل المدينة، وأنهوا عملهم الوحشي بإحراق المدينة فأصبحت قاعًا صفصفًا بعد أن كانت درة متلألئة بين حواضر العالم الإسلامي.

وبعد أن أجهز جنكيزخان على بخارى اتجه إلى سمرقند حاضرة إقليم ما وراء النهر، وضرب حولها حصارًا شديدًا، ودار قتال عنيف هلك فيه أكثر الجند الخوارزمي؛ ما أضعف مقاومة أهل سمرقند فطلبوا الأمان نظير تسليم المدينة، فأجابهم المغول، وما إن دخلوا المدينة التعسة حتى أعملوا فيها السيف بعد أن جردوهم من أسلحتهم، وأحرقوا المدينة ومسجدها على من فيه من الناس.

نهاية السلطان محمد خوارزم شاه

كانت الهزائم التي لقيها السلطان الخوارزمي قاسية، ولم تكن من قلة في العدد والعتاد، ولكن كانت من سوء قيادة، وفرقة في الصف، وحب للدنيا، وتقاعس عن الجهاد، وخور في العزيمة، ووهن في النفس، فانهار البناء الضخم، وسقطت الدولة المترامية في سنوات قليلة، ولم يعد أمام السلطان سوى التوجه إلى مكان آمن يعيد فيه تنظيم جيشه ويعاود الجهاد حتى يسترد ما فقده، لكنها كانت أحلام بددها إصرار جنكيزخان على تتبع السلطان الفار من بلد إلى آخر، وجند المغول تطارده، حتى انتهى به المطاف إلى همدان في نحو عشرين ألفا من جنوده.

وفي هذه الأثناء تمكن المغول من السيطرة على إقليم خوارزم، أهم ولايات الدولة، وأسروا تركان خان والدة السلطان ومن معها من أبنائه وبناته، فلما قُدّموا إلى جنكيزخان أمر بقتل أبناء السلطان محمد خوارزم وكانوا صغار السن، وزوّج أبناءه وبعض رجاله من بنات السلطان.

وما كادت تصل هذه الأنباء المفجعة إلى السلطان حتى ازداد غمًا على غم، وأصابه الحزن والهم، وكان قد انتهى به الفرار إلى جزيرة في بحر قزوين، يحوطه اليأس والقنوط، فأسلم نفسه للأحزان، ولم يقو على دفعها، وسيطر عليه القلق، وحلت به الأمراض، ولم تكفّ عيناه عن البكاء على المجد الضائع والرئاسة والسلطان، وظل على هذا الحال حتى أسلم الروح في (13 من شوال 617هـ=9 من ديسمبر 1220م)، وقبل وفاته أوصى لابنه جلال الدين منكبرتي بالسلطة، فحمل راية الجهاد، وواصل رحلة الكفاح.. ولهذا حديث آخر.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 23-09-2010, 07:03 PM   #168
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

شاه ولي الله الدهلوي.. باعث السُّنة في الهند

(في ذكرى مولده: 14 من شوال 1114هـ)





حكم المسلمون الهند منذ أن فتحها محمد الغزنوي سنة (392 هـ= 1001م)، وتتابعت الدول في حكمها فترة بعد فترة، حتى ألقت بمقاليدها إلى الأسرة التيمورية؛ فنهضت بأعباء الحكم، وأقامت حضارة شاهدة على ما بلغته من تقدم وازدهار، ثم وفد الإنجليز إلى الهند تجارا، فأكرم الحكام المسلمون وفادتهم، وساعدوهم في تجاراتهم، وشيئًا فشيئًا اتسع نفوذهم، وعهد إليهم الحكام المسلمون بالقيام على بعض الأعمال، ولم يكن وجودهم خطرا يهدد الدولة في فترة قوتها، حتى إذا ضعفت أسفر الإنجليز عن وجههم القبيح، وسيطروا على الهند، وعلى حكامها المسلمين الذين بلغت دولة الهند في عهدهم مبلغا كبيرا من الضعف والجهل وانتشار الفساد واللهو.

وفي ظل هذه الأجواء المتردية، وانشغال الحكام بأنفسهم، وانصرافهم إلى ملذاتهم، تداعت صيحات مخلصة تنبه القلوب الغافلة، وتوقظ العيون النائمة، وتبث العزم في النفوس الخائرة؛ كي تهب وتستفيق وتقوم بما يجب عليها، وتعيد أمجاد الماضي وتسترد نسماته العطرة، وكان شاه ولي العهد الدهلوي أعلى تلك الأصوات، وأكثرها حركة ونشاطا.

المولد والنشأة

ولد أحمد بن عبد الحليم في دهلي بالهند في (14 من شوال 1114 هـ= 2 من مارس 1703م) في أواخر عهد السلطان أورنجزيب (أحد سلاطين الدولة التيمورية العظام)، ونشأ في بيت علم وصلاح؛ فأبوه كان عالما كبيرا، اشترك في مراجعة الفتاوى الهندية على المذهب الحنفي التي أشرف السلطان أورنجزيب على إخراجها.

تعلم الصبي الصغير في كنف أبيه، فحفظ القرآن الكريم في السابعة من عمره، وانصرف إلى دراسة اللغتين الفارسية والعربية، وتلقى علوم القرآن والحديث والفقه على المذهب الحنفي على أكابر علماء الهند، كما درس الطب والحكمة، والمنطق الفلسفة، ومال إلى الزهد والتصوف في هذه الفترة المبكرة، وأمدته هذه الروح الشفافة بطاقة هائلة، وإقبال على العبادة والطاعات، ونزع الله من قلبه حب الدنيا وزينتها؛ فالتفت القلوب حوله وأطلق عليه الناس "شاه ولي الله"؛ أي ولي الله الكبير.

جلوسه للتدريس

وبعد وفاة والده في سنة (1131 هـ= 1719م) جلس للتدريس، وهو في هذه السن المبكرة يشفع له نبوغه وتمكنه من العلوم الشرعية، فأقبل عليه طلاب العلم يتلقون على يديه الفقه والحديث، وبعد أن أمضى اثني عشر عاما رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وبعد أن قضى مناسكها، لازم الحرم المكي وجاور هناك، والتقى بشيوخ مكة وفقهائها ومحدثيها؛ فروى عنهم وتتلمذ على أيديهم، وأجازوه براوية الحديث، ثم عاد إلى بلده في أوائل سنة (1145 هـ= 1722م) ليستأنف حياة الدرس والتعليم.

اتخذ الدهلوي من بيته مكانا لاستقبال طلابه والتدريس فيه، فلما ضاق عليه لكثرة الطلاب الذين يفدون عليه، بنى له السلطان محمد شاه مدرسة كبيرة، وافتتحها بنفسه، واشتهرت باسم "دار العلوم"، تخرج فيها أعداد كبيرة من العلماء ممن حملوا علم الشيخ، ونشروه بين الناس.

جهوده الإصلاحية

تفتحت عينا الشيخ والهند تزداد حالتها سوءا، والحكام يزدادون ضعفا، والبدع والخرافات تفتك بعقول الناس، والإنجليز يمسكون بأزمّة الأمور بعد أن رسخت أقدامهم، فتحركت نفسه إلى الصدع بالحق، ونصح الحكام، والأخذ بأيدي الناس إلى طريق الإصلاح، ولم ينصرف إلى التأليف والتدريس ويترك الناس حيارى لا دليل لهم.

دعا الشيخ إلى التصوف السني القائم على الاعتقاد والعمل بما جاء في الكتاب والسنة، وجرى عليها جمهور الصحابة والتابعين، وقام بتنقية التصوف من الشوائب، التي لحقت به من الفلسفات غير الإسلامية، وإبراز الجانب الإسلامي فيه.

ونادى ولي الله الدهلوي بفتح باب الاجتهاد وعدم التقيد بآراء الفقهاء الأربعة، وذكر أن أبا حنيفة نفسه قال: "لا ينبغي لمن لا يعرف دليله أن يفتي بكلامه"، وقال الإمام مالك بأنه "ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود إلا رسول الله"، وكذلك ذهب الشافعي وابن حنبل.

وقد أثرت جهود الشيخ الإصلاحية في تلامذته، وعلى رأسهم ابنه الشاه عبد العزيز، الذي كان كوالده نابغًا في الحديث والفقه، فحمل راية أبيه بعد وفاته، ووقف للإنجليز حين أخذوا يستبدون بالأمر، ويقلصون سلطات الحاكم المسلم، وأطلق الكلمة المأثورة: "إنه لا يُتصوَّر وجود ملك مسلم بدون نفوذ، إلا إذا تصورنا الشمس بدون ضوء!"، وهو صاحب الفتوى الشهيرة بأن الهند أصبحت دار حرب لا دار إسلام، وعلى المسلمين أن يهبوا جميعا للجهاد بعد أن أصبح إمام المسلمين لا حول له ولا قوة، ولا تنفذ أحكامه، والحل والعقد صار بيد الإنجليز المسيحيين.. يعينون الموظفين، ويدفعون الرواتب، ويشرفون على القضاء وتنفيذ الأحكام.

وكان لصيحات مدرسة "شاه ولى الله الدهلوي" أثر؛ حيث قاد العلماء الجهاد، وخاضوا غمار الحروب والمعارك لإنقاذ المسلمين من الإنجليز، ومن السيخ الذين لقوا دعمًا من المحتلين، ومن أبرز هؤلاء العلماء أحمد عرفان الشهيد الذي تتلمذ على الشاه عبد العزيز الدهلوي وأخيه عبد القادر ابني ولي الله الدهلوي، وسبق أن تناولنا حياته في (6 من صفر).

مؤلفات الشيخ

بارك الله في حياة الشيخ؛ فترك ذرية طيبة، حملوا العلم، وقادوا الجهاد، وتتلمذ عليه مئات من التلاميذ في الحديث؛ فأحيوا السنة بعد أن كادت تموت في الهند، وكان من أشهر تلاميذه الزبيدي صاحب "تاج العروس"، المتوفى سنة (1205 هـ = 1790م).

ورزقه الله سعة في الوقت؛ فترك مؤلفات عظيمة بلغت أكثر من 50 كتابًا، من أشهرها:

"حجة الله البالغة في أسرار الحديث وحكم التشريع"، وقد طُبع في الهند سنة (1286هـ= 1869م)، ثم طُبع في مصر بعد ذلك في سنة (1294هـ= 1877م)؛ وهو ما يدل على اتصال الحركة العلمية في مصر بغيرها من البلاد الإسلامية.

"الإنصاف في بيان سبب الاختلاف"، وهو يتناول مباحث في أصول الفقه ونشأة المذاهب الفقهية وتعددها في الفقه الإسلامي.

و"عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد"، عرض فيه لكثير من الأحكام المتعلقة بالاجتهاد.

"الفوز الكبير في أصول التفسير"، تكلم فيه عن الأشياء التي لا بد لمن يقوم بالتفسير أن يلم بها؛ حتى يكون على بينة من أمره حين يعرض لآيات القرآن الكريم.

و"المسوَّى من أحاديث الموطأ"، شرح فيه أحاديث الكتاب، وبيّن فيه ما تعقبه العلماء على الإمام مالك بإشارة لطيفة.

و"شرح تراجم أبواب البخاري".

وترجم القرآن إلى الفارسية بعنوان "فتح الرحمن في ترجمة القرآن".

وفاة الشيخ

وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال تُوفِّي الشيخ في (26 من المحرم 1176هـ= 17 من أغسطس 1762م)، تاركًا أربعة من أولاده العلماء هم: "شاه عبد العزيز" الذي قام مكانه في العلم والعمل، و"شاه رفيع الدين"، و"شاه عبد القادر"، و"شاه عبد الغني"، ومخلفًا ذكرى عطرة لا يزال شذاها يفوح حتى الآن، وقد أثنى عليه وعلى جهوده العلماء؛ فقال عنه "عبد الحي الكناني" صاحب "فهرس الفهارس": "أحيا الله به وبأولاد بنته وتلاميذهم الحديث والسنة بالهند بعد مواتهما، وعلى كتبه وأسانيده المدار في تلك الديار".
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 24-09-2010, 11:53 AM   #169
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

محمد البشير الإبراهيمي.. المسيرة والجهود

(في ذكرى مولده: 15 من شوال 1306 هـ)



منذ عشرات القرون والعالم العربي والإسلامي محط أطماع كثير من الدول الاستعمارية المتربصة به، والتي استهدفت دائما تفكيك أوصاله واستنزاف ثرواته، ونجحت أغلب تلك المحاولات الاستعمارية العديدة المنظمة في أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها وهيمنتها على بعض أقطار الوطن العربي والإسلامي في فترات متفاوتة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية عبر مسيرة تاريخها الطويل، ولكن إرادة التحرر وعزيمة أبناء تلك الأمة كانت دائما تنتصر على أطماع الغزاة والمستعمرين مهما طال الزمان، وكان الله يقيض لهذه الأمة روادا من بين أبنائها يبعثون فيها روح الجهاد، ويشعلون فيها إرادة المقاومة حتى تنتصر على أعدائها وتستعيد حريتها وكرامتها، وتملك زمام أمرها من جديد.

وكان "محمد البشير الإبراهيمي" واحدا من هؤلاء الرواد والزعماء الذين أشعلوا تلك الجذوة في نفوس أبناء أمتهم، وساهموا في رفع راية الجهاد ضد الاستعمار في أوطانهم، وفي إيقاظ الوعي بين أبناء أمتهم حتى تحقق لها النصر وتحررت من أغلال الاستعمار البغيض.

لقد كان "البشير الإبراهيمي" حلقة من حلقات الجهاد الطويل في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وأحد الذين شكلوا وعي ووجدان الأمة العربية والإسلامية على امتداد أقطارها؛ حيث كان أحد رواد الحركة الإصلاحية في "الجزائر"، وأحد مؤسسي "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وكان زميلا للشيخ "عبد الحميد بن باديس" في قيادة الحركة الإصلاحية، ونائبه في رئاسة جمعية العلماء، ورفيق نضاله لتحرير عقل المسلم من الخرافات والبدع.

البداية والتعلم

ولد "محمد البشير الإبراهيمي" في (15 من شوال 1306 هـ= 16 من يوليو 1889م) في قرية "سيدي عبد الله" قرب "سطيف" غرب مدينة "قسنطينة"، في بيت من أعرق بيوت الجزائر، يرجع نسبه إلى الأدارسة العلويين من أمراء المغرب العربي في أزهى عصوره، وتلقى تعليمه الأوَّلي على والده وعمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي" الذي كان من أبرز علماء "الجزائر" في عصره؛ فحفظ القرآن ودرس بعض المتون في الفقه واللغة، كما حفظ العديد من متون اللغة ودواوين فحول الشعراء، فلما مات عمه صار يُدَرِّس ما تلقاه عنه، ولم يكن قد جاوز الرابعة عشرة من عمره.

لكنه ما لبث أن غادر "الجزائر" إلى "الحجاز" وهو في العشرين من عمره -سنة (1330 هـ = 1911م)- ليلحق بأبيه الذي كان قد سبقه إلى هناك قبل ذلك بنحو أربعة أعوام.

وواصل "البشير" تعليمه في "المدينة"، واتصل بعالمين كبيرين كان لهما أثر كبير في توجيهه وتكوين فكره، وهما الشيخ "عبد العزيز الوزير التونسي" وقد درس عليه الفقه المالكي وأخذ عنه "موطأ مالك"، والشيخ "حسين أحمد الفيض آبادي الهندي" الذي أخذ عنه "صحيح مسلم". وكان "البشير" شغوفا بالعلم، يقضي معظم وقته بين المكتبات الشهيرة بـ"المدينة"، ينهل من كنوزها، ليروي ظمأه المعرفي ويشبع نهمه العلمي.

علاقة بابن باديس

وفي أثناء إقامته في المدينة تعرف على الشيخ "عبد الحميد بن باديس" عندما قدم لأداء فريضة الحج عام (1331 هـ = 1913م)، كما التقى بعالم جزائري آخر هو "الطيب العقبي" وكان قد سبقه إليها قبل سنوات، وجمعت بين ثلاثتهم ألفة ومودة شديدة زادتها اتصالا ميولهم واهتماماتهم المشتركة، وأضفت عليها الغربة مزيدا من القوة والعمق.

وعاد "ابن باديس" إلى "الجزائر" ليبدأ بها برنامجه الإصلاحي، بينما ظلَّ "البشير" في المدينة حتى غادرها إلى دمشق سنة (1335هـ = 1916م) حيث اشتغل بالتدريس، وشارك في تأسيس "المجمع العلمي" الذي كان من غاياته تعريب الإدارات الحكومية، وهناك التقى بالعديد من علماء دمشق وأدبائها.

تأسيس جمعية العلماء

وفي عام (1338هـ = 1920م) غادر "البشير الإبراهيمي" دمشق عائدا إلى "الجزائر"، وبدأ بدعوته إلى الإصلاح ونشر العلم في مدينة "سطيف"، وبدأ في إلقاء الدروس الدينية والمحاضرات العلمية لطلاب العلم من أبناء بلده، وعندما رأى إقبال طلاب العلم على دروسه وخطبه شجعه ذلك على إنشاء مدرسة لتدريب الشباب على الخطابة وفنون اللغة والأدب، ولم تنقطع صلته بصديقه "ابن باديس" طوال تلك الفترة، فكانا يتبادلان الزيارات من حين لآخر.

وفي عام (1342 هـ = 1924 م) زاره "ابن باديس" وعرض عليه فكرة إقامة "جمعية العلماء"، فلاقت الفكرة قبولا في نفس "البشير"، فأخذا يدرسانها ويضعان لها الأطر والأهداف التي تقوم عليها تلك الجمعية، وقد استغرق ذلك زمنا طويلا حتى خرجت إلى حيز الوجود، وعقد المؤتمر التأسيسي لها في (17 من ذي الحجة 1349 هـ = 5 من مايو 1931 م)، وذلك في أعقاب احتفال "فرنسا" بالعيد المئوي لاحتلال "الجزائر"، وبعد تأسيس الجمعية اختِير "ابن باديس" رئيسا لها واختير "الإبراهيمي" نائبا لرئيسها، وانتدب من قِبل الجمعية لأصعب مهمة، وهي نشر الإصلاح في غرب "الجزائر" وفي مدينة "وهران" وهي المعقل الحصين للصوفية الطرقيين، فبادر إلى ذلك وبدأ ببناء المدارس الحرة، وكان يحاضر في كل مكان يصل إليه، وبنى أكثر من مائتي مسجد، وامتد نشاطه إلى "تلمسان"، وهي واحة الثقافة العربية في غرب "الجزائر".

وقد أثار نشاط "البشير" حفيظة الفرنسيين كما أثار قلقهم ومخاوفهم من نتيجة هذا الغرس الذي يؤدي إلى صحوة إسلامية عارمة، وإيقاظ وعي أبناء الأمة، فأسرعوا باعتقاله ونفيه إلى صحراء "وهران" سنة (1359 هـ = 1940 م)، وبعد أسبوع من اعتقاله توفي "ابن باديس" فاختاره العلماء رئيسا لجمعيتهم خلفا له، ولم يُفرج عنه إلا بعد انتهاء "الحرب العالمية الثانية" سنة (1362 هـ = 1943 م)، لكنه ما لبث أن اعتقل مرة ثانية عام (1364 هـ = 1945 م)، وأفرج عنه بعد عام واحد.

وفى عام (1366 هـ = 1947 م) عادت مجلة "البصائر" للصدور، وكانت مقالات "الإبراهيمي" فيها غاية في القوة والبلاغة، وتتسم بقدر كبير من الجرأة والصراحة والنقد القاسي لفرنسا وعملاء "فرنسا".

قضايا واهتمامات

وقد وقف "البشير" -في "البصائر"- مدافعا عن اللغة العربية ضد حملات التغريب من المستعمر الفرنسي وأعوانه، يقول عن اللغة العربية: "اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواصر مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل".. كما اهتم أيضا بالدفاع عن قضية "فلسطين"، وسخر قلمه للتعريف بها والدفاع عنها.

وقد كان "البشير الإبراهيمي" واسع المعرفة، متنوع الثقافة، متعدد الميول والاهتمامات، ألف في الأدب واللغة، كما صنف في الفقه والمعاملات، ونظم الشعر وكتب العديد من المقالات، وترك "البشير" تراثا علميّا وأدبيّا كبيرا ما يزال بعضه حبيسا حتى الآن، ومن أهم تلك الأعمال:

- أسرار الضمائر العربية.

- الاطراد والشذوذ في العربية.

- التسمية بالمصدر.

- حكمة مشروعية الزكاة.

- رواية "كاهنة أوراس".

- شعب الإيمان (في الفضائل والأخلاق الإسلامية).

- الصفات التي جاءت على وزن "فُعَل".

- عيون "البصائر"، (وهي مجموعة مقالاته التي نشرت في جريدة "البصائر").

- فتاوى متناثرة.

- الملحة الرجزية في التاريخ.

وقد عاش "البشير الإبراهيمي" حتى استقلت الجزائر، فلما أُعْلِن الاستقلال عاد إلى وطنه، وخطب لأول صلاة جمعة في مسجد "كتشاوة" بالعاصمة الجزائرية، وكان الفرنسيون قد حولوه إلى كنيسة بعد احتلالهم "الجزائر".

وقد لزم "البشير" بيته بعد عودته، ولم يشارك في الحياة العامة بعد أن تقدم به العمر ووهنت صحته، إلا أنه لم يكن راضيا عن الاتجاه الذي بدأت تتجه إليه الدولة بعد الاستقلال؛ فأصدر عام (1384 هـ = 1964 م) بيانا قال فيه: "إن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية لا من مذاهب أجنبية".

تُوفي -رحمه الله- يوم الخميس (18 من المحرم 1385 هـ = 19من مايو1965م) عن عمر بلغ (76) سنة، قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 25-09-2010, 07:56 AM   #170
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ثورة القاهرة الثانية.. السعي للحرية

(في ذكرى قيامها: 16 من شوال 1214هـ)




أدرك الجنرال كليبر قائد الحملة الفرنسية على مصر بعد نابليون بونابرت حرج موقفه، وعدم قدرة أفراد حملته على الاستمرار في مصر، فقرر التفاوض مع "يوسف باشا ضيا" الصدر الأعظم الذي جاء على رأس جيش ضخم لإخراج الفرنسيين من القاهرة، واتفق الطرفان على طريقة تحفظ الكرامة لخروج الجيش الفرنسي وتبقي على شرفه العسكري، وتضمّن الاتفاق طريقة تنظيم جلاء الفرنسيين عن مصر، وتحدد المراحل والأزمنة لتحقيق هذا الجلاء، وأطلق على هذا الاتفاق معاهدة العريش، وأبرمت في (22 من شعبان 1214هـ=24 من يناير 1800م).

وعلى الفور بدأ كليبر في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه فأجلت الحملة قواتها في بعض المناطق البعيدة، فدخلها العثمانيون وحلوا محل القوات الفرنسية المنسحبة، وعسكر الصدر الأعظم بجيشه في "بلبيس"، وتسلل جزء من الجيش العثماني إلى داخل القاهرة، وعين العثمانيون واليًا لهم على الصعيد، وأصبح جلاء الفرنسيين قاب قوسين أو أدنى، غير أن كليبر فوجئ برسالة من قائد الأسطول البريطاني يعلنه أن اللورد كيث القائد الأعلى للأسطول قد رفض التصديق على المعاهدة، وأنه لم يعد أمام الفرنسيين سوى التسليم بلا قيد أو شرط كأسرى حرب، ولا سبيل لعودتهم إلى فرنسا على هذا النحو الذي تم الاتفاق عليه مع الدولة العثمانية.

جن جنون كليبر وثار ثورة عامة وقرر أن يبطش بالعثمانيين، فأعاد احتلال المواقع التي كان قد أخلاها، ثم باغت الجيش العثماني المرابط على مشارف القاهرة في المطرية وعين شمس في (16 من شوال 1214هـ=20 من مارس 1800م)، فارتد الجيش العثماني على غير نظام بعد أن كبلت خطاه المفاجأة، وأفقدته القدرة على التوازن وصد الهجوم، وهو الجيش الذي كان يعادل أربعة أمثال الجيش الفرنسي، وتقهقر إلى الصالحية، ثم غادر الحدود المصرية إلى سوريا، والجيش الفرنسي في إثره.

اندلاع الثورة

وفي أثناء القتال تمكنت فصيلة من الجيش من التسلل إلى القاهرة، وحرضوا أهلها على الثورة ضد الفرنسيين في الوقت الذي تدور فيه رحى الحرب في عين شمس، ولم يكن الشعب المصري يحتاج إلى أكثر من إشارة حتى يهب هبة عارمة ضد الغاصب المحتل، لا يبالي بشيء، وفي ساعات قليلة تجمع الشعب وحمل السلاح، وأقام المتاريس حول الأزهر والأحياء المحيطة، وشرع في مهاجمة المواقع الفرنسية في الأزبكية، وكانت نقطة ابتداء الثورة وإعلان الجهاد على الفرنسيين في حي بولاق، ثم امتدت بعد ذلك إلى سائر أحياء العاصمة.

وقام الثائرون بإنشاء معامل للبارود ومصانع لصب المدافع، وعملوا القنابل، وقاوموا قوات الاحتلال وصمدوا للحمم الملتهبة التي كانت ترميهم بها مدافع الفرنسيين، وثبتوا للحصار الذي فرضته القوات الفرنسية على المدينة، وكان صبر المصريين أمرًا مثيرًا للإعجاب والتقدير.

وعندما وصل كليبر إلى القاهرة بعد انتصاره على العثمانيين وجد الثورة قد اشتد أوارها، وامتد لهيبها إلى الوجه البحري منذ أن أخلى الفرنسيون مراكزهم المهمة في الدلتا، وبخاصة في دمياط وسمنود، فأرسل ثلاثة من قادته لإخضاع الوجه البحري، وانتظر عودتهم حتى يتمكن من التفرغ لإخماد ثورة القاهرة.

لجوء كليبر إلى المفاوضة

ولما ازدادت الثورة اشتعالاً وعجز كليبر عن إخمادها لجأ إلى علماء الأزهر يستعين بهم في إيقاف الثورة، وقابل عددًا من كبارهم في مقدمتهم الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، ومحمد المهدي، والسرسي، وعرض عليهم إنهاء الثورة وإعطاء أهالي القاهرة أمانًا وافيًا شافيًا، على أن يخرج ناصف باشا والجنود العثمانيون والمماليك من القاهرة، ويلحقوا بزملائهم من فلول جيش يوسف باشا الصدر الأعظم، غير أن مساعي الصلح تبددت أمام إصرار زعماء الثورة على الاستمرار في المقاومة.

ولم ييئس كليبر فلجأ إلى الاتصال بمراد بك أحد زعماء المماليك، وتفاوض الاثنان على الصلح، وأبرمت بينهما معاهدة بمقتضاها أصبح مراد بك حاكمًا على الصعيد في مقابل أن يدفع مبلغًا إلى الحكومة الفرنسية، وينتفع هو بدخل هذه الأقاليم، وتعهد كليبر بحمايته إذا تعرض لهجوم أعدائه عليه، وتعهد مراد بك من جانبه بتقديم النجدات اللازمة لمعاونة القوات الفرنسية إذا تعرضت لهجوم عدائي أيًا كان نوعه، وكان هذا يعني أن مراد فضل السيادة الفرنساوية على السيادة العثمانية.

ولم يكتف مراد بك بمحاولته في إقناع زعماء الثورة بالسكينة والهدوء، بل قدم للفرنسيين المؤن والذخائر، وسلمهم العثمانيين اللاجئين له، وأرسل لهم سفنًا محملة بالحطب والمواد الملتهبة لإحداث الحرائق بالقاهرة.

إخماد الثورة

استمرت الثورة أكثر من شهر، وقائد الاحتلال يفكر في وسيلة للقضاء على الثورة التي يقودها عمر مكرم الذي التف الشعب حوله، وأصبح رمزًا للمقاومة والصمود، وفشلت المحاولات لوقف الثورة، وإزاء ذلك أمر كليبر بالهجوم العام على حي بولاق مصدر الثورة بعد أن جاءته المؤن والمهمات من حليفه مراد بك، وشرعت المدافع تصب نيرانها على الحي الثائر، حتى أحدثت ثغرات في المتاريس التي أقامها الثوار، نفذ من خلالها الجنود الفرنسيون، لإشعال الحرائق في البيوت والمتاجر والوكالات، فاشتعلت النيران في الحي، وسقطت البيوت على من فيها، وتناثرت جثث القتلى، واستمر الضرب بالمدافع حتى دمر الحي بأكمله، ثم تتابع هجوم الفرنسيين على سائر أحياء القاهرة، حيًا حيًا، واستمرت هذه الأهوال ثمانية أيام جرت في أثنائها الدماء أنهارًا في الشوارع، وأصبحت أحياء القاهرة خرابًا بلقعًا.

تسليم القاهرة

تحرك علماء الأزهر واستأنفوا مساعيهم لحقن الدماء، ووقف عمليات الإحراق والتدمير، ودارت مفاوضات التسليم بين الثوار وكليبر انتهت بعقد اتفاق في (26 من ذي القعدة 1214هـ=21 من إبريل 1800م)، وقع عليه ناصف باشا من الأتراك العثمانيين، وعثمان أفندي عن مراد بك، وإبراهيم بك عن المماليك، وفيه تعهد العثمانيون والمماليك بالجلاء عن القاهرة خلال ثلاثة أيام مع أسلحتهم وأمتعتهم ما عدا مدافعهم إلى حدود سوريا، في مقابل أن يعفو كليبر عن سكان القاهرة بمن فيهم الذين اشتركوا في الثورة.

وكان من نتيجة تلك الثورة أن ازدادت نقمة كليبر على القاهرة، وكانت فيه غطرسة وكبرياء، ففرض على أهالي القاهرة غرامة مالية ضخمة قدرها 12 مليون فرنك، وخص علماء الأزهر بنصيب كبير منها، وعلى رأسهم الشيخ السادات، ومصطفى الصاوي ومحمد الجوهري وغيرهم.

واشتط في تحصيل تلك الغرامة منهم، وألقى بالشيخ السادات في السجن، وقام بتعذيبه دون أن يراعي مكانته وسنه حين عجز عن تدبير المبلغ الذي طالبه به من الغرامة، وكان مائة وخمسين ألف فرنك.

وأدت تلك السياسة الحمقاء التي مارسها كليبر مع أهالي القاهرة وعلماء الأزهر أن قام سليمان حلبي باغتياله في (21 من المحرم 1211هـ=14 من يونيو 1800م) أثناء تجوله في حديقة منزله.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .