كان لزيد تأثير بالغ على مؤلف الكتاب، فبعد رحلته الطويلة للعراق، عاد يورجن ليفكر فى أسباب ما يحدث هناك. حاول أن يتوصل إلى أسباب وجود الإرهاب، تطلب ذلك قراءة معمقة لعدة كتب، واستخلاص ما شاهده بعينيه فى العراق ودول أخرى، فكانت النتيجة كالآتى: «السبب الرئيسى للإرهاب فى العصر الحالى هو الطريقة غير الإنسانية التى يتعامل بها الغرب مع العالم الإسلامى منذ مائتى عام تقريباً.
لا يجوز الاستمرار فى احتقار الشعوب، ولن نتغلب على الإرهاب إلا إذا تعاملنا مع الدول الإسلامية بعدل وإنصاف».. كما يرى يورجن أن العمومية فى التعامل مع العالم الإسلامى، بوصفه مكاناً واحداً تجمعه صفات ومعتقدات واحدة، يشوش الرؤية، لتباينات هذه البلاد العرقية والتاريخية، إلى جانب مميزاتها الفردية.
كما يقدم يورجن «فرضياته الخاصة» التى من الممكن إذا تأملها الغرب جيداً أن تنتهى مشكلة الإرهاب، حيث يرى أن «الغرب أكثر عنفاً من العالم الإسلامى»، فخلال المائتى عام الأخيرة لم يقم بلد إسلامى بالهجوم على الغرب ولو لمرة واحدة.
كما يرى أن سياسة تجار الحروب التى اتبعتها الحكومات الغربية هى التى منحت الشعبية للمتطرفين المنتسبين للإسلام.. لهذا يتساوى «الإرهابيون المرتدون لعباءة الإسلام» مع «القادة المتخفين بعباءة المسيحية» فى جريمة القتل والإرهاب.
وفى المقابل يتساوى المسلمون واليهود والنصارى فى التسامح، لأن حب الله والآخر تعاليم جوهرية فى القرآن والكتاب المقدس..وهكذا يتركنا يورجن بعد فرضياته عن أسباب الإرهاب، لنتأمل مشهد زيد وقد توجه إلى ضفة نهر الفرات بمنطقة «الجزيرة» بالرمادى، الذى يصفه الكاتب الألمانى بقوله «كان ذهنه فارغاً بشكل لا يصدق، فهو الآن جزء من تلك الحرب التى يكرهها، ويعرف أنه لا يوجد طريق للعودة، ولكنه عرف ذلك متأخراً».
من فرن «بوش» إلى القاعدة
أسعار الوقود ارتفعت.. الكهرباء تتوافر لمدة ساعات محدودة فى النهار فقط.. الغاز المستخدم فى تغذية الأفران لم يعد متاحاً، لهذه الأسباب صار العراق، أكثر دول العالم إنتاجاً لمصادر الطاقة، «لا تتوافر فيه طاقة»، لذا صارت النساء تعتمد على أفران مصنوعة من الطين (مثل الأفران التى كانت تستخدم فى ريف مصر قديماً) حتى يطبخن، الأمر الذى تعلق عليه إحدى السيدات العراقيات «إن الاحتلال أعادنا إلى العصر الحجرى»، اللافت أن بعض السيدات كن يسخرن بقولهن إن هذه الأفران هى أفران «بوش».
لكن الاحتلال جلب للعراق ما هو أسوأ من أفران الطين.. ونقصد بهذا «تنظيم القاعدة». فى عهد صدام حسين لم يكن هناك «القاعدة» فى العراق، لكن التنظيم تواجد بعد الاحتلال لمحاربة أمريكا. أغلب الأعضاء من الأجانب كما يتردد.
لكن الكتاب يكشف لنا من خلال لقاء يورجن بعناصر المقاومة عن وجود عراقيين مثل «رامى»، ينخرطون فى صفوف القاعدة!
لكل مقاوم حظه من المأساة..
لم يشترك أحد فى المقاومة دون أن تكون نار الاحتلال قد طالته أو طالت أفراداً من عائلته.
اقتحمت مجموعة من عساكر الاحتلال منزل «رامى»، فتشوا البيت، أفرغوا محتوياته وعبثوا بالأثاث، وحطموا بعضه، وحينما طالبتهم والدة رامى بالتوقف عن تدمير وتحطيم المنزل أطلقوا عليها الرصاص فقتلوها.. لهذا التحق رامى بتنظيم القاعدة فى العراق. خلال حديثه مع يورجن كان يبدو رامى غير مقتنع بأنشطة التنظيم الإرهابية، التى تستهدف المدنيين، لكن الغضب أصاب بصيرته بالعمى فصار ناشطاً فى القاعدة.
اللافت أن يورجن أبدى دهشته حينما سمع كلام رامى، لم يكن يتخيل أن القاعدة استقرت فى العراق. كما لم يتخيل أن ينضم إلى صفوفها عراقيون. «نتيجة من نتائج الغزو» يعلق أبو سعيد، محاولاً تهدئة يورجن، الذى غضب حينما عرف أن أبا سعيد رتب له لقاءً مع شخص من القاعدة، ويتابع صديق الكاتب العراقى إنهم أحد جوانب المقاومة!!
من ناحية أخرى تتكون المقاومة العراقية من قوميين، يطالبون بالوحدة العربية، وبعثيين سابقين كانوا من قوات الجيش العراقى التى تم تسريحها بعد سقوط بغداد، وميليشيات شيعية، علاقة بعض أفرادها بإيران واضحة.. كانت هذه هى الخيارات المطروحة أمام جميع العراقيين الرافضين للاحتلال، لكن «رامى» اختار القاعدة، ربما لأنهم «الأشرس»، الفئة الوحيدة التى ستهدى من نار غضبه!
كان رامى يأمل فى العمل تحت قيادة الإرهابى القاعدى، الأردنى، الزرقاوى، «لأنه ألحق خسائر فادحة بالقوات الأمريكية»..كانت المسألة انتقاماً شخصياً بالنسبة لرامى، وليست قضية تحرير على ما يبدو.
بعد لقاء يورجن برامى، «القاعدى»، صار غاضباً، لم يكن يريد أن يلتقى فى رحلته بما يؤكد الشكوك فى وجود القاعدة، كان يأمل أن يجد مقاومة وطنية شريفة، لا علاقة لها بالإرهاب، لكن اللقاء برامى كشف للكاتب الألمانى أن العراقيين يؤمنون أن هناك عناصر معتدلة فى القاعدة، عناصر يمكن «أن يعول عليها فى تحرير العراق»، والبقاء فى العراق الحر إذا أقنعوا بالتخلى عن أفكارهم الإرهابية.. على حد تعبير صديقه العراقى أبى سعيد!
فى جلسة خاصة، ومأدبة غذاء، التقى الكاتب الألمانى برموز وقيادات المقاومة العراقية، كان احتفاء رجال المقاومة بيورجن كبيراً، لأنه جاء إلى العراق بمفرده، ولم يستق معلوماته من جانب الأمريكان، فهو جاء ليستمع إلى «ضحايا الحرب، أما الآخرون فهم يذهبون إلى الجزارين».. على أحد تعبير أحد القادة.
لهذا كان الرجال صرحاء مع يورجن، حيث يقول أحد القادة: «لقد جلب الأمريكيون هذا الوباء إلى بلادنا- (يقصد الإرهاب)- فهم يتحملون المسؤولية عن ذلك، فقبل الغزو الأمريكى لم تكن بلادنا تعرف لا إرهابيين ولا الحروب الطائفية»..
سأل يورجن زيداً عن رأيه فى تنظيم القاعدة، فقال الأخير أنه يرفض أفكارهم، فاستراح إلى وجود أمل فى المقاومة.
يمثل زيد نموذج المقاوم، يرفض قتل الأبرياء. حتى إنه بعد أول عملية نفذها ظلت صور الجنود الذين فجر مركبتهم تطارده فى الصحو والنوم، هكذا يكتب يورجن قصة عنترة الجديد، البطل الشاب، المحب للحياة، صاحب الموقف البطولى الواضح، يضعه المؤلف فى مقارنة مع الاحتلال، والقاعدة الإرهابية، ومحاولات صنع الفتنة بين الشيعة والسنة، وأمام كل هذه المعارك المفتعلة سيبقى «زيد» مثلاً نقياً للمقاومة.
الكاتب فى سطور
د. يورجن تودينهوفر، كاتب ألمانى، وعضو بالبرلمان الألمانى الاتحادى. كما شغل وظيفة المتحدث الرسمى باسم الحزب الديمقراطى المسيحى لشؤون التنمية ومراقبة التسلح.
من ناحية أخرى يخصص المؤلف عائد مبيعات كتبه لتحسين أحوال ضحايا الحروب. سبق له أن خصص مبيعات كتابه السابق «من يبكى على عبدول وتانيا»، الذى تناول حياة الأفغان بعد الاحتلال الأمريكى لها، للمساهمة فى تأسيس دار لإيواء الشابات والشباب المعاقين واليتامى فى كابول (افتتح فى فبراير ٢٠٠٦).
كما خصص جزءا من مبيعات كتابه ليؤسس متجرا للفتاة العراقية مروة، وكان الكتاب يحمل عنوان «آندى ومروة». كما يسعى حالياً لتأسيس مركز علاجى للأطفال المصابين بالإيدز فى الكونغو، بالتعاون مع منظمة الإغاثة الأفريقية «هيل»، ومن المقرر أن يحمل المركز اسم «آندى ومروة»- وهو عنوان كتاب يورجن الخاص باحتلال العراق- فآندى هو جندى أمريكى كان من أوائل ضحايا أمريكا فى العراق، أما مروة فهى الفتاة العراقية، التى صارت صاحبة المتجر الذى أشرنا إليه سابقاً.
كما أراد «تودينهوفر» أن يكون الكتاب حاملاً لإجابات أسئلة طرحت نفسها خلال الرحلة فى العراق: لماذا حدث الاحتلال؟ ..ما دوافع المقاومة؟.. من المخطئ؟.. من الطرف المحب للعنف والإرهاب العرب أم الغرب؟ أى أن الكتاب يساهم فى حل المشكلة مادياً وفكرياً.
لماذا تقتل يازيد ؟
المؤلف: د. يورجن تودينهوفر
ترجمة : د. حارس فهمى سليم
عدد الصفحات:٣٥٧
الناشر: الدار المصرية اللبنانية