العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة بـــوح الخــاطـــر > خيمة كتاب روائـع الخـواطر

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية على المريخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في بحث العقد النفسية ورعب الحياة الواقعية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: خوارزمية القرآن وخوارزمية النبوة يكشفان كذب القرآنيين (آيتان من القرآن وحديث للنبي ص (آخر رد :محمد محمد البقاش)       :: نظرات في مقال السؤال الملغوم .. أشهر المغالطات المنطقيّة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال البشر والحضارة ... كيف وصلنا إلى هنا؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال التسونامي والبراكين والزلازل أسلحة الطبيعة المدمرة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال الساعة ونهاية العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)       :: نظرات في مقال معلومات قد لا تعرفها عن الموت (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 30-11-2009, 07:24 PM   #51
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

ليست من كليلة ودمنة
(1)

مصير حصان


كان ينقل قائمه الأيمن
ثم ينقل القائم الأيسر
بحركة عصبية كان لها معنى

فكان (السياس)*1 يهرعون لتفقد طلباته
كان ملكا دون تنصيب
كانوا ينتظرون تنصيبه

كان يبتهج عندما يخرج للتمرين
فمدربه رجل (مهيوب) من الجميع
وعيون الأفراس من مرابطها تدغدغه

كان يتلذذ بأصابع من يمسك (المهسة)*2
فبعدها يأتي الحمام
وبعدها يأتي اللوز والسكر

انتهت أيام العز
أحيل الملك المنتظر للمزاد
لم يشهد تنصيب نفسه

وجد نفسه في حظيرة حقيرة
ينقل قائميه وسط الروث والبول
ويتدلى كرشه لفقر طعامه

في الصباح يأتي من هو أفقر منه
فيضغط على درنات في أعلى الجلد
لتنبثق منها يرقة الجلد اللعينة

تدمع عينا الحصان
حزنا على مصيره
وشفقة على صاحبه الجديد

ومن يدري ما ينتظره فيما بعد
فقد يحال لصانع الغرابيل*3

1ـ السياس: جمع سايس وهو من يسوس الخيل.
2ـ المهسة: مشط حديدي تُنظف فيه جلود الخيل.
3ـ الغرابيل: جمع غربال وهو مصنوع من خيوط الجلود المدبوغة لتنقية الحبوب.







__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 07:26 PM   #52
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

ليست من كليلة ودمنة
(2)




فأر الجمرك وفأر الحقل


فعلت زيوت الصنوبر فعلتها
فأصبح شعر الفأر ناعماً
كما فعلت حبات البندق فعلتها
فأصبحت عيون الفأر براقة

انشد نحوه فأر ضئيل الحجم
أنهكته رتابة الغذاء الفقير
من حبوب دغل وما سقط من قمح
ليتمتع بمشاهدة فأر الجمرك العفي

كانت متعة فأر الجمرك أكبر
فهناك من يحسده، أكثر مما يغبطه
وفي ذلك متعة
أكبر من كل المتع

اقترب فأر الجمرك من فأر الحقل الضئيل
قال له شيئاً
فرح فأر الحقل كثيرا
وأعلن ولاءه لفأر الجمرك

دخل فأر الحقل ساحة الجمرك
هاله ما رأى في المستودعات
فالخير كثير
والعمر قصير

أراد أن يستعجل في الالتهام
دخل صندوقا به طُعم
أُغلق الصندوق عليه
نسي طَعم الطُعم

كتب رسالة لابنه
خطها بحبر من دمه
وناولها لمن أغواه
وتوسل إليه أن يوصلها

كان في الرسالة
أصبحنا كالبشر
فقرائنا بؤساء وكثيرو العدد
وأسيادنا منعمون وقليلو العدد

القتل في الأغنياء أكثر
القتل في الأمراء أكثر
القتل في العلماء أكثر
لذلك يزداد عدد البؤساء

في الغابة من ينافس ملك القطيع
إما أن يموت أو يموت منافسه
أما الذين لا يطمحون للسيادة
فإنهم لا يموتون

المهربون هم سادة البشر
فإن دخل عليهم دخيل
سقط في أيدي العدالة
وطُبقت عليه القوانين

إن كنت يا بني تريد البقاء
أخفض سقوف طموحاتك
وإن كنت تريد الصعود فغامر
والرأي لك!


ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 07:27 PM   #53
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

ليست من كليلة ودمنة
(3)





الظربان والأسد

اعتلى الشبل كتف أبيه الأسد
وداعبه
ثم سأله:
ألست ملك الغابة؟


أحس الأسد بضبابية دوافع السؤال
أجاب: بلى
لكن لماذا تسأل يا بني؟
أفصح عما يجول بخاطرك


قال الشبل:
يا أبتي كل الحيوانات تهابك
إلا ذاك الحيوان ضئيل الحجم
الذي يُدعى الظربان*


ابتسم الأسد وقال:
يا بني إن أعتى بني البشر
يهربون من الجيفة وهي ميتة
ولا يعالجونها برماحهم أو سيوفهم


يا بني إن القوة لا تستخدم إلا في مواضعها
فلا يعامل السفيه بالمصارعة والقتال
بل على من تجبره الظروف على مجالسته
أن يرحل ويغادر المكان


يا بني إن القتال المشرف
هو قتال من يعادلك في القوة
وليس إبراز قدرتك على الضعيف
فعندها تفقد هيبتك


تمرغ الشبل في حضرة أبيه
معبرا عن إعجابه بهيبته
تبسم الأسد
وقبل رأس شبله، راضياً

*الظربان: أو (الغريري) حيوان يزن بين 7ـ12 كغم، يقتات على طيف واسع من المواد فهو يأكل الطيور والعسل والحشرات، وحتى النباتات والأفاعي، ويعتبر من أكثر الحيوانات جرأة أو (وقاحة)، فعند غضبه يهاجم الحيوانات التي أكبر منه وينتزع أعضائها التناسلية، وإن أحس أنه لن يتمكن من الانتصار فإنه يطلق غازاً ذا رائحةٍ كريهة جداً، تعافها كل الحيوانات، لذلك تتجنبه كل الحيوانات. وفي العامية يطلق عليه الناس اسم (أبو افْسَيْ) لرائحته الكريهة.

ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 07:28 PM   #54
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

ثوب الأفعى

السمع يتقدم على البصر بالكلام
ولكن البصر مداه أوسع
فمن السماء الى الأرض
ولعل السمع يتقدم على البصر ليزيده هيبة

البرق أسرع
وعندما يتبعه الرعد تتضاعف هيبته
حزمات النظر المشتتة لا هيبة فيها
لذلك يحتل شاردو الذهن مرتبة أدنى

كثيرة هي الكائنات التي تدرك ما ندرك
فالأفعى تبدل ثوبها كل عام
كي تتلافى التمزقات في الثوب
ويصبح انعكاس الصورة أكثر تركيزا

هناك من يفعل مثل هذا الأمر من المثقفين
والسياسيين، والحكومات
حتى تتماشى مع (الموضه)
وتداري الشقوق في أثوابها

فقد يرفع شعاراً أممياً
دينياً أو علمانياً
ويعطي لنفسه صفة (الراديكالي)
لكنه في النهاية يفلسف تبديل ثوبه

يصطف مع صفوف المحتلين
في العراق
وفلسطين
ويزاحم على انتخابات مجالس برلمان حكومات تعيسة

يُنظَر للمعتوهين الثابتين بسلوكهم باحترام
ويُنظر للسراق الثابتين بسلوكهم بنظرة ثابتة
ويفقد من يبدل ثوبه احترام الجميع
لأن هذا السلوك، سلوك أفاعي



ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 07:30 PM   #55
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

ظُلْم خنفساء القلف

لا تستطيع الأشجار أن تحك أغصانها

ولا تستطيع تنظيف أوراقها
ولا تستطيع مقاومة أمراضها
ولا تستطيع الانتقال الى مصادر المياه

لكنها تعلم أن الله يرعاها
فهو يسخر لها من يرويها
ويسمدها
ويخلصها من الطفيليات

لكن الطفيليات أمم مثلنا
رزقها ـ هي الأخرى ـ على الله
فيهبها خصائص تتخفى من خلالها
وتتناول رزقها بهدوء

تحت القلف تنمو خنفساء صغيرة
لا يراها حتى من وُكِل برعاية الأشجار
يقل الإنتاج وتهزل الأشجار
والوكيل محتار

من يُقَدِرُ أن هذا ظلمٌ وهذا رزقٌ مكتوب؟
الظلم هو أن يتم الاعتداء على ما ليس لك
ولكن الخنفساء تعتبر بيئتها في الأشجار
ففطرتها اقترنت بذلك

عندما ينعدم العدل
وينتشر الطمع
وتزول الرحمة بين الناس
تتحرك جنود الله لتعاقب من لم يتعظ


ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 07:31 PM   #56
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

ليس من الأنَفَة

ليس من الأنفة
أن تختار دولةٌ، أخرى أقل شأناً
وتقول: أنا أفضل من تلك
طالما أن هناك من الدول من هو أفضل منها

الأنفُ يسبق الجسم
ويقود صاحبه نحو رائحة المستقبل
تكتمل حاسة الشم بشهادة الحواس الأخرى
فتكون شهادة الإقرار كاملة


لكل سباق إجراءات
الاستعداد والتزود والتمرين
الالتفات للخلف يبطئ الحركة
الالتفات لمن على الجانبين يبطئها

استعراض أمجاد الأجداد لا يزكي الأحفاد
فالتبن من مخلفات البيادر
والنفايات هي ما تبقى ممن كان صالحا
الشوائب تقلل قيمة الأشياء

أن يقول الفرد: أنا سيدٌ
قولٌ خاطئ
فالسيد هو من يعترف الآخرون بسيادته
يقدمونه عليهم عندما لا يزاحمهم

أن يتباهى بماله فهو خاطئ
فقارون كان مثالاً للسوء
أن يتباهى بعلمه فهو خاطئ
هكذا أفهم الله موسى بمثال عبده الصالح

أن يتكلم أكثر مما يسمع فهو خاطئ
فلو كان الكلام أهم من السمع
لخلق الله له لسانين وأذناً واحدة
الهدوء يعين على تفسير الكلام

الوصول لنهاية خط السباق قبل الآخرين
يتطلب معرفة تفاصيل الطريق
وحمل ما يقضي ذلك المشوار من زاد
عندها تكون الأنفة


ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 07:33 PM   #57
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

التعنيد عمل خلاَق*


بعد كل عملية غلي حليب
يبقى بعض الأفراد
من البكتيريا
على قيد الحياة



بعد تناول (كورس) من المضادات
لعلاج التهاب اللوزتين
تكمن كائنات في تلافيف الأنسجة
ثم تعاود نشاطها



بعد كل زلزال أو دمار
يجد الباحثون بين الأنقاض
بعض الأطفال
الناجين



ليتعلم البشر، من الطوفان
لم يبق على الأرض
إلا من آمن بالصعود
فوق السفينة



امتلأت الأرض بهم
فعاود العامل الوراثي للشرور
بالظهور
لينتظر الجميع طوفانا آخرا

هامش
التعنيد: هي خاصية تكتسبها الكائنات الحية بعد كل محاولة للقضاء عليها.



ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-12-2009, 01:14 PM   #58
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شقاء السعادة

(1)

كان من ينظر الى الرجال الستة الذين يحيطون بموقد أخذ موقعه في الطرف القريب من باب الغرفة القديمة، يُهيئ إليه أنه يشاهد تمريناً لعرض تمثيلية استوحت شخصياتها من رواية البؤساء.

وُضع في الموقد بعض مخلفات الحيوانات المجففة والمخلوطة بالتبن، وبعض أعوادٍ من أطراف أعشاب لم تجف تماماً.

كان الدخان الصاعد من الموقد يتوزع على وجوه الجالسين، قبل أن يكمل طريقه ليستقر على خيوط عنكبوت قرب زوايا الغرفة المتصلة في السقف المصنوع من أعواد القصب.

لم يكن من السهل التعرف على ملامح وجوه الرجال، ولا على بدانتهم أو نحافتهم، فقد كان سوء الإضاءة المتحالف مع الدخان المخيم في أجواء الغرفة كفيلاً لإعاقة مهمة التعرف على وجوه الرجال، الذين كانوا يشبهون خلفيات لوحة لرسام إيطالي في العصور الوسطى.

لم تختلف آثار القحط التي تبدو على الرجال عنها عند الأغنام، ففي المواسم التي يكون فيها الغذاء متوفراً، فإن أوزان الأغنام ستزيد، وعندما لا يتوفر الغذاء فإنها ستهزل، ولا يستطيع أحدٌ التعرف على ذلك في ندرة الضوء الكافي، إلا إذا حمل الكبش بين يديه للتعرف على وزنه، خصوصا، إذا تُرك صوفه عليه دون قص ليمنع عنه برد الشتاء القارص.

ارتدى أبو سعفان معطفاً عسكرياً قديماً، ربما كان لأحد مساعدي الجنرال اللنبي، وقد فقد لونه الأصلي وبريق أزراره التي كان كبار الضباط يحرصون على تلميعها لإبراز إحداثيات انتصابهم في ساحات الاستعراض. فيما كان صاحب الدار (أبو صابر) يضع على كتفيه شيئاً ثقيلاً مكوناً من أكثر من عشرة جلود لخراف بألوان مختلفة، كانت مهارة صانعها تنحصر فقط بربط تلك الجلود ببعضها، فلم يهتم بما سيكون شكل ذلك الشيء، وكان يغطي تلك الجلود بقماش داكن سميك، لا يمكن إعطاءه أي لون مصنف.

كانت ألوان ملابس الرجال الستة متقاربة، رغم أنها كانت تختلف عند بداية صنع نسيجها، فقلة تنظيفها بشكل جيد مع آثار الأدخنة تجعلها متشابهة، وحتى عند غسلها فإن مادة التنظيف كانت من آبار الجمع بالإضافة لبعض الرماد المحترق ليطرد أفراخ البراغيث والقمل، فليس هناك أثر من إزالة آثار الدخان بأحد مخلفات الحريق.

(2)

مضت ثلاث سنين، ولم ينعم الفلاحون بموسم خير يحقق لهم السعادة والرضا، وكان أبو سعفان قد كشف سقوف ثلاث من غرفه المتواضعة، ليستخرج التبن الذي يعتلي عيدان القصب والذي كان مغطى بطبقة من الطين يتم تجديدها سنوياً حتى لا تتسرب مياه الأمطار من خلال مواضع جذور النباتات التي تنمو على السطوح حيث كانت تختبئ في تربة الطين، ليطعم ذلك التبن لحيواناته المنزلية.

لم يرى أبو سعفان فائدة من إبراز شكواه لأصدقائه، فهم يعيشون أوضاعاً تتساوى في كل شيء مع أوضاعه، لكنه كما هم، لا بُد لهم من أن يتفننوا في التغلب على رتابة الوقت والضجر، بالصبر والسكون، وقد تكون تلك الخبرات قد اكتسبت لتقنين صرف الطاقة، فالسكون لا يحتاج لحرق حرارة غير متوفرة مصادرها بالغذاء المتواضع الذي كانوا يتناولونه.

حتى كلامهم كان قليلاً، ففترات الصمت كانت تزيد على فترات الكلام، ونبرات أصواتهم إن تكلموا، كانت همهمة خفيضة، فالصوت أيضاً يستدعي صرف طاقة.

قلب أبو سعفان يديه، ونبس بكلمة، كاد هو ألا يسمعها، كان يريد من أحدهم أن يسأله عما يجول في خاطره. لكن ذلك لم يحدث، فكل الرجال يرمون رؤوسهم الى الأسفل أو الى مركز الموقد، الذي تلاشى بريق الجمر فيه منذ وقت، فكان كل واحد منهم يتتبع حالة الانطفاء الكامل لتلك الجمرات، ويبقي نظره مركزا عليها عل نارها تُبعث من جديد.

(3)

دخل صابر على الرجال، وألقى تحيته بصوت منخفض، وجلس دون أن يهتم إن كان أحدٌ من الجالسين قد رد التحية، رغم أنهم ردوا كلهم، فقد كانوا بحاجة ماسة لكسر فترات الصمت الطويلة.

كان صابر يعلم حالة والده وأهل قريته، فلم يتذمر عندما طلب منه والده عدم السفر للالتحاق بجامعته في بلد عربي، والتي كان قد أمضى سنتين فيها.

تأمل صابر في وضع الرجال، وتمنى لو أن العلم يستطيع جلب الأمطار ليسعد والده وأصدقاء والده بنزوله.

تذكر صابر نمط الحياة في البلاد التي يدرس بها وقارنه بنمط حياة أهل قريته، وتساءل من هم أكثر سعادة؟ أو من هم أكثر تعاسة في النمطين؟

كانت جداول طلبات حياة الفرد بالمدينة أطول بكثير من جداول طلبات حياة الفرد في قريته، ولكنه حاول إسقاط ما تعلمه في الرياضيات على تلك المقارنة، فقال ألف على ألف يساوي واحد وعشرة على عشرة يساوي واحد وواحد على واحد يساوي واحد.

فإن كانت طلبات ابن المدينة مئة طلب وحقق منها ستين طلباً فسعادته تساوي ستة أعشار السعادة، وإن كانت طلبات ابن القرية عشرة طلبات وحقق منها سبعة فسعادته أكثر من سعادة ابن المدينة.

ابتسم في سره، وقال: إن لهؤلاء الرجال طلب واحد وهو نزول المطر، فإن تحقق لهم ذلك ستكون سعادتهم مائة بالمائة.



__________________
ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-12-2009, 01:16 PM   #59
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شقاء السعادة

(4)

قطع عكرمة برنامجه اليومي في اللعب مع أترابه في الحي، رغم أن الجو لا زال صحوا وبرده ليس بقارصٍ، وقفل راجعاً يركض بأقصى سرعته متجهاً نحو والده (أبو صابر)، الذي كان مستلقياً على ظهره وقد غطى أوسط بطنه بجزء من رداءه الثقيل، في حين كانت ركبته اليسرى أعلى من مستوى رأسه، كونه قد كف قدمه اليسرى باتجاهه، وأردف ساقه اليمنى فوق جزء من أعلى الفخذ الأيسر، لم يكن أحد تمارين (اليوغا) بل هي إحدى الطرق التي كان كبار السن يبتكرونها لتمضية أوقات فراغهم الكثيرة. كان أبو صابر يراقب أصابع قدمه اليمنى التي كان يحركها بالتناوب وكأنه يقوم بتفقد صلاحيتها.

كان عكرمة ابن العشر سنوات أو أكثر قليلاً، لا يزال يلهث من ركضه، يرتدي سروالا خارجياً من المخمل المضلع وقد زالت بعض نتوءات الأضلاع وزال منها لونها الزيتي، وتنافرت الخيوط بعض الشيء من جهة الركبتين، منذرة بانتهاء العمر فوق الافتراضي للسروال، وكانت رؤوس أصابع قدميه تنزف دماً قليلاً متخثراً من كثرة ما يصطدم بالحجارة التي في طريقه.

بادره والده (علامك؟) أي ما بك؟
أجاب الولد بصوت مرتبك: رأيت رجلاً أكبر منك يضع عصبة خضراء على رأسه، ويتزر بإزارٍ ثخين فوق ثوب سميك ويحمل عصا غليظة وطويلة أعلاها منحني نحو ساقها..
قاطعه والده: إنه أبو المَرَاشد .. ماذا فعل؟
ـ بعد أن تطلع بالسماء نحو الغرب، ضرب بعصاه الأرض عدة مرات وصاح: (كسبها .. كسبها .. كسبها من زرع عفير وبَدَرْ).
ومعنى ذلك الذي لم يفهمه الصبي، أنه أفلح من زرع أرضه مبكراً.

استند أبو صابر، وعدل من جلسته، وأخذ يُعالج الرماد الذي في الموقد، وطلب من ابنه أن ينادي أمه لتحضر بعض الوقود للموقد لتسخين القهوة.

(5)

كان أبو المراشد من الأشخاص الذين قليلاً ما يشتركوا بحديث مع الآخرين، وكان الناس ينظرون إليه بمشاعر ممزوجة بالحيرة والإعجاب والاحترام والعطف.

لم يكن درويشاً بمعنى الكلمة، ولكنه لم يقطع فرضاً واحداً في مسجد البلدة الوحيد، ولم يسمع عنه الناس أنه أثار مشكلة مع أحد، حتى جيرانه لم يسمعوا أن خلافاً حدث داخل بيته، رغم أنه كان متزوجاً من أربعة نساء، وله من الأولاد الذكور أربعة عشر ولداً، غير البنات الستة.

(6)

انشغلت أم صابر بتحضير العشاء، وانشغالها كان رتيباً، فالوجبة المعتادة للعشاء هي (جريش) القمح، الذي سبق سلقه وتم تنشيفه ليحمل اسما جديدا (البرغل)، وكان يُحفظ بعد جرشه في (كَوَايِرْ)، تنتصب في (بيت العِيلة)، حيث تحتفظ العائلة بمئونتها فيه، داخل كواير وجِرار وبعض الجلود التي تُخصص لحفظ السمن.

كانت (الكوارة) تُبنى على مراحل، من الطين المخمر الممزوج بالتبن، فبعد أن تحضر المرأة الطين، تختار ضلعاً من أضلاع الغرفة (بيت العيلة)، لتبني بجانبه الكواير، فبعد أن تصنع (دكة أو مصطبة) بارتفاع أقل من قدم قليلاً لتنصب فوقه الكواير، تقوم بعمل مربعات فوق المصطبة طول ضلع المربع حوالي ذراع، وتعين مكان فتحات استخراج المواد المخزونة من الأسفل، تقوم برص الطين بيديها الاثنتين بسماكة أصبعين تقريباً، وحتى لا تنحني تلك المواد تتركها لمدة يوم أو اثنين حتى تجف قليلاً، ثم تكمل بناء الكواير حتى يبلغ ارتفاعها ارتفاع رأس المرأة تقريباً، ثم تترك فتحتها العلوية دون بناء، بل يتم تغطيتها بطبق من القش المحبوك لمنع دخول الفئران.

لم تكن وجبة العشاء، سوى برغل وماء وملح، كانت توضع في قدر من النحاس، وتترك على فوهة (الفرن الطيني) لتنضج على مهل. وبعد صلاة المغرب، تقوم أم صابر بسكب الطعام في قصعة واسعة، وتضيف إليه بعض الدهون المسخنة والتي غالبا ما تكون من (سنام الجمل) أو زيت الزيتون المقلي به قليل من البصل.

(7)

لم يمض وقت كبير، حتى انهمر المطر بغزارة، فضحكت الأرض ومن عليها في البلدة استبشاراً للخير، وارتفع صوت أذان المغرب، من على أعلى المئذنة وبصوت أبي صابر نفسه، وكان صوتاً قوياً على غير العادة، ولم يكن هناك ضجيجٌ يمنع وصول الصوت الى مسافة تتعدى حدود البلدة.

عاد أبو صابر ولحيته يقطر الماء منها، وأسنانه الصناعية تضحك متوسطة لحيته البيضاء ووجهه النحاسي، تناول طعامه بنهم، هو وأفراد أسرته، وأمر صابر أن يذهب الى احمد الرشيد البقال في الحي ليحضر (الهريسة) ليتحلى هو وأفراد أسرته ومن سيأتي لقضاء السهرة القصيرة.

يتبع

__________________
ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-12-2009, 01:18 PM   #60
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شقاء السعادة



(8)

أثناء وبعد كل مناسبة أو حدث، يكثر الكلام لمن شاهدوا الحدث، حتى وإن كانوا أشخاصاً غير مؤثرين في تحديد مساره، فكل واحد سيروي أو يحلل ما شاهده من خلال شخصه الفاعل أو الذي يتمنى أن يكون فاعلاً.

بدا الانشراح على وجه أبي صابر، وهو يحدث من جاء يسهر عنده من أبناء عمومته والجيران. فبعد أن مسد على لحيته، تجول نظره في وجوه زواره، وإن كان لا يحدد ملامح وجوههم بشكل جيد. كانت تلك الحركة ضرورية ليجعلهم يتوقعون كلاما هاما وخطيراً.

يا جماعة، كنت في ليلة الصليب والزبيب، قد وضعت كومات الملح الخمسة كما هي العادة، وقد توقعت بناءً على ما شفت من ذوبان معظم كومات الملح أن هذا الموسم جيد بإذن الله، لكنني لم أكشف لكم ذلك في حينه، بعد أن مرت ثلاث سنوات دون أن ننعم بمثل تلك الأمطار الغزيرة. اسمعوا، اسمعوا صوت الرعد وارتطام حبات المطر على الأرض.

سأله أبو سعفان: وهل تعتقد أن هذا الموسم يبشر بالخير؟
أجابه أبو صابر (في ندرة من يفند آراءه): العلم عند الله، سيكون الموسم جيداً، فعندما تمر (الصفاري) ببرودة ليلها وصفاء سماءها ويبدأ تشرين الثاني/ نوفمبر ببرق (بانياسي)، فما أن ندخل ب (المربعانية) حتى تكون الأرض (ملقحة).

أراد صابر والذي أحضر الحلويات للاحتفال، أن يستفسر من والده عن المصطلحات التي وردت بحديثه، فسأله: ماذا تعني يا والدي بالصليب والزبيب؟ وماذا تعني بالصفاري؟ وماذا تعني بالبرق البانياسي والمربعانية والملقحة؟

أجاب أبو صابر (وقد رأى في تلك الأسئلة مجالا لتمضية السهرة): الصليب والزبيب: هو عندما يتساوى طول الليل بطول النهار ويكون ذلك ليلة منتصف شهر سبتمبر/أيلول، فتتصالب الأرض في مدارها، ويتوقف الناس عن النوم في ساحات بيوتهم أو على أسطحها، ويتهيأ أصحاب الكروم لصناعة الزبيب من العنب.

والصفاري، هي أيام الخريف حيث تصفر أوراق الأشجار، ويثور الغبار وتتسطح قشرة الأرض. والبرق البانياسي هو البرق الآتي من جهة بانياس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث يبشر بالأمطار بخلاف البرق الآتي من جهات أخرى. أما المربعانية، فأيام الشتاء تقسم لقسمين أول أربعين يوم منها تسمى المربعانية وهي أشد أيام السنة برداً، ويتبعها خمسين يوماً تقسم الى أربعة أقسام: (سعد ذابح) و (سعد ابلع) و(سعد السعود) و (سعد الخبايا).

كان عكرمة الذي يجلس في حضن والده ليتمتع بالدفء، يطل رأسه من أبط (الفروة) التي يضعها والده مغطياً بها جسمه المتربع، وكأنها فرخ حيوان (جرابي) يستمع للحديث، ويحس بغصة شديدة، فالموسم يبشر بالخير، وهذا يعني أن عطلة المدرسة الصيفية ستذهب في كد وتعب في الحصاد والدرس واستخراج الحبوب، إن ذلك يعني أن الأولاد سيحرمون من متعة العطلة الصيفية!

(9)

استنزفت السنون الثلاثة، التي حُبست فيها الأمطار، مُدخرات معظم الأسر الفقيرة، كما استنزفت تلك السنوات الرغبة في الحرص من توقع أمطارٍ غزيرة.

كانت (ذيبة) أرملة (ياسين الحاصود) من بين أولئك الناس الذين لم يهيئوا سطوح منازلهم الطينية، بإضافة طبقة جديدة من الطين الأملس، الذي يتكفل بمنع (الدلف).

وزعت ذيبة مجموعة من الأواني القديمة تحت مساقط قطرات الماء المخترقة للسقف، وفرشت لأولادها الثلاثة، في بقعة لا تنزل فوقها قطرات الماء، وغطتهم ببساط صوفي ثقيل، وبقيت شبه متيقظة.

كانت أصوات ارتطام قطرات الماء بتتابعها تشبه أصوات آلة موسيقية تستخدمها قبائل (آرابيش في غينيا بيساو)، وكان اختلاف نغماتها آتٍ من اختلاف أحجامها واختلاف معادن الأواني واختلاف عمق المياه في كل آنية، وكأن الطبيعة قد قامت بضبط (دوزان) آلة موسيقية.

(10)

في الحروب، والزلازل، والكوارث، هناك أفراد أو كائنات، تتأذى من تلك الظروف، كما أن هناك أفراد وكائنات تستفيد من تلك الظروف.

كانت الضباع والذئاب من بين تلك الكائنات، التي تحاول استثمار ثمان ساعات متواصلة من المطر المنسكب بغزارة ملفتة للنظر، فكانت تعرف أن هناك جدران أبنية وأسيجة ستنهار بفعل الماء المتدفق من على السطوح والأزقة.

تعالت أصوات الرجال والتي كانت استجابة لنباح كلاب الحراسة المذعورة. خرج أبو صابر ليتتبع تلك الجلبة فتيقن أنها صادرة من دار أبو سعفان، وأخوته الأربعة الذين يعيشون في دار كبيرة واحدة هم وأبنائهم وزوجاتهم.

كان أحدهم يحمل فانوساً ضعيف الإضاءة أما الباقون فكانوا يحملون عصياً وأدوات زراعة.

بعد أن قفز الذئب مذعورا من تلك الجاهزية التي أبداها أهل الدار، التفت من يحمل الفانوس الى الرجال، فوجد أنهم لا يخفون أجزائهم السفلى، فضحك بصوت مرتفع، ثم انتبه لنفسه فوجد أنه يشاركهم تلك الهيئة.

حاول صابر أن يجد لتلك الظاهرة تحليلاً، فلم يتذكر سوى أنه في حالة ندرة الغذاء فإن القوارض تمتنع عن التزاوج رحمة بأبنائها، ولكنها تعاود لتلك العملية الأيضية بمجرد شعورها باقتراب توفر الغذاء.

يتبع

__________________
ابن حوران

__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .