العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: الرد على مقال لماذا الاسم الحقيقي لأبو الهول هو مقام إبراهيم؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: انطلاق ثورة كردية ضد الاحزاب الحاكمه شمال العراق (آخر رد :اقبـال)       :: الخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الدراية في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الاول من كانون الاول يوم الشهيد العراقي (آخر رد :اقبـال)       :: العوج فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: السودان زوجة (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: الدرك في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: المد في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 02-10-2007, 04:09 AM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

( 3)

لم ينضم (مناور) الى مشتركي شبكة الكهرباء، إلا بعد مرور عام على أول تشغيل لها في (العتيقة) .. وكان ككل سكان العتيقة، متوجسا من هذا الدخيل الجديد على حياتهم .. لم يكن ترددهم بالاشتراك بسبب الكلفة الإضافية التي ستتحملها ميزانياتهم، ولكن هي (غربة) الجديد واستغرابه. وقد بدأ الاشتراك بالكهرباء مجموعة مغمورة من الناس لم يكن ترتيبهم الاجتماعي يجعلهم بوضع يصلحون فيه أن يكونوا قدوة لغيرهم .. فأولهم كان (كونترول) حافلة القرية الوحيدة، والثاني تاجر (خردة ) لم يره المواطنون إلا عندما يذهب الى متجره في مدينة قريبة في الصباح الباكر وعندما يعود من دوامه في المساء مستقلا الحافلة الوحيدة للقرية ..

كانت جدران البيوت غير مصقولة بما فيه الكفاية لتجعل الفرق واضحا بين الإضاءة بالكهرباء أو الإضاءة بمصباح (النفط) .. وحتى أن الناس لم يضعوا تلك المقارنة على المحك، لضآلة المهام التي تجعلهم يلحظون الفرق بين الحالتين، فكانوا عندما يتعشون يأوون الى فرشهم، ولما كان الطعام مكون من صنف واحد باستمرار والصنف مكونا من مادة واحدة وهي (القمح المجروش) وكون الطريق بين القصعة وأفواههم لا يحتاج الى تلك الإضاءة، فلم يبتهجوا كثيرا بهذا التغيير ..

كان (مناور) يتفقد المصابيح الخمسة في كل منزله، ويعطي أوامره لإطفاء ما لم يكن لإضاءته حاجة .. كان من يمشي على بعد مئات الخطوات يسمع صوته الغاضب مستنكرا : (اطفوا هالخايرة ) وكان يقصد المصباح الخارجي (اللمبة) والذي كانت قوة إضاءتها كبقية المصابيح (40 وات) ..

لكن تاجر (الخردة) أحدث صرخة هائلة في البلدة، عندما دعا بعض الجيران والأقارب ليتناولوا طعام العشاء بمعية أحد أقاربه الذي ذهب للعمل في (ألمانيا) وعاد بعد شهر تقريبا يلبس (بدلة) سبق أن لبسها آخر في بقعة أخرى، كانت تترك على مؤخرة كتفه بعض (الثنيات) التي أفقدت وقاره المصطنع .. وبعد أن تناول الجميع العشاء، تقدم تاجر الخردة صاحب الوزن الثقيل بخطواته المتقاربة و رأسه المنحني للأمام قليلا، ليترك كتفيه ينافسان رأسه في علو هامته، وأزال (شرشف) كان يغطي به جهاز (تلفزيون) .. فركز الجميع نظرهم نحو ما سيفعل وتعطلت حركات أطرافهم التي كانت منشغلة قبل ذلك برفع أقداح الشاي ..

خرج الصوت متأخرا عن الصورة قليلا، بألوان الأبيض والأسود والرمادي ـ طبعا ـ وكانت أغنية المقدمة لمسلسل (صح النوم) ل (دريد لحام و نهاد قلعي)، تشكل وحدها استحداثا لنمط مختلف مما كانت أذان أهل القرية تتعود سماعه، فهو ليس (عتابة) و ليس (هجيني) و ليس (موال) وليس (أغنية) كالأغاني التي كان يسمعها البعض في (المذياع) .. تبدأ أحداث المسلسل، ويبدأ معها صمت الجميع، لم يكن باستطاعة الجميع فهم اللهجة التي كان الممثلون يتحدثون بها، وهنا تبرز نقاط التباهي بين من يفهم شيئا مع من لا يفهم شيئا، فعندما يتساءل أحد الجالسين عن تفسير ما حدث، ينبري أكثر من واحد للإدلاء بدلوه عما فهم، فيخرج صوت من طرف آخر يطلب من الجميع الصمت، فيسكت الجميع، ليفاجئهم العائد من ألمانيا، بأنه في ألمانيا هناك الكثير من تلك الأجهزة .. لم يصغ أحد إليه .. بل تجرأ من طلب الصمت من الجميع، أن يلتزم العائد من ألمانيا بالصمت (حاله حال الآخرين) ..

سمع أحد قراء النشرات السياسية للآخرين (بالسر) .. بتلك الدعوة ودخول التلفزيون للعتيقة .. فقال لمن نقل له الخبر .. إنه الغرب اللعين يسارع لإعطاء قروض لإيصال الكهرباء للأرياف، ويمتنع عن إعطاء القروض للسدود وقنوات الري.. إنه في الحالة الأولى يضمن أنه سيبيع من الأجهزة الكهربائية من تلفزيونات و مكاوي كهربائية وغدا سيبيع الثلاجات وغيرها وكلها سلع هو يصنعها، ف (يشفط) بذلك أموال شعبنا بحجة التطوير والمساعدة في النهوض .. أما في حالات السدود وقنوات الري، فإنه سيخسر مستوردين لصادراته الغذائية .. لم ينتبه أحد لما قال ..

عاد مناور الى بيته بعد صلاة العشاء، وسأل كعادته عن أبناءه هل ذهبوا لنومهم؟ وكانت إجابة زوجته أن ابنه الكبير لم يعد بعد .. تكررت حالة تأخر حضوره عدة أيام، فحاول مناور أن يتقصى عن الحقيقة .. فذهب فوجد أن ابنه يذهب لمكان افتتحه العائد من ألمانيا يقدم فيه القهوة والشاي و الكاكاو لمن يحضر لرؤية برامج التلفزيون لديه .. طبعا مقابل بعض النقود كبدل لتلك الخدمة الهجينة.

وقف مناور بالباب يتطلع نحو داخله، فكان هناك من يلعب الورق على مناضد وزعت بشكل غير الذي ألفه أهل القرية .. وهناك من يدخن لفائف التبغ وهناك من هو منهمك بمتابعة ما يعرضه التلفزيون .. نادى على ابنه، فخرج ابنه فأمسك بأذنه، مبينا له سوء فعلته، وما تبعده عن متابعة دروسه.. ومذكرا إياه أنه استجاب لطلبه وأمه بالاشتراك بالكهرباء .. حتى يتمكن من رؤية حروف الكتاب بشكل أفضل .. وهدده أنه إذا ما استمر بالحضور لهذا المكان السيئ فإنه سيلغي اشتراكه بالكهرباء!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 20-10-2007, 01:53 AM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(4)

لم يتفق أن التزم الحاج فالح بالبدء بتناول إفطاره في رمضان، على صوت المؤذن سعد الملوح، فقد كان يبدأ بتناول إفطاره قبل رفع الأذان .. في حين يلتزم أبناؤه وزوجته بالأذان وهم يرقبونه بعد أن يستخرج ساعة نوع (لونجين) من جيب صدريته و يبدأ بشرب اللبن .. وعندما اعترضت زوجته بأدب، نهرها و قال لها لن أنتظر هذا الفاسق حتى يفطر ويقوم برفع الأذان ..

لم يخف الحاج فالح فرحته عندما ضربت الصاعقة مئذنة العتيقة، وامتد أثر تلك الصاعقة من خلال أسلاك الكهرباء التي كانت تربط بين السماعات على أعلى المئذنة و الحاكي (الميكرفون) الذي يرفع به (سعد الملوح) الأذان .. وقد ابتهج عندما علم أن وجه المؤذن قد أصابه بعض الحروق، كان يتمنى في قرارة نفسه أن تقضي الصاعقة عليه قضاء تاما ..

علم (جمال) الابن الأكبر للحاج فالح سر كراهية والده لذلك المؤذن، فقد كان يرافقه أحيانا لرفع الأذان قبل أن تصل الكهرباء لقريتهم، كان والده الشيخ فالح يرتقي يوميا الدرجات المائتين وإحدى عشر درجة، خمس مرات عندما كان مؤذنا للقرية .. وكان ينشغل في تحضير خلطات خاصة من ( السكر النباتي) و (الزنجبيل) التي يتناولها باستمرار ليبقى صوته قويا وواضحا، يسمعه من كان على بعد مسير ساعة على الأقدام .. وكان يتقاضى ما يعادل عشرة دولارات شهريا لقاء عمله، وما أن تم تمديد الكهرباء للمسجد، وانتفت الحاجة الى الصعود لأعلى المئذنة من خلال ممر ملتوي بشكل مروحة داخل المئذنة، قامت سلطات الأوقاف بالاستغناء عن خدماته وعينت (سعد الملوح) براتب قدره حوالي مائتان من الدولارات ..

مازحه ابنه ذات يوم، قائلا .. لقد ارتحت من تلك المهمة الصعبة، وها أنت قد عبرت سنون عمرك السبعين عاما، فستوفر ثمن الزنجبيل و السكر النباتي والحبة السوداء التي كنت تتناولها لتقوية رُكَبَك ..فأجابه بتهكم : هل أكافأ بعد أن قمت برفع الأذان خمسين عاما بعد وفاة جدك بهذه المكافأة؟ وبعد أن أصبح الأذان على (الكرسي)؟ وبهذا الراتب المغري؟ .. يا ولدي لن يكون هناك واسطة لعمل شاق، بل الواسطة لكل عمل ليس به جهد .. هل رأيت يوما فلاحا يبحث عن واسطة!

اكتفى الحاج فالح بما يزرع من أرضه، وما يقوم به من تدريس أبناء البلدة في مكان أسماه (المكتب) حيث كان يجتمع لديه ما يقرب من الستين ولد وبنت .. ثم أخذ هؤلاء يتناقصون بعد أن تم توسيع مدرسة البلدة الابتدائية ..

وذات يوم استدعاه مدير الناحية يطلب منه ترخيص للقيام بعملية التدريس، وفق الأسس الحديثة .. عاد الى بيته وطرد الأولاد والبنات .. وامتنع من يومها عن مواصلة ما بدأ به جده قبل مائة عام تقريبا وواصل والده تلك المهمة .. لتنتهي عند طلب الترخيص ..

بقي الحاج فالح يسخر من الطريقة التي يؤدي بها (سعد الملوح) الأذان، فقد كان صوت سعد رفيعا غير متزن، وما أن يقول الله .. يجيبه الحاج فالح (الله يأخذك) .. حتى توفاه الله .. وتبعه سعد الملوح بعد عدة سنوات ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-10-2007, 07:25 PM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(5)

ارتمى الرجال تحت ظلة صنعت من أكياس خيش قديمة، يرقبون عمل الساحبة(التراكتور) التي كانت تقوم بسحق قش القمح الذي تم تسطيحه بشكل دائرة سميكة واسعة بعض الشيء ليتمكن مَن يقود الساحبة من الالتفاف بها بدورة كاملة وبسرعة، وكانت مربوطة بالساحبة ألواح خشبية بطول أكثر من ثلاثة أذرع و عرض أكثر من ذراعين .. ثبت في أسفل تلك الألواح التي ربطت بقطع خشبية عرضية، قطع من حجارة بركانية سوداء كالتي يستخدمها الفقراء عند الاستحمام لإزالة الجلد الميت المتصلب الذي تراكم على أطراف الأقدام .. وكانت تقنية تثبيت الأحجار في أسفل الألواح تتم بإحداث حفر مربعة الشكل في الخشب وبعمق لا يزيد عن سماكة أصبع الخنصر (لفتاة متمدنة)، وكان قبل عملية تثبيت الحجارة بليلة، تُقلَب الألواح وتملأ العيون المربعة المحفورة بالماء، وكان عدد تلك الحفر يصل الى حوالي المائتين، وبعد أن يلين خشب السنديان بفعل الماء، يتم وضع الحجارة في الفوهات وإجبارها على أن تثبت في مكانها بواسطة مطرقة، وفي الغالب بواسطة حجر من حجارة الوديان الملساء..

كان الرجال يثرثرون بأحاديث متنوعة، وغير مترابطة، ولم يكن يستمع أحدهم للآخر، كانت أحاديثهم أشبه بطنين النحل أو زمجرة حيوانات برية، ليس بالضرورة أن يكون لكلماتهم معاني، وكانوا يتكلمون جماعيا كمطربي الأغاني الثورية .. لم يكن الرجال لينبطحوا بهذه الطريقة ويثرثرون في مواضيع لا طائل منها، هذا ما قاله (مخلف) وقد تيقن أن ثرثرة النساء اللواتي كن يتجمعن حول عملية تنقية القمح أو غسله، أو التحضير لعمل (الكبة)، كانت بحكم طبيعة الجلسة التي تقرب بين الوجوه والعيون والأذان، كما أن الجهد المبذول في أعمال النساء لم يهد (حيلهن) حتى يكفن عن الثرثرة، وهاهم الرجال قد توفر لديهم جزء من فيض الطاقة، فبماذا سيوظفونه؟

وصلت سيارة شحن من نوع (فولفو) ركب لها صندوق عربي وصبغت بصبغة عربية، ولو أن سويديا رآها لما اعترف بأن منشأها سويديا، فأخشاب الصندوق مورس فيها فن (الأرابسك) كما أن الألوان الخضراء والحمراء و الزرقاء أعطت خلفية مبتكرة للمشهد ..

كان من طبيعة الناس الذين يشتركون في مساحة البيدر أن يحضروا الأطعمة التي تصلهم من بيوتهم، الى مكان واحد ليتشاركوا فيه، وكان (مخلف) الذي كان صامتا يرقب كل ما يجري، يتعجب من أشكال الأواني والمواد التي صنعت منها، و شكل الأرغفة التي تغيرت، ولم تبدو أي ملاحظة من وجهه الصارم، إلا عُشر ابتسامة عندما وجد إناءا به مستحضر علم أن اسمه (ملوخية)، تذكر حينها أين رأى مثل هذا القوام ومتى!

لم يقتنع مخلف أن طعم الرغيف بقي على ما هو، فلم يتردد يوما في تكرار(مقولة) أن البركة قد (طارت) منذ أن دخلت الساحبات على البلد، وقد يكون إحساسه ليس معنويا مائة بالمائة، بل أن هناك شيئا حدث فعلا على الطعم، الذي كان القمح يكتسبه باحتكاك عرق العاملين من بشر وحيوانات، حتى أن إنتاج الرغيف كان يتم بوقود عضوي مائة بالمائة، وليس بوقود مشكوك بعضويته حسب بعض النظريات ، فكان الرغيف يُحترم وكأنه كائن حي ويُحلف به كالدين والشرف، ويتم تذكير من يخون العهد بخيانته للرغيف!

كان الرجال يتهامسون بعد أن نزل من كان يقود الساحبة لتناول الطعام معهم، فأطفأ محركها، فكان على الرجال أن يخفضوا من نبرات أصواتهم، فلم يعد هناك ما يستوجب التكلم بصوت مرتفع، وقد يكون سبب تهامسهم، خشيتهم من أن مخلف يسمع ما يقولون.. كانوا يتساءلون، لماذا كل هذا التعب، فقد سمع أحدهم أن هناك من يحصد بواسطة مكائن تستخرج القمح أثناء سيرها دون نقل قشه للبيدر وما يترتب عليه من سحق للقش وتذرية وغربلة وغيرها من العمليات المقيتة!

صفر أحدهم اندهاشا من هذا المخترع الذي يتحدثون عنه، قائلا : هل معقول ما تتحدثون عنه؟ توسلوا إليه أن يخفض صوته حتى لا يسمعه مخلف، ولكن مخلف كان قد سمع ما قالوه .. فقال لهم: إذن ستقولون ولماذا نستخرج التبن؟ أليس للحيوانات؟ وماذا تبقى للحيوانات وقد استعضنا عنها بتلك الآلات ؟ فلنتخلص من الحيوانات ونعش نظيفين؟ ستختفي الحيوانات وستختفي مخازن التبن وستختفي الطوابين (أفران الخبز في البيوت) وستختفي مخازن الوقود، وستزول روائح الحيوانات و فضلاتها .. وسيزول القمل والبراغيث و سيفقد أولادكم القدرة على التعرف على أسماء الحشرات والأدوات والمواد .. وستتباهون بدلال نسائكم ونعومة بشرة كل أنثى .. وسيطيب لكم المأكل والمشرب، وستبيعون أرضكم لتبعثون بأبنائكم لدراسة (البطالة) .. وتفقدون القدرة على تتبع أسماء الأمراض فهذا سرطان وهذا إيدز وهذا بهجت وهذا كذا .. ستتعبون .. ستتعبون وأنتم تمثلون دور المرتاحين ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 23-11-2007, 01:59 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(6)




لم يسبق لخالد أن طرق باب بيت قبل تلك المرة، فقد اعتاد أن يدخل بيوتا مفتوحة الأبواب تملأها حركة ساكنيها، وتذيب حرج الدخول، الذي لم يكن معروفا سابقا في العتيقة .. ولم تكن الأبواب تغلق أصلا، إلا بعد العشاء حيث تكف أرجل الناس وحيواناتهم عن الحركة ..

خرج مطيع على صوت طرقات قبضة خالد على باب البيت، وطلب من خالد التريث في الدخول الى البيت، ريثما يهيئ له دخولا غير محرج لأهل البيت..

كان البيت الذي استأجره والد مطيع (الموظف الحكومي) وأضاف عليه بعض التحسينات، تعود ملكيته لرجل توفى ولم يترك من يجعل لبقائه بالبيت مبررا.

مر من جانبه رجل غريب، يدفع بعربة خضراء لها ثلاثة عجلات، وتتسع لحمولة نصف طن من التراب، لكنها كانت فارغة، والرجل يصيح : (من عنده عتيق للبيع ) ..

دخل خالد برفقة مطيع الى داخل البيت، وجلسا على كرسيين من (الخيزران)، وبعد أن تبادلا كلمات أشبه ما يكون بفترة إدارة محرك سيارة (ديزل) في الشتاء، تجولت عينا خالد في الغرفة، فلاحظ أن ترتيب الأثاث في الغرفة يختلف عما في بيتهم .. لم يكن هناك قطعة من قطيفة بصدر الغرفة، ولم يكن هناك صورة لأبي زيد الهلالي أو فاطمة المغربية .. ولم يكن هناك رف خشبي له حافة متعرجة تربض فيه أواني النحاس التي خرجت مع عرس أمه ..

دخلت فتاة تصغرهما بأربع سنوات، لم تكن تغطي رأسها ب (الشمبر ) الأسود كبقية فتيات البلدة، ومعها (صينية) عليها (إبريق) شاي من (الصيني) وقدحين وصحن به بعض (الكعك) .. نظر خالد الى هذه الصينية وما عليها، نظرة قط شبعان لفأر أصبح بتناول يده .. فكان يمد أطراف أصابعه ليتحسس المواد المصنوعة منها تلك الأدوات وما عليها ..

وبعد أن تناولا قدحين من الشاي، دخل عدة أطفال من إخوة مطيع (الذكور) .. توقفت خطوط نظر خالد على أحدهم وكانوا ثلاثة، فوجد أن رأسه أكبر من أن يكون لجسمه.. عاد وتفحصه مرة أخرى، وكأنه خبير قطع أوراق نقد، شك بتزييف واحدة، انتقل بنظره الى الطفل الثاني فأحس بأن إحدى ذراعيه أطول من الأخرى .. نهض الطفل الثالث فتهيأ له أن إحدى ساقيه أكثر طولا من الساق الأخرى .. شعر بانقباض في نفسه واعتذر للشاب صديقه من عدم قدرته على إطالة المكوث .. وخرج ..

كان الرجل الذي يدفع بالعربة متوقفا أمام بيتهم، ووالدة خالد تحضر له أواني النحاس لتبيعها له، ورجل من بعيد قادم ومعه (حواة) وهي قطعة محشوة بالقش توضع على رقبة البغل لتربط بها أعواد الحرث أو عربات الجر .. ولكن الرجل عندما وصله استنكف عن شراءها لتيقنه من أن أحدا لن يشتريها منه ..

دفع صاحب العربة الخضراء عربته واستأنف المناداة : (من عنده عتيق للبيع) .. دخل خالد للبيت، وكان الوقت قبل الغروب، فوجد والده متمددا على (فرشة) رقيقة موجها ظهره جهتها ووجهه نحو السقف وواضعا ذراعيه خلف رأسه، ليرتفع رأسه فوق الوسادة، رفع أحد ساقيه فوق الأخرى بعد أن قرب قدمه الثابتة ليكون بهيئة من يجلس في الدرجة الممتازة بقطار قديم .. كان يحرك أصابع قدمه المرفوعة، ليماطل الوقت .. فلم يفلح بذلك، ثم أخذ يدندن بموال ( يا عيال قصوا جدايلكو .. وتولفوا للكريكات ) ( ملعون أبو اللي يعيركو من بعد قبض الليرات) ..

اختفى من البيت صوت ثغاء النعاج، كما اختفت أصوات الكلاب، واختفى معها إزعاج الدجاج الذي يراقص ربات البيوت ليتسلل الى داخل الغرفة ليلتقط حبة سقطت من يد امرأة أو بعض فتات الطعام، كما اختفت طيور (السنونو) التي كانت تحوم داخل الغرف لتزق صغارها المقيمة في ثنايا جسور السقوف التي كانت تحمل أعواد قصب السقف ..

لم يرق لخالد منظر أخواته الإناث التي اكتنزت أجسادهن بالشحم نتيجة قلة الحركة فكان قوام شقيقة مطيع أكثر رشاقة من قوام أي من أخواته، كما لم يستطع والده المتمدد على ظهره أن يخفي بروز كرشه وهو مستلقي

خيم الفراغ على الأسرة وأصبحت أجواءها مملة، فلم يعد والده يتابع من يسقي (الطرشات) أي حيوانات البيت، فقد تم بيعها كلها، ولم يعد صغار الأسرة يكلفون بأي مهمة، ولم تعد والدته تعجن وتخبز و تهيئ (فرن التنور) لإعداده لليوم التالي ..

ما الذي سيملأ أكياس الوقت بعد أن فرغت، ما الذي سيشغل رجال البلدة الذين كرسوا كل وقتهم للحديث عن نقاوة البذار أو عن جودة الموسم؟ ما الذي سيثير انتباه النساء بعد أن زادت ساعات يومهن من أربع وعشرين ساعة ممتلئة الى أربع وعشرين ساعة خاوية؟ وما الذي سيهد حيل الأطفال الذين كانوا يجبروا على النمو وتحمل المسئولية بسرعة؟

أسئلة كثيرة دارت برأس خالد الذي أخذ عن جده مخلف الأصالة، فكان وعيه لا يختص بإعادة تكوين صور الماضي، بل تخطاها للتنبؤ بما سيرتسم من صور للمستقبل ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-12-2007, 12:44 AM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(7)

كانت نظراته كدوامة في نهر عميق تلف بسرعة وتعود الى مركزها لتغوص فيه، كان يتساءل هل تحزن الأرض كما أحزن، أم أنها جماد لا يبالي بما يصيبه، كان يهمس بأذن الأرض كشهيد أو مشروع شهيد، فليس كل الشهداء يُتفق على أنهم كذلك، فمنهم من يُخطِئه الآخرون ومنهم من يُكفِره ومنهم من لا يُخلد ذكره،
وإن أرادوا أن يخلدوا ذكره، كانوا ينصبون له صرحا لمجهول ..

كان محكوما عليه بالإعدام ـ مع وقف التنفيذ ـ ولكنه لم يتذكر شيئا يطلبه كآخر طلب عندما خيروه .. فكل ما يحبه زال. عاود محاولته للتمعن في الأرض عسى أن يسمع لها اعترافا قبل أن تضمه الى عمقها ..

إنها تحزن، هكذا بدا له أنها قالت، كيف لا تحزن وقد أزيل وجهها أو شوه أو تم تزيينه على رأي البعض؟ وهل إذا تغيرت وجوهنا سنبقى نحتفظ بهويتنا؟ فأجسامنا لها وجوه وعشائرنا لها وجوه وأقطارنا لها وجوه، وهناك وجوه مشرقة تأخذ إشراقها من سعة دائرة إشعاعها، وهناك وجوه لا يذكرها أحد لو غابت العمر كله .. ووجه كريم كوجه حاتم الطائي خُلِد حتى لو مات، ولن يستطيع أحد أن يتذكر ابنا لحاتم، حتى لو حاول تقليد والده ..

ووجه الأرض كريم، وكرمه آت من حسن علاقته بالسماء والشمس، ومن علاقته بهما، يبذل عطاءه، فإن كشط شبر من وجه الأرض، لا ينمو فيها عود أخضر، وإن نما فسيكون رفيعا وخبيثا وبلا طعم وبلا ثمر ..

فالأرض تحزن، لكنها لا تتخلى عن أبناءها وستعترف بهم، حتى لو كانوا ثمارا لاغتصابها، لكنها لا تتشرف بهم، فهم أولاد حرام .. ليست وجوههم كوجهها زال الطين من الوجوه وأضيفت مسحات قيرية و بلاستيكية ومعدنية، لكن كل ذلك من بطنها، وهو خلط لم تشأه ..

عاوده الصمت، لكنه لم ينبس ببنت شفة. نادته الأرض، وقد استجاب لها، فسمعت أصوات الناس: مات مخلف .. الله يرحمه .. ارتاح .. كان يحمل السلم بالعرض .. احملوه .. أغسلوه .. كفنوه .. أدفنوه ..

اعترض واحد على الحفر، لا تحفروا هنا فالبلدية لا توافق على الدفن في هذه الأرض، ستنشئ حديقة للأطفال .. تعالى اللغط .. بل ادفنوه هنا، قريبا من فلان وفلانة .. كفوا عن الهراء وهل سيقومون للتسامر في المقابر .. حملوه لأرض كانت مسجلة باسمه فحفروا له قبرا وضيقوا سعة اللحد وأدخلوه فيه ووضعوا على اللحد حجارة مسطحة، وأبَنَه شيخٌ يقل عمره قليلا عن عمر مخلف، ودعا الله أن يغفر له، وكان في دعاءه وصلة استوقفت الحفيد حيث قال الشيخ اللهم جافي الأرض عن جنبيه! ألم يكن هؤلاء الدافنون هم من جعلوها ضيقة، أم أنه طقس يتناسب مع استغفار المذنب الذي يطلب الغفران من ربه لذنب اقترفه لتوه! صارت مقبرة جديدة اسمها (مقبرة مخلف) .

ضمته الأرض بقوة بين (جنبيها) وكأن صدق الضم لا يكون إلا بقوته، وهكذا يفعل العشاق أو حراس المرمى عندما يتلقفون كرة القدم!

أمطرت السماء بغزارة، فسالت مياه الأمطار حتى وصلت أطراف قبر (مخلف) كانت تحمل معها بعض الأواني العتيقة المثقبة، وطيور دجاج ميتة رماها أصحاب مزرعة دجاج في أعلى (التلة ) التي تعلو مقبرة مخلف ..

جاء الحيوان الأسطوري، الذي كان أهل العتيقة يتكلمون عنه في بعض المواسم التي ينتشر بها داء الكلب، ويقتل بعض المواطنين، كانوا يسمونه (سلعوة) ويلصقون به أوصافا غريبة، أنه يستطيع أن يحفر بالأرض ويأكل الموتى المدفونين حديثا، وأنه يستطيع أن (يمط) جسمه الضئيل ليصبح أطول من رجل عادي .. وكانوا ينسبون عنه أنه يقفز ثلاثة أمتار، فيمسك برقبة من يسير ليلا، فيمتص دمه، ويسبب له مرض (السعار) .. لم يره أحد، لكن لم يمتنع أحد عن التصديق بوجوده ..

حاولت السلعوة أن تحدث ثقبا في القبر لتنال من مخلف، لكن الأرض والريح صفعتها على مؤخرتها بصفيحة معدنية قديمة، فولت هاربة، واكتفت بأخذ دجاجة ميتة في طريقها، ولم تعاود المحاولة..

واظب خالد على زيارة قبر جده.. وكان لا يتكلم معه بل يصغي لترجمة الأرض لما يقول الجد في قبره .. كان خالد حزينا، لكن قويا وذا شكيمة عالية، كان يدرك أن أمامه الكثير حتى يلحم ما انقطع بما هو آت، وكان يعلم أن ربط الأشياء بغيرها يحتاج شروطا ذات طبيعة تقنية خاصة، فربط ما هو أوسع بما هو أضيق يحتاج ل (نقاصة) كما في الأنابيب، ووصل طرفي النهر يحتاج لجسر لا يجيد بناؤه إلا من يفهم طبيعة قاع النهر وكيفية التحايل على تنفيذ البناء.. وربط أنبوب لنقل الدم يحتاج فحوصات مسبقة كنوع الدم وزمرته ومدى تقبل الجسم للدم الجديد ..

كان قبر جد خالد، يشكل له نقطة انطلاق، ولكنه خشي أن يكون معقلا ومربطا لانطلاقه في بعض الأحيان .. فكان يترحم عليه، ويهاجم من يمس طرفه بسوء أثناء حديث الناس عنه، لكن ذلك لم يمنعه أن يحاول إيصال رسالته بتسارع متزايد الى غير أبناء جيل جده ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-12-2007, 07:34 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(8)

سمع الشباب بإغلاق مضائق ثيران، من قبل مصر، فأخذوا يناقشون احتمالات ما بعد تلك الخطوة، كان في الأصوات نبرة زهو واضحة، فهذا يضع احتمالية النصر بين يديه، وذاك يلوم العرب لِمَ تأخروا كل تلك المدة لتحرير فلسطين وطرد هؤلاء المغتصبين ـ شذاذ الآفاق ـ وذاك يحلم بوحدة سريعة تتحقق على الفور بعد التخلص من هذا الجسم الغريب البغيض، وآخر يتطاول في أحلامه ليعلن أن هناك إمكانية لاسترجاع الأندلس!

بالمقابل، كان ضباط وقادة العدو يفكرون بالانتحار، وهذا تبين فيما بعد من مذكرات (اسحق رابين) فحجم تهويل الاستعداد العربي لخوض المعركة الفاصلة قد وصل الى عقر دار العدو، فكيف لذئب مسعور أن يستطيع شق بطون كل خراف الحي، وهدير الرجال يصدع أذنيه؟

كان خالد صامتا، يتمنى أن تحدث المعجزة، وتتخلص المنطقة من تلك الجرثومة. لكنه كان يتذكر سلوك جده، فتنقبض نفسه ولا يحس بارتياح، كان جده يعيب على من يدعو الرجال للذهاب في حل مشكلة (عشائرية) دون أن يبلغهم بتفاصيل المشكلة، وتوزيع الأدوار ومن سيتقدم من الرجال ويستلم (فنجال القهوة) لتبدأ مراسم اللقاء .. ومن سيعاون من تناول الفنجال في الحديث. يحاول خالد إسقاط تلك المهارات البدائية على ما يجري على الساحة السياسية (الحربية) فيجد أن تلك البدائية تفوق في إدارة شؤونها، ما هو ماثل من حدث جلل ..

اصبغوا نوافذكم باللون الأزرق.. يمنع التجول في الشوارع أثناء الغارات .. يمنع الاقتراب من كذا .. كانت هذه صيحات شباب تطوعوا للمشاركة في تنظيم الجبهة الداخلية ..

هنا لندن .. نشب قتال بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية و الأردنية و السورية .. وقد صدرت بيانات متضاربة عن حقيقة ما أسفرت عنه تلك المعارك .. سنوافيكم بالجديد من الأخبار حال ورودها ..

صوت العرب من القاهرة .. تعرضت بعض مطاراتنا لغارات جبانة من الجيش الصهيوني .. وقد تصدت لها مقاوماتنا الأرضية وطائراتنا وأجبرتها على الفرار بعد إسقاط العشرات من تلك الطائرات المعادية ..

إذاعة الجمهورية العربية السورية .. يا جماهير أمتنا الباسلة .. إنها ساعات الحسم، سيلقى العدو الغاصب مصير كل من حاول المساس بعروبة تلك المنطقة الطاهرة موئل الحضارات ومهد الديانات السماوية وسيذكر أبناء أمتنا المجيدة بطولات جيشنا الباسل و سيسجل التاريخ سفر بطولاتهم ..

هنا عمان .. لا زال النشامى من جنود جيشنا العربي يذودون عن شرف الأمة وعن تراب الأجداد .. ولا زالت قواتنا ترفع علم الثورة العربية فوق جبل المكبر ..

هنا بغداد .. لا زالت القوات العربية المشتركة تخوض معارك الشرف والتحرير .. ولا زالت إذاعات القاهرة ودمشق وعمان تذيع الأغاني الحماسية ومن بينها الأغاني العراقية ..

وإنني إذ أعلن أمامكم استقالتي من منصب رئيس الجمهورية، مقرا ومعترفا بتحملي مسئولية الهزيمة كاملة ..

لا حول ولا قوة إلا بالله .. صاح الشباب والشيوخ .. وكان الناس واقفين حيارى بمصير مزروعاتهم التي لم تجد من يحصدها في ذلك الصيف البائس .. (يلعن أبو العدس على أبو القمح عمر لا حد حصد) .. كانت تخرج الأصوات من أمكنة مختلفة .. إنها الهزيمة ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .