العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية على المريخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في بحث العقد النفسية ورعب الحياة الواقعية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: خوارزمية القرآن وخوارزمية النبوة يكشفان كذب القرآنيين (آيتان من القرآن وحديث للنبي ص (آخر رد :محمد محمد البقاش)       :: نظرات في مقال السؤال الملغوم .. أشهر المغالطات المنطقيّة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال البشر والحضارة ... كيف وصلنا إلى هنا؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال التسونامي والبراكين والزلازل أسلحة الطبيعة المدمرة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال الساعة ونهاية العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 03-01-2009, 08:22 PM   #11
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

يقول التاريخ إن استيلاء الإفرنج على بيت المقدس في عام 1099 قد تم بعد مقاومة ضارية .. وأن الحصار قد اضني المهاجمين أكثر مما فعل بالمدافعين ."وان الإفرنج كانوا يحاربون في بلاد لم تسبق لهم معرفة بها ، وكان يعوزهم السلاح ، ولم يتوافر عندهم من الأقوات ما يكفي لحصار المدينة ، يضاف إلى ذلك اشتداد الحرارة وتعذر الوصول إلى أماكن ظليلة ، وثقل الأسلحة التي يحملها الفرسان ، وتعرض العساكر للهجمات المفاجئة ، إذا توجهوا لالتماس الماء من جهات تبعد عن مواضعهم ، فضلاً عن أن الأقوات أخذت في النفاد.
وهكذا لم يسقط بيت المقدس سهلاً ومهلاً في عام 1099 ، كما سقط على يد اسرائيل !!.

وحين نعود إلى المقاتل الإفرنجي صاحب المذكرات نجد وصفاً دقيقاً للضائقة الخانقة التي كان يعيشها الإفرنج في معركة القدس ، إذ يقول – "وفي اثناء هذا الحصار بقينا عشرة أيام لا نجد خلالها خبزاً نشتريه .. ووقعنا فريسة الظمأ المحرق ، واحتملنا أشد المخاوف حتى لقد كنا نمشي ستة أميال لإرواء جيادنا وحيواناتنا ، غير أننا وجدنا الماء عند نبع سيلو (سلوان) الواقع عند سفح جبل صهيون ، إلا أنه كان يباع بيننا بثمن جد غال ... وكابدنا وطأة الظمأ ، حتى لقد كنا نخيط جلود الثيران والجاموس لنحمل فيها الماء مسافة أميال ، وكان الماء الذي حملناه معنا في الأواني قد أسِن ونتن ، واقتصر طعامنا اليومي على خبز الشعير ، مما صار مثار حزننا ومبعث أسانا ، حتى لقد أصبح الرجل منا يعجز عن أن يجد جرعة كافية من الماء تروي غلته لقاء دينار .. أما بصدد معركة الاقتحام ، فيقول المحارب الإفرنجي صاحب المذكرات .. " وفي يوم الاثنين ، 12 يونيو(حزيران)،هاجمنا البلدة هجوماً عنيفاً ، وحطمنا السور الصغير ، ورفعنا السلم على السور الرئيسي ، وصعد فرساننا وضربوا المدافعين عن المدينه بالسيوف ، وناوشوهم بالرماح ، وكان قتلاهم أكثر من قتلانا ، والأهالي حصنوا المدينه تحصيناً عجيباً ، وقوموا الدفاع عن الأبراج أثناء الليل وفي يوم الجمعة قمنا بهجوم على البلد دون أن نستطيع أخذها . فاصبحنا في ذهول وخوف شديدين، وقد حمي وطيس القتال بين المدافعين عن المدينة ورجالنا " وهنا .. هنا يذكر التاريخ .. أن الإفرنج قد ساءت حالتهم لقلة الماء, وندرة الأقوات ، وشدة الحرارة ، وتعرضهم باستمرار لهجمات المدافعين ، ونشوب النزاع بين أمراء الإفرنج أنفسهم .. كل ذلك حمل كثيراً من الإفرنج على أن يتسللوا وأن يتوجهوا إلى يافا ، لعلهم يجدون سفناً تحملهم إلى بلادهم .

لقد سقطت يافا في عام 1948, كما سقطت عام 1099 .
وكما تلقى الإفرنج المؤن والسلاح والرجال من يافا في الماضي ، فقد تلقى اليهود في زماننا ، السلاح والرجال بعد أن استولوا على ميناء يافا ...

ولقد سقطت القدس في عام 1099 ، والإفرنج يعانون الجوع والعطش ، وسقطت القدس الجديدة في عام 1948 وكاد مئة ألف من اليهود أن يستسلموا بعد أن حاصرهم العرب ومنعوا عنهم الماء ، لولا الوساطة العربية ولولا وقف إطلاق النار ... ثم سقطت القدس القديمة في عام 1967 من غير حصار ولا قتال .
وكان أول ما فعلوا أن زحفوا صوب مدينة نابلس في أواخر تموز 1099، ولم تكن المدينة قادرة على الدفاع عن نفسها، فلم يبقَ أمامها إلا أن تستسلم، وأنباء المذبحة الرهيبة التي ألمَّت ببيت المقدس لماّ يمض عليها إلا شهر واحد…. وهكذا استسلمت مدينة نابلس أو "دمشق الصغرى" كما حلا للمؤرخين أن يصفوها.
ثم توجه الإفرنج بعد ذلك شمالا، في اتجاه منطقة الجليل في فلسطين، فاحتلوا بيسان وطبريا والناصرة، وأنشأوا فيها تحصينات قوية وأقاموا حاميات عسكرية.

وبعد أن تم للإفرنج توطيد أقدامهم في تلك المناطق، توجهوا نحو الساحل، لتحقيق هدفين استراتيجيين، الأول تمكين اتصالهم البحري بأوروبا، وثانيها قطع الصلة بين العالم العربي وفلسطين.
ووضع الإفرنج خطتهم للاستيلاء على أرسوف-شمال يافا-(كانون الأول 1099) ولكن هذا الثغر العربي لم يكن هدفا سهل المنال، فقد أخفقت الحملة، وارتدت على أعقابها خائبة، فقد دافع الأهلون عن مدينتهم دفاعا باسلا…جعل لأرسوف مقاما مرموقا في التاريخ.

وترصد الإفرنج لأهالي أرسوف قرابة شهرين، وهم يشنون عليهم غارات متوالية حينا بعد حين، إلى أن خرج المزارعون من هذه المدينة الباسلة للعمل في أراضيهم، ولم تكن معهم إلا معاولهم، فانقض عليهم الإفرنج وأسروهم وانتقموا منهم انتقاما وحشيا بالغا، فقطعوا أنوفهم وأقدامهم وأيديهم…..وهذا ما أثبتته المصادر الغربية قبل العربية .

وعاد الإفرنج إلى مناطق الجليل مرة ثانية، فسيطروا على إقليم السواد شرقي بحيرة طبريا، وكان هذا الإقليم تابعا لدمشق، و وقعت بين الإفرنج والأهلين مناوشات متعاقبة، وأنزل الإفرنج بالقرى والمزارع المجاورة خسائر فادحة، حتى توغلوا في الجولان، واقتربوا من دمشق نفسها. وجولان الماضي تذكرنا بجولان الحاضر!!

وكانت أخبار هذه المعارك التي خاضها الإفرنج لاحتلال فلسطين بأسرها، بعد أن فتحوا بيت المقدس، تتجاوب في أرجاء العالم العربي فتهزه هزاً عميقا، وتبعث في نفسه كل مشاعر الحزن والغضب وراح الشعراء في الوطن العربي يندبون سقوط بيت المقدس، وينعون على حكامهم تقاعدهم عن الجهاد.


وكانت النقمة، أشد النقمة، على الخلافة الفاطمية في القاهرة، فقد كانت البلاد من غزة حتى نهر الكلب شمالا تحت حكم الفاطميين.

وأخيرا تحرك الفاطميون، إزاء النقمة العارمة، وخرج الوزير الفاطمي، الأفضل، على رأس جيش لمقاتلة الإفرنج، ووصل إلى عسقلان في شهر آب 1099، وكان ذلك بعد أن استولى الإفرنج على بيت المقدس بثلاثة أسابيع، أي "بعد أن فات الأمر" كما عبر المؤرخ العربي. وهو مماثل للتعبير الشعري:

وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل ..

ذلك أن الحب والحرب سواء بسواء، ..كلاهما له أوانه وزمانه"!!
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 08:22 PM   #12
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

ولعل الوزير الأفضل قد عاد بذاكرته، عامين إلى الوراء، حين كان يفاوض الإفرنج للمرة الأولى، وهم يحاصرون إنطاكية، فأرسل يعاتبهم على احتلال بيت المقدس، ولم يكن من التاريخ العربي إلا أن يسخر منه، كما يسخر من حكام هذا الزمان، فقال "إن الأفضل قد أرسل رسولا إلى الإفرنج يوبخهم على ما فعلوه"….كأن التوبيخ والاستنكار والاحتجاج يرد المعتدي عن عدوانه.

ولكن الإفرنج، لم يتركوا جيش الأفضل يعود أدراجه إلى مصر، فجمعوا قواتهم وهاجموه عنيفا، ودارت معركة حامية بين الطرفين كانت الغلبة فيها للإفرنج…وتشتت شمل الفاطميين، حتى "أن بعضهم لم يجد نجاة إلا في البحر، فألقوا بأنفسهم فيه وغرقوا، واحتمى البعض الآخر بشجر الجميز، وكان هناك كثيراً فأحرق الإفرنج بعض الشجر حتى هلك من كان فيه". أما الوزير الأفضل فقد هرب إلى عسقلان ومعه بعض رجاله , وركبوا سفينة وهربوا الى مصر بحرا، وهكذا وصف التاريخ العربي تلك الهزيمة العربية .

وكان طبيعيا أن تحل الهزيمة بالفاطميين، فقد كانوا كحكام هذا الزمان، يحسنون الظن أمام العدو، ولم يجد المؤرخ العربي في وصف تلك المأساة إلا أن يقول "…….تمكنت سيوف الإفرنج من المسلمين، فأتى القتل على الراجل والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس، ونهب العسكر. وهكذا تكون عاقبة الذين يحسنون الظن بالأعداء، يفاوضونهم متهافتين، وإذا حاربوا، يحاربونهم متخاذلين!!
وسقطت هيبة الفاطميين، ولم يستشعر أهل البلاد أن لهم أملا في الخلافة الفاطمية في القاهرة أن تحميهم، ولم يبق أمام الإفرنج إلا أن يتوجوا انتصاراتهم في سائر أنحاء البلاد، بأن يعلنوا في بيت المقدس، قيام المملكة وتسمية الملك.

وفي عيد الميلاد، في كانون الأول من عام 1099، كانت كنيسة العذراء في بيت لحم تدق أجراسها، فرحا وابتهاجا، بتتويج أمير الإفرنج بلدوين، أول ملك على بيت المقدس، يتبعه بعد ذلك ثمانية عشر ملكا، آخرهم هنري الثالث.... والشعوب العربية غامضة مذهولة، والملوك والخلفاء يتوارثون العروش في قصورهم الباذخة…واحداً بعد واحد...

وأدرك بلدوين أن "مملكته" لا تزال تحت رحمة "جيوب" عربية قائمة على ساحل فلسطين، أهمها قيسارية، وأرسوف، وكان الأهلون يقومون بغارات باسلة على مواقع الإفرنج القريبة منهم، ويكبدونها خسائر فادحة . ذلك أن الشعب يظل دوما يقاوم الاحتلال حتى ولو كان حكامه سادرين في الضلالات والجهالات.

ولهذا فقد عزم بلدوين على أن يضرب مقاومة الشعب في عقر دارها، فوجَّه حملة إلى قيسارية وأرسوف، وكان قد وصل إلى حيفا أسطول بحري من جنوة (آذار سنة 1101) محمل بالمؤن والعتاد…واستطاع الإفرنج، ما لم يقدروا عليه في الماضي، فاستولوا على قيسارية وأرسوف، وأعملوا السيف في رقاب الأهلين، حتى أن المراجع التاريخية الأوروبية ذكرت أن الإفرنج قد ارتكبوا مذبحة بالغة الوحشية في قيسارية، فقتلوا كثيراً من أهلها الأبرياء، ولم يتركوا شيئا إلا نهبوه…وعندما احتمى الأهالي بجامع المدينة لحق بهم الإفرنج وذبحوهم داخل الجامع عن آخرهم، دون أن يفرقوا بين الرجال والنساء والأطفال، وتحول الجامع إلى بركة من دماء قتلى المسلمين.

ووصلت أنباء هذه الفواجع والمذابح، إلى أرجاء العالم العربي، وضج الناس ينددون بالحكام أجمعين، وأحس الفاطميون في القاهرة بأن الأبصار الغاضبة تتجه إليهم، وأن أصابع الاتهام تكاد تفقأ عيونهم.
فشرعوا يعدون العدة للقيام بحملات عسكرية ضد مواقع الإفرنج في فلسطين.

وحدثت أربع معارك ..

انتهت إلى أربع هزائم…


وكانت المعارك في ربيع 1101، وكان قائد الفاطميين صاحب لقب آخر ينتسب إلى الدولة، "سعد الدولة القواسي"، وقد تجمعت الحملة المصرية، بعد اجتيازها سيناء، عند عسقلان….وقضى الجيش الفاطمي عدة أشهر من غير قتال ولا يزال ينتظر المدد من الفاطميين…ثم اتجه إلى الرملة حيث يستطيع منها أن يضرب مواصلات الإفرنج في يافا، ويزحف على بيت المقدس.
وسارع الإفرنج بقيادة مليكهم، ولم تكن قوتهم تتجاوز مائتين وستين فارسا، وتسعماية من المشاة، تقابلها قوات كبيرة من الجيش الفاطمي.
وفي صباح السابع من شهر أيلول التقى الجيشان، وشهدت سهول الرملة معركة قاسية بين الفريقين، انتصر فيها الإفرنج، وانهزم الفاطميون وقتل منهم عدد كبير، وفر الباقون في اتجاه عسقلان، وقُتل القائد سعد الدولة القواسي، ولحق الإفرنج بالمسلمين وظلوا يطاردونهم حتى أسوار عسقلان، وغنم الإفرنج أموالا كثيرة وعِددا وفيرة.

وقد تملك الحزن ابن الأثير، كما تملكنا اليوم، فلم يجد في وصف تلك المعركة، إلا أن يقول أربع كلمات وحرفا واحدا ...

فملك الفرنج جميع ما للمسلمين .

ووقعت المعركة الثانية، في السنة الثانية-أيار 1102-ذلك أن الهزيمة التي حلت بالفاطميين قد انتشرت أخبارها، وأصبح الناس يتندرون بها، ويسخرون من حكامهم، فجدد الوزير الأفضل الحملة مرة ثانية، في محاولة لإزالة آثار العدوان حسب تعبير هذا الزمان.

ووصلت الحملة إلى الرملة، فهي ساحة المعارك التي يفصل فيها بين النصر والهزيمة، وكانت هذه المعركة بعد عام من المعركة الأولى، ففي ربيع 1102، وصلت قوات الفاطميين إلى عسقلان ومنها اتجهت إلى الرملة واللد ويازور، وكما في الحملة السابقة، فقد كان الهدف الاستيلاء على يافا لقطع الشريان بين أوروبا ومملكة الإفرنج في بيت المقدس.

ودارت رحى الحرب بين الفريقين، وانهزم الإفرنج في المرحلة الأولى من الحرب، وكاد الملك بلدوين أن يسقط في المعركة، فقد "اختفى في أجمة قصب، فأحرقها المسلمون ولحقت النار ببعض جسده وفر إلى الرملة" وسقطت الرملة في يد المسلمين ولكن لبضعة أيام…..
غير أن الإفرنج كانوا أكثر تنظيما وأحسن تنسيقا، فدرات الدائرة على الفاطميين، وألحق بهم الإفرنج هزيمة ساحقة، وظلوا يطاردونهم حتى وصلوا إلى عسقلان…و كانت الهزيمة الثانية.

ووقعت المعركة الثالثة حول أسوار عكا، وهي المدينة التاريخية الشهيرة، وكانت عكا بحكم مركزها الجغرافي مفتاح ديار الشام، مَنْ ملكها فقد ملك ديار الشام، حسب تعبير المؤرخين الإفرنج والعرب….ودارت هذه المعركة، متقطعة عبر عامين متعاقبين.

وكان أن بدأت المعركة في ربيع عام 1103، بأن قام الملك بلدوين بمحاصرة المدينة، ولكنه لم يستطع الاستيلاء عليها لمناعة حصونها واستبسال أهلها في الدفاع، مع أن بلدوين حسب قول ابن الاثير، "ضيق عليها وكاد يأخذها"…ولكنه اضطر إلى أن يرفع الحصار عنها ونكص على أعقابه.

وأطل حزيران مرة أخرى، وأطلت معه الهزيمة ….ففي الأول من حزيران من عام 1104 عاد الملك بلدوين إلى عكا وضرب عليها الحصار مرة ثانية، وكان حاكم عكا في تلك الفترة زهر الدولة الجيوشي، فلم يستطيع الصمود أمام الحصار، "وقاتل حتى عجز" وهو أبلغ تعبير خلفه لنا التاريخ العربي عن أنباء تلك المعركة الطاحنة.

وسقطت عكا، وأصبح مفتاح ديار الشام في يد الإفرنج!!

وكانت المعركة الرابعة وهي آخر معركة كبرى في تلك الحقبة، في صيف 1105، وقد وقعت هذه المعركة في سهول الرملة، حيث التقت قوات الفاطميين بالإفرنج وكانت نتيجتها، أن حلت الهزيمة بالفاطميين وتمزقت قواتهم شر ممزق.

وهكذا فقد انتصر الإفرنج على العرب في أربع معارك خلال أربع سنوات (1101-1105) وكانت الهزيمة الكبرى على أسوار عكا، وفي شهر حزيران…شهر الهزائم و الأحزان.

لماذا انهزمنا في المعركة تلو المعركة…والأمة العربية قبل ثلاث قرون من تلك الهزائم قد حققت انتصارات باهرة ؟

الأسباب أولا: إن إقليم الجليل كان موضع نزاع بين دقاق ملك دمشق، والخلافة الفاطمية في القاهرة، أهو تابع للقاهرة أم لدمشق.
وبسبب هذا الخلاف، خرج هذا الإقليم من سلطة حكام القاهرة، ودمشق معا، واستولى عليه الإفرنج بسرعة فائقة، ونزح عن أهله كما نزحوا عنه اليوم، على رغم قلة المقاتلين الإفرنج….كما أكد هذه الحقيقة أكثر المصادر التاريخية الغربية.

والأسباب ثانيا: إن قادة الفاطميين في معارك الرملة، لم يكونوا متحدين على خطة واحدة، فقد كان الانقسام والانفصال ديدنهم، ومن ذلك ما رواه لنا ابن الأثير من أن قائد القوة البحرية وأميرها "تاج العجم" رفض أن يسند قائد القوة البرية، وأميرها القاضي ابن قادوس، أثناء المعركة….وقد ترك لنا ابن الأثير وصفا مروعا لما دار بين القائد البحري والقائد البري، ووصف لنا كيف رفض تاج العجم معاونة ابن قادوس قائلا له "ما يمكنني أنزل إليك إلا بأمر الأفضل-الوزير بالقاهرة-ولم يحضر عنده ولا أعانه، فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان وشهودها وأعيانها وأخذ خطوطهم، بأنه أقام على يافا عشرين يوماً، واستدعى تاج العجم فلم يأته ولا أرسل رجلاً.

وليت لنا من يرسم اليوم، كاريكاتوراً لهذه الكوميديا التراجيدية: القوات البحرية تخذل القوات البرية.

ويقول مؤرخ عربي، إكمالا للمأساة، إن الوزير الأفضل قد طلب من شمس الملوك دقاق، ملك دمشق، أن ينجد المسلمين على الإفرنج في تلك المعركة، ولكن شمس الملوك "اعتذر عن ذلك ولم يحضر" وهذا كلام المؤرخ ابن ميسر".

والأسباب ثالثا: إنه في معركة الرملة، كذلك، كان شقيق دقاق ملك دمشق، قد لجأ إلى الملك بلدوين بسبب خلافات عائلية على السلطة، ولما نشبت معركة الرملة قاتل شقيق دقاق، ومعه ماية من رجاله إلى جانب الإفرنج، وظل معهم إلى النهاية، حتى النصر… نصر الإفرنج على المسلمين.

والأسباب رابعا: إن الفاطميين قد تركوا عكا محاصرة، تقاتل وحدها من غير نجدة حقيقية، ويقول مؤرخنا وهو يكظم غضبه ويكتم حزنه عن المعركة مع الإفرنج "وقاتلهم أهل عكا حتى عجزوا، لقصور المادة بهم، وكان أهل مصر لا يمدونهم بشيء، فسلموا (عكا) إليهم (الإفرنج) وقتلوا منهم خلقا كثيرا .

هذه الأسباب وغيرها، كان من نتيجتها أن الأمراء المحليين في فلسطين والشام، لم يجدوا أمامهم إلا أن يجعلوا "هدنة" بينهم وبين الإفرنج ، كاتفاقية الهدنة العربية الإسرائيلية، ووقف إطلاق النار، المعروفة في هذا الزمان.

ويعود المواطن العربي ليسأل في نبرة ونفرة….كيف وقعت الأمة العربية الشجاعة الباسلة فريسة هذه الهزائم؟

والجواب الصادق الأمين، يقدمه لنا الصادقون الأمناء، الثوار الأبرار، وهم المؤرخون المسلمون.
ويقول أبو المحاسن، في سياق كلامه عن سقوط البلاد الإسلامية على يد الإفرنج، في عهد الخليفة الفاطمي، " كان الخليفة متناهيا في العظمة ويتقاعد عن الجهاد حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه ….ولم ينهض لقتال الفرنج البتة، وإن كان أرسل مع الأسطول عساكر، فهو كل شيء".
ثم يذهب أبوا لمحاسن، في غضبه وثورته، يصف ملك حلب، فيقول "كان بخيلا شحيحا، قبيح السيرة، ليس في قلبه رأفة ولا شفقة على المسلمين، وكانت الفرنج تناور وتسبي…ولا يخرج إليهم..
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 08:23 PM   #13
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

ولعل المواطن العربي المعاصر، وهو يقرأ ذلك كله يحسب أن المؤرخين المسلمين السابقين، قد بُعثوا من قبورهم، ليجدوا أنفسهم أن الصورة هي الصورة ، فالملوك هم الملوك، والأمراء هم الأمراء… ولم تتبدل إلا الألقاب والأسماء.

وكذلك، فإن المواطن العربي، وهو يقرأ وقائع التاريخ، يرى كثيرا من أَوجه الشبة بين الماضي والحاضر ...بين الهزائم بالأمس، والهزائم اليوم. والأسباب واحدة.

وأسماء المدن ...نابلس-عكا- اللد- الرملة- طبريا – وغيرها.

وغيرها، لقد سقطت كلها قبل ثمانية قرون….. وهي تسقط اليوم تحت الأسباب والعوامل والظروف نفسها:

التجزئة والانفصال، والخيانات والنكايات….
وسقطت المدن مدينة تلو الاخرى .. ولنا قصة مبكية ومضحكة فى آن معا ..

إنها مأساة سقوط طرابلس ..
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 08:24 PM   #14
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

سقوط طرابلس




وكانت طرابلس ذات مزايا كثيرة وإغراءات كبيرة، فهي مدينة حصينة، وثغر كبير على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ولها تجارة وافرة، وأموال متكاثرة.

والواقع أن طرابلس كانت بذاتها إمارة مستقلة، يحكمها بنو عمار، وليس أمام الإفرنج إلا أن يستولوا عليها ويجعلوا منها عاصمة لدولة إفرنجية ثالثة، بعد مملكة بيت المقدس، وإمارة أنطاكية.

كانت طرابلس، وكما هي اليوم، تقارب أن تكون شبه جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما مكن حكامها من بني عمار أن يظلوا على اتصال دائم بالبحر، للحصول على ما يلزمهم من المؤن، إذا ضُرب الحصار على المدينة برا……

وكان أول ما فعله الإفرنج أن بنوا قلعة في مواجهة طرابلس مباشرة، على الجبال المقابلة، وذلك لإحكام الحصار عليها، وقطع صلتها بالعالم الخارجي.

وقد حاول بنو عمار هدم هذه القلعة وإشعال النار فيها (أيلول 1104) ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا….ذلك أن حاكم طرابلس ليس بمقدوره بمفرده، أن يتصدى لقوات الإفرنج الهائلة الزاحفة من أواسط أوروبا.

وتوالت الإمدادات على الإفرنج عن طريق قبرص، ليزيدوا الحصار على طرابلس إحكاما، ولكن أهل طرابلس الشجعان كانوا في معظم الأحوال يصادرون سفن الإفرنج وهي في البحر، ويسوقونها إلى ميناء طرابلس في بسالة نادرة وشجاعة خارقة .

غير أن الحصار قد أخذ يضيِّق الخناق على أهل طرابلس، "فساءت الأحوال وارتفعت أسعار المؤن ارتفاعا فاحشا، وهجرها الفقراء، وافتقر الأغنياء"، كما عبر عن ذلك جارهم القريب، مؤرخ دمشق ورئيس ديوانها.

وكان أمير طرابلس في تلك الحقبة فخر الملك بن عمار، قد حاول أن يستنجد بملك دمشق، وخليفة الفاطميين في القاهرة، ولكنهما كانا يطمعان في إلحاق طرابلس بأملاكهما، وراحا ينتظران الفرصة الأولى للانقضاض عليها، ولعل حصار الإفرنج يكون فاتحة الطريق….. وكانت تلك أحلى أحلامهم وأعز آمالهم!!

وضاق طوق الحصار على طرابلس، وأهلها مستميتون في الدفاع عنها، ولم يبالوا أن يبيعوا ما يملكون "من الحلى والأواني لشراء ما يلزمهم من المؤن.

غير أن الشعب في طرابلس تصدى لحصار الإفرنج ثلاث سنوات أخرى، (1105-1108) واستعان الأغنياء بكنوزهم من الذهب والفضة فاستوردوا المواد الغذائية لأسواق طرابلس من كل مكان… حتى من جزيرة قبرص البيزنطية، ومن إمارة أنطاكية الواقعة بيد الإفرنج .

ولما اشتد أمر الحصار على طرابلس وحكام المسلمين في دمشق والقاهرة وبغداد، يراقبون ويتفرجون، قرر فخر الملك بن عمار أن يسافر في ربيع 1108 إلى دمشق وبغداد لطلب النجدة، تماما مثل رسائل النجدة التي أرسلها إلى العواصم العربية المستنجدون المستصرخون من أبناء فلسطين في الثلاثين عاما الأخيرة!!

وشاء القدر أن تكون رحلة فخر الملك بن عمار مأساة إنسانية مثيرة، لا بد أن يقف المواطن العربي أمامها متعظا ومعتبرا، وأوجه الشبه والمقارنة تتزاحم في ذهنه بين الأمس البعيد، واليوم القريب.

وتفصيل الأمر، في غاية الإيجاز، أن فخر الملك قد أناب عنه ابن عمه في حكم طرابلس، ودفع مرتبات الجند لستة أشهر سلفا، وخرج في رحلة الاستنجاد والاستصراخ، حاملا الهدايا الفاخرة النادرة. وما كان أكثرها في قصور طرابلس.

ووصل فخر الملك إلى دمشق. وتصف كتب المؤرخين كيف خرج للقائه ملك دمشق وأمراؤها بالحفاوة والتقدير، واستضافوه بكل إعزاز وإكرام، وكيف أقام عندهم وهو يحدثهم عن حصار الإفرنج لأهل طرابلس، والضائقة التي يعانونها، وكيف أن حكام دمشق قد كالوا المديح والثناء على ابن عمار، والسؤال "عن حالة وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطر في قتالهم" تماما مثل البيانات المشتركة التي يصدرها الملوك والرؤساء في ما بينهم ….هذه الأيام.

وانتهت رحلة دمشق، على غير طائل، أو نائل، واستأنف فخر الملك مسيرته إلى بغداد، وخرج ملك دمشق وأمراؤها، يودعونه بمثل ما استقبل به من حفاوة وإكرام، حسب تعابير الإذاعات العربية، اليوم، في وداع الملوك واستقبالهم.

واجتاز فخر الملك بادية الشام إلى بادية العراق، وهو يأمل أن يجد في بغداد النجدة والأريحية، أليست بغداد مقر الخلافة العباسية وعلى رأسها المستظهر بالله…. أليس فيها السلطان محمد السلجوقي …., هما زعيما العالم الإسلامي يومئذ، بلا منازع؟

ولم يكد فخر الملك أن يصل إلى ضواحي بغداد، حتى وجد حفاوة أشد كرما وإقبالا. فقد أرسل السلطان محمود سفينته الخاصة، لتقله هو وحاشيته في عبوره الفرات إلى بغداد.

ودخل فخر الملك إلى عاصمة العباسين في موكب فخيم، ونزل في قصر عظيم، أقام فيه أربعة أشهر، كانت المباحثات خلالها جارية على ساق وقدم، وفخر الملك يحدث الخليفة والسلطان عما يكابده أهل طرابلس من عناء الحصار، ويحضهم على مجاهدة الإفرنج، وإنقاذ الإمارة العربية من أن تسقط بيد الإفرنج.

وكان كل ما فعله السلطان والخليفة أن أشادا بجهاد فخر الملك وبسالة أهل طرابلس…، وانتهى الأمر بسخاء، ولكن بالحمد والثناء، من غير نجدة ولا مساندة.

وعاد فخر الملك في الطريق إياه، ولا تتسع الصحراء لآلامه، وهو حائر في أمره، والقدر يخبئ لأمير طرابلس، أن يصيح من غير طرابلس، ثم بعد ذلك لتسقط عاصمته العريقة الباسلة بيد الإفرنج…

وتمضي فصول المأساة، لتروي أن فخر الملك قد عاد بخفي حنين، خف من بغداد وحَف من دمشق، ذلك أنه لم يكد يصل إلى طرابلس حتى علم أن الفاطميين قد انتهزوا فرصة غيابه، فأرسلوا في صيف 1108، شرف الدولة واليا عليها، فاحتلها، وحمل إليها كميات وافرة من القمح، وقبض على رجال فخر الملك ونقلهم بحرا إلى مصر، وآلت طرابلس إلى الفاطميين. وهتف الناس للفاتحين.

وبقيت الفصول الأخيرة في المأساة…


أحد فصولها، أن ملك دمشق وجد فرصته الذهبية في ذهبها الزائف، ليستولي على أملاك فخر الملك ، فزحف على عرقة وضمها إليه…. ولكن لبضعة أيام، فقد تصدى لها الإفرنج، وضربوا حولها الحصار لمده ثلاثة أسابيع، وحينما يئست الحامية من المقاومة فرت ليلا وتركت القلعة خالية، واحتلها الإفرنج في اليوم التالي، وظل الإفرنج يطاردون الحامية وعلى رأسها ملك دمشق حتى مشارف حمص.

وفصل آخر… إن طرابلس نفسها، لقيت المصير الذي لقيته عرقة، فلم تستطع أن تصمد أمام حصار الإفرنج أكثر مما صمدت، وساءت أحوال الأهلين "وزادهم ضعفا تأخر الأسطول المصري عليهم بالنجدة والميرة، وأنه لم تكد تصل النجدة البحرية من مصرٍ إلى طرابلس حتى وجدوا البلد قد أخذ فعادوا كما هم".
والذي حدث، أنه قد أطل العاشر من حزيران سنة 1108، وتجمع في ذلك اليوم كله أمراء الإفرنج خارج أسوار طرابلس، وتمت تصفية الخلافات في ما بينهم، وتعاهدوا أن يحملوا على طرابلس حملة رجل واحد، واستسلمت المدينة بعد حصار رهيب دام ستة أعوام، أبلى فيها الشعب أعظم بلاء…. والخلفاء والملوك هم البلاء!!

وأخيرا وصل الأسطول المصري للنجدة، وكانت طرابلس قد استسلمت، ذلك أن إقلاع الأسطول المصري كان قد تأجل بضعة أشهر لفض المنازعات بين قادته .

ودخل الإفرنج إلى مدينة طرابلس، وسيوفهم عطشى إلى الدماء، فقتلوا الشيوخ والنساء والأطفال، وأحرقوا الدور بعد أن نهبوا ما فيها، وكان أعز ما تناولته النيران مكتبة بني عمار التي كانت تعتبر أروع مكتبات العالم، كما شهدت بذلك المراجع الغربية .

وكانت عبارة "لله الأمر من قبل ومن بعد"، وهي التي يرددها ملايين العرب والمسلمين، ولا يزالون، كلما رأوا تخاذل ملوكهم وأمرائهم في الأيام السوداء.

وهذا "المستعلي بالله " الذي كان الخليفة الفاطمي في تلك الحقبة ، لم يتورع أن يبعث بسفرائه إلى الإفرنج ليفاوضوهم على التحالف ضد حكام الشام والعراق ، وليتفقوا معهم على اقتسام البلاد : هذه لكم وهذه لنا !!

والمؤرخون المسلمون ، يتحدثون بمرارة وحسرة ، كيف أن السفراء الفاطميين جاؤوا إلى معسكر الإفرنج خارج أسوار طرابلس وهم يحملون الهدايا النفيسة إلى أمراء الإفرنج واحداً واحداً ... وكيف أن وفداً من الإفرنج قد رد الزيادة ، فجاء إلى القاهرة ودخل قصر الفاطميين ليستأنف المفاوضات من جديد !!
ومن أجل ذلك كان طبيعياً أن تسقط ديار الشام غنيمة باردة ولقمة سائغة ، والفاطميون يفاوضون الأعداء بدلاً من أن يجاهدوهم ، ويبلوا فيهم أحسن البلاء .

يقرأ المواطن العربي جميع هذه الوقائع ، وتقفز في ذهنه الأشباه والنظائر كما يراها في أيامه التي يعيشها ، وفي الأحداث التي يقرؤها أو يسمع بها.

يقرأ المواطن العربي كل هذا ، فيرى أن المفاوضات مع الأعداء هي المفاوضات ، وأن الهزائم هي الهزائم ... وأن الأسباب هي الأسباب ... لقد تبدلت الأسماء والألقاب ... ولكن الملوك والرؤساء هم الملوك والرؤساء ... والكوارث هي الكوارث ... والضحية هم الشعوب ...

استتب الأمر للملك بلدوين في بيت المقدس، ولكنه ظل خائفا يستبد به قلق حائر بعيد.. تجاوز أسوار المدينة المقدسة.

لقد أصبحت حدود المملكة شاملة فلسطين كلها، ومعها كثير من أقاليم ديار الشام، وأصبحت "حدوداً آمنة معترفا بها"، حسب تعبير الأمم المتحدة في هذه الأيام التي نعيشها في حوار مع إسرائيل!!

ومثل الإسرائيليون اليوم، كان بلدوين يتطلع إلى حدود أكثر أمنا… وكانت مصر هي مصدر مخاوفه، وكان اتصال مصر والشام هو مبعث أرقه في ليله، وقلقه في نهاره.

وراح بلدوين، يفكر ويخطط ...ثم راح ينفذ ...
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-01-2009, 08:25 PM   #15
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

وكان أول تفكيره أنه لا بد من السيطرة على الصحراء الممتدة من البحر الميت حتى خليج العقبة، وهي المنطقة المعروفة بوادي عربة… وهذه المنطقة تؤلف بمواقعها الإستراتيجية خطاً دفاعياً عن بيت المقدس، واحتلالها من شأنه أن يعزل مصر عن بقية الوطن العربي، ويقطع الطريق البري بينها وبين ديار الشام والعراق والحجاز.

خرج بلدوين في غزوته الثالثة، وكانت هذه المرة مركزة على سيناء في اتجاه مصر، فإن مصر هي القوة العربية الكبرى ، ولا بد من التحرش بها، وتطويقها، بادئ ذي بدء، حتى يتيسر غزوها والاستيلاء عليها.
وكان الإفرنج على علم بحياة الفاطميين في القاهرة، وتخاذلهم وتقاعدهم عن الجهاد، فخرج بلدوين يتصدى لهم في عقر دارهم، وكانت القوة التي يقودها لا تتجاوز مائتين من الفرسان وأربعمائة من المشاة…. وكان ذلك منتهى الاستهانة بالخلافة الفاطمية .

وبدأ زحف الإفرنج على سيناء، واستطاع بلدوين أن يخترق الصحراء من غزة حتى العريش… ثم واصل الإفرنج زحفهم حتى وصلوا إلى الفرما في ربيع 1118 واستولوا عليها…. ونهبوها ووضعوا يدهم على غنائم وفيرة.

وفي هذه المسيرة الطويلة من بيت المقدس إلى الفرما، لم يجد بلدوين مقاومة تذكر، وكان احتلال الفرما نفسها سهلا يسيرا، فقد هرب سكانها المصريون، تاركين متاعهم وأموالهم نهبا للغزاة… وماذا يستطيع الشعب الأعزل، ومليكه ناعم في قصوره، غارق في فجوره…

هذا، ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الفرما كانت مدينة من حصون مصر القديمة واقعة في الجهة الشرقية، وعلى بعد 25 كيلو مترا من مدينة بور سعيد… وكانت فيها على الدوام منذ عهد الفراعنة قوة عسكرية للمحافظة على حدود مصر الشرقية (وقد تابعنا أهميتها فى فتح عمرو بن العاص لمصر) .

والواقع أن القدر-والقدر وحده- هو الذي تدخل لإيقاف هذه الحملة عند المكان الذي وصلت إليه… فقد مرض بلدوين وتوفي قرب العريش. وعاد إلى بيت المقدس ميتا ليدفن في كنيسة القيامة.

ولكن الشعب، بطريقته الخاصة وبالوسائل التي يملكها، هو الذي أعرب عن مقاومته، وسخريته…والمصريون خاصة ، من الأمة العربية، يملكون مهارات خارقة بالنكته الساخرة، قولا وعملا… ولذلك حكاية طريفة، لا بد أن نقف عندها، ولو في غاية الإيجاز.

يقول ابن الأثير أن سبب وفاة بلدوين "أنه سبح في النيل عند تنيس وانتقض جرح كان به" كما يقول غيره من المؤرخين أن وفاته كانت بسبب أكلة سمك من بحيرة المنزلة.
وكأننا ما كان السبب، فقد ذكر أبو المحاسن بصدد وفاة بلدوين "فشق أصحابه بطنه ورموا حشوته (أمعاءه) هناك، وهي ترجم إلى اليوم بالسبخة".

وهكذا فقد مضت أجيال من الشعب المصري ترجم ذلك المكان. وسمته سبخة البردويل (بلدوين) ولا يزال هذا الاسم جزءا من جغرافية سيناء، ابتدعه الشعب منذ ذلك العدوان الغاشم!!

وإذا كان الشعب المصري قد رجم سبخة البردويل لعنا لملك الإفرنج، فإن مؤرخ النجوم الزاهرة، قد ندد الملك الفاطمي بقوله :"هذا كله- قد جرى- بتخلف هذا المشؤوم الطلعة" عن الجهاد…والمشؤوم الطلعة هو الخليفة الفاطمي الذي يعنيه أبو المحاسن، ولا يعني سواها‍‍‍‍‍‍‍‍!!

كانت هذه إحدى أسوأ اللحظات فى تاريخ مصر والعرب أجمعين ..

والتاريخ عجيب .. فلا يكاد الدهر يرزء أمة بخطب عظيم إلا ومن بعده نصر جديد ..

كانت هذه صفحة مظلمة سوداء من صفحات الإنكسار ..

لكننا الآن على موعد مع صفحة مشرقة من صفحات المجد ..

عهد جديد ..

وبطل جديد ..
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 25-01-2009, 07:01 AM   #16
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

شمس نهار جديد


قام الإفرنج بخمس حملات على مصر، فاخترقوا سيناء، وأحرقوا بلبيس، واحتلوا القاهرة، وحاصروا الإسكندرية، ودمروا دمياط….. كل ذلك طمعا في مصر و تثبيتا لأقدام الإفرنج في ديار الشام، وفي بيت المقدس على وجه التحديد.
وكان الإفرنج، وفي النصف الأول من القرن الثاني عشر، قد استكملوا احتلالهم لما نعرفه اليوم باسم فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان وشمال العراق، وأنشأوا فيها أربع دول- إمارة الرها، إمارة أنطاكية، إمارة طرابلس ومملكة بيت المقدس.

وما استكانت الأمة للإفرنج، فقد كانت غارات الشعب على مواقع الإفرنج تتكاثر يوما بعد يوم، ولم يبق إلا أن تنبثق الوحدة، وأن ينطلق بطل الوحده ، والشدائد والأزمات تلدن البطولات كان ذلك دوما هو حكم التاريخ.

وانطلق بطل الوحدة، وقامت دولة الوحدة ، وكان البطل الذى ظل يجاهد للوحدة، والوحدة جهاد، حتى شمل سلطانه الشام وشمال العراق، ولم يبق أمامه إلا أن يدخل مصر في إطار الوحدة.

وإن وحدة فيها مصر، شاملة للشام والعراق، لا بد قادرة على قهر الإفرنج وتحرير الأرض العربية.

كان ذلك ما عاش نور الدين زنكى من أجله ، ويكفي للتدليل على ذلك أن نور الدين نفسه قد حدد أهدافه بكلماته، وهذه إحدى رسائله يقول فيها إلى حكام دمشق :

"أنا ما أوثر إلا جهاد الإفرنج، فإن ظهرتم معي في معسكر دمشق وتعاضدنا على الجهاد، فذلك غاية المراد…


ومع هذه الوحدة العربية، وكانت ما تزال في بواكيرها، استيقظت مخاوف الإفرنج، واستشعروا أن التجزئة العربية التي مكنت لهم في الأرض العربية، ستأخذ بالزوال، وستزول معها دول الإفرنج الأربع، من بيت المقدس إلى أنطاكية.

وكان على عرش بيت المقدس في تلك الحقبة الملك عموري الأول (1161-1174) ولم يكد يرث المُلكْ عن أخيه حتى رأى أن الملك نور الدين قد استطاع أن يقيم نواة الوحدة الأولى بين دمشق وحلب وحماه وحمص ودمشق وبعلبك، وشمال العراق.

وثارت مطامح الملك عموري مع مخاوفه…. وكانت مصر هي مقر المطامح و المخاوف , فإن مصر هي مركز الثقل في الوطن العربي، فيها الخيرات الوفيرة، والقدرات البشرية الكثيرة، وكانت مصر هي التي انتزعت من يدها سواحل الشام، فلا بد من السيطرة على مصر، واحتلالها، أو إخضاعها، على الأقل.

ولم يكن عموري"غريبا" عن حال البلاد العربية وشؤونها، فقد كان حاكما على يافا وعسقلان بل لعله كان من مواليد فلسطين، فقد كان عمره حين اعتلى العرش (1162) سبعة وعشرين عاما، بعد غزوة الإفرنج بما يزيد على ستين عاما... وهو بهذا مثله مثل الجيل الثاني من الغزاة الإسرائيليون.

كان عموري يخشى أن تتعاظم دائرة الوحدة العربية فتمتد إلى مصر، ويقع الإفرنج عند ذلك بين فكي الكماشة، بين مصر والشام "ولا يبقى للإفرنج مقام".

وعبارة " لا يبقى للإفرنج مقام" ليست كلامي، ولكنها كلام عمره ثمانية قرون، سطره مؤرخو العرب، وهم يستعرضون حركة الوحدة العربية وخطرها على الإفرنج، عاجلا أو آجلا.

وفي ظل هذه المخاوف- مخاوف الإفرنج، من الوحدة، تجلى الصراع بين نور الدين ممثلا للوحدة والنضال, وعموري ممثلا للغزو والاحتلال واندفع الإفرنج على مصر في ست حملات متواليات , وكانت الحملة الأولى في شهر أيلول 1163 فقد قام الملك عموري بالهجوم على مصر، واجتاز سيناء والعريش وبرزخ السويس، واقتحم الدلتا، حتى وصل إلى مدينة بلبيس وضرب عليها الحصار.. ولكن فشلت الحملة الأولى وارتد عموري خائباً مهزوما، لسببين رئيسيين:

الأول أن الأهلين في مصر، وما أعظم الشعب دائما، قد أغرقوا الأراضي بمياه فيضان في النيل، وبذلك حالوا دون تقدم الإفرنج…والثاني وهو الأهم، أن نور الدين قد فتح على الإفرنج "جبهة ثانية" في ديار الشام، حسب التعبير الحديث فهاجم مواقع الإفرنج في حارم وإماره طرابلس وحصن الأكراد، مما اضطر الملك عموري إلى العودة إلى فلسطين قبل أن تسقط مملكته في بيت المقدس… ولم يكن قد مضى على تتويجه ملكا على بيت المقدس إلا بضعة أشهر.

وكانت الحملة الثانية في تشرين الأول 1164، فقد قام الملك عموري بالزحف على مصر، عندما استنجده الوزير المصري، ضرغام، وتعهد له أن تكون مصر تابعة للإفرنج، إذا أعانوه على خصمه ومنافسة الوزير شاور.

ولم يكتف نور الدين إزاء هذه الحملة بفتح جبهة ثانية في ديار الشام كما فعل بالحملة الأولى، ولكنه أرسل جيشا بقيادة أسد الدين الأيوبي ومعه ابن أخيه صلاح الدين، وكانت هذه النجدة كما عبر عنها الملك نور الدين "قضاء لحق المستصرخ، وحبسا للبلاد" ، ومعنى ذلك منعها من السقوط في حوزة الإفرنج.
وكانت هذه النجدة من السرعة والعزيمة بحيث وصل الجيش الشامي إلى دلتا نهر النيل قبل وصول الملك عموري على رأس جيش الإفرنج.. واحتل أسد الدين الأيوبي بلبيس والشرقية ودامت المعارك بضعة أشهر أضطر بعدها الملك عموري إلى الانسحاب ، وخاصة بعد أن أرسل نور الدين أعلام الإفرنج التي غنمها من قلاعهم في ديار الشام، ورفعها أسد الدين على أسوار بلبيس، فأدرك الملك عموري أن حصون الإفرنج سقطت الواحدة بعد الأخرى في يد نور الدين .
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 25-01-2009, 07:02 AM   #17
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

وكانت الحملة الثالثة في كانون الثاني 1167، فقد قام الملك عموري بالهجوم على مصر، بناء على استنجاد آخر، من وزير مصري آخر، هو شاور، فسار الملك عموري في الطريق الذي أصبح يعرفه جيدا، من غزة إلى العريش إلى سيناء والى بلبيس، وهناك لقيهم حليفهم الخائن الوزير شاور، واجتازوا النيل وعسكروا على الضفة الشرقية. وهالهم أن يجدوا أن جيش أسد الدين الأيوبي ومعه صلاح الدين، كان قد سبقهم أيضا، فقد خرج من دمشق واجتاز الصحراء وعبر النيل عند أطفيح، ومنها إلى الجيزة، حيث عسكر في مواجهة الفسطاط على الضفة الغربية للنيل.

وقبل أن يبدأ القتال، شهدت القاهرة أتعس أيامها عارا وذلا، ففي ذلك اليوم وصل سفراء الملك عموري إلى قصر الخليفة الفاطمي، وعقدوا معه اتفاقية يلتزم بموجبها أن يدفع إلى الإفرنج مبلغ أربعمائة ألف دينار، في مقابل إخراج أسد الدين الأيوبي وقواته من مصر، وتم إبرام الاتفاق وعاد السفراء إلى الملك عموري، وقد انبهرت أبصارهم بالعجائب والغرائب التي شهدوها في القصر الفاطمي…من الستائر الذهبية، إلى الوسائد المرصعة باللآلى، إلى الجدران المكسوة بالياقوت والمرجان!!

وبعد الاتفاق بين الصليبيين وخليفة المسلمين، دارت المعركة بين الإفرنج وجيش نور الدين، وراج الإفرنج يعبرون إلى جزيرة الروضة… وأصبح موقف أسد الدين الأيوبي حرجا فاتجه إلى الصعيد، ولحق به عموري وشاور، وعند الأشمونيين في المينا دارت معركة البابين الشهيرة، وانهزم الإفرنج، مع أن عسكر أسد الدين لم يتجاوزوا ألفي فارس، وانبهر ابن الأثير لهذا النصر فقال "وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس "جيش أسد الدين" يهزم عسكر مصر (الفاطميين) وإفرنج الساحل"

وتعاقبت المعارك بين الجانبيين بعد ذلك, وشدّد الإفرنج الحصار على الإسكندرية، وصبر أهلها وهم على ضيق شديد، وصلاح الدين معهم يقاوم الحصار، غير أن قوات الإفرنج ومعهم حلفائهم الفاطميون كانت أكثر عددا وعددا، مما اضطر أسد الدين الأيوبي إلى الانسحاب، والعودة إلى دمشق…وكانت النتيجة : لا غالب ولا مغلوب!!

وفي ختام هذه الحملة ….وبالتحديد في خريف عام 1167، وقعت واحدة من المآسي الرهيبة التي عرفها تاريخ الأمة العربية، ذلك أن الملك عموري بقي بضعة أسابيع في القاهرة ليضع قواعد الحماية على مصر، تنفيذا للاتفاقية مع الخليفة الفاطمي، وسجل ابن الأثير تلك المأساة الرهيبة في عبارة دامعة دامية، يقول فيها :

"أما الإفرنج فقد استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة ( نائب ملك)، وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ليمتنع نور الدين من إنفاذ العسكر إليهم،و يكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار" .

ولكن أنى للشعب المصري، الشعب الشجاع الأبي، أن يصبرعلى هذا الضيم… فإذا كان حكامه قد ارتضوا حماية الإفرنج ، فليس للشعب أن يخضع ويخنع … فقد هاجمت خواطر الناس في مصر وفي العالم الإسلامي وهم يرون في القاهرة، حامية من فرسان الإفرنج، ومندوبا (شحنة) يشارك في الحكم…حتى أصبحت مصر كما وصفها أبن الأثير :

"تمكن الفرنج من البلاد المصرية، وجعلوا لهم في القاهرة شحنة (مندوبا) وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكموا على المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم" .

ورأى الفاطميون، بالتجربة والممارسة، لا بالعقل والضمير، أن الشعب المصري لم يعد يطيق بقاء الإفرنج في القاهرة، فلم يجدوا مناصا من الاستنجاد بالملك نور الدين، لإنقاذهم من الحماية والاحتلال، وبلغ من سوء الحال أن الخليفة الفاطمي حين بعث إلى نور الدين يستنجده أرسل في كتبه شعور النساء ، وقال :

" هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج".

وكذلك يفعل الخونة، يحتمون في الشدة بالنساء ويستغيثون، بدموعهن وشعورهن !!

وتهيأ مسرح التاريخ على أرض مصر بالحملة الرابعة…ففي أواخر تشرين الأول 1168 خرج الملك عموري من عسقلان لغزو مصر فوصل إلى بلبيس ومنعه الشعب من دخولها وأن يعسكر فيها، كما كان يفعل في المرات السابقة، وقالوا له "لا تدخلها إلا على أسنة الرماح… أتحسب أن بلبيس جِبنة تأكلها ؟ ولكن عموري ركبة الغرور فرد قائلاً "نعم , هي جبنة والقاهرة زبدة". ولم يدرِ أنه هو وجيشه سيكون الجبنة والزبدة تأكلها مصر هنيئا مريئا.

وبادر نور الدين إلى النجدة، وزحف أسد الدين ومعه صلاح الدين إلى مصر، ودارت معارك طاحنة بين الفريقين، تجلت فيها بطولة الشعب المصري، "فاحترقت مدينة بلبيس وقتل من أهلها خلق عظيم وخرب أكثرها وأحرق جل دورها" وقاوم أهل القاهرة مقاومة ضارية… واحترقت الفسطاط، ولجأ أهلها إلى مدينة القاهرة….ووضع المصريون العقبات الكثيرة في مجرى النيل ليحولوا دون تقدم أسطول الإفرنج.. وقد رضي المصريون بكل هذه التضحيات الجسام، ‎" وأن تدمر بيوتهم وتحرق مدنهم حتى لا تقع بيد الإفرنج .

ولم يكن النضال قاصرا على الرجال فحسب، فقد قامت النساء بدورهن خير قيام، فإن كثيرا من نساء القاهرة جززن شعورهن لتباع في الأسواق ليساهمن بثمنها في مجهود الحرب . والشعب دائما، صاحب المروءات والاريجيات، الرجال والنساء، سواء بسواء….

واضطر الملك عموري في النهاية أمام قوات أسد الدين، ومقاومة الشعب المصري، إلى أن يعود مرة أخرى، مقهوراً مدحوراً إلى مملكته في بيت المقدس.
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 25-01-2009, 07:02 AM   #18
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

وابتهجت مصر لهذا النصر العظيم، واستقبل أسد الدين الأيوبي استقبال الفاتحين، وعسكرت قواته عند أبواب القاهرة على أرض اللوق، وازدادت حماسة الشعب، إلا الوزير شاور فإنه لم يرق له أن يتم هذا النصر على غير يديه، فدفعته نفسه الحاقدة إلى مراسلة الإفرنج مرة أخرى، وطلب نجدتهم، مشيرا عليهم بأن :"يكون مجيئكم في دمياط في البحر والبر".

وعلم أهل مصر بالخبر، فاجتمع الأعيان عند أسد الدين الأيوبي وقالوا له "شاور فساد العباد والبلاد، وقد كاتب الإفرنج وهو يكون سبب هلاك الإسلام، وطالبوا بقتل شاور الخائن وتحدث أسد الدين إلى أصحابه حديث المجاهدين شارحاً مكانة مصر , وقدرها في الوطن العربي الإسلامي كأنه يتحدث اليوم إلى المواطنين المعاصرين فقال :" قد علمتم رغبتي في هذه البلاد ومحبتي لها وحرصي عليها ، ولا سيما وقد تحقق عند الإفرنج منها ما عندي، وعلمت أنهم كشفوا عورتها، وعلموا مسالك رقعتها، وتيقنت أني متى خرجت منها عادوا إليها، واعتدوا عليها، وهي معظم دار الإسلام، وحلوبة بيت ما لهم، وقد قوي عندي أن أثب عليها قبل وثوبهم، وأملكها قبل مملكتهم، وأتخلص من شاور الذي يلعب فينا وبهم… وقد ضيع أموال هذه البلاد في غير وجهها وقوي بها الفرنج علينا…"

ولقي شاور مصرعه، واستبيحت أمواله وقصوره، ليكون عبرة باقية للذين يهادنون الأعداء، ولا يرعون واجب الوطن وحق الشعب .

ولكن نصيحة شاور التي بعث بها إلى الإفرنج "بأن يكون مجيئكم في دمياط في البحر والبر" قد تحققت بعد وفاته… وبهذا جاءت الحملة الخامسة، وعن طريق دمياط برا وبحرا، كما نصح شاور في حياته.

والواقع أن الإفرنج لم يكونوا بحاجة إلى من ينصحهم بالقيام بحملة جديدة على مصر، فإن الوحدة بين مصر والشام وانتصارها الأخيرعلى الإفرنج في معركة القاهرة، قد جعلهم يخشون على وجودهم في "مملكة بيت المقدس"، وأصبح لا مناص من أن يجمعوا جموعهم وأن يقوموا بالحملة الخامسة على مصر.

ولم يكن خوف الإفرنج على بيت المقدس، وهماً أو خيالاً، بل كان حقيقة راسخة، فهذا ابن الأثير يصف خوف الإفرنج بقوله "كان الفرنج لما ملك أسد الدين مصر ,قد خافوا و أيقنوابالهلاك وانهم خائفون على بيت المقدس وطالبوا الفرنج الذين بالأندلس وصقلية وغيرهما يستمدونهم "، (أي يطلبون منهم المدد) ..وهذا ما تم فعلا…فقد كان الإفرنج "خائفين على بيت المقدس" واستقر في عزمهم أن الدفاع عن بيت المقدس يقتضي الهجوم على مصر. أوليست إسرائيل، اليوم خائفة على بيت المقدس، ومن أجل ذلك فإنها تتصدى لمصر حينا بعد حين !!
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 25-01-2009, 07:03 AM   #19
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

وبدأت الحملة الخامسة في شهر تموز 1169، فقد غادر الأسطول البيزنطي مياه الدردينل قاصدا قبرص ، وكانت أحد مراكز التعبئة العسكرية عند الإفرنج، وانضمت إلى الأسطول قوات إضافية، لتسير كلها إلى عكا، وكانت من أكبر ثغور الإفرنج على ساحل البحر الأبيض لمتوسط…وتم هناك وضع الخطة الهجومية على مصر، ولضرب الوحدة العربية، ودفع الخطر نهائيا والى الأبد، عن بيت المقدس.

وعقد المجلس الحربي في عكا، برئاسة الملك عموري، ونوقشت الخطة بكل تفاصيلها، وسلفا، وزعت الأسلاب واقتسمت الغنائم ، وتخصص للفرسان "الإستبارية" نصيب كبير من موارد مصر، مع أهم المدن المصرية بالذات مثل، الفيوم وأسوان وأطفيح وقوص والإسكندرية ودمياط والمحلة وتانيس، وغيرها وغيرها….تماما مثل حكاية العدوان الثلاثي على مصر الذي تم الاتفاق بشأنه في باريس في صيف 1956 بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وتقاسموا الغنائم والأسلاب، قبل أن ينطلقوا إلى الميدان!!

وأقلع الأسطول من عكا متجها إلى دمياط، وفي نفس الوقت، زحف الإفرنج برا في الطريق ‎إياه، من عسقلان إلى الفرما، ومنها إلى دمياط حيث نصبوا معسكرهم، "ومعهم المنجنيقات والدبابات وآلات الحصار" ..
وأطبق العدوان الثنائي على دمياط من البحر والبر، وكان أسطول الإفرنج مؤلفا من ألف مركب تحمل على ظهرها مائتي ألف فارس وراجل، مزودين بكل آلات الحرب والدمار والحصار، مما حمل مؤرخي الإفرنج على أن يسموا هذا الأسطول "بالأرمادا" المعروفة بالتاريخ.

ونهض صلاح الدين الأيوبي…وكان في ذلك الوقت وزيرا لنور الدين، بواجب الدفاع عن دمياط خير قيام، ذلك أنها معركة فاصلة، فإن سقطت دمياط بيد الإفرنج سقطت معها القاهرة ومصر كلها، واستتب الأمر للإفرنج لأجيال وأجيال…وإن انهزم الإفرنج وبقيت دمياط عربية، فالمعركة الأولى المقبلة بين العرب والإفرنج ستكون على أسوار بيت المقدس.

ومن هنا فقد كانت خطة نور الدين وهو في دمشق، وصلاح الدين وهو في القاهرة، أن يلحقا الهزيمة بالإفرنج مهما كانت التضحيات، وهما يعلمان يقينا أن معركة دمياط ستكون المعركة أمام دولة الوحدة المصرية الشامية، وهي لا تزال على أول الطريق.

وشرع صلاح الدين في الإعداد للدفاع المستميت، فقام بتحصين دمياط وشحنها بالرجال والسلاح، وملأها بالذخيرة والميرة، وأرسل قسما من جيشه مع ابن أخيه تقي الدين عمر، وقسما آخر مع خالد شهاب الدين…وقام نور الدين من جانبه باستنفار الجيش والشعب في ديار الشام، وأمدهم بالسلاح والمال والمؤن، وراح يرسل القوات الشامية إلى أرض المعركة في دمياط لتؤدي دورها في القتال جنبا إلى جنب مع القوات المصرية .

ولم يكتف نور الدين بذلك، بل إنه فتح جبهة ثانية على الإفرنج في ديار الشام، فقام بهجمات متلاحقة على مواقع الإفرنج وحصونهم وقلاعهم، فأنزل فيها الدمار، وكبد الإفرنج خسائر فادحة.

وكان نور الدين يخوض هذه المعارك في ديار الشام، دفاعا عن الأمة العربية، ووفاء لعهد أخذه على نفسه بأن لا "يظله سقف حتى يثأر من الإفرنج" ملتزما الجد الصادق في نضاله، بعيدا عن الراحة والسكينة….وحتى عن البسمة الهادئة…فقد قال لأصحابة وهم يسألونه عن سبب عبوسه…"أني لأستحي من الله أن يراني مبتسما في حين أن المسلمين يحاصرهم الفرنجة في دمياط".

وأين ذلك من قهقهات الملوك والرؤساء في هذا الزمان .
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 25-01-2009, 07:04 AM   #20
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

وبدأت معركة دمياط ضارية استبسل فيها الجيش والشعب معا .. فلم يستطيع أسطول الإفرنج دخول الميناء في وجه "المآصر"، وهي السلاسل الحديدية التي أعدها صلاح الدين عند مدخل الميناء. وقام أهل دمياط بإعمال فدائية باهرة، وعبئوا أواني فخارية بمواد مشتعلة، وانتهزوا فرصة جريان النيل من الجنوب إلى الشمال، فأرسلوها مع التيار، فأنزلت بأسطول الإفرنج حرائق كثيرة وخسائر فادحة.

وقام الإفرنج بدورهم بهجمات متلاحقة على دمياط، وضيقوا عليها الحصار، وقذفوها بالنار ليلا ونهارا، وامتد الحصار ما يزيد على خمسين يوما، "فشحت المؤن والأقوات، وارتفعت الأسعار"، ولكن أهل دمياط صبروا وصابروا …شأن المجاهدين.

وجاء اليوم التاسع عشر من كانون الأول 1169، فكان من أيام العرب الخالدة…لقد انحسمت المعركة بالنصر المبين لقوات صلاح الدين، فجلا الإفرنج عن دمياط، بعد أن غرقت المئات من مراكبهم وهلك الكثير من أمرائهم وجندهم، ودمرت منجانيقاتهم وأسلحتهم…وظلت الأمواج تتقاذف جثث بحارة الإفرنج لعدة أيام وأيام .

وانتهت المعركة بالنصر المبين على يد نور الدين وصلاح الدين..وبهذا انتهت حرب الأعوام الستة على مصر، وانتهت حياة الخيانة ممثلة في مصرع الوزيرين الخائنين ضرغام، وشاور، ولم يبق أمام نور الدين إلا أن يصفي الخلافة الفاطمية في القاهرة، ليصبح للدولة العربية الواحدة في العراق والشام ومصر، خليفة واحدة لا خليفتان!!

وأصدر نور الدين أمره إلى وزيره صلاح الدين في القاهرة بأن يخلع الخليفة الفاطمي المعتضد بالله، فأمر صلاح الدين بقطع الخطبة في صلاة الجمعة عن الخليفة الفاطمية، بعد حكم دام قرنين طويلين، قامت خلالهما حضارة رائعة، وهزائم مروعة ، وما تغني الأولى عن الثانية!!

وبانتهاء الخلافة الفاطمية استبشر الناس بقيام الوحدة العربية، وازدانت العواصم الثلاث، القاهرة ودمشق وبغداد بمعالم البهجة، وانطلق الشعر العربي يخلد تلك الأحداث الرائعة، وكان مما قاله العماد الأصفهاني، الناثر الشاعر المؤرخ، مخاطبا نور الدين، ومشيدا بالوحدة :

يـا سالبَ التيجـان من أربابهـا
حـزت الفخـار علـى ذوي التيجـان


ثم يقول في قصيدة أخرى:

فملك مصـر والشـام قد نظمـا
في عقد عـز مـن الإسـلام منتظــمِ


أما هتاف الجماهير الذي كان جاريا على كل لسان، فقد كان كما أثبته مؤرخ الشام المعاصر:" نور الدين يا منصور" ولم يكن هذه الهتاف مفتعلاً أو مستأجرا، كما يفعل الملوك والرؤساء في هذا الزمان!!
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .