عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-10-2007, 04:09 AM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

( 3)

لم ينضم (مناور) الى مشتركي شبكة الكهرباء، إلا بعد مرور عام على أول تشغيل لها في (العتيقة) .. وكان ككل سكان العتيقة، متوجسا من هذا الدخيل الجديد على حياتهم .. لم يكن ترددهم بالاشتراك بسبب الكلفة الإضافية التي ستتحملها ميزانياتهم، ولكن هي (غربة) الجديد واستغرابه. وقد بدأ الاشتراك بالكهرباء مجموعة مغمورة من الناس لم يكن ترتيبهم الاجتماعي يجعلهم بوضع يصلحون فيه أن يكونوا قدوة لغيرهم .. فأولهم كان (كونترول) حافلة القرية الوحيدة، والثاني تاجر (خردة ) لم يره المواطنون إلا عندما يذهب الى متجره في مدينة قريبة في الصباح الباكر وعندما يعود من دوامه في المساء مستقلا الحافلة الوحيدة للقرية ..

كانت جدران البيوت غير مصقولة بما فيه الكفاية لتجعل الفرق واضحا بين الإضاءة بالكهرباء أو الإضاءة بمصباح (النفط) .. وحتى أن الناس لم يضعوا تلك المقارنة على المحك، لضآلة المهام التي تجعلهم يلحظون الفرق بين الحالتين، فكانوا عندما يتعشون يأوون الى فرشهم، ولما كان الطعام مكون من صنف واحد باستمرار والصنف مكونا من مادة واحدة وهي (القمح المجروش) وكون الطريق بين القصعة وأفواههم لا يحتاج الى تلك الإضاءة، فلم يبتهجوا كثيرا بهذا التغيير ..

كان (مناور) يتفقد المصابيح الخمسة في كل منزله، ويعطي أوامره لإطفاء ما لم يكن لإضاءته حاجة .. كان من يمشي على بعد مئات الخطوات يسمع صوته الغاضب مستنكرا : (اطفوا هالخايرة ) وكان يقصد المصباح الخارجي (اللمبة) والذي كانت قوة إضاءتها كبقية المصابيح (40 وات) ..

لكن تاجر (الخردة) أحدث صرخة هائلة في البلدة، عندما دعا بعض الجيران والأقارب ليتناولوا طعام العشاء بمعية أحد أقاربه الذي ذهب للعمل في (ألمانيا) وعاد بعد شهر تقريبا يلبس (بدلة) سبق أن لبسها آخر في بقعة أخرى، كانت تترك على مؤخرة كتفه بعض (الثنيات) التي أفقدت وقاره المصطنع .. وبعد أن تناول الجميع العشاء، تقدم تاجر الخردة صاحب الوزن الثقيل بخطواته المتقاربة و رأسه المنحني للأمام قليلا، ليترك كتفيه ينافسان رأسه في علو هامته، وأزال (شرشف) كان يغطي به جهاز (تلفزيون) .. فركز الجميع نظرهم نحو ما سيفعل وتعطلت حركات أطرافهم التي كانت منشغلة قبل ذلك برفع أقداح الشاي ..

خرج الصوت متأخرا عن الصورة قليلا، بألوان الأبيض والأسود والرمادي ـ طبعا ـ وكانت أغنية المقدمة لمسلسل (صح النوم) ل (دريد لحام و نهاد قلعي)، تشكل وحدها استحداثا لنمط مختلف مما كانت أذان أهل القرية تتعود سماعه، فهو ليس (عتابة) و ليس (هجيني) و ليس (موال) وليس (أغنية) كالأغاني التي كان يسمعها البعض في (المذياع) .. تبدأ أحداث المسلسل، ويبدأ معها صمت الجميع، لم يكن باستطاعة الجميع فهم اللهجة التي كان الممثلون يتحدثون بها، وهنا تبرز نقاط التباهي بين من يفهم شيئا مع من لا يفهم شيئا، فعندما يتساءل أحد الجالسين عن تفسير ما حدث، ينبري أكثر من واحد للإدلاء بدلوه عما فهم، فيخرج صوت من طرف آخر يطلب من الجميع الصمت، فيسكت الجميع، ليفاجئهم العائد من ألمانيا، بأنه في ألمانيا هناك الكثير من تلك الأجهزة .. لم يصغ أحد إليه .. بل تجرأ من طلب الصمت من الجميع، أن يلتزم العائد من ألمانيا بالصمت (حاله حال الآخرين) ..

سمع أحد قراء النشرات السياسية للآخرين (بالسر) .. بتلك الدعوة ودخول التلفزيون للعتيقة .. فقال لمن نقل له الخبر .. إنه الغرب اللعين يسارع لإعطاء قروض لإيصال الكهرباء للأرياف، ويمتنع عن إعطاء القروض للسدود وقنوات الري.. إنه في الحالة الأولى يضمن أنه سيبيع من الأجهزة الكهربائية من تلفزيونات و مكاوي كهربائية وغدا سيبيع الثلاجات وغيرها وكلها سلع هو يصنعها، ف (يشفط) بذلك أموال شعبنا بحجة التطوير والمساعدة في النهوض .. أما في حالات السدود وقنوات الري، فإنه سيخسر مستوردين لصادراته الغذائية .. لم ينتبه أحد لما قال ..

عاد مناور الى بيته بعد صلاة العشاء، وسأل كعادته عن أبناءه هل ذهبوا لنومهم؟ وكانت إجابة زوجته أن ابنه الكبير لم يعد بعد .. تكررت حالة تأخر حضوره عدة أيام، فحاول مناور أن يتقصى عن الحقيقة .. فذهب فوجد أن ابنه يذهب لمكان افتتحه العائد من ألمانيا يقدم فيه القهوة والشاي و الكاكاو لمن يحضر لرؤية برامج التلفزيون لديه .. طبعا مقابل بعض النقود كبدل لتلك الخدمة الهجينة.

وقف مناور بالباب يتطلع نحو داخله، فكان هناك من يلعب الورق على مناضد وزعت بشكل غير الذي ألفه أهل القرية .. وهناك من يدخن لفائف التبغ وهناك من هو منهمك بمتابعة ما يعرضه التلفزيون .. نادى على ابنه، فخرج ابنه فأمسك بأذنه، مبينا له سوء فعلته، وما تبعده عن متابعة دروسه.. ومذكرا إياه أنه استجاب لطلبه وأمه بالاشتراك بالكهرباء .. حتى يتمكن من رؤية حروف الكتاب بشكل أفضل .. وهدده أنه إذا ما استمر بالحضور لهذا المكان السيئ فإنه سيلغي اشتراكه بالكهرباء!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس