العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: نظرات في رِسَالَةٌ فِي الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: ابونا عميد عباد الرحمن (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: قراءة في مقال مخاطر من الفضاء قد تودي بالحضارة إلى الفناء (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في كتاب من أحسن الحديث خطبة إبليس في النار (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى بحث وعي النبات (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في بحث أهل الحديث (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في كتاب إنسانيّة محمد(ص) (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الى هيئة الامم المتحدة للمرأة,اعتداء بالضرب على ماجدات العراق في البصرة (آخر رد :اقبـال)       :: المهندس ابراهيم فؤاد عبداللطيف (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: نظرات في مقال احترس من ذلك الصوت الغامض (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 26-07-2006, 02:08 PM   #31
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

معالي الوزير علي

هل تحسن القول بأن قوة علاقات الدولة و مكانتها العالمية تعود لحكمة وحنكة فخامة رئيس الجمهورية ؟

هل تحسن القول بأن اقتصادنا ينمو باطراد و صعود ، وأن بلادنا من أقل بلاد العالم فقرا ؟

هل تحسن القول بأن بلادنا تشكل واحة أمن فريدة ، وأن أعين أجهزتنا الأمنية بالمرصاد لكل من تسول له نفسه العبث بأمن الوطن والمواطن ؟

إن كنت تحسن ذلك أو مثله ، وإذا كنت على قدر من التفاني في تقديم جواب ، عن أخبار أهلك و محيطك بما يرضي رجلا (مهما عند الدولة) من جواب ، و إن كنت ممن يتواجد في الاحتفالات التي يخطط لها مليا ، لتكون احتفالات ، وإن كنت ممن كان لهم ماض معارض ، فصرت تعلن توبتك بمناسبة و دون مناسبة ، وإن كنت ممن يرفع البرقيات على صفحات الجرائد ، وإن كنت صاحب أثر في محيطك أو توهم الآخرين بأنك كذلك .. فتوقع أن تكون أحد أعضاء وزارة في يوم ما .

في البلاد العربية ، لا تحل مشاكل الوزارات بوزراء قديرين ، بل تحل مشاكل الوزراء غير القديرين بوزارات .. وطبعا لن يكون اسم أحدهم وزير قبل توليه الوزارة ، بل كان رجلا ولكن ليس ككل الرجال !

تكاد أنظمة الحكم أن تكون بحكم المتأكدة أو المتيقنة ، بأن الوزراء الذين يتم اختيارهم ، سيكونون أكثر طاعة وهم داخل الحكومة منهم وهم خارجها ، وهو أسلوب قديم ظهر منذ عهد العباسيين في استرضاء الخصوم لاتقاء شرورهم . وقد اكتشف المستوزرون هذا الأسلوب ، فيكونوا نارا على الحكم وهم خارجه ، وبردا وسلاما على الحكم وهم في داخله ونارا على خصوم الحكم ..

يكفي أن يكتب أحدهم عدة مقالات ينتقد فيها الحكم ، ويضحي بجلسات للمسائلة من قبل أشخاص رفيعي المستوى من أجهزة الأمن ، ويكون يستند على قوة مضللة للحكم ، قد تلقى الحكومات فيها كتلة شعبية أو حزبية مقلقة ، فما أن يتم تعديل آراء المعارض العتيد ، حتى يستسهل حضور سهرات الصالونات السياسية ، وتصبح معظم مساهماته داخل تلك السهرات ، عبارة عن تندر بماضيه السياسي ، وقد يتعمد لذكر قصة أو أكثر في كل سهرة ، تبين إعجابه بفطنة الحاكم ومن حوله ، ويسردها بطريقة ذكية حتى لا يوصف بالابتذال ، ويكون هناك من يرقب هذا التحول النوعي عند تلك الشخصية ( المحيرة) .. ولا يطول الوقت حتى يعتبر من في الحكم أن تكليف هذا الشخص بحقيبة وزارية لا يخلو من حكمة مليئة بالمكاسب !

كان الناس ينظرون الى الأستاذ علي نظرة مليئة بالإعجاب و الحيرة في آن واحد ، وكان هو يتعمد أن يجعلهم في حيرة مستمرة ، فكان يوحي لهم بأنه على علم بأدق التفاصيل لدى الدولة ، ولكنه لا يسهب في ذكر أي منها ، بل ينتقل الى مواضيع عدة ، فيلاطف هذا و ينتقل بأسلوب رشيق الى ما قبل ثلاثين عاما مستشهدا بأحد كبار السن الجالسين ، فيضحك ذلك المسن للحظوة التي نالها ، ويبتسم أبناؤه فرحا بأن أباهم على صلة بالأستاذ ، ثم يتذكر أحد الجالسين أنه أهمل من قبل الأستاذ علي ، فيبادر بصوت قوي يدعوه للغداء هو ومن يحب في أقرب فرصة ، فيجد الأستاذ بهذا الاهتمام والتنوع ممن حوله ، ملاذا للإبقاء على غموض شخصيته ..

عندما تم إعلان التشكيل الوزاري ، وظهر اسم الأستاذ علي بين الأسماء ، هب محبوه بالتحرك الى العاصمة لتقديم التهاني و التبريكات ، ومع ذلك كان الأستاذ يحسس المهنئين بأنه قد فضل عليهم في استقبالهم ببيته ، وكان أهل بلدته يحسون بحرج شديد ، إذا دخل البيت رجال لم يشاهدوهم إلا في التلفزيون أو يسمعوا عنهم بالإذاعة و يقرءوا عنهم بالصحف .. فكانوا يهمون بالرحيل لتخفيف الحرج عنه ، لكنه كان يومئ لهم بالبقاء ، لقد كان ماكرا بما فيه الكفاية ، يريد أن يبلغ رجال الدولة بأنه رجل مؤثر جماهيريا ، ويريد أن يبلغ أهله أنه رجل مهم على صعيد الدولة ، وها هم رجالها يتقاطرون لمجاملته ..

لم تطل متعة الأستاذ علي كثيرا ، رغم أنه بقي في الوزارة عدة سنوات ، فلم يسمع أحد ببلدته أنه قدم خدمة لأحد منهم سوى حالتين ، فقد كان يغزوه في الشهور الأولى يوميا رجال ذو أهمية اجتماعية يطلبون تعيين أحد أو ترقية مدير أو إخراج أحد من ( الحبس ) .. ثم أغلق الأبواب أمام الزوار ، ولم يرد أن تهتز صورته أمام الحكومة بزهده في طلب الخصوصيات ..

كان المواطنون يتساءلون : كيف إذا أردنا أن نقابل مديرا عاما ، نقضي شهورا ولن نفلح ، وفي نفس الوقت ، كان من السهل أن يتجمع ثمانية وزراء أو أكثر على ( عزومة ) في قرية نائية ؟

قلت مشاركات الأستاذ علي في المناسبات الاجتماعية في بلدته ، واقتصرت على وقوفه القليل من الوقت في مآتم ذويه ، ولم يعد استخدامه لبعض المفردات الإنجليزية في حديثه ، أو رش نفسه بعطر كان يشتهر به سابقا .. لم يعد ذلك مؤثرا في نفوس المواطنين الذين تكونت لدى معظمهم قصص لا تترك أثرا للود بينهم و بين الأستاذ ..

عندما تم تغيير الوزارة ، ولم يكن هو ضمن التشكيل ، اكتشف أن تصنيفه بين الناس أصبح من الصعوبة بمكان ، فلا هو ممن اكتفى ماليا حتى يكون لكراهية الناس له ثمنا ما ، فاضطر لبيع بيته ، ولا هو ممن أبقى على علاقاته القديمة التي كانت توفر له بعض قرارة النفس !
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 08-08-2006, 03:25 PM   #32
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

عطوفة المدير العام عبد العزيز

إذا كان نحت شرعية أنظمة الحكم في البلاد العربية ، يتم من خلال بناء الهالة الأولى المحيطة بنظام الحكم ، فإن أفراد تلك الهالة سيكونون معنيين في اختيار أفراد الهالة الثانية ، ليستمدوا منها مبررات بقائهم بالهالة الأولى ، ولتكون تلك الهالة مصنعا لإمداد الهالة الأولى بالأفراد ..

ليس هناك الكثير ما يطلب من المدراء العامين ، في بلادنا ، فمن يعينهم يعلم أنه قطع إقطاعية و منحها لمن يستحقها حسب مسطرة الحاكم ، ولا يستحقها حسب مسطرة المصلحة العامة ، التي نسمع بها ولا نراها .


ينشغل المدير العام المعين بمرسوم عالي ، في أول أيامه في استقبال المهنئين ، وتغيير ديكور مكتبه وسيارته الخاصة ، ثم يلتقي برؤساء الدوائر الفرعية التي تتبع لإدارته ، ويتكلم معهم بكلام ، حفظوه عن ظهر قلب ، محشوا بكلمات مثل المصلحة العامة والتفاني بالعمل ، وعدم مساواة المبدع بالمهمل ، ومقارنات مع حضارات العالم القائمة ، ويذكر لهم ما رآه في فرنسا أو اليابان أو يسرد لهم إبداعاته في دوائر أخرى قبل أن يحل عليهم منقذا ..

يهز الجميع رؤوسهم ، ولا ينسوا أن يرفقوا هز رؤوسهم بابتسامة توحي للمدير العام ، بأنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر قدومه كمنقذ ، ورغم معرفة المدير العام بأنهم يكذبون ، فإنه يعتبر هذا النفاق عبارة عن دفقات من التبجيل و التوقير يستحقها عن جدارة .. ورغم معرفة هازي الرؤوس ـ أنفسهم ـ بأنهم يكذبون ، إلا أنهم يصرون على ألا يخطئوا بأي حركة !

لا يتذكر الناس أشخاصا اعتياديين ، يتواجدون بينهم بشكل طبيعي ، إنما يتذكرون أشخاصا مخترعين أو قادة أشاوس ، أو أشخاصا يسمع عنهم الناس ولكن لا يروهم ..

وبما أن معشر المدراء العامون في بلادنا ، ليس من النوع المخترع ، ولا من النوع القائد الفذ ، فإنهم يبتكرون طرقا للتخفي عن عيون العامة ، حتى يكتسبوا أهميتهم المفقودة .. فكلما تطورت وسائل التخفي والابتعاد عن العامة ، كلما ازدادت أهمية هؤلاء المدراء .

وقد نمت مهارات تتواكب مع تلك الطلبات المتزايدة من المدراء العامين ، فالسكرتيرة أو مدير المكتب ، عليه أن يتقن معرفة الأجوبة اللازمة : عطوفته عنده اجتماع ، عطوفته عند الوزير ، عندك موعد مع عطوفته ؟ الخ

كان الدكتور عبد العزيز نموذجا صادقا عن تلك النماذج ، فهو خريج دولة من أوروبا الشرقية ، في مادة لا تحتاجها البلاد نهائيا ، وكانت معظم المعلومات التي تعلمها ، قد جاء بها إشعارات من منظمة الأغذية والزراعة والدولية التابعة للأمم المتحدة ، بأنها أساليب خاطئة ، على المعنيين تجنبها وعدم تطبيقها !

لا زلت أذكر حديث خبير تلك المنظمة ( الفاو) في أواسط السبعينات من القرن الماضي ، عندما أخذ يسرد في محاضرة له : بأن مساحة البلدان العربية تقل قليلا عن أربعة عشر مليون كيلومتر مربع ، وأن 78% منها في إفريقيا والباقي في آسيا ، وأن 3.4% من تلك المساحة صالح للزراعة ، منها 30% على حوض النيل ، و44% في دول المغرب العربي ، و22% في الهلال الخصيب والباقي في الجزيرة العربية ..

وبعد أن أنهى محاضرته ، ابتسم بمكر وقال : كنت أسأل نفسي ، لو ألغيت وزارات الزراعة في البلدان العربية ، ماذا سيحصل في الزراعة .. صمت وأجاب لوحده : لا شيء !

لم أكن أدرك مغزى تلك الطرفة بشكل جيد ، ولكنني عندما تعرفت على الدكتور عبد العزيز .. أدركت حكمة ذلك الخبير ..

كان الدكتور عبد العزيز ، يرتب مع الإذاعة أو التلفزيون الحكومي ، لقاءات على الهاتف ، إذا ما جاء في شهر يناير/كانون الثاني المطر بشكل جيد أو غطت الثلوج مساحات واسعة من المحافظة التي يدير مديرية الزراعة فيها . فكان يخرج للناس و كأنه أحد الآلهة السومرية ( إنليل ) .. وأنه هو من أحضر تلك الأمطار و الثلوج .. فكان يمط حرف الجر ليأخذ مساحة بيت شعر على البحر الطويل .. ليغنم أكبر وقت ممكن يتكلم فيه ..ويبشر المزارعين بموسم خير وفير و ينصح مربي المواشي بنصائح يعرفها راعي مبتدئ و مربي النحل ومربي الدجاج ، وكان يود لو أتيح له المجال ليقول للمشاهدين أي أنواع الطبخ تلاءم مثل تلك الأجواء ..

عندما جاء كتاب تقاعد الدكتور ، بذل قصارى جهده ليبقى في مكانه ، أو ينقل للجامعة العربية ، فإن له اثني وعشرون عاما خبرة كمدير عام ، لم يشأ أن يبقي أثره على التدني بمستوى الزراعة ببلاده بل أراد أن ينعم بها الأشقاء العرب ، لكن البطء في استصدار قرار تصديره عربيا ، قد عجل في موته ، فمات وقد يكون قد عرف عن أي شيء إلا الزراعة !
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 20-08-2006, 02:10 PM   #33
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سيد غني الميكانيكي :

تجد بين البشر نماذج بطولية ، لم يتعرف الى بطولتها إلا من كان قريبا منها ، وكونها لم تكن من علية القوم ، فلم يكتب أحد عنها ، ولم تكن تلك النماذج تمارس بطولتها ، ليكتب أحد عنها . فهي كالنمل تتشابه في اللون مع أبناء طائفتها ، وتقوم بتضحيات لتطفئ نارا بجسدها الضئيل ، وهي تعرف أن ليس هناك من يخلدها بالتاريخ ..

كان سيد غني رجلا في الخمسين من عمره ، يتعلم في مدارس محو الأمية ، ويشرف على إدارة قسم المكننة الزراعية ، كرئيس فنيين ، فلديه من السواق ومعاونيهم ست وثلاثون فردا ، كان منهم العرب و الجرجر والشبك و التركمان والأكراد .. منهم من يقود ساحبة روسية ومنهم من يقود ساحبة إنجليزية ومنهم من يقود ساحبة يابانية ، أو رافعة وبلدوزر و مدرجة ..

كانت المكائن الموجودة بأعمار مختلفة ، فمنها من العهد الملكي ومنها ما بعده ، ولم تكن أعمارها تؤهلها لأداء مهامها بكفاءة عالية ، فأعطالها كثيرة ، وقطع غيارها غير متوفرة ، و الحواجز المكتبية و المكاتبات الطويلة تعيق وصول قطع الغيار من بلاد المنشأ بأقل من سنة ..

كل تلك الظروف ، وما رافقها في منتصف السبعينات من مصاعب ، صنعت من سيد غني بطلا ، رغم أنفه ، فلم يكن مسئوليه يعذروه في عدم قدرته على تصليح ما يعطب من تلك المكائن الكثيرة والتي لا يحل محلها ماكنة أخرى .. فكان لزاما على سيد غني أن يشغل مخه و يبتكر وسائلا لتصليح ما يعطب .

كان مبتسما باستمرار ، ذو بنية قوية ، وكذلك من في خدمته ، كانوا يتبارون في إنجاز ما يصعب إنجازه ، بتجريب يكلفهم جهدا عضليا هائلا ، فقد رأيتهم يتناوبون على الطرق على ( مسنن ) ضخم لبلدوزر روسي ، لمدة يومين كاملين حتى لا يكلفوا المنشأة استقدام خبير لاستخراج المسنن ، ولكن في النهاية اتصلوا بأرمني فجاء ومعه جهاز ( هيدروليك) لم يأخذ وقتا سوى ربع ساعة حتى استخرج المسنن الضخم من سلسلة الجنزير الضخم .

كان سيد غني يطوف على عدة محطات في عدة محافظات ( الحويجة/كركوك) و(صندور/دهوك ) و (اسكي كلك / أربيل) .. بالإضافة الى محطة نينوى مقره الرئيسي .. ويعود ليخبر من أرسله ، بأن مهمته تمت بنجاح ..

كان من بين المكائن ، ساحبة بلغارية بقوة 65 حصان ، تسير على جنزير (وليس إطارات) عرضها متر وربع و طولها متران دون المحراث الذي تسحبه ، كان المحراث يدور بقوة المحرك بواسطة مجموعة نقل صنعت من مادة نسبة الكربون بها عالية ، وقد امتازت هذه الساحبة في قدرتها على إزالة الأعشاب في خطوط بساتين العنب التي تزرع على أسلاك و المسافات بين خطوطها لا تزيد عن مترين .. فتزيل الساحبة كل الأعشاب و تهيض الأرض ، دون أن تؤذي الأشجار ، لأن المحراث مزود بمجس لين ما أن يمس ساق الشجرة حتى يبتعد عنها بكل لطف ..

تجمع في نينوى حوالي أربعين ساحبة عاطلة عن العمل من مختلف محطات القطر ، طمعا بأن يقوم سيد غني بتصليحها ، فكان يشخص العيب ، ثم يطلب من مديره تزويده بقطع الغيار اللازمة فيكتب مديره للمدير العام ، الذي يخاطب الوزير ليخاطب وزارة الخارجية ، لتبعث الى السفارة البلغارية ، وتعود الإشارة طالبة إرسال مواصفات وتطول المسألة ليأتي القطار القادم من بلغاريا ، به كل القطع عدا التي طلبت .. وتتكرر المسألة ..

فاجتهد سيد غني بأخذ القطعة و إحالتها لخراطين محليين في عملها من الفولاذ ، وكان ثمن القطعة 3 دولارات ، فاشترى 150 قطعة وأصلح كل ساحبات القطر ، فنال وسام الرافدين من الدرجة الثانية ..

ثم أتى لساحبة روسية ذات ثلاث إطارات تستخدم لغرس (عقلات المشاتل) كانت إذا تحركت يتبعها أكثر من 150 عاملة ليوجهن العقلة باتجاهها الى الأسفل ، فأضاف ترتيبا يتم مناولة العقل أوتوماتيكيا ، دون إشراك العاملات ، فوفر كما هائلا من الأيدي العاملة ، فنال وساما آخرا ..

ثم نظر الى قالعة بطاطا (فنلندية روسية ) .. فكانت تحطم درنات البطاطا ، ويلتصق بالدرنة كم من التراب و الطين مما يقلل من جودتها و يفقد المحصول جزءا كبيرا منه ، فلبس قضبان الماكنة المعدنية بغطاء كاوتشوك ، وأضاف مسنن ، ذا شكل بيضوي ، يزيل في حركته غير المنتظمة التراب العالق على الثمار .. فاستحق وساما ثالثا ..

كان سيد ظريفا لطيفا ، بعد كل إنجاز وبعد أي مكافئة تأتي له أو لمن معه ، يذهب فيأتي بكمية من اللحم والخبز والبصل و يضعهم في قدر ويتركهم تحت شجرة ( توت )عملاقة تقع قرب مضخة على نهر دجلة ، وبعد أن ينضج الطعام البسيط يتجمع جزء من الموظفين والمستخدمين ليتناولوا طعامهم بأيديهم بقصعات ، كانت أطيب من أي مآدب تعمل في قصور .. حتى أصبح هذا العمل تقليدا يتبرع به كل من ينال علاوة من مدير المحطة الى أصغر مستخدم من المستخدمين الستمائة .

كان سيد يروي نكاتا ممن يصدفهن في عمله ، فقد ذكر أنه يذهب للحويجة من أجل تشغيل مضخة عملاقة على (نهر الزاب ) ، وذلك في شهر أيار/مايو ، ثم يعود ليطفئها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني ، وتبقى تلك المضخة التي تصدر صوتا كصوت القذائف المدفعية المتتالية ، تعمل ليلا ونهارا وتزود بما يلزمها وهي تعمل . قال لقد نسيت أدوات التشغيل في المحطة عندما أطفأتها ، فعدت بعد يومين لآخذ الأدوات ، فإذا بمن يسكن بالمنطقة يتوسل به ليشغلها ساعتين من الزمان ، كي ينام هؤلاء الناس .. فقد تعود السكان النوم على ضجيج الماكنة .

طوبى لكل العاملين الأبطال المجهولين ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 06-09-2006, 12:49 PM   #34
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

جعفر المهاجر :

تختلف أسباب الهجرة من زمان لزمان و من مكان لمكان ، فمنها من يأتي لسبب أمني ، إذ يقتل من يهاجر أحدا و يخشى من نقمة ذويه أو ملاحقة القانون أو يكون معارضا ليس على دين أو عقيدة قومه ، فيخشى سلطة الأغلبية .. ومنهم من يهاجر طلبا للرزق أو العلم ، ومنهم من يهاجر لاحقا بمن يحب ، ومنهم من يهاجر حالما بغد أفضل .. الخ من تلك الأسباب ..

عندما كانت الهجرة في الماضي تصل الى مناطق يشترك ساكنوها مع المهاجر في الدين أو اللغة أو النسب ، فإن المهاجر لم يكن يحس بقسوة الغربة ، بل سرعان ما يندمج مع المكان الجديد وعندما يبعث لأهله برسالة ، فإنه يقول (نحن أهل العراق ) ، ولم يكن هو أصلا من العراق ، بل قد يكون آت من قرطبة أو القاهرة أو الخرطوم ، فيصبح يتكلم بلسان أهل العراق ، حتى لو مضى عليه عدة شهور ، وكذلك يفعل ابن العراق الذي انتقل الى تونس أو المغرب ، فكان الإحساس بسلاسة الانتماء الأدبي والاجتماعي يعوض سريعا عن قسوة غربة المكان .. وعندما يوقع باسمه لا ينسى ذكر مكان مولده وإقامته فيقول فلان العمواسي العراقي .. أي من ولد في عمواس (فلسطين ) ويقيم في العراق .

في القرن الثامن عشر ابتدأت موجات الهجرة ، لتصل أمريكا اللاتينية ، واستراليا و مناطق عديدة في العالم ، استطاع أبناء العرب المهاجرون أن يصلوا الى قمة السلطة في تلك البلاد كما في ( الأرجنتين وإندونيسيا و زنجبار و موزنبيق والكثير من البلدان ) ..

أما الهجرات التي حدثت في القرن العشرين ، فقد كان أصحابها ـ غالبيتهم ـ يعانوا من تمزق و ضياع في الانتماء ، فقد تطورت قوانين الهجرة ، حتى في البلدان العربية ، وأصبح المهاجر يعاني من عزلة بالتصنيف و محاصرة في الهوية ، فلا هو المندمج بواقع البلد الذي هاجر إليه ، بحيث يستطيع أن يفخر بإنجازاته ، ولا هو الباقي في بلاده ، يفرح لفرح أهلها و يتألم لآلامهم .

كان جعفر أحد طلبة كلية الهندسة الذين تركوا صفوف دراستهم و غادر الى الولايات المتحدة الأمريكية ليلتحق بأخواله الذين سبقوه قبل ثلاثين عاما .. فكان أحدهم مدرسا للغة الإنجليزية في بلاده ، وأشقاءه الأربعة قد غادروا في الستينات من القرن الماضي على دفعات خلال ثلاث سنوات ..

تفاجأ جعفر بأن أخواله الذين ورثوا عن أبيهم عقارات تبلغ فوق ثلاث ملايين دولار في بلدهم الأصلي ، ليسوا بتلك الحالة الاقتصادية التي تبرر لهم الهجرة ، فكان أحدهم يبيع الخمر في متجر بسيط ، ويعيش مع صديقة له ، في حين يمر على زوجته (ابنة عمه) مع أولادهما كل شهر مرة ، وكان كل أفراد العائلة قد تكيفوا مع الوضع الجديد ، فلا يتذمرون ولا ينتفضون لتغيير وضعهم البائس .. فكل فرد من العائلة له شأنه الذي لا يختلف كثيرا عن كبير العائلة !

أما الخال الأكبر ، فكان قد حفظ من الإسلام خاصية السماح بالزواج المتعدد فقط ، فقد تزوج ثلاث عشر زوجة كلهن عربيات ، وباستمرار كان على ذمته أربع نساء ، في حين كان وكيل لتوزيع الخمور في المدينة التي عاش بها نحو أربعين عاما قبل أن يعيدوا جثمانه الى بلاده التزاما بوصيته !

أما الخال الأوسط ، فقد كان في غربته لا يتأثر بمكان وجوده ، فلا فرق بين أمريكا وبوركينافاسو أو حتى قريته التي غادرها ، حتى لو أمضى قرنا كاملا ، فكان قبل موته يلتزم الصلاة ، وقد حول ما جمعه من أمريكا الى عقارات اشتراها من إخوانه و أبناء أعمامه ، كان شخصا غريبا ، يوافق على أي رأي يقال له ، ولا ينفذ أي طلب رغم إيحاءه بأنه قبله ، فكان المتذاكون يطرحون عليه مشاريع (كممول) فيضحك مقهقها حتى يتخيل من يراه بأنه ليس هناك فتحتان لعينيه ، حيث تنغلقان بشكل كامل .. فلو أراد أحد أن يستغل فترة القهقهة وينسحب من المكان ، فلن يحس عليه .. ولكنه لم ينفذ لأحد طلبا حتى توفاه الله .

أما الخال الأصغر فكان صامتا ، لا يستطيع أحد أن يصنف مشاعره ، هل هو فرح أم متضايق .. لقد بقي هو وأخويه معلم اللغة الإنجليزية و أخ آخر أصيب بالسرطان ، فترك عمله في بلده الأصلي وعاد الى أمريكا التي يحمل جنسيتها قبل عودته والتحاقه بعمل حكومي ، لينعم بالمعالجة المجانية ..

كان عندما يعود أحدهم من أمريكا ، يفتح بيته لعدة أسابيع فيأتيهم الزوار من أقاربهم ، ويحسدوهم الزوار على ما هم فيه ( من وجهة نظر الزوار ) .. وكان من السهل على أحدهم أن يضلل الزوار ، خصوصا عندما يجيب على سؤال موافقا فيقول ( يا ) بدل نعم ..

عندما سألت أحدهم ذات يوم عن جعفر ، ابتسم وقال : ذايح ، عجبا كيف لم ينس هذا المهاجر تلك الكلمة القبيحة خلال أربعين سنة ، فعندما ألححت عليه السؤال ، هل أكمل دراسة الهندسة ؟ أجاب بأنه لم يدرس ، بل ابتدأ بغسل الصحون في أحد المطاعم ، وهو الآن يعمل كسائق شحن بين سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس .. فهززت رأسي قائلا في نفسي ( ثلثين الولد لخاله) .
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 22-09-2006, 01:36 PM   #35
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أبو فرحان الملاَك :

هناك أشخاص لا يعرفون العمل ، وما معناه ، ومع ذلك يعطون آرائهم بموضوع العمل ، وقد يصلوا الى أعلى المراتب في المجتمع ، ويساهمون في وضع قوانين للعمل ، وهم لم يمارسونه طيلة حياتهم .. وقد يعتبرون وضعهم طبيعيا جدا ، إذ أن هناك من يجب أن يعمل من أجلهم !

من هؤلاء الناس تجد طبقة الملاَكِين ، الذين يعتقدون أنهم ورثوا عن آبائهم وأجدادهم ما ورثوا لينعموا هم بالراحة و عدم العمل ، وقد يدعموا آرائهم ببطولات قد تكون حقيقية وقد تكون وهمية ، وهو الغالب ، فقد تكون ثروة هؤلاء التي ورثوها جاءت عن كد و تعب الأجداد و قطع اللقمة عن أفواههم ليحولوها الى عقارات ، وقد تكون ثمنا لخيانات قدمها أجدادهم لسلطات الاحتلال فأصبحوا ملاَكين ..

وهناك أناس يثرون بالصدفة من امتلاك أراض حقيرة غير منتجة ، لكن قرارا إداريا جعل أراضيهم ذات قيمة ، فترتفع أثمانها بشكل خرافي ، يجعل ورثتهم من الأثرياء ..

كان أبو فرحان يجلس على (دكة ) صنعت من الطين و الحجر وطليت بطبقة رقيقة من الإسمنت ، أنشئت عند بوابة بيت منزله ، بعرض يستوعب فرشة رقيقة من القطن ، كانت تمد له عندما يصل الظل لها بعد الظهر ، كان يجلس عليها ، وقد تدلت أنسجة خديه لتكون بشكل شبيه بالكرتين المسطحتين بجانب طرفي فمه ، كان يخيل لمن يراه أن تلك الكرتين قد تكونتا بفعل الجاذبية الأرضية ، حيث أجبرت تلك الجاذبية بانزلاق محتويات أنسجة وجهه لتستقر في ذلك المكان .. كما تطاولت الجاذبية على مقلتيه فسحبت أطرافها للأسفل ، لتكشف عن بياض مصفر في عينيه أفقدهما هيبتهما ، فبدا صاحبهما كنموذج غير متقن في متحف الشمع ..

كانت زوجته الثانية ، تجلس بجنبه في هذا المشهد اليومي ، ليرقبوا لا شيء بل يمضون طقسا يوميا ، بشكل أزلي ، يضعان بالقرب منهما ( سخان) قهوة ، يسكبان منه بعض القهوة بتثاقل و بلا حماس ..و قنينة ماء مثلجة ..

إنه كان في جلوسه ، يحرك حدقتا عينيه بملل ، عساهما يقعان على جسم يعرفه ويستعيد بعض ذاكرته المهشمة ، من خلال النظر لابن من أجياله ، تأخر قدره في طلبه كما تأخر في طلب أبي فرحان نفسه ..

لم يهنأ أبو فرحان بأملاكه الواسعة التي كانت تزيد عن مائة هكتار من الأراضي الزراعية الجيدة ، وكان يحول ما تنتج من حبوب ، الى أراض يشتريها من المعوزين ، لتزيد أملاكه باستمرار .. كان يعمل بيده ، ويفاصل من يعاونه على الأجرة ، وبعد إنجاز الأجير يقص من قيمة ما يدفعه له ، متذرعا بأن الأجير لم يبذل جهدا يعادل ما اتفقا عليه ، وأن ظنه خدعه في تقدير الأجرة ، كان الأجراء يعرفون طبعه ، فيحاولوا زيادة ما يتفقون عليه ، لضمان أخذ أجرتهم بعد الاقتطاع المعهود ..

كان ذات مرة ، قد أتى لدكان ، وكان صاحب الدكان قد أحضر للتو صينية واسعة من الحلويات الشعبية ( هريسة ) وهي تتكون من السميد والسكر والسمن ، ويثبت فوقها حبات من الفول السوداني المحمص ، فسال لعاب أبي فرحان ، فانحرف قليلا واستخرج من جيبه منديلا معقود فحل عقدته فأخرج منديلا آخرا من داخله فحل عقدته ، فوقعت يده على بعض النقود النحاسية الحمراء تقريبا ، فمسك بين أصبعيه قرشا ، ليشتري به بعض الحلوى لنفسه ، ثم خاطب نفسه قائلا : الله يذلك أيتها النفس مثلما أردتي إذلالي ، فأعاد القرش الى المنديل الأول وشد عقدته ، ثم أعاد عقد المنديل الثاني و انصرف ، منتصرا على شهوته ..

عندما ماتت أم فرحان ، ضغط عليه بعض الأقارب فأقنعوه بالزواج وكان عمره في وقتها ، حوالي الخمسين ، وكان ذلك قبل اثني وثلاثين عاما ، وكان له من أم فرحان ثلاثة أبناء ذكور يشبهونه في حرصه على المال ، وابنتين تزوجتا منذ وقت طويل .. فتزوج أم حسين التي تجلس جنبه في المشهد اليومي ، وكانت أم حسين ماكرة ، فسجل معظم ممتلكاته باسمها و احتفظ بالربع تقريبا ..

وعندما كبر حسين ، وأحس بأنه يتكئ على قوة والدته العظمى ، أطلق العنان لعفريت الشهوات الذي كان محبوسا في قمقم منذ آلاف السنين ، ليهتدي حسين بمساعدة والدته التي فكت طلاسم زوجها من قبل ، على فك طلاسم العفريت .. فلم تعد الهريسة إلا شيئا حقيرا لا يشتهيه لا حسين ولا والدته ، حتى الكنافة والبقلاوة ، بل لم تعد السهرات في عواصم دول قريبة إلا كمشوار قريب ، لقد ابتكر حسين طرقا في إفناء ثروة والده ، فلم يتبق منها شيئا خلال عشرة سنوات ، فمن سيارة حديثة الى أخرى ومن لعب قمار في صالات الفنادق ذات النجوم الكثيرة .. الى كل دروب الفحش و التبذير .. حتى آتى على كل ما جمعه والده .

اقترب الغروب ، فطلبت أم حسين من زوجها أبي فرحان ، وكانت تناديه بأبي حسين .. أن يدخل الى المنزل .. أبو حسين .. أبو حسين .. ولكنه لم يجاوبها فعندما هزته خر ساقطا عن الدكة منتهيا ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 11-10-2006, 03:38 PM   #36
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ذيبو الحصاد :

تفرح الأم بعد أن تعاني من فترة الحمل والولادة نفسها ، عندما تحس أن وليدها سليم ، وتبتهج بصورة أكبر عندما تقع عيناها عليه ، إن رؤية الوليد ولمسه ، تعمل بشكل سريع لإزالة الآلام و تعيد حالة حب الحياة ، فكم امرأة توفت عند الولادة وهي تبتسم ، لأن وليدها سليم .

وكم من أب قطع عن فمه اللقمة لكي يتمم مشروع تدريس ولده ، وما أن يتخرج ، حتى تزول كل معاناته دفعة واحدة ، دونما أن يتيقن من أن ولده قد وصل بر الأمان .. فقد كان الهدف : هو دراسة الولد ، وها هو قد تخرج ، لقد انتهى الهدف الأساس ، كما في حالة الولادة .. لقد ولد المولود دونما أن تكون هناك ضمانات بأن يكون هذا المولود خال من الأمراض وصاحب مستقبل جيد ، فقد يكون مخترعا أو قائدا أو صائعا .. فهذه مسائل لم تدخل بفكرة الفرحة ..

يفرح الفلاح ، عندما يبذر بذاره في الأرض ، فقد ابتدأ خط السباق من تلك اللحظة ، كما هو من يتيقن من تلقيح بقرته ، أو من يحضر كتاكيت بعمر يوم واحد ، كلهم قد بدءوا من خط بداية ، ويشكل الحصاد خط النهاية لفلاح القمح وولادة البقرة لمربي المواشي ، واكتمال نمو الفراخ لمربي الدجاج اللاحم .

عند وصول خط النهاية في كل سباق ، تجد هناك أناس يتجمعون ليروا من الذي سيسبق ، وقد لا يعرف أي واحد من المتسابقين ، كما هو الحال عندما يتوقف أحد المكلفين من زوجاتهم بإحضار لوازم البيت ، وقد طلب منه أن يستعجل ، لأن الوقت قد يمضي دونما أن تكمل ربة البيت عملها للعزومة . ومع ذلك يتوقف هذا المستعجل ، ليراقب خناقا بين أشخاص ، قد لا يعرف منهم أحدا نهائيا . لماذا توقف ؟

لم يكن (ذيبو ) صاحب أرض ولا صاحب بقرة ولا صاحب فراخ ، ولم يكن للعبث و الفضول في حياته مكانا ، بل كان كادحا يتعامل مع الحياة كمشَاهد متعددة لتحريك العضلات وفق إرادة من يدفع له لقاء تحريك تلك العضلات في عمل هم يعرفون طعمه و نوعه وما سيئول إليه .. وذيبو أيضا يعرف ، لكن لا يشغل نفسه في كثير من الأمور ، لأن الانشغال بها ، يصنف مع العبثية، هو لم يعرف تلك العبثية ماذا تعني، لكنه كان يتجنب ما يدلل عليها، دونما أن يدرك أن ذلك من باب الابتعاد عن العبثية ..

كان ذيبو ينام قرب البغال و الحمير والجمال، لأن هناك مكان نوم (المرابعي)، وقد سمي (مرابعي) لأنه يأخذ ربع ما يقوم بعمله ، فهو يبذر و يحرث و يحصد ويدرس و يذري ويقطف و يخزن ، ويهتم بالحيوانات التي كانت تقوم بمساعدته في إنجاز الأعمال السابقة ، فعندما نقول يبذر ، يعني نقل حبوبا من القمح أو الشعير أو العدس وغيرها ، على ظهر الدابة ، وسار بها خمسة كيلومترات ، يمشي بمحاذاة الدابة ويحافظ على كيس الحبوب من السقوط . ثم يقوم بتخطيط الأرض برجله حتى يعرف المساحات التي بذرت ، ثم يأخذ في حضنه بواسطة قطعة قماش اسمها (مبذرة) ، وتلمس يداه كل حبة من الحبوب ، وعندما يصر عينه اليمين ويمد لسانه مع كل رمية من رميات البذار ، كان كأنه يقوم برقصة موزونة الإيقاع ، وعندما كنت أتساءل : ماذا يعمل هذا الرجل ؟ وسألته وكنت يافعا بالقدر الذي يجعله يزهو بدور المحاضر ، كان يقول يجب علينا بكل رمية أن نضمن سقوط خمس حبات من القمح في مساحة كف اليد ..

وكان بعد أن يتمم البذار ، عليه أن يباري بغله لحرث الأرض ، فهو مطلوب منه أن تطأ قدماه كل حبة تراب من الأرض ، مع فرض هيبته على البغل ، حتى يلتزم بالمسير المستقيم .. وعليه أن يتفقد نصل المحراث بين فترة وفترة ليأخذه للحداد ليصرفه ( يجعله حادا ) ..

وإن ظهر (دغل) حشيش غريب ، بعد إنبات البذور ، على ذيبو إزالتها . كان غير متزوج ، أو أنه قد يكون متزوج ولكنه يناضل بالابتعاد عن ذويه ، من أجل أن يؤمن لهم لقمتهم .. وإن كان غير متيقن من ذلك ..

كانت العجوز التي تعد طعام العشاء لها ولزوجها و لأبنائهم الخمسة وزوجاتهم وأبنائهم التسعة وبناتهم الثمانية و ذيبو وزميله المرابعي الثاني .. وكونها كانت تقوم بدور المخطط والمدبر ووزيرة التموين ، فعليها أن تقتصد بقدر الإمكان تحسبا لسنين قحط قد تحل بالبيت وساكنيه .. لكنها كانت تبالغ بذلك التقتير ، فكانت تطبخ حوالي (الصاع ) من جريش القمح ، وتضع عليه ضعفه من الماء ليصبح (طبيخا) ثخينا ، ثم تضع قطرات من الزيت في (مقلى) وتضع فيه البصل المفروم ، وبعد أن يتحمص البصل ، تضيف عليه من آنية بجنبها أكثر من لتر من الماء ، فتصنع تلك الإضافة (طشطشة) وتسكب ما حدث لديها فوق الطعام المسكوب في أواني .. حتى اعترض ذيبو يائسا : عمة .. عمة (مخاطبا العجوز) : إنك تضحكين علينا .. إن ذلك ليس (قفرة ) أي ليس دهنا .. بل ماء بئر .. خافي من الله يا عمة لم نعد نرى ليلا من سوء التغذية .. طبعا لقد دربت العجوز على سماع مثل هذا الكلام ، ولن يؤثر بها قطعا ..

كانت عملية الحصاد من أقسى ما يمكن أن يقوم به الإنسان من أعمال ، فهي تأتي في أشد أوقات السنة حرارة ، وعلى من يحصد أن يمس كل عود واقف أمامه ويقطعه ، ويجمع مع معه عيدان أخرى ويرميها في إيقاع ، وعليه إذا كانت عملية الحصاد تجري (زحفا) فإن ركب الحصاد ستواجه صراعا مع قطع الحصى والشوك . وإن أراد الحصاد أن يشرب وما أكثر حاجته للماء ، فإنه سيصب قليلا من الماء الفاتر من صفيحة معدنية ، تلوذ بكومة قش حتى تبرد وتصبح منعشة !

لن يكون من السهل عليك أن تتضامن مع (ذيبو) ضد من يعمل لديه ، فكلاهما كان يعيش حياة بائسة ، كحياة معظم الفلاحين العرب ، الذين يتسم عملهم باللايقين .. فلا زارع القمح متيقن من حصاده و ان حصده غير متيقن من بيعه بسعر ملائم .. وكذلك هذا حال معظم أصناف العمل الزراعي ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 09-11-2006, 04:56 PM   #37
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

قاطف الزيتون :

لو أصدرت حكومة ما بلاغا أو قرارا أو إهابة للمواطنين أن يتبرعوا بقرش واحد للمساهمة في وقف زحف الصحراء، لتبرم الجميع وتخلف قسم كبير منهم عن دفع ذلك الرسم الصغير لعمل ضخم ووطني .. لكن ما أن تنتشر إشاعة أو اعتقاد خاطئ في أن التوجه لعمل ما هو من الأهمية بمكان وسيعود بأرباح هائلة لمن يعمله، لسارع الناس بسرعة البرق الى تقليد من ابتدأ بهذا العمل، دون فحص لما سيؤول إليه مصير العمل، ودون وضع دراسة جدوى اقتصادية، إنها مسألة تتكرر في كثير من الأمور ..

لم يكن هناك في الماضي اهتمام واضح بزراعة الزيتون، في كثير من بقاع بلادنا، ولكن خلال أربعين عاما، انتشرت زراعة الزيتون وفق السيرورة التي ضربناها بالمثل السابق، فأصبح من السهل على المار بسيارته فوق طرق معبدة أو ترابية أن يلحظ بساتين الزيتون منتشرة في كل مكان محتلة مساحات كانت تخصص لحقول القمح والعدس و غيرها من المحاصيل الحقلية التي ارتبطت بتراث كثير من الفلاحين الاقتصادي ..

كان تعدد مصادر الرزق للناس وتنوعها، جعلهم يبتعدون عن التشبث بزراعة الحبوب، كما أن تغيير أنماط المباني و استغناء البيوت عن الحيوانات المنزلية المنتجة كالأبقار والأغنام وغيرها، و تطور قوانين البلديات بمنع اقتناء مثل تلك الحيوانات، وارتباط البساتين بفكرة السياحة وقضاء وقت للمتعة بينها، كل ذلك وغيره، كان وراء هذه الفورة وراء زراعة الزيتون بتلك الكثرة ..

كثير من البساتين اندثرت قبل بلوغها مراحل الانتاج، ومع ذلك فإن الزراعة لتلك البساتين لا زالت على قدم وساق، وقد حاول الكثير من المختصين ثني هذا الاندفاع، بذكر صعوبة الري البديل، وعدم ديمومة مثل تلك البساتين ولكن دون جدوى..

في مراحل قطف الزيتون والتي تتزامن مع أواسط الخريف وبداية الشتاء، تنتشر مجموعات من الناس بين تلك البساتين لقطف الثمار، والذهاب بها الى المعاصر للحصول على زيت الزيتون الذي يحتل مكانة مرموقة في ذاكرتهم الشعبية والدينية ..

من السهل على المار أن يلحظ أستاذا جامعيا يضع على رأسه رباطا من قماش عتيق، ومعه زوجته وأطفاله يتسلقون شجرة ويقطفون ثمارها.. كما من الطبيعي جدا أن تجد أسرا فقيرة تتحين الموسم، لتخرج في تلك الأيام الباردة صباحا والماطرة في بعض الأحيان، لتقطف مقابل أجرة معلومة أو نسبة من المحصول، وتتفاوت اهتمامات المالكين بالقطف بأيديهم من مالك لآخر، معتمدة على حجم الملكية ومصادر الرزق الأخرى، فمنهم من لا يستأجر قاطفا حتى لو كان يملك آلاف الأشجار، ومنهم من يستأجر قاطفين حتى لو كانت أشجاره بالعشرات ..

في اليوم الأول للقطف، يأخذ طابع الرحلة الترفيهية، فيتضاحك الأطفال، ويغني الرجل بعض المواويل أسوة بقصص التراث غير البعيد، وهناك من يحضر الشاي وهناك من يحضر طعام الغداء، ولا أحد يهتم بحجم الناتج ، فالطابع العام مصبوغ بعمل رفاهي أو (نزهوي ) ..

في اليوم التالي يختفي بريق النزهة من العمل، ويصبح الحديث عن توقعات الانتهاء من العمل له ما يبرره، وفي اليوم الثالث سيقوم بعض الفتية بعد الأشجار التي تم قطفها و الأشجار التي لم تقطف بعد، ويذهب بحسبة بسيطة عن الوقت الذي سينتهي به هذا العمل الممل ..

في حين يرى الرجل وزوجته الأكياس الممتلئة بالزيتون، وهم يرتشفون بعض الشاي، ستكون عمليات الحساب على قدم وساق، لو قلنا أن الكيس به خمس وأربعون كيلوغرام وكل خمسة كيلوات زيتون أعطت كيلو من الزيت فإنه سينتج عندنا كذا (تنكة) .. فيبادر الزوج، سنبعث لبيت أختي واحدة وبيت عمتي واحدة وبيت فلان .. فتتكدر الزوجة، وتقول: حرام لو أتت فلانة وأبنائها ليعاونونا ؟

لقد كان الناس خصوصا الذين لم يتحملوا مسئولية وضع ميزانيات الأسرة يتمنون أن لا تكون مواسم القمح أو العدس جيدة، حتى لا يتكبدوا عناء العمل الشاق بالحصاد و الدراس و التذرية و القطف والتخزين، ولا يهمهم إن كانت تلك الأماني لا توفر لهم حياة أفضل أم لا .. كما أنهم لم يسرهم وجود آبائهم بوضع متكدر عندما تكون المواسم سيئة .. إنها معضلة الفلاحين وأبنائهم باستمرار .. وكان هناك من الفلاحين من يربطوا زواج أولادهم أو شراء ثياب جديدة لهم بالموسم الجيد، وهو أسلوب ترغيب ذكي لشحذ همم أفراد الأسرة.

لقد اختفت تلك المشاعر المعقدة بظهور مكائن الحصاد التي اختصرت الوقت والشقاء لأفراد الأسرة، ولكن بثورة الزيتون عاد الشقاء المتمثل بتحمل القطف في البرد، محل شقاء الحصاد في الصيف ..

وعندما تخرج نصيحة من خبير ويتناقلها أصحاب الزيتون، بأنه لا تضربوا الأشجار بالعصي، فإن عادة حمل الزيتون تكون على دوابر ثمرية عمرها سنة الى سنتين، وهذا يعني أنكم إن فعلتم هذا فلن يكون لديكم موسم قادم لأنكم ستكسرون كل الدوابر الثمرية التي ستحمل في العام القادم، وهي ظاهرة (المعاومة) التي يعرفها مربي أشجار الزيتون. في تلك الحالة يتكدر الفتية من تلك النصيحة، ذلك بأن عليهم أن يقضوا أياما إضافية في عمل القطف!

من السهل مشاهدة نسوة في الصباح الباكر، يتنقلن بين البساتين التي تم قطفها للبحث بين أغصانها، عن ثمار منسية، وكان أصحاب البساتين يتسامحون في النظر لتلك الظاهرة على أنها ظاهرة طبيعية وتتسم بالإحسان. لكن هناك من النسوة من كانت تبدأ صباحها الباكر بالتجول بين أشجار بساتين لم تقطف بعد، ثم يضفين مسحة إخراجية على جولتهن في بساتين تم قطفها، فتجدهن يحملن على رؤوسهن أكياسا بها ما يقرب الأربعين كيلو في الثامنة صباحا!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 09-11-2006, 06:46 PM   #38
خاتون
مشرفة سابقة
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2006
الإقامة: المغرب
المشاركات: 489
إفتراضي

ربما كان من المستحيل أن يمر ابن حوران على بساتين الزيتون
في هذه الأيام الجميلة، ثم لا يضفي عليها صبغته الفنية


تحياتي لرجل تحبه الأرض أكثر مما يحبها
خاتون
خاتون غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 22-11-2006, 05:51 PM   #39
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أشكرك أيتها الأخت الفاضلة على مروركم الكريم

احترامي و تقديري
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 22-11-2006, 05:54 PM   #40
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

في معصرة الزيتون :

هناك أعمال تدوم بدوام صاحبها في مزاولتها، فنقول حراثة وحرَاث طالما أن يكون هناك من يحرث، ونقول مؤذن طالما كان الأذان يؤدى، ولكن لن يستطيع أي كان التعرف على المؤذن وهو يسير في الأسواق، دون أي يكون من ينظر إليه ليس على سابق معرفة به.

كما هناك أعمال تؤدى في مواسم دون غيرها، وتنتهي بنهاية الموسم، وقد تحتاج الى مكائن وآلات خاصة، فماكنة الحصاد للحبوب لا تستخدم إلا في الصيف عند نضج الحبوب واصفرار نباتات القمح والشعير وغيره، فيقوم أصحاب تلك الآلات بتوظيبها وتهيئتها قبل الموسم بمدة بسيطة.

كذلك هي مكائن وآلات عصر الزيتون والمحاصيل الزيتية، والتي جرى عليها تطوير مستمر منذ عهد الإنسان في استخراج الزيوت من المحاصيل الزيتية، فمن فكرة التكسير و الطحن والعجن والتخمير الى استخدام خاصية التباين في الكثافة الى استخدام خاصية الطرد المركزي المستخدمة حاليا، إذ تطرد السوائل المستخلصة من العمليات المتعاقبة ذات الكثافة العالية من خلال مخرج خاص بها لتنساب قطرات الزيت المتجمعة من فتحة خاصة قريبة من المحور الرئيسي لجهاز الطرد المركزي.

يكثر حديث الناس الذين يرتادون الى تلك المعاصر، في حساب أرباح أصحابها فيضربون عدد خطوط الإنتاج بالطاقة الإنتاجية، ثم بأجرة المعصرة، ويقدرون أرباحا مبالغا فيها لأصحاب المعاصر، شأنهم في ذلك شأن كل الناس في كل شيء فإن مروا بمحطة للوقود أشغلوا أنفسهم بكم سيارة تقف بالساعة ويضعون هامشا للربح ويحسبون، وكأنهم يعملون بدائرة ضريبة الدخل ..

لكن الحديث والحساب لن يدوم، فكما يفكر بعض أبناء العشائر ببناء ديوان للعشيرة إذا ما توفي عندهم أحد، وبعد أن تخلص أيام العزاء تتبخر الفكرة لحين وفاة أخرى. ولكن تكرار تلك العمليات الحسابية والأفكار هذه قد تدفع بمغامر أن يحول تلك الأفكار لإجراء.

عندما وصل الى معصرة الزيتون، رأى أكداسا من أكياس الزيتون مكومة مع فواصل بسيطة فيما بينها، لتبين حدود ملكية كل زبون، ورأى أصنافا مختلفة من الناس فمنهم من يقف بملابس فاخرة ويتأفف من التماس مع أكوام الأكياس التي ينز الزيت منها، وعندما يخطو يخشى على أطراف (بنطاله) من أن تعشق شيئا من لزوجة الأرضية، التي لم تعد بلاطاتها تظهر من كثرة ما التصق بها من بقايا سحب الأكياس وأقدام المارين ..

قبل عدة سنين، كان مزارعو الزيتون يذهبون لمسافات تصل الى مائة كيلومتر وراء شهرة إحدى المعاصر، فقد تنتشر الإشاعة بأن تلك المعصرة أفضل معصرة بالبلاد لما تعطي من نسبة عالية من الزيت، وقد يضيف من ينشر تلك الدعايات قصصا عن معاصر زارها وكيف أنه رأى أحد المزارعين أحضر أكثر من طنين من الزيتون دون أن يحصل على قطرة من الزيت، ويكثر الحديث بالدواوين عن أنواع الزيتون الذي يعطي زيتا وفيرا، وعن مواعيد قطف الزيتون وغيرها من المهارات التي لم يكن فيها من الصحة إلا القليل ..

واليوم بعد أن زادت أعداد الأشجار حوالي أربعين ضعفا عما كانت عليه قبل خمس وعشرين عاما، فقد يسجل أحدهم اسمه ويشترط عليه إداريو المعصرة أن يحضر زيتونه، وقد يتناوب على حراسته انتظارا للدور حوالي خمسة أيام، خصوصا أيام أوج الفيض، أو أن يصادف عطلة ما، فإن القطف سيزداد من الموظفين وطلبة المدارس ..

كنت تلاحظ عجوزا تسند ظهرها على مجموعة أكياس وهي مغمضة العينين، وتسمع حوارا بصوت عالي قرب (قادوس) الزيتون عند بداية الخط، وأيدي تمتد لتزيل أوراق الزيتون قبل أن يرفعه(السير) للغسيل و الطحن، وتلاحظ هناك من يفاوض أحد العاملين ليقدم دوره على الآخرين، وتلاحظ رجلا (فني) منكوث الشعر بوجه غاضب يحمل أدوات لفك قطعة من أحد الخطوط، وتلاحظ أحدهم يراقب (عجنته) في قادوس قبل أن تتهيأ لدفعها الى (جهاز الطرد المركزي)..

وتلاحظ أحدهم يجلس على كرسي ومركز ناظريه على سيلان زيته من أنبوب ليستقر في عبوة، في حين تصطف عدة عبوات مليئة بالزيت وراءه وبالقرب منه، وهناك من يزن زيته ويتحدث الى الإداري، ولما أصبحت حصتكم واحد من ثمانية ألم تكن في العام الماضي واحد من إحدى عشر، والإداري يبرر ذلك بارتفاع فواتير الوقود ..

وهناك من يحسب زيته ويحاور نفسه، عمال القطف أخذوا خمس الإنتاج وهؤلاء سيأخذون ثمن الإنتاج، سأبعث الى أخواتي كذا وسأعطي فلان كذا، فينتبه على صريخ أحدهم .. السيارة التي تريد أن تفرغ الماء تعيقها سيارتك .. أبعدها أخي لو سمحت ..

وهناك من تحمل بيدها وعاءا صغيرا تطلب المساعدة وملئه ممن يعصرون، وهناك من يراقب الأدوار وليس معه زيتون، ليجد غفلة من زمن ليأخذ كيسا من زيتون ويضعه الى جانبه ..

وهناك من يأتي بساحبة (تراكتور) ليملأ عربتها ببقايا عجينة الزيتون التي لفظتها المكائن خارج مبنى المعصرة، ليطعمها لأغنامه ..

هذا عالم المعصرة الموسمي ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .