العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية على المريخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في بحث العقد النفسية ورعب الحياة الواقعية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: خوارزمية القرآن وخوارزمية النبوة يكشفان كذب القرآنيين (آيتان من القرآن وحديث للنبي ص (آخر رد :محمد محمد البقاش)       :: نظرات في مقال السؤال الملغوم .. أشهر المغالطات المنطقيّة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال البشر والحضارة ... كيف وصلنا إلى هنا؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال التسونامي والبراكين والزلازل أسلحة الطبيعة المدمرة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال الساعة ونهاية العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 02-01-2009, 08:25 PM   #1
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي مصر .. فى موكب الزمان

مصر .. فى موكب الزمان



لم يأتى هذا الموضوع من كونى مصريا مسلما .. بل كان له أن يكون لألف سبب ، ليس لأنه على أرضها قامت أقدم حضارات الأرض وأشهرها فى كل العالم القديم ، ولا لأنها نزلت مكانة خاصة فى قلب رسول الله وقلب صحابته بل لقد خصها الله عز وجلّ بإفرادها من بين كل أمم الأرض حين ذكرها فى كتابه وكان شرفا لم تحظ به سواها ، ولا لأن ترابها الطاهر وطأه كثير من أنبياء الله . ليس لكل هذه الاسباب وحسب ، فتاريخ مصر ينصهر تماما مع تاريخ هذه الأمة المسلمة ، وسنرى كل هذا تباعا . والأهم ، أن يقرأ هذا التاريخ كل مصرىّ ليعرف أن من هنا كان الطريق ، هكذا كان أجدادنا فأين نحن منهم ؟
.. كان لهذه الاسباب وغيرها أن نستعرض تاريخ مصر عبر موكب التاريخ ونلقى الضوء على كبار الحادثات فى وادى النيل .

إن طبيعة هذا الشعب ذات طبيعة خاصة تختلف تماما مع طبائع الشعوب الأخرى ، فهو شعب مبدع ، منتج ، مؤثر .. تحت أى حضارة ومسمّى بل لولا طبيعته هذه ما قدر له البقاء والنجاة إلى يومنا هذا مع العلم أنه عبر هذا التاريخ السحيق ومنذ إنتهاء فترة الفراعنة بكل ما فيها من حسن وسىء ، لم يحكم مصر من ساعتها حاكم من أهلها وإلى عام 1952م .. أى أنها بحكم التعريفات الحديثة "مستعمرة" ،، لكن طبيعة هذا الشعب تتحمل فوق حد التحمّل وبشكل مذهل ، بل إنها لا تزال تبهر الكون وتعدّ له المفاجأة تلو الأخرى عبر كل فترة وأخرى . فمن حضارة الفراعنة وأعجوبة الهرم ، إلى حكم البطالسة وكليوباترا ومكتبة الإسكندرية أعجوبة الفكر ومنارة العلم فى كل العالم القديم ، وهى مركز الخلافة المسلمة العسكرىّ والإقتصادىّ فى كل إفريقيا وشمال أوربا ، وهى حضارة المماليك والفاطميين والعثمانيين إلى سائر الحكومات والممالك التى مرت عليها وتركت بها وليس لها أثرا بين صفحات التاريخ .

__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-01-2009, 08:39 PM   #2
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

فتح مصر




يبدأ تاريخ مصر بهذا الفتح وإن عدنا بالزمن إلى الوراء لأكثر من 4000 عام قبل الميلاد وحتى أزمان الفراعنة فسوف يظل هذا التاريخ تحديدا هو لحظة نشوء وميلاد هذه الدولة العريقة .. 640 - 642م \\ فمنذ هذا التاريخ ومصر عربية مسلمة بخلاف كل مستعمر نهش من خيراتها عبر تاريخها السحيق ومرّ فى موكب التاريخ كأن لم يكن ، أطلق المصريون من لحظتها وإلى يومنا هذا على هذا الحدث العظيم "فتح مصر" .

مضى حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ، وأترك سيدنا حاطب رضي الله عنه يتحدث عن نفسه إذ يقول :

"ثم توجهت أريد مصر ولم أزل إلى أن أتيتها، فلما وصلت إلى باب الملك، قالوا: من أين جئت؟ قلت: أنا رسول إلى ملككم ، فقالوا: من عند من؟ قلت: من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمعوا بذلك أحاطوا بي وأوقفوني على باب الملك فأمرهم بإحضاري بين يديه ، فعقلت راحلتي وسرت معهم عند المقوقس، وإذا هو في قبة كثُرَ الجوهر في حافتها، ولمع الياقوت من أركانها، والحجَّاب بين يديه، فأومأت بتحية الإسلام، فقال حاجبه: يا أخا العرب، أين رسالتك؟ قال: فأخرجت الكتاب، فأخذه الملك من يدي بيده. قال: فقبله ووضعه على عينيه، وقال: مرحبا بكتاب النبي العربي، ثم قرأه وزيره ، فقال له: اقرأه جهراً؛ فإنه من عند رجل كريم، فقرأه الوزير إلى أن أتى إلى آخره، وهذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فَأَسْلِمْ تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {آل عمران: 64 فقال الملك لخادمه الكبير: هات السفط الذي عندك؛ فأتى به ففتحه واستخرج نمطا ففتح ذلك النمط ، وإذا فيه صفة آدم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وفي آخره صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لي: صِفْ صاحبك حتى كأني أراه.

قال حاطب: ومن يقدر أن يصف عضوا من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لابد من ذلك، قال: فوقفت بعدما كنت جالسا، وقلت: إن صاحبي وسيم قسيم، معتدل القامة، بعيد الهامة، بين كتفيه شامة، وله علامة كالقمر إذا برز صاحب خشوع وديانة، وعفة وصيانة، صادق اللهجة، واضح البهجة، أشم العرنين، واضح الجبين، سهل الخدين، رقيق الشفتين راق الثنايا، بعينيه دعج ، وبحاجبيه زجج، وصدره يترجرج، وبطنه كطي الثوب المدبج، له لسان فصيح، ونسب صحيح، وخُلُقٌ مليح.

قال: والملك ينظر في النمط، فلما فرغت قال: صدقت يا عربي هكذا صفته، فبينما هو يخاطبني إذ نُصِبت الموائد، وأحضروا الطعام؛ فأمرني أن أتقدم فامتنعت، فتَبَسَّمَ وقال: وقد علمتُ ما أُحِلَّ لكم وحُرِّمَ عليكم، ولم أقدم لك إلا لحم الطير، فقلت: إني لا آكل في هذه الصحاف الذهب والفضة؛ فإن الله قد وعدنا بها في الجنة، قال: فبدلوا طعامي في صحاف فخار فأكلت، فقال: أي طعام أحب إلى صاحبك؟ قلت: الدباء (يعني: القرع)، فإذا كان عندنا منه شيء آثرناه على غيره. فقال: ففي أي شيء يشرب الماء؟ فقلت: في قعب من خشب. قال: أيحب الهدية؟ قلت: نعم؛ فإنه قال صلى الله عليه وسلم: "لو دُعِيتُ إلى كراع لأجبت، ولو أُهديَ إليَّ ذراع لقبلت". قال: أيأكل الصدقة؟ قلت: لا، بل يقبل الهدية ويأبى الصدقة، قد رأيته إذا أُتِيَ بهدية لا يأكل منها حتى يأكل صاحبها. فقال الملك: أيكتحل؟ قلت: نعم، في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنتين، وقال: "من شاء اكتحل أكثر من ذلك أو أقل" وكحله الإثمد، وينظر في المرآة، ويرجل شعره، ويستاك.
فقال المقوقس: إذا ركب ما الذي يحمل على رأسه؟ فقلت: راية سوداء ولواء أبيض، وعلى اللواء مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقال: أله كرسي يجلس عليه أو قبة. قلت: نعم، له قبة حمراء تسع نحو الأربعين. قال: فما الذي يحب من الخيل؟ قلت: الأشقر الأرتم الأغر المحجل في الساق، وقد تركت عنده فرسا يقال لها: المرعد.

قال: فلما سمع كلامي انتخب من خيله فرسا أفخر خيول مصر الموصوفة، وأمر به فأسرج وألجم، فأعده هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرسه المأمون، وأرسل معه حمارا يقال له: عفير، وبغلة يقال لها: دلدل، وجارية اسمها: بريرة وكانت سوداء، جارية بيضاء من أجمل بنات القبط اسمها: مارية، وغلام اسمه: محبوب، وطيب وعود وندّ ومسك وعمائم وقباطي، وأمر وزيره أن يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يقول فيه: "باسمك اللهم، من المقوقس إلى محمد، أما بعد؛ فقد وصل كتابك وفهمته، أنت تقول: إن الله أرسلك رسولا وفضلك تفضيلا وأنزل عليك قرآنا مبينا، فكشفنا - يا محمد - خبرك، فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق، ولولا أنني ملكت مُلكا عظيما لكنت أول من آمن لعلمي أنك خاتم النبيين وإمام المرسلين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته مني إلى يوم الدين.
قال: وسلم الكتاب والهدية إلي و قبلني بين عيني، وقال: بالله عليك قَبِّلْ بين عيني محمد عني هكذا، ثم بعث معي من يوصلني إلى بلاد العرب وإلى مأمني .

__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-01-2009, 08:48 PM   #3
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي



كان فتح مصر هام من الناحية العسكرية أولا لأن مصر هي الامتداد الطبيعي الجنوبي لفلسطين، كما أن فتح ما فُتِحَ من مدن فلسطينية قد أجهد البيزنطيين، ولابد من ضربة قاصمة لوجودهم في هذه الأماكن الجنوبية فكان ذلك.

ومن ناحية أخرى فإن "أرطبون" قائد بيت المقدس (داهية الحرب الذى وجّه الخليفة لحربه أرطبون العرب – عمرو بن أبى وقاص) قد انسحب منها بنظام إلى مصر لإعادة المقاومة، ودفع المسلمين عن الشام ثانية، ولذلك استدعى الأمر مباغتة هؤلاء والإيقاع بهم قبل تزايد خطرهم واستعمال قوتهم.

وكذلك كان من الممكن عند إغفال فتح مصر مهاجمة البيزنطيين دار الخلافة عن طريق البحر الأحمر، فتهبط قواتهم إلى ميناء جدة أو الجار، وتتم مهاجمة الحجاز.

كما أن معرفة عمرو بن العاص رضي الله عنه لمصر ودرايته بها، وهو القائد المختار لفتح البلاد، وَفَّرَ على المسلمين كثيرا من المعاناة والتكاليف. إضافة إلى أن أغلب الجند الذين اشتركوا في الفتح كانوا من العناصر اليمنية، وهؤلاء اليمانية مهروا في قتال الحصون الساحلية، واشتركوا مع عمرو في فتح الحصون ببلاد الشام، فهم أقدر الناس على فتح مصر ومعالجة شئونها العسكرية، كما كانوا على دراية ببناء المدن واختطاطها، والإلمام بالزراعة، فهم من هذه الناحية العسكرية أقدر الناس على تفهم أمور مصر ومعالجة شئونها.
أدرك المسلمون ذلك كله، وأدركوا معه غنى مصر وثراءها، وعلموا أن ضمها إلى بلدان الإسلام يضمن انتعاشا في اقتصاد المسلمين، ويوفر لهم الأموال التي تساعد على مزيد من الفتوح، إضافة إلى أن مصر كانت مركزا رئيسيا لتمويل بيزنطة بالقمح، ومع انهيار الجيش البيزنطي، وما حَلَّ بمصر من ضعف وانقسام كانت الفرصة مواتية للإقدام على فتح مصر.

بعد موافقة الخليفة عمر رضي الله عنه والمجلس العسكري على فتح مصر وخطة الفتح، تحرك الجيش الإسلامي بقيادة عمرة بن العاص رضي الله عنه وتحت قيادته دون أربعة الآلاف مقاتل معظمهم من الفرسان

ولما بلغ المقوقس مجيء جيش المسلمين إلى مصر أرسل جيشا لملاقاة عمرو، فتلاقيا على الفرما فكان أول قتال، والفرما: مدينة من أقدم الرباطات المصرية بقرب الحدود الشرقية لمصر، وكانت في زمن الفراعنة حصن مصر من جهة الشرق لأنها في طريق المغيرين على مصر واسمها القديم "برآمون" أي: بيت الإله آمون، ومنه اسمها العبري "بَرَمُون"، والقبطي "برما"، ومن هذا أتى الاسم العربي وهو الفرما .

ولابد أن عمرو قد حدد من قبل وجهته على أرض مصر أن يكون هدفه الأساسي هو مدينة الإسكندرية التي زارها من قبل في الجاهلية؛ فهي عاصمة البلاد، وتتصل بالقسطنطينية بحراً وبكافة موانئ الدولة على بحر الروم، وهى أكبر حاضرة في مصر منذ بناها الإسكندر الأكبر، ولكي يزول حكم الروم تماما عن مصر فإنه يتعين إخراجهم من كل شبر من أرضها، فكيف يكون طريقه إليها؟ لابد أنه قد حدد مساره.. هل يخترق أرض الدلتا بزروعها وأنهارها وفيض مائها، أو يدور حولها من جنوبها إلى غربها ويساير الصحراء حتى يصل إلى الإسكندرية؟
اختار عمرو الخيار الثاني، وهو الطبيعي والمنطقي، فالسير في الصحراء أفضل للعربي ودوابه من التورط بين الحقول وأوحالها .

أرسل المقوقس إلى عمرو يقول :" إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنت عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم، ومعهم العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسرى في أيدينا فابعثوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفًا لطلبكم ورجائكم فابعث إلينا رجالاً من أصحابك نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء "

فلما رجعت رسل المقوقس إليه قال لهم: كيف رأيتموهم"

قالوا :"رأينا قومًا الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعُهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، إذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم "

فقال المقوقس" والذى يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محاصرون بهذا النيل لن يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.

فتح حصن بابليون

وعلى أسوار بابليون ، قال الزبير بن العوام "إنى أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين" ووضع سلمًا من الخشب (إرتفاع السور 20 مترا) إلى جانب الحصن ، وأمر المسلمين إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعًا. كان الزبير فدائيًا شجاعًا لا يدري ما سوف يلقى فوق السور من قوات الروم، وكان في نحو الخمسين من عمره.

ولم يخطر لهم على بال، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه سيفه والمسلمون يرددون تكبيره، وقد تسلقوا على السلم حتى نهاهم عمرو خوفًا من أن ينكسر، ثم انحدر الزبير ومن معه إلى داخل الحصن، والأرجح أنهم نزلوا على سلالم البرج، وأصاب الرعب أهل الحصن فهربوا من أمامهم، وعمد الزبير إلى باب الحصن المغلق من الداخل ففتحه واقتحمه المسلمون من الخارج..

كان الحصن في قلب مصر، وكان أحصن ما بيد الروم في مواجهة جيش المسلمين، فلما سقط صار واضحًا حرج موقف الروم أمام عملية الفتح. نعم مازال أمام المسلمين أن يعبروا مجاريَ مائية خاصة نهر النيل، ولكن أيضًا صار مألوفًا لديهم أن يجدوا حلاً أمام كل عقدة. وتم الصلح بين عمرو والمقوقس .

__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-01-2009, 09:04 PM   #4
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي



كتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بذلك. فجاءه من ملك الروم جوابه على ذلك يقبح رأيه وبعجزه ويرد عليه ما فعل ويقول "إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفًا (بعد إمدادات الخليفة) وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى !
قال المقوقس:والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة.
ثم أقبل المقوقس على عمرو بن العاص وقال له:إن الملك قد كره ما فعلت وعَجَّزني وكتب إليّ وإلى جماعة الروم ألا نرضى بمصالحتك وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تم صلح القبط بينك وبينهم ولم يأتِ من قِبَلِهم نقض، وأنا متم لك على نفسي، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم، وأما الروم فأنا منهم براء. وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال".

قال عمرو "ما هن ؟"
قال: لا تنقض بالقبط وأدخلني معهم وألزمني ما لزمهم وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاهدتك عليه فهم يتمون لك على ما تحب، وأما الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئًا وعبيدًا فإنهم أهل ذلك لأني نصحتهم فاستغشوني ونظرت لهم فاتهموني، وأما الثالثة أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم يدفنونني في أبي يُحَنَّس بالإسكندرية". فقال عمرو: هذه أهونهن علينا ".

لم يغير المسلمون النظام الإداري المعمول به في مصر قبل الفتح، سواء على المستوى المركزي لإدارة الولاية أم على المستوى المحلي لإدارة الإقليم، اللهم إلا في حدود ضيقة استدعتها الضرورة والظروف، ولم تكن تلك السياسة نابعة من جهل العرب بالنظم الإدارية، أو رغبة في استمرار تدفق الضرائب إلى خزانة الخلافة كهدف يمكن الفتح من ورائه وإنما كان إبقاؤهم على النظام الإداري، نتيجة عدم معرفتهم باللغتين اليونانية والقبطية المستعملين في دواوين مصر، ثم احترام نصوص عهود الصلح التي تم التعهد فيها بالحفاظ على الحريات، وصون الممتلكات والأموال، وعدم التدخل في شئون الأقباط..

الأوضاع الاقتصادية

ـ الزراعة

تعتمد مصر منذ القدم على حرفة الزراعة اعتمادًا أساسيًا، وقد كان المسلمون يعرفون خيرات مصر الوفيرة، فقد أُثِرَ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قوله: "ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة".. وأثر عن ابنه عبد الله قوله: "من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثله، فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها، وتخرج ثمارها"..

ومعلوم أن المسلمين مُنِعُوا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مزاولة الأنشطة الاقتصادية عامة خاصة الزراعة حتى لا ينشغل الجند عن واجبهم الأول الجهاد في سبيل الله، وكم أن في مقابل ذلك يكفل لهم عمر رضي الله عنه معاشهم ومعاش أولادهم وذويهم إلى جانب ما يحصلون عليه من غنائم حربية، وكان لا يسمح لهم بالخروج إلى الريف ومخالطة الناس إلا في وقت الربيع يرعون خيولهم ودوابهم، ثم يعودون إلى أماكن سكناهم ثانية..

ومما يشهد بالخير للمسلمين من فاتحي مصر أنهم لم يصادروا أراضي القبط الزراعية، ولم يستولوا عليها لأنفسهم .

دخل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصر على رأس الجيش الذي فتحها وكان على رأس الجيش كما نعلم عمرو بن العاص وابنه عبد الله والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعقبة بن عامر الجهني، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم وحصرهم.

لما فتحت مصر أتى أهلُها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سُنَّةُ لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك ؟ قالوا: إذا دخلت ثنتا عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أباها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل، قال لهم: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة، وأبيب، ومسرى لا يجري قليلاً ولا كثيرًا حتى همَّوا بالجلاء عنها فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر: "إنك قد أصبت لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وكتب بطاقة داخل كتابه وكتب إلى عمرو: "إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة فإذا فيها: "من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قِبَلَََك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك" فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج، لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، فقطع الله تلك السُّنَّةَ السُّوء عن أهل مصر إلى اليوم.
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-01-2009, 09:07 PM   #5
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

ماذا كان يحدث لمصر لو لم يأتها الفتح الإسلامي؟



الواقع أن هذا السؤال ضروري للغاية لمن يريد أن يقيم الفتح الإسلامي لمصر تقييمًا نزيها مخلصا مبرءًا من الأغراض؛ لأن الفتح الإسلامي كان ذا أثر عظيم على مصر، وكان علامة فارقة في تاريخها-ليس هي وحسب- بل في أفريقية بأسرها، والباحث المنصف يرى أنه لو لم يأتِ الفتح الإسلامي لمصر لظلت:

1- خاضعة للدولة البيزنطية تُعاني من الاضطهاد والظلم إلى ما شاء الله، ولهجر أبناؤها أرضها فخربت، ودبت المجاعات وعصفت بأهلها، ولتداولت عليها أيدي الدول الاستعمارية الظالمة يخطفها مستعمر من مستعمر، يذيقونها العذاب ألوانًا، وينهبون خيراتها ويخربونها ليعمروا أوطانهم، ولتجرع المصريون كأس المهانة والذل، ولانتهى بهم الحال إلى بيع أبنائهم وأعراضهم ليسددوا الضرائب الجائرة، واستمر القتل والسجن والتعذيب والفتنة في عقيدتهم إكراها لهم على اتباع ديانة غيرهم (أُجبر القبط على إتباع بيزنظة فى معتقداتها والتى تخالف عقيدة أقباط مصر) ثم يكون المصير النهائي للجميع: النار...النار للمُكْرِهِ الروماني والمُكْرَهِ المصري على حدٍّ سواء؛ جزاءً على الكفر والشرك بالله ( عز وجل)، ولكن الإسلام أتاها فأضاء جنباتها بنوره، وأنقذ أبناءها من وهذه الكفر ورفعهم إلى قمة الإيمان السامقة، كما حماها من الاستعمار قرونًا عديدة نَعِمَتْ خلالها بسماحة الإسلام.

2- لو لم يأتِ الإسلام لحُرِمَ الأقباط من ممارسة شعائرهم الدينية وحقوقهم، ولظل الإسلام قابعًا في الجزيرة العربية ولم يستضيء بنوره أهل أفريقية ولا بلاد الأندلس.

3– أو لأصبحت مصر بؤرة من بؤر محاربة الإسلام، ولا كانت شعلة من مشاعل نصرة الإسلام عبر التاريخ ، ولحُرِمَ أبناؤها من ثواب الرباط إلى يوم القيامة.

وخلاصة القول: لو لم يأتِ الإسلام لظلت مصر ميتة بين الأحياء.
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 03:44 PM   #6
ريّا
عضوة شرف
 
الصورة الرمزية لـ ريّا
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2008
الإقامة: amman
المشاركات: 4,238
إفتراضي

لك الحق سيدي أن تفخر بمصرك ......موضوع رائع يستحق وقفة .......ولي عودة
دمت وسلمت ......تقبل مروري المتواضع ........كن بخير ........ريا
__________________
ريّا غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 08:15 PM   #7
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

إقتباس:
المشاركة الأصلية بواسطة rayaa مشاهدة مشاركة
لك الحق سيدي أن تفخر بمصرك ......موضوع رائع يستحق وقفة .......ولي عودة
دمت وسلمت ......تقبل مروري المتواضع ........كن بخير ........ريا

وأفخر بعراقى ويمنى وحجازى ومغربى ..

كلها مصرى ووطنى .. إنما كان موضوعى هذا وقفة لكل مصرى ..

كى يعرف الفرع إلى أى الجذور ينتمى ..

ومن هنا .. كان الطريق

ريا ..

لروحك النقاء
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 08:16 PM   #8
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

القدس بين سقوطين




إن أحداث غزة التى نشهدها اليوم ، ورغم تعاطف كل الشعوب العربية والغربية على حد سواء .. لا أكاد الوم فيها كلها سوى قطر واحد .. بلد واحد .. طالما كانت هذه البلاد تحت حمايته عبر هذا التاريخ وهو وحده منوط بها أكثر من غيرها .. مصر ..

ولماذا مصر ؟
فلسطين أرض رباط وثغر من ثغور الإسلام رغم ما يحيط بها من بلدان مسلمة لكنها مطمع لشعارات شتى أكانت صليبا أم نجمة زرقاء .. لذا كان على كل المسلمين واجبا مقدسا للجهاد والذود عنها وعلى مصر خاصة بحكم موقعها الجغرافى أن تحمل أكبر هذا الشرف وهذا العبء .. فلا أمان مطلقا لمن يملك فلسطين طالما لم يأمن مصر وسنجد هذا واضحا جليا منذ نشأة الحرب وفنونها .. أضف إلى كل هذه الأسباب أسبابا أخرى منها إرتباط شعب مصر بهذه الأرض إرتباطا روحيا وثيقا حتى تكاد القلوب فى هذه الأمة أن تخفق وتحلق مع النسائم شرقا كلما ذكر القدس أو استرجع الدهر أحداثه فيها .

لقد كانت الحملتين الصليبية والصهيونية متشابهتان إلى حد كبير ..
ومن أهم أوجه الشبه، أن الدين قد اتخذ ستارا وشعارا في الحملتين، ففي الأولى كان الصليب هو الشعار، وفي الثانية كان الشعار هو نجمة داود … وكان الهدف الظاهر في الأولى "إنقاذ القبر المقدس"، وفي الثانية كان الهدف "إعادة بناء هيكل سليمان".

ولكن الواقع الذي لا مراء فيه أن الحملة الصليبية كانت مجرد غزوة استعمارية استيطانية، كالغزوة الصهيونية المعاصرة سواء بسواء…والدلائل على ذلك سهلة المنال.

فهذا المستشرق المعروف لامونت يقول عن الصليبيين أنهم "لم يحاولوا الاستيلاء على البلاد الإسلامية لكونها بلادا إسلامية….بل خرجوا ليستولوا على البلاد وليؤسسوا فيها إمارات لهم…."وأن أمراء الإفرنج "كانوا يستهدفون غايات دنيوية محضة " …وأن الواحد منهم "لم يجد أي بأس في أخذ البلاد من أيدي المسلمين واليونان والأرمن أو من أيدي أبناء جنسه من الإفرنج".

وهذا مؤرخ غربي آخر هو "غروسيه" يقول في عبارة جازمة عن "الحاج" الذي ذهب لزيارة الأماكن المقدسة في بيت المقدس بأنه "أصبح رجل فتح يذهب لإنشاء ممالك تحت شمس الشرق، كما اتجه بارونات الأرض المقدسة إلى تطبيق سياسية استعمارية".

بل إن مؤرخا غربيا منصفا قد أدان الحملة الصليبية بأنها "أول تجربة في الاستعمار الغربي قامت بها الأمم الأوروبية خارج حدود بلادها لتحقيق مكاسب اقتصادية واسعة النطاق.

والواقع أن أهل الصليب أنفسهم لم ينجوا من الحملات الصليبية. فقد ارتكب الصليبيون مع أخوانهم في الدين في بلغاريا والمجر فظائع رهيبة، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس. وحين وصولهم إلى القسطنطينية خربوا الكنائس ونهبوا نفائسها، واقتحموا كنيسة القديس أيا صوفيا وهم سكارى، وعبثوا بما فيها من ستائر وأدوات وكتب مقدسة فحرقوها وداسوها بأقدامهم، ونهبوا ذخائرها، وما حوته من آلات ورخام، وحملوه معهم إلى الديار المصرية والشام، وبيع في الأسواق، ووصل منه إلى دمشق رخام كثير.
ومثل هذا قد فعلته الحملة الصهيونية في فلسطين، فقد هدمت المساجد والكنائس والمقابر، وأحرقت جانبا من المسجد الأقصى، ونهبت النفائس الدينية من كنيسة القيامة.

وأوجه الشبه أكثر من أن تحصى بين الحملة الصليبية والحملة الصهيونية، والدين الحق براء من الحملتين.

لقد إقتربت الحملة الصليبية الأولى الآن على مشارف القسطنطينية وتوغلت في آسيا الصغرى، واخترقت جبال طوروس، وها نحن نجدهم في تشرين الأول سنة 1098 معسكرين حول أسوار أنطاكية، وسيوفهم مشرعة نحو ديار الشام، وبيت المقدس هوالغاية والنهاية.

ودارت معركة رهيبة من أجل أنطاكية والإفرنج يستميتون للاستيلاء عليها، فهي باب المشرق العربي….والعرب يستبسلون في الدفاع عنها، دفاعا عن الوطن العربي بأسره.
ولكن العرب الذين نعنيهم هنا، هم القوات العربية في أنطاكية وما حولها. أما حكام العرب في بغداد ودمشق والقاهرة، فلم يكن الأمر يعنيهم من بعيد أو قريب .

وكانت حلب ودمشق أقرب الحواضر العربية إلى أنطاكية، وهما أولى بالنجدة من غيرهما.... ولكن الذي جرى أن الصراع كان على أشده بين الأخويين – العدوَّين الألدَّين: رضوان ملك حلب، ودقاق ملك دمشق .
وبسبب هذا الصراع على دمشق….وقف الملكان، دقاق ورضوان، يشاهدان أنطاكية وهي تقاتل الإفرنج وحدها….دون أن يدريا أن القدر والإفرنج يخبئان لهما معا أوخم العواقب والنوائب…

وما أشبه اليوم بالبارحة ..


وقد لعبت الخيانة دورها في معركة أنطاكية ..


وسقطت إنطاكية ...


وكان سقوط أنطاكية في اليوم الثالث من حزيران عام 1098. وكانت هزيمة مروعة، لا تقل ضراوة عن هزيمتنا المعاصرة في حزيران المشؤوم…
ويشهد مؤرخ أجنبي أن الإفرنج قد ذبحوا في أنطاكية ما لا يقل عن عشرة آلاف من أهلها، واضطرالجند إلى المسارعة في دفن الجثث قبل أن ينتشر الوباء في المدينة .

وفي أوائل الشتاء (11 ديسمبر 1098) حين كانت الرياح الباردة تتناوح السهول السورية، اهتزت رفات أبي العلاء المعري فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وهي تضج في قبره…ذلك أن الإفرنج قد اقتحموا بلدته التاريخية "فقتلوا أكثر من عشرين ألف رجل وامرأة وصبي" في رواية اين العديم، "وما يزيد على مئة ألف" في رواية ابن الأثير. أما أحد المؤرخين الغربيين فقد ذكر أن الإفرنج قد أحرقوا المعرة أولا عن آخر.

ولكن ديار الشام كانت مهيأة للهزيمة أمام الإفرنج، فقد كانت البلاد مجموعة ممالك وأمارات.

فهذه إمارة في أنطاكية يحكمها أحد الأمراء، واسمه سيَّان.
وهذه مملكة في حلب على رأسها الملك رضوان.
وهذه مملكة في دمشق على رأسها المملك دقاق.
وهذه إمارة في حمص يحكمها شمس الدولة جناح بن ملاعب.
وهذه إمارة في الموصل يحكمها أحد أمراء التركمان واسمه كربوغا.
وهذه إمارة في حماة يحكمها سلمان، أمير آخر من أمراء التركمان.
وهذه إمارة في حصن عزاز، شمالي حلب، وعلى رأسها الوالي عمر.

كانت هذه هي الحال في ديار الشام، أما الحال في مصر والعراق فكانت أشد تمزقا….خلافة فاطمية شيعية في القاهرة، وخلافة عباسية سنية في بغداد، وأوصال مفككة، تسودها الشحناء والبغضاء…والشعوب هي الضحية، والوطن هو الثمن.

لقد كانت القدس تحت إمرة الخلافة الفاطمية ومقرها مصر .. شأن فلسطين عبر أكثر أوقات هذا التاريخ .. والأشد ألما أن سقوطها الأول والثانى كانت فيهما تحت حماية مصرية ..
إذا تصفحت أقرب خارطة لهذه المنطقة فسوف ترى بعينيك حقيقة هامة .. إن مصر إمتداد فلسطين وفلسطين إمتداد مصر .. ليس فحسب إمتدادا جغرافيا .. برا وبحرا ستجد أن فلسطين فى أحضان مصر .. أضف إلى هذا كثافة العدد والقدرات البشرية الكثيرة والخبرة العسكرية ووفرة المال ، كل هذه العوامل جعلت من شعب مصر جيشا من الفلاحين والتجار الذى يسهل تشكيله فى وقت جدّ قصير وهنا مكمن خطورتها .. لذلك لا تجد حملة صليبية على بغداد أو دمشق رغم تساوى الخطر فى هاتين العاصمتين .. لكن لا أمان أبدا لمن يملك فلسطين سوى بتشكيل عمق دفاعى له فى مصر .. وقد برزت هذه الحقيقة عند كل جنرالات وقادة الحرب منذ هذا الوقت السحيق .. بدءا من بلدوين وحتى عمورى ملك مملكة القدس الذى لم يهدأ إلى أن يضم مصر إلى سلطانه .. ولم يترك له صلاح الدين هذه الفرصة أبدا بل جاهده على كل بقعة فيها واستمات فى الدفاع عنها بشراسة عجيبة سنأتى عليها فى وقتها .. لم يكن كل هذا سوى لإدراكه بأهمية مصر الإستراتيجية فى خطة تحرير بيت المقدس ..

ظلت فلسطين وبالأخص القسم الجنوبى منها تحت رعاية وحماية مصرية وحتى العام 1967 حين إجتاحت الآلة النازية الصهيونية هذا القطاع وعجزت مصر فى الدفاع عنه ولا عن أرضها والأكثر ألما حين تخلى عنها جنرالات الحرب فى حرب العاشر من رمضان لتظل تحت الأسر والقيد إلى يومنا هذا ..


إستغاثت فلسطين ببغداد ولكن لا حياة لمن تنادى .. وكانت ذروة المآسي وقمة المخازي قد رست على رأس الخلافة الفاطمية في القاهرة، فلم يكتف الفاطميون بالقعود عن الجهاد والتخاذل في معركة العروبة والإسلام، بل راحوا يعملون على إقامة تحالف مع الإفرنج نكاية بالسلاجقة المسلين في سورية ، وبالخلافة العباسية في بغداد، ويا لخزي الزمان وعار الأبد!

وكان صاحب الأمر والنهي في القاهرة في تلك الأيام الحالكة السوداء، الخليفة الفاطمي المستعلي، والوزير الأفضل بن بدر الجمال، أثبتت الأيام أن نكبة الإسلام كانت على يد هذا "المستعلي" وذاك "الأفضل".

وموجز النكبة التي تستعصي على الإيجاز أنه حين كانت المعارك الطاحنة دائرة بين العرب والإفرنج حول أسوار أنطاكية، بعث الوزير الأفضل بسفرائه إلى معسكر الإفرنج لإقامة تحالف بين الفريقين، بحيث تكون أنطاكية للإفرنج، وبيت المقدس للفاطميين!!

وقد اهتز التاريخ العربي غداة أن سقطت أنطاكية ، وراح يصيح مستنكرا ومنددا بموقف الوزيرالأفضل .
بل إن التاريخ قد ذهب إلى أبعد من ذلك, واتهم الخلافة الفاطمية بمصر بأنها هي التي دعت الإفرنج لاحتلال ديار الشام نكاية بالسلاجقة المسلمين الذين كانوا ينافسونهم في المشرق العربي. وقال التاريخ بأفصح كلام "أن أصحاب مصر (الفاطميين) ,وقد رأوا قوة الدولة السلجوقية واستيلاءها على بلاد الشام….خافوا، فأرسلوا إلى الإفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوها ويكونوا بينهم وبين المسلمين ولو أن الفاطميين، قد ذهبوا إلى أنطاكية محاربين مجاهدين، لا مفاوضين لا خائنين….لو أنهم شدوا أزر القوات العربية التي كانت تتصدى للإفرنج، لأرتدت الحملة الصليبية الأولى على أعقابها، وما استطاعت أن تجتاح في ما بعد ديار الشام، وفلسطين، وسيناء، والقاهرة نفسها مقر الدولة الفاطمية ويغرق العالم العربي في النهاية في خضم المصائب والويلات عبر مئتي عام ويزيد..

ولم يكن الإفرنج بالقوة الخارقة التي لا تقهر، فإن حرب أنطاكية قد أرهقتهم إلى حد بعيد، وتخلى كثيرمنهم عن المعركة وعادوا إلى بلادهم وقد بلغ من الضائقة التي حلت بهم أنهم على حد تعبيرا بن الأثير، "ليس لهم ما يأكلون، وتقوَّت الأقوياء بدوابهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر .

__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 08:18 PM   #9
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

ودار الفلك دورته..وجاء حزيران آخر ….ليشهد انتصارنا، بعد أن شهد انكسارنا.

ففي 20 حزيران من عام 1268 تبدل الحال في الوطن العربي. فلم يكن على مسرح الأحداث ملك دمشق، وملك حلب، وأمير الموصل، وأمير حماة، وأمير أنطاكية، ولا الخليفة في بغداد ، ولا الخليفة في القاهرة…..لم يبق هؤلاء، وإنما جاء رجل واحد، هو الظاهر بيبرس، وقاد الأمة العربية من جديد.
وسجل التاريخ في ذلك اليوم أن أنطاكية قد سقطت على يد العرب فقتل من أهلها وحاميتها ستة عشر ألفا، وسبي ما يبلغ ماية ألف، بيع بعضهم في أسواق مصر، "وغنم العرب أموالا طائلة، وأحرقت أنطاكية وقلعتها، ولم تنهض المدينة بعد ذلك".
ومن العبارات الحلوة التي تركها لنا التاريخ عن سقوط أنطاكية بيد الظاهر بيبرس أنه بلغ من كثرة الغنائم والأسرى "أن قسمت النقود بالطاسات، وأنه لم يبق غلام إلا وله غلام .

وفي الثلاثين من شهر تموز، عاد البطل بيبرس إلى القاهرة، بعد هذا النصر المؤزر، عودة وادعة متواضعة من غير أن تعج بأقواس النصر أو تضج بالمواكب والهتافات، ليقول التاريخ إن الظاهر بيبرس "قد حمل عن الناس كلفة الزينة".

الوضع الآن كالتالى :
خلافة عباسية في بغداد، وخلافة فاطمية في القاهرة، وإمارات عربية شتي في ديار الشام، ومعهم السلاجقة الأتراك المسلمون، وهؤلاء بدورهم انقسموا على أنفسهم، وأصبحوا يعرفون بسلاجقة الروم وسلاجقة فارس .
وفي تلك الحقبة التعيسة، كان الإفرنج، قد احتلوا أنطاكية. وما أن فرغوا من قتل أهلها، وتدمير قلاعها، ونهب ذخائرها وأموالها، حتى شب الخلاف بين أمراء الإفرنج، لمن تكون أنطاكية من يحكمها، ومن يكون أميرها….هل يكون بوهيموند، أم ريموند ؟

واشتد الخلاف بين أمراء الإفرنج الطامعين…ووصلت أصواتهم إلى الخليفتين في بغداد والقاهرة، والى الملوك والأمراء في حلب ودمشق والموصل وغيرها من ديار الشام والعراق، ولكنهم "تقاعدوا عن الجهاد"، كما قال مؤرخو العرب، كما سيقولون بعد جيل أو جيلين، عن حكام العرب في القرن الواحد والعشرين ..

وبدأ زحف الإفرنج، في تلك الأيام الماطرة العاصفة، يستهدف بيت المقدس، وكان عليه أن يجتاز بقية أرض الشام أولا، قبل أن يصل إلى فلسطين، خاتمة الزحف والمطاف.
والمواطن العربي يعرف هذه الأجزاء من الوطن العربي، مدينة مدينة، وقرية قرية، سواء كان مقيما فيها أو زائرا إليها، أو دارسا عنها، ولا بد أن يثيره العجب والغضب كيف سار زحف الإفرنج خلال البلاد (لبنان وفلسطين) في يسر وسهولة، كأن الأمر نزهة سياحية أكثر منها غزوة استعمارية!!

وفي 23 أيار تجاوز الإفرنج صرفند وصور، وهما آخر المدن اللبنانية جنوبا، إلى أن وصلوا إلى عكا، القلعة التاريخية الشهيرة، فاستسلمت لهم من غير قتال.
وفي 26 أيار واصل الإفرنج زحفهم واحتلوا حيفا وارسوف ثم قيسارية.
وفي أول حزيران، احتل الإفرنج الرملة واللد- وهنا اجتمع أمراء الإفرنج في مجلس حربي ليتشاوروا في أمر الزحف على بيت المقدس…الهدف الذي تطلعت إليه أوروبا منذ خطب البابا أربانوس، في كلرمنت بفرنسا داعيا إلى غزو الديار المقدسة.

والى هنا فقد انتهت النزهة السياحية التي بدأت من اللاذقية في سوريا، إلى الرملة في أواسط فلسطين، رحلة استغرقت خمسة أشهر, ولم تتجاوز أصابع اليد، كما يقول عامة الناس الذين لا يجمعون ولا يطرحون!

وقد يعجب المواطن العربي كيف استطاع الإفرنج أن يحققوا تلك الانتصارات في مدة وجيزة، ومن غير مقاومة تذكر، وكأنما خلت البلاد من أهلها وحُماتها، أو كأنما الأمة العربية التي وصلت إلى إسبانيا وفرنسا، قبل قرنين، قد اندثرت أو حجبت، وأصبحت أثراً بعد عين!

ولكن التاريخ، أبو العظات والعبر، يؤكد ولا يمل أن يؤكد، أن عوامل التجزئة والانقسام والخيانة كانت السبب الأول والأخير في سقوط الوطن العربي بهذه السرعة، مدينة بعد مدينة، وقلعة بعد قلعة.
ونحن لو شئنا التحديد، لقلنا والتاريخ معنا يقول، أن الخلفاء والملوك والأمراء هم الذين ألحقوا بالأمة العربية تلك الهزيمة النكراء، وما جلبت على الوطن العربي من خراب ودمار، وذل وعار.

غير أنه من واجب الإنصاف للأمة العربية الماجدة، على صعيد جماهيرها وشعوبها، أن نستذكر بكل إباء وشمم، أن المقاومة العربية للإفرنج كانت ضارية وباسلة حيث كانت تتيسر لها أسباب المقاومة…. ذلك أن الإنسان العربي مقاتل من الطراز الأول حينما يجد السلاح بين يديه، وحين تتهيأ له الفرصة المواتية….
والتاريخ يشهد، وهو خير شاهد، أن وقعات كثيرة شجاعة نشبت بين الشعب العربي والإفرنج، من أنطاكية في شمال الشام إلى الرملة في قلب فلسطين، وتكبد الإفرنج خلالها خسائر فادحة في الرجال والعتاد والأموال. وكان من نتيجة ذلك أن عاد كثير من الإفرنج إلى ديارهم، وفقد كثيرون آخرون عزمهم وحماسهم.
ومن هذه الوقعات الشهيرة أن أهل "عرقة" ، وهي مدينة صغيرة تقع شمال طرابلس قد صمدت أمام هجمات الإفرنج صمودا رائعا، فقد استبسل أهلها في الدفاع عنها وصمدوا أمام جموع الإفرنج، على غير تكافؤ في العَدد والعِدد، رغم ما حصل عليه الإفرنج من الخيرات الوفيرة في إقليم طرابلس ، وما وصل إليهم من التموين عن طريق البحر. ولم يسع الإفرنج إلا أن يفكوا الحصار عنها، وأن يستأنفوا زحفهم إلى أواسط فلسطين، وبقيت عرقة ثابتة صامدة .

ومن المواقف الرائعة، أن أهل حلب قد استماتوا في الدفاع عن مدينتهم العريقة .. و تلك الوقفة الرائعة التي وقفتها معرة النعمان حين أحاط الإفرنج بها من كل جانب، وهب أهلها للدفاع عنها بكل ما ملكت أيديهم، ولم يستطيع الإفرنج اقتحامها إلا على جثث الآلاف من المقاتلين البواسل .. وليس لنا أن ننسى وقعة جريئة أخرى قام بها أهل صيدا، فقد تعرضوا لقوات الإفرنج وهي في طريقها إلى فلسطين، وأنزلوا بها خسائر فادحة، كما تحمل أهل صيدا أضراراًَ كبيرة في مزارعهم وبساتينهم.

وكان البيت الفاطمي ذروه الخيانه العربيه الاسلامية في تلك الحقبة من الزمان…..فالخليفة الفاطمي الذي ينتسب إلى الرسول العظيم، وهو صاحب الدعوة الرفيعة إلى الجهاد، كان "متقاعدا عن الجهاد" حسب تعبير جميع المؤرخين المسلمين الذين تركوا لنا هذا التعبير الشاجب الغاضب .

هذا مع أن قوات الإفرنج التي كانت تتصدى للمدن العربية في بعض الغزوات، لم تكن تتجاوز في تقدير المؤرخين الغربيين، ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة ويا لخزي الخلفاء والأمراء والملوك والرؤساء.
لقد انتصر الإفرنج في نزهة سياحية من اللاذقية إلى الرملة، في بضعة أشهر، في عهد ملوك متخاذلين، وأمراء متقاعدين، وخلفاء متقاعسين. وانتصرت إسرائيل، في ما يشبه النزهة السياحية، وفي أيام معدودات، في أعوام 1948، 1956، 1967 ,وفي عهد ملوك متقاعدين ورؤساء متقاعسين، وبهذا يبدو جليا أن الأسباب هي الأسباب، مع اختلاف في الأسماء والألقاب…

وما أشبه الليلة بالبارحة..
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 08:20 PM   #10
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

دار الزمان دورته ، وانتكس نكسته ، فخرج الإفرنج من أوطانهم القاصية يقصدون بيت المقدس ، فاجتازوا ديار الشام في غفلة من الخلفاء والأمراء ,حتى وصلوا إلى فلسطين ، فاحتلوا عكا ، وحيفا ، وقيسارية، واللد ثم الرملة ، حيث أقاموا فيها بضعة أيام . ويقول المؤرخ الإسلامي المعروف ,أبو المحاسن ,إن الإفرنج "جاؤوا إلى الرملة وأخذوها وقت إدراك الغلة وما أبدع فلسطين وأروعها في أيام الحصاد والغلال ، ذلك أن فلسطين كلها في أيام الربيع باقة أزهار وسلة ثمار ، وجنة أطيار ..

ولكن فلسطين ، ويا ويح فلسطين ، لم تشهد ربيعاً عام 1099 ، كما لم تشهد ربيعاً منذ عام 1948 ، وما تلاه من أعوام عجاف ، فإن فلسطين اليوم ذبلت فيها الأزهار ، وتهاوت الثمار ، وتشردت الأطيار .

ومدينة الرملة بالذات ، مدينة النسمات الرقراقة ، والقسمات الحلوة المشرقة، الزاهية بالسهول اليانعة ، والمروج الخضراء ، وما أن نزل فيها الإفرنج حتى استحالت إلى قفر يباب وبلد خراب ، فنزح أهلوها وأصبحوا مهاجرين لاجئين ، ونزحت معهم أمجادهم وذكرياتهم ,الطارف ، والتليد .
ولقد أُعجب المتنبي بالرملة ، وكان قد عرّج عليها قبل أن عرج عليها الإفرنج بخمسين عاماً ، فامتدح أميرها أبا محمد الحسن بقصيدة رائعه كان يحفظها أهل الرملة ، ومنها قوله وكأن المتنبي تنبأ بما سيحل بالرملة :

ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس رَوّى رمحه غير راحم

في مدينة الرملة هذه ، وكل رملة فيها جنة ، عقد أمراء الإفرنج مجلسهم الحربي ، والعمارات من حولهم تعج بذكريات الأمويين الذين كانوا يخلدون إليها أيام الراحة والدعة ، وبدأ الحوار الساخن بينهم ، وماذا بعد الرملة؟ هل نمضي إلى مصر ونقضي على دولة الفاطميين في عقر دارهم ، أم نزحف على بيت المقدس ، ونرى بعد ذلك ما يكون ؟

وانقسم الأمراء في ما بينهم ، فرأى فريق أنه "لا بد من الزحف على مصر والاستيلاء على الدلتا ، فإن مصر هي مفتاح بيت المقدس ، ولا قرار ولا استقرار في بيت المقدس إلا بالاستيلاء على مصر" .. ورأى فريق آخر" أن الزحف الطويل من اواسط أوروبا قد استنفد الكثير من قواتهم ، وليكن الإستيلاء على بيت المقدس أولاً ، ثم يتّم الاستعداد للزحف على مصر".

وتساءل أهل فلسطين يومذاك .. كما تساءلوا في غزوات إسرائيل .. أين الخلفاء والامراء ، أين الملوك والرؤساء ، أين الخليفة الفاطمي الناعم في قصوره في القاهرة ، أين الخليفة العباس الساجي في طيلسانه في بغداد ، وأين أمراء الشام ,شمس الدولة ، وفخر الدولة ، وقوام الدولة .. وسائر الألقاب ، وهي لا تتصل "بالدولة " من قريب أو بعيد .

ومرة أخرى أطلّ حزيران على صفحات التاريخ ... وكان اليوم السابع من حزيران ، وحزيران ما أشقاه بنا ، وما أشقانا فيه ..
في ذلك اليوم وصلت جموع الإفرنج إلى بيت المقدس ، وعسكروا حول أسوارها ، ومن سخرية القدر أنه هو اليوم نفسه الذي سقط فيه بيت المقدس على يد القوات الاسرائيلية .. في السابع من حزيران من عام 1967.

ووصلت أنباء الزحف إلى بيت المقدس ، وكانت يومئذ تابعة للدولة الفاطمية في القاهرة ، واسم واليها افتخار الدولة ، حاكم آخر من الذين تشرفوا باسم "الدولة " ولم تتشرف بهم ..
ولكن الشعب ، افتخار الشعب ، هب عن بكرة أبيه للدفاع عن مدينته المقدسة الغالية ، التي بناها جدنا الأعلى يبوس العربي ، وإليه ينسب اليبوسيون العرب، الذين استوطنوا بيت المقدس قبل اليهودية والمسيحية والإسلام بأجيال وأجيأل .

وراح الشعب يحمل المعاول بيديه ، والحجارة على كتفيه ليقوي الأسوار والأبراج ، ويسد المنافذ والمعابر ، وانطلق المتطوعون بالعشرات يسممون الآبار خارج المدينة ، ويجمعون المواشي من الحقول ، حتى لا تقع في يد العدو .

ولم يكن في بيت المقدس إلاّ حامية من العرب والسودان لا يتجاوز عددها ألف مقاتل ، يقابلهم من الفرنجة عشرون ألف محارب ولكن أهل بيت المقدس ، تعاهدوا في ما بينهم ، على ان يدافعوا عن مدينتهم المقدسة ، إلى أن يفنى الرجال والنساء والأطفال .. أليست مدينتهم مسرى الرسول ومعراجه .. ألم يقل القصصي الشعبي " وتُزف الجنة يوم القيامة زفا مثل العروس إلى بيت المقدس .." وإليها يُزف الحجر الاسود ، وتزف مكة بحاجها.

وشدد الإفرنج الحصار ، وراحوا يهاجمون الأسوار ، يحاولون اقتحام أبواب المدينة الغالية ، ولا تزال أبوابها قائمة بأسمائها التي يعرفها أطفالنا إلى يومنا هذا ، باب العمود ، باب الساهرة ، باب الخليل ، إلى آخر الأسماء التي ازدادت بها صفحات التاريخ ..

وازدادت لهفة الإفرنج إلى اقتحام المدينة المقدسة ، بعد أن أيقنوا أن القوات العربية والاسلامية في الوطن العربي متقاعدة ومتقاعسة ، وبدأوا يضربون الأسوار بالمجانيق ، ويصعدون إلى الأسوار على السلالم ، التي صنعوها من الغابات والأحراش التي اقتطعوها من المناطق المجاورة وامتد الحصار نيفا وأربعين يوماً ، والقتال دائر بين الفريقين ، إلى أن قام الإفرنج بهجومهم الكبير في اليوم الرابع عشر من شهر تموز عام 1099 ، وكان يوماً من أيام التاريخ الحزين ..

وانسحب افتخار الدولة وجنوده إلى محراب داود ، في القسم الجنوبي من المدينة ، واعتصموا به وقاتلوا ثلاثة أيام ،" ثم لم يلبثوا أن ألقوا السلاح بعد أن بذل لهم الإفرنج الأمان ، وسمح الإفرنج لافتخار الدولة وجنوده أن ينسحبوا من القدس وذهبوا إلى عسقلان .. في ذل وامان ".

وبدأت المذبحة الرهيبة ، وأصبح بيت المقدس كله مسرحاً كاملاً للدماء والدمار ، في البيوت والشوارع والمعابد ، وعلى الأسطحة ، وفي المسجد الأقصى .. من بابه إلى محرابه !!
ولقد سجل المؤرخون ، المسلمون والمسيحيون على السواء ، وأناملهم راجفة واجفة ، الوقائع الهمجية لتلك المذبحة الرهيبة التي حلّت بالمدينة المقدسة ..

يقول ابن الأثير أن الإفرنج قد ذبحوا ما يقرب من سبعين الفاً ، بينهم جماعة من أئمة المسلمين وعلمائهم.
ويقول ابن القلانسي أن الإفرنج قد "جمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم "ويقول أبو المحاسن "وهرب الناس إلى الصخرة والأقصى واجتمعوا بهما فهجموا عليهم ، وقتلوا في الحرم ماية ألف ، وسبوا مثلهم ، وقتلوا الشيوخ والعجائر ، وسبوا النساء ، وأخذوا من الصخرة والأقصى سبعين قنديلا ، منها عشرون ذهباً ، وخمسون من فضة ... وتنّورا من فضة زنته أربعون رطلاً بالشامي ، وأخذوا من الأموال ما لا يحصى ".

أما المؤرخون المسيحيون ، وبعضهم كان يقاتل في صفوف الإفرنج، فقد تركوا لنا وقائع رهيبة أشد هولاً مما أشار اليه المؤرخون المسلمون . فهذا المؤرخ المسيحي ابن العبري الملطي يقول "ولبث الإفرنج في البلد أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين ، وقُتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً.
أما المؤرخ المسيحي الآخر متى الرهاوي فقد أنقص العدد بمقدار خمسة آلاف ، وقال "إن عدد من قتلهم الإفرنج من المسلمين زاد على خمسة وستين ألفاً ".

وكان مؤرخ آخر من الذين قاتلوا في صفوف الإفرنج ، ذهب لزيارة الحرم الشريف بعد المذبحة الرهيبة, ولم يجد بدأً من الاعتراف بانه لم يستطع أن يشق طريقة "وسط أشلاء المسلمين إلا بصعوبة بالغة ، وأن دماء القتلى بلغت ركبته" .

ويشاء القدر أن يحفظ لنا مذكرات وافية كتبها أحد الذين قاتلوا في تلك المعركة ، وترجمت أخيراً إلى اللغة العربية . وقد ورد في مذكرات ذلك المؤرخ المقاتل وقائع تقشعر لها الأبدان ، منها قوله " إن الإفرنج جدّوا في قتل الأهلين ومطاردتهم حتى قبة عسر ، حيث تجمعوا واستسلموا لرجالنا الذين أعملوا فيهم أفظع القتل طيلة اليوم باكمله ، حتى فاض المعبد كله بدمائهم .. وانطلق رجالنا في جميع أنحاء المدينة يستولون على الذهب والفضة والجياد والبغال ، كما أخذوا في نهب البيوت الممتلئة بالثروات .. وفي صباح اليوم التالي تسلق رجالنا على أسطح "المعبد " وهجموا على الأهلين رجالاً ونساء ، واستلموا سيوفهم وراحوا يعملون فيهم القتل ، ورمى بعضهم بنفسه من أعلى المعبد ، وصدر الأمر بطرح الموتى كافة خارج البلدة لشدة النتن المتصاعد من جثثهم ، ولأن المدينة كادت أن تكون باجمعها مملوءة بجثثهم ... وتعالت أكوامهم حتى جاوزت البيوت ارتفاعاً "ويمضي التاريخ بعد ذلك يروي كيف استتب الأمر للإفرنج ، وحكموا بيت المقدس ، وأقاموا فيها مملكة دامت ثمانية وثمانين عاماً ..

فحق ضائع وحمى مباح
وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً
ومسلمة لهـا حرم سـليب
أمور لو تأملـهنّ طفـل
لطفّل في عوارضه المشـيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر
وعيش المسـلمين إذاً يطيب
أما لله والإسـلام حـق
يدافـع عنه شـبان وشـيب
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .