ويتحصل من ذلك كله، أن اتباع الظن إذا لم يقم على حجيته دليل خاص، يكون العمل به منهيا عنه، ويكون العامل به مذموما، ويكون العمل به من الباطل، هذا كله بالنسبة للأخبار.
وهذا كله بخلاف الآيات الكريمة، والأحاديث المتواترة، التي هي في معناها، فإنه يجب قبولها والاعتناء بها، وأخذها بعين الاعتبار، لأن القرآن الكريم مقطوع الصدور، والمتواتر مثله، فهما إذن شيء ثابت عن الله وعن رسوله، ومن أجل ذلك وعلى حسابه أسهبنا في هذا الموضوع،
ويجب أن يعرف القارئ أن المتواتر المخالف لحكم العقل قليل الوجود، حتى إننا لا نكاد نعرف له مثلا فيما نحن فيه. وإنما هو مجرد فرض."
وكلام الفقيه هنا صحيح فالأخبار ظنية وحتى المتواتر منها وهو ما أخطأ فيه قد يعارض وحى الله وقد يعارض بعضه بعضا كحديث الإسراء وحديث الصلوات الخمس
وتحدث عن اتفاق الشرع والعقل فقال :
"قاعدة كل ما حكم به الشرع حكم به العقل، ولا عكس هذه القاعدة مشهورة بين الأصوليين والفقهاء، وهي قاعدة صحيحة، غير أنها مفتقرة إلى التوضيح، فنقول:
المستقلات العقلية
العقل له أحكام يستقل فيها، تسمى "المستقلات العقلية"، بعضها يرتبط بالدين، وبعضها لا علقة للدين به.
أما ما لا علقة للدين به، فهو مثل حكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء، وبأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ... وما أشبه ذلك، وعدم ارتباطها بالدين واضح.
وأما ما له علاقة بالدين، فهو مثل حكمه بوجود الصانع، وبالحاجة إلى الأنبياء، وبوجوب عصمتهم، وبوجوب إطاعة أوامرهم ونواهيهم، وما أشبه ذلك، فإن هذه الأمور كلها من المستقلات العقلية، وهي أساس الأديان، ولا يمكن إثباتها من طريق السمع إلا على وجه دائر.
فإذا ورد الأمر بها في الشرع، كان أمرا بما أمر به العقل، ولكن أمر الشارع بها يكون أمرا إرشاديا لا مولويا، ومعنى ذلك أن الشارع يرشد المخاطبين إلى العمل بما حكم به العقل، ولا يمكن أن يكون مولويا إلا على وجه دائر، كما هو واضح عند أهل العلم.
ومن ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله}
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}
وقول تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}
وإنما كانت هذه الأوامر إرشادية، لأننا قبل الإيمان بالله ورسوله، وقبل الاعتقاد بعصمة الأنبياء ووجوب إطاعتهم، لا نستطيع التصديق بأن هذا الكلام صادر عن الله سبحانه، لأن الاعتقاد بصدوره عنه متوقف على الاعتراف بذلك كله بالضرورة,
وقد ظهر من هذا معنى قولهم (ولا عكس)، الراجع إلى قولنا: (وليس كل ما حكم به العقل حكم به الشرع).
هذا كله بالنسبة للأحكام العقلية.
الأحكام الشرعية
وأما الأحكام الشرعية، فإنها بيد الشارع رفعا ووضعا، لا يشاركه في ذلك غيره، والعقل نفسه لا يتدخل فيها، لأنها ليست من شؤونه ولا من صلاحياته.
غاية الأمر، أن العقل هو الذي يلزم المخاطبين بها بإطاعتها، وبهذا اللحاظ يصح أن نقول: كل ما حكم به الشرع حكم به العقل، ويكون المقصود من حكم العقل به متابعته له فيما حكم به، وليس المقصود منه أن العقل يحكم على ذات الموضوع بحكم مماثل لحكم الشرع.
ولا يخفى أن العقل إنما يتبع الشرع إذا كان ما حكم به الشرع لا يناقض حكم العقل، فلو فرض -محالا- أن الشرع حكم بحكم يناقض حكم العقل لم يحكم العقل بوجوب اتباعه لأنه يكون قد خالف نفسه، ومن المعلوم أن أحكام العقل دائما تكون مبينة لا إجمال فيها ولا خفاء، لأنه لا يحكم إلا بعد إدراك مناطات حكمه إدراكا كاملا، ومن المعلوم أيضا أن الشريعة لا تحكم بحكم يناقض حكم العقل.
وبهذا اللحاظ، كان العقل واحدا من الأدلة الأربعة، ولا يخفى أن جميع الأحكام الشرعية المعروفة ليس للعقل حكم واضح على خلافها، والناس عندما لا يدركون الحكمة منها، ولا يجدون من يقنعهم، يسمونها مخالفة للعقل، مثل ترخيص الرجل في الزواج بأكثر من واحدة، ومثل توريث الذكر أكثر من الأنثى في أكثر موارد الإرث.
ولكن هذا لا يسمى مخالفا لحكم العقل، لأن العقل ليس له في هذه الأمور أحكام يستقل فيها، نعم هي أحكام لم يدرك شطر من العقلاء وجه الحكمة فيها، ولكن المحققين قد أدركوا لها حكما كثيرة، وقد استعرضنا شطرا منها في كتاب فلسفة التشريع الإسلامي الذي هو جزء من كتابنا (حجر وطين).
ثم إن الشرع والعقل متفقان على اشتراط القدرة في التكليف، ولذا جعلها الفقهاء من الشروط العامة له، ويتفرع على ذلك اشتراط كون المخاطب بالتكليف قادرا، واشتراط كون ما خوطب به مقدورا، بمعنى كونه ممكنا، وذلك لاستحالة توجه إرادة العاقل إلى تحصيل الممتنع بالذات أو بالعرض، ولقبح تكليف العاجز."
بالقطع الشرع شىء والعقل شىء أخر فالعقل هو فهم الشرع كما أراد الله فليس للعقل دور أيا كان في التشريع فمن التشريع تأتى القواعد التى يعما بها العقل فالعقل مهما بلغ شأوه لا يمكن أن يكون له دور غير دور فهم التشريع لأن القواعد العقلية للفهم مبنية على القواعد التشريعية
كمثال لا يمكن للعقل أن يفرق مثلا بين ذبح الأنعام وذبح حيوانات غيرها فكله عنده ذبح دون أن يعود للشرع الذى أحل الأنعام ولم يحل بقية الحيوانات
وكمثال أخر لا يمكن أن يفرق مثلا بين الوضوء وبين الاستحمام دون أن يعود للشرع الذى جعل الوضوء لمن لم يجامع وجعل الاستحمام وهو الاغتسال لمن جامع حقا أو في الحلم
وكمثال أخر لن يعرف العقل الفرق بين زواج الأختين وحرمته إلا من خلال الشرع
وكذلك لن يفرق بين حرمة زواج الأم والأخت والعمة والخالة وبين اباحة زواج النساء الأخريات
وتحدث عن الدلالة المعنوية للألفاظ فقال :
"دلالة الألفاظ على معانيها ظنية
إذا عرفت هذا فاعلم، أن دلالة الألفاظ الواردة في الجمل الكلامية على معانيها كلها ظنية، ما عدا النص (ويقصد به ما لا يحتمل الخلاف)، والنص قليل الوجود، بل أنكره المحققون حتى بالنسبة للأعلام الشخصية، وذلك لكثرة المجاز والحذف والاستعارات في اللغة العربية.
فإذا قال القائل: أمر الملك ببناء مدرسة، كان ظاهرا في صدور هذا الأمر من الملك نفسه، ولكن هذا الظهور لا يوجب الجزم اليقيني بذلك في نظر العقلاء، ولا سيما بعد كثرة تقرير الوزراء والخبراء وتخطيطهم بالنسبة للأمور المعهود بها إليهم ونسبتها للملك، هذا مضافا إلى أن الظهور بطبعه لا يفيد أكثر من الظن، لأن السامع يحتمل أن يكون الكلام مبنيا على حذف مضاف، تقديره: أمر وزير الملك، أو زوجته، أو من فوض ذلك إليه، ولذا قال النحويون: إذا قال القائل: جاء زيد، احتمل السامع أن يكون الجائي عبده أو رسوله، فإذا أكده بالنفس، وقال: جاء زيد نفسه، دل على أن الجائي هو نفسه، لا عبده ولا رسوله، وهذه أمور مفروغ عنها عند العارفين بأساليب اللغة، فضلا عن المتخصصين بها، المحيطين بأسرارها."
وهذا الكلام صحيح فيما نحن فيما ولكن الشرع معانيه يقينية لأن الله لم يدع للبشر فرصة لتفسيره وبيانه وإنما هو من أنزل الوحى الثانى وهو البيان أى الذكر لبيان الوحى الأول وهو القرآن فقال :
"وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"
وسماه الله البيان فقال :
"إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه"
ثم تحدث عن حكم الظاهر المخالف للعقل فقال :
"حكم الظاهر المخالف للعقل
بعد هذا كله نعود لما نحن بصدده، ونقول:
لا ريب في ظهور الألفاظ بدوا في معانيها التي وضعت لها، ولا ريب أن هذا الظهور لا يفيد أكثر من الظن، ولا ريب في استقرار طريقة العقلاء على الالتزام به، والعمل بمقتضاه، ولا ريب أن الشارع قد أقرهم على ذلك.
|