و أَقْمِنْ بالخطيب - والحديث يجر بعضُه بعضاً - ألا يصغي بأُذُنِهِ لخبر محتمل ، أو رواية مترددة ، أو ظن أو تخمين ، حتى يعلم علم اليقين !
وما أحراه أن ينأى بنفسه عن الحديث عن الأشخاص، والأعيان تصريحاً أو تلميحاً !
وما أجدره أن يجانب لغة السب والتقريع والتوبيخ ، ورديء القول ، وشنيع المقال ؛ فالعفة من الإيمان ، والبذاءة في النار .
وليكن في وارد البال أنه كلما كان الموضوع أكثر تحديداً - في هذا الباب - وأكثر دقة ، وأبعد عن التعميم كان ذلك أدعى لسهولة الإعداد ، وأيسر لتحقيق المراد ، وأقرب إلى الفهم ، وأوضح في الحكم .
ومن تناول الموضوع بعموميته حام حوله ، ولم يُصِبْ كَبِدَهُ .
ولأن هذه المسائل مترابطة بسنة الحياة ، فليس بِبِدْعٍ من القول أن تتناول الخطبة الواحدة عدداً منها من جوانب شتى .
إذ لا يمكن فصل موضوع الزواج عن باب الاقتصاد ، ولا عن باب الإعلام ، ولا عن مبتكرات العلم الحديث ، فضلاً عن الوعد والوعيد ، والقرآن والحديث .
أما عن تطلعات المستقبل فالقاعدة فيها النظر إلى مستقبل الإنسانية: علماً، وفكراً، وسياسة، واقتصاداً ، إذ المسلمون جزء من هذا العالم لا يملكون عَزْلَ أنفسهم عنه بحال ، فهم به متأثرون كثيراً ، ومؤثرون قليلاً ، بل نادراً ، والله المستعان .
ولكن استراتيجيات الدعوة، وخططها وطموحات أهلها مربوطة بهذا الأفق الواسع الكبير ، ولا ينجح في الفِلاحة من لا يعرف طبيعة الأرض.
ثم هناك ، بعد هذا وذاك ، مستقبل الإسلام والمسلمين ، والدعوة والدعاة، وقدرتهم على إدارة الحياة، وتوجيهها وفق شريعة الحق والعدل
وهذه المناحي الثلاثة تحتاج من الخطيب الحاذق لَمَسَاتٍ واعيةً ، ونَفَثَاتٍ هاديةٍ ، وتأصيلاً بديعاً ، وترسيماً رفيعاً ، يصل الأمس باليوم ، واليوم بالغد ، ويستشرف أفق المستقبل الواعد ، ما أعيت الحيلة فيه في الحالِ الحالّ ، من غير هروبٍ ، ولا مجازفة ، ولا تخدير .
مع محاذرة التوقعات المحدّدة ، والتخوفات المردّدة ، والآمال الكِذاب ، والأحلام العِذاب .
ولقد أصبح المستقبل، ودراساته علماً قائماً بذاته ، له مدارسه ومراكزه ومؤسساته ، وله متخصصوه، وكتّابه ومؤلفاته ، وهو كالنتيجة للمقدمة ، والثمرة للسبب ، والأثر للمؤثر ، وإن كان الظن يصدق ويكذب .
وأَعْلَمُ ما في اليومِ والأَمْسِ قبله *** ولكنَّني عن علمِ ما في غدٍ عَمِي
هذه وَقَفَاتٌ سريعةٌ غيرُ مفقَّطةٍ ولا مُنَقَّطَةٍ حول مضمون الخطبة وموضوعها وفحواها ومعناها .
اللغة والأسلوب وطريقة التعبير ، سواءٌ أكانت لفظية منطوقة ، أم كتابية مسطرة، هي وعاءٌ للحقائق والمعلومات، والأفكار التي تحملها ."
وما قاله العودة هو كلام عام لا يقدم ولا يؤخر لأنه يترك للخطباء أن يتكلموا كما يريدون وبعضهم يتخذها وظيفة من أجل المال وليس بديه إلا القليل من العلم وهو في النهاية إن تركت الموضوعات للخطباء فسوف يركز كل منهم على جوانب معينة ويترك بقية الجوانب
ومن ثم وأنا أتحدث هنا ليس عن مجتمعاتنا الحالية التى لا تحكم بحكم الله وإنما أتحدث عن الخطباء في دولة العدل
الخطب في السنة يجب أن تشمل كل موضوعات الدين بلا استثناء لأن الغرض هو تعليم الناس أحكام الدين كما كان النبى(ص) يعلم الفقهاء كى يذهبوا ليعلموا أهليهم أى أقوامهم وفى هذا قال تعالى :
"وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"
إذا الخطب تكون مرتبة فى موضوعات عامة وتكون مكتوبة بالتفصيل وما على الخطيب إلا أن يقرئها أو يقدم معناها بألفاظ يفهمها الناس فمثلا تكون الموضوعات مرتبة كالتالى :
الذات الإلهية – الرسل – الملائكة – الكتب السماوية – الاقتصاد – الزواج – الطلاق – أداب الطريق – الجهاد - أداب الجيرة – آداب التعلم – آحكام الصلاة – أحكام الزكاة – أحكام الصوم- أحكام الحج – تنظيم البلاد – اختيار أهل المناصب .....
أنا أتكلم هنا ليس عن54 جمعة ولكن عن خطبة يومية تقدم للناس ومن ثم يمكن للاقتصاد أن يكون فى شهر كل يوم تفصيل فى جزء منه بحيث تنتهى السنة وقد تناول الخطيب كل موضوعات الدين الممكنة وأما الموضوعات الطارئة فلا يجب أن تعطل تلك الخطة وإنما يتناولها الخطيب فى خطبة ثانية فى نفس اليوم
وتحدث العودة عن أسلوب الخطيب حيث قال :
"ودون شك فإن المضمون الجميل ، حقه أن يُقَدَّم في قالب جميل يليق به ، ولذلك قال بعض المفكرين : إن الطريقة التي تقدم بها الفكرة هي جزء من الفكرة ذاتها وهذا صحيح .
ولعل جزءاً منه يتبين في مثل صفة الرسول- صلى الله عليه وسلم- حال الخطبة ، ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمَرّت عيناه ، وعلا صوتُهُ ، واشتد غضبُهُ حتى كأنّه منذرُ جيش ، يقول: صبّحكم ومسّاكم ، ويقول : ( بُعِثْتُ أنا والساعةَ كهاتين ، ويَقْرِنُ بين إصبعيه: السبابةِ والوُسطى ، ويقول : أما بعد ؛ فإن خيَر الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد . وشرُّ الأمور محدثاتُها , وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ، ثم يقول : أنا أولى بكل مؤمنٍ من نفسه .من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديْناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ ) .
فحين كان صلى الله عليه وسلم يتكلم عن أمر التخويف والتحذير ؛ كان هذا يبدو على قسمات وجهه ، ونبرات صوته ، من غير تكلف ،ولا تعمّل
وحين انتقل إلى تقريب الساعة وبيانها استخدم صلى الله عليه وسلم ، صيغة عملية ملفتة ، وهي الجمع بين إصبعيه ، حتى يضم إلى الدِّلالة اللفظية إيضاحاً عملياً مشهوداً يستقر في الذهن . وحين تدرّج إلى ذكر بعض النتائج والفوائد جاءت على صيغة فَقَراتٍ مفصولة موجزة ، يأخذ بعضها بِزِمامِ بعض ، وتنطلق إلى أذن السامع كأنها حبَّاتُ عِقْد نظيم .
وحين ختم بقوله ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ... الخ ) كان من الواضح أن اللهجة قد هدأت وأن الدورةَ الطبيعيةَ للحديث قد بلغتْ نهايتَها
ولذلك قال النووي تعليقاً على هذا الحديث ( 6/156) " يُسْتَدَلُّ به على أنه يُستحبُّ للخطيب أن يُفَخِّم أمرَ الُخطبةِ ، ويرفعَ صوتَهُ ، ويَجْزُلَ كلامُهُ ، ويكونَ مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب ،أو ترهيب، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمراً عظيماً ، وتحذيره خَطْبًا جسيمًا .. " "
والحديث الذى استدل به العودة باطل لم يقله النبى(ص) فالساعة ليست قريبة كما زعم الحديث لأننا بعد ألف ,اربعمائة وأكثر من التاريخ المعروف لم تقم القيامة التى لا يعرف موعدها نبى ولا غيره كما قال تعالى :
"يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت فى السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة"
وأما حكاية تحمير العينين والغضب فكلام يتناقض مع حديث أخر هو لا تغضب فليس مطلوبا من الخطيب أن يتصنع المظاهر وإنما عليه أن يفهم الناس المطلوب
واستخدم العودة تعبير السحر البيانى فقال :
"إن تعبير " السحر " الوارد في حديث جابر بن سمرة في مسلم تلخيص دقيق لمهمة " البيان " ، فهو يَسْبي العقولَ ، ويأخذُ بالألبابِ ، ويُطْرِبُ الآذانَ ، ويُحَرِّكُ المشاعرَ ، ويُبَدِّلُ القناعاتِ ، ويصنَعُ العجائبَ .
ولذا فإن الحس الأدبي المرهف ، والذوق الرفيع من أسباب النجاح والتوفيق في الخطاب ، خطبةً كان ، أو مقالةً ، أو شيئاً آخر .
ورُبَّ أسلوبٍ راقٍ كان مرافعةً ناجحة عن قضية من قضايا المُبْطِلين . ورُبَّ أسلوبٍ ضعيفٍ متهالكٍ كان جِنايةً على فِكْرَةٍ عظيمةٍ نبيلةٍ .
والذي يحدث -أحيانًا- أنّ مَنْ يتشبعُ بنظرٍ صحيح يُخيَّل إليه أن صواب الحجج العقلية والنقلية التي يملكها يُعفيه من إخراجها في القالب الأدبي الشاعري الآسر .
والحقُّ أنَّ عليه أنْ يدرك أنَّ جودةَ العرضِ ، وحسنَ الصياغةِ ، وملائمةَ الخطابِ اللفظي يُضْفِي على نَصَاعَةِ الحجة مزيداً من القوة والإقناع والتأثير .
ثم إن سَعَةَ الأُفُقِ ، كما تكون في شمولية الفكرة ، وتناسُبِها مع قِطاعٍ عريضٍ من الناس ، تكون -أيضًا- في شمولية الأُسلوبِ ، وخروجِهِ عن الإطار الخاص ."
وسحر البيان يقصد به تقديم الأدلة وأخذ الناس بالتدريج للفهم والاقتناع ولا يقصد به المحسنات اللفظية
وتحدث عن عدم تحدق الخطيب باللغة الدراجة فقال :
|