نظرات في كتاب العذر بالجهل
نظرات في كتاب العذر بالجهل
المؤلف عبد الله أبابطين والكتاب هو سؤال سأله أحدهم عن قول لابن تيمية في إطار العذر بالجهل والسؤال هو :
"سئل الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين عن قول تقي الدين بن تيمية في رده على ابن البكري ، فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم ،وإن كان ذلك المخالف يكفرهم ، لأن الكفر حكم شرعي ، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله ، كم كذب عليك ، وزنى بأهلك ، ليس لك أن تكذب عليه ، وتزني بأهله ، لأن الزنى والكذب ، حرام لحق الله تعالى ، وكذلك التكفير حق لله ، فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله .
وأيضا : فإن تكفير الشخص المعين ، وجواز قتله ، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية ، التي يكفر من خالفها ، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر – إلى أن قال – ولهذا كنت أقول للجهمية ، من الحلولية والنفاة ، الذين ينفون أن يكون الله فوق العرش : أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر ، وأنتم عندي لا تكفرون ، لأنكم جهال … الخ ، ما معنى قيام الحجة ؟"
فكانت إجابة أبو بطين أن السؤال يتضمن مسألتين هى :
"فأجاب : الحمد لله رب العالمين ، تضمن كلام الشيخ مسألتين ، إحداهما : عدم تكفيرنا لمن كفرنا ، وظاهر كلامه : أنه سواء كان متأولا أم لا ، وقد صرح طائفة من العلماء : أنه إذا قال ذلك متأولا ، لا يكفر ، ونقل ابن حجر الهيتمي عن طائفة من الشافعية ، أنهم صرحوا بكفره إذا لم يتأول ، فنقل عن المتولي أنه قال : إذا قال المسلم يا كافر ، بلا تأويل كفر ، قال : وتبعه على ذلك جماعة .
واحتجوا بقوله : (( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما )) والذي رماه به مسلم ، فيكون هو كافرا ، قالوا لأنه سمى الإسلام كفرا ، وتعقب بعضهم هذا التعليل ، وهو قولهم :إنه سمى الإسلام كفرا ، فقال : هذا المعنى لا يفهم من لفظه ، ولا هو مراده ، إنما مراده ومعنى لفظه : إنك لست على دين الإسلام ، الذي هو حق ، وإنما أنت كافر ، دينك غير الإسلام ، وأنا على دين الإسلام ، وهذا مراده بلا شك .
لأنه إنما وصف بالكفر الشخص ، لا دين الإسلام ، فنفى عنه كونه على دين الإسلام ، فلا يكفر بهذا القول ، وإنما يعزر بهذا السب الفاحش ، بما يليق به ، ويلزم على ما قالوه أن من قال لعابد يا فاسق كفر ، لأنه سمى العبادة فسقا ، ولا أحسب أحدا يقوله ، وإنما يريد إنك تفسق ، وتفعل مع عبادتك ما هو فسق ، لا أن عبادتك فسق ، انتهى
وظاهر كلام النووي ، في شرح مسلم يوافق ذلك ، فإنه لما ذكر الحديث ، قال : وهذا مما عده العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق : أن المسلم لا يكفر بالمعاصي ، كالقتل والزنا ، وكذا قوله لأخيه : يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام .
ثم حكى في تأويل الحديث وجوها ، أحدها : أنه محمول على المستحل ، ومعنى (( باء بها )) أي بكلمة الكفر ، فباء وحار ورجع بمعنى .
الثاني : رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره ، الثالث : أنه محمول على الخوارج ، المكفرين للمؤمنين ، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك ، وهو ضعيف ، لأن المذهب الصحيح المختار ، الذي قاله الأكثرون ، والمحققون : إن الخوارج لا يكفرون ، كسائر أهل البدع .
الرابع : معناه : أنه يؤول إلى الكفر ، فإن المعاصي كما قالوا : بريد الكفر ، ويخاف على المكثر منها ، أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر ، ويؤيده رواية أبي عوانة ، في مستخرجه على مسلم (( فإن كان كما قال ، وإلا فقد باء بالكفر )) .
الخامس : فقد رجع بكفره ، وليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير ، كونه جعل أخاه المؤمن كافرا ، فكأنه كفر بنفسه ، إما لأنه كفر من هو مثله ، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر ، يعتقد بطلان الإسلام انتهى .
وقال ابن دقيق العيد ، في قوله ’ : (( ومن دعا رجلا بالكفر ، وليس كذلك ، إلا حار عليه )) أي : رجع عليه ، وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين ، وليس هو كذلك ، وهي ورطة عظيمة ، وقع فيها خلق من العلماء ، اختلفوا في العقائد ، وحكموا بكفر بعضهم بعضا .
ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني ، أنه قال : لا أكفر إلا من كفرني ، قال : وربما خفي هذا القول على بعض الناس ، وحمله على غير محمله الصحيح ، والذي ينبغي أن يحمل عليه ، أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي : أن من دعا رجلا بالكفر وليس كذلك ، رجع عليه الكفر ، وكذلك قوله ’ : (( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما )) .
وكان هذا المتكلم ، أي : أبو إسحاق ، يقول : الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين ، إما المكفر أو المكفر ، فإذا كفرني بعض الناس ، فالكفر واقع بأحدنا ، وأنا قاطع أني لست بكافر ، فالكفر راجع إليه .
فظاهر كلام أبي إسحاق : أنه لا فرق بين المتأول وغيره ، والله أعلم ، وما نقله القاضي عن مالك ، من حمله الحديث على الخوارج ، موافق لإحدى الروايتين عن أحمد ، في تكفير الخوارج ، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم ، لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة ، واستحلوا دماءهم وأموالهم ، متقربين بذلك إلى الله ، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل ، لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم ، لتأويلهم ، وقالوا : من استحل قتل المعصومين ، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر ، وإن كان استحلالهم ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر ، والله أعلم ."
ومما سبق نجد أن القوم لم يتفقوا على رأى واحد فالبعض لا يكفر من كفره والبعض الأخر يكفر من كفره والبعض يقصر التكفير على صنف معين كالخوارج
والقضية وهو التكفير للعاصى وهو المذنب أمر واجب طالما لم يتب ومن ثم أوجب الله خلف كل العقوبات للجرائم وهى الذنوب أن يتوب المجرم إلى الله كما قال تعالى :
"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم"
فهنا السارق والسارقة كفرة حتى يتوبوا بعد توقيع العقاب عليهم وهو ما يوافق حديث :
" لا يسرق السارق وهو مؤمن"
فمن يرتكب الجريمة يكون وقتها كافر يستحق التكفير ولكنه تكفيره هو أى غير مجرم هو تكفير وقتى بمعنى أنه يستمر وقت معين وينتهى بتوبة المجرم وهو استغفاره سواء بعد العقوبة أو قبلها
وفى جريمة الحرابة قال عن توبة المحارب :
"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم أو أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم"
إذا كل جريمة يرتكبها المسلم تجعله كافر كفر مؤقت حتى يعود لإسلامه بالتوبة ومن ثم يصح تكفيره في تلك المدة
ومن ثم من يكفر مسلم عليه أن يثبت ارتكابه لذنب وأنه لم يتب منه فإن أتى بالشهود فهو مكفر للآخر تكفير صحيح وأما إذا كان كلام بلا شهود فهو تكفير زور ويستحق المكفر جلده ثمانين جلدة لأنه اتهم غيره زور فالتكفير شهادة زور يحكم القاضى بجلده كما قال تعالى :
"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم "
والمكفر بالزور مطلوب منه أن يتوب هو الأخر من التكفير كما قالت الآية
وأما المسألة الثانية فهى تكفير فرد وهو لا يعلم بحكم الله وفى هذا قال :
"المسألة الثانية :
أن تكفير الشخص المعين وجواز قتله ، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية ، التي يكفر من خالفها … إلى آخره ، يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة ، وقد صرح بذلك في موضع آخر ، ونقل ابن عقيل عن الأصحاب: أنه لا يعاقب ، وقال : إن الله عفا عن الذي كان يعامل ويتجاوز ، لأنه لم تبلغه الدعوة ، وعمل بخصلة من الخير .
واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا (( والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي أو نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار )) قال في شرح مسلم : وخص اليهودي والنصراني ، لأن لهم كتابا ، قال ، وفي مفهومه : أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور ، قال : وهذا جار على ما تقرر في الأصول ، لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح . انتهى .
وقال القاضي : أبو يعلى ، في قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } [ الإسراء : 15] في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا ، وإنما تجب بالشرع ، وهو بعثة الرسل ، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك ، لم يقطع عليه بالنار . انتهى .
وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر : أنه يعاقب ، اختاره ابن حامد ، واحتج بقوله { أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [ القيامة : 36 ] والله أعلم ، فمن بلغته رسالة محمد وبلغه القرآن ، فقد قامت عليه الحجة ، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل .
وقد أخبر الله سبحانه : بجهل كثير من الكفار ، مع تصريحه بكفرهم ، ووصف النصارى بالجهل ، مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم ، ونقطع : أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون ، فنعتقد كفرهم ، وكفر من شك في كفرهم .
وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر ، والشك هو التردد بين شيئين ، كالذي لا يجزم بصدق الرسول ’ ولا كذبه ، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه ، ونحو ذلك ، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها ، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريمه ، وهذا كفر بإجماع العلماء ، ولا عذر لمن كان حاله هكذا ، بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته ، لأنه لا عذر له بعد بلوغها ، وإن لم يفهمها .
وقد أخبر الله تعالى عن الكفار : أنهم لم يفهموا ، فقال : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا } [الأنعام : 25] وقال : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } [ الأعراف : 30 ] فبين الله سبحانه : أنهم لم يفقهوا ، فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار ، كما في قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } الآية [ الكهف : 103-105].
|