التعليم عملية متكاملة تترابط وتتداخل مع كثير من الأمور المعرفية، وهذا التداخل المعرفي يكون في كثير من الأحيان جسراً يوصل المربين إلى تحقيق غاياتهم، ويؤسس في الوقت نفسه مسارات معرفية بين المعلم والتلميذ، ويفتح الباب واسعاً لتقبل المعلومات وتنميتها وتطويرها أياً كانت بدءاً لا بد أن نقول أن المعلم الذكي هو ذلك المعلم الذي يقدم المعلومة لتلاميذه، مرتبطةً بجملة معارف أخر, كالسلسلة المترابطة حلقاتها بعضها ببعض، وهي في حد ذاتها تشكل حالهً واحدةً من القوة أو الضعف في الوقت نفسه، فقوة هذه السلسلة تقاس أيضا بقوة اضعف حلقة فيها، حيث ان الثقل والشد يرتكزان على تلك الحلقة الأضعف.
هناك حقيقة لا بد ان نعرفها وهي ان التكامل المعرفي هو كالمقبلات بالنسبة للطعام إذ تزيد النفس شهية وتدخل ايضاً كحالة غذائية مفيدة، تصل في بعض الأحيان الى حد عدم قدرة المرء على الاستغناء عنها. إن المعلومة التي يقدمها المعلم لطلابه... او الوالد لأولاده اذا كانت مجردة وفي حيز تلك المعلومة فإن الفائدة والتقبل يشكلان قيمة معلومة لكن التداخلات تزيد من قيمة تلك المعلومة وترفع نسبتها الى الحالة الأفضل... والأجود وهكذا، ويمكن تطبيق ذلك عملياً في كل الدروس فيما اذا امتلك المعلم معرفة تتناسب وحجم طموحه المعرفي، ففي درس الرياضيات مثلاً حينما نعلم طلابنا الرقم (1) فإننا يمكننا ان نقول لهم: (ان الله واحد)، وبما ان الرقم (1) هو خط مستقيم ممتد من الأعلى الى الأسفل نقول لهم (ان الله عادل مع عباده كهذه العدالة التي ترونها في هذا الخط العمودي) والرقم (11) يكون مدخلاً لمعرفة قصة سيدنا يوسف (ع) عدد أخوته، والرقم (7) نربطه بالسموات السبع، على أن يكون الربط والدخول بلغة سهلة وبسيطة، وفي درس القراءة مثلاً نستثمر كلمة (الجمل) ... فنقول الجمل سفينة الصحراء، ونسلط الضوء ايضاً على السفينة وعلى الصحراء... وكيف ان الجمل هو الوحيد القادر على السير في الصحراء في الحرّ والقرّ… وكذا نستفيد من حكايةٍ عن الجمل ... ونتذكر ايضاً المثل القائل: (ذهب الجمل بما حمل) ويمكن رسم صورة للجمل على السبورة والطلب من الطلاب ان يرسموا جملاً في دفاترهم... وبعد هذا كله نسألهم : هل تحبون الجمل؟ ولماذا؟ ونعلمهم الرفق بالحيوان وصولاً الى ترسيخ قيم الحياة كلها في نفوسهم ومن كلمة جمل نعلمهم (جبل) و(حمل) ونكوِّن جملة مفيدة من ذلك: (حمل الجبلُ جملاً) وندخل بعد ذلك من هذه الجملة البسيطة إلى مدخل (الحمل) فهو اقرب الكلمات الى (جمل) ومنه نشأ الفعل (حمل) ونطلب من طلابنا تذكر كلمات قريبة من الصياغة ومن المعنى... حيث ننمي فيهم حالة الخيال، التذكر، التصور، المقارنة، الاستنباط... الخ. ستكون حتماً كلمات: (بصل)، (جَمال)، (جميل)، (جامل)، (جَمَّال)... نتناول أية مفردة ونضعها في جملة مفيدة: بصل: البصل مفيد، البصل نبات مفيد، الجمل مفيد، الجمل حيوان مفيد... البصل والجمل شيئان مفيدان... جمال طالب... الجمل حيوان... جمال يحب الحيوان... الجمل يحب الإنسان... جمال وجميل يحبان الجمل، نربط الموضوع بدرس العلوم لتوضيح فوائد الجمل وأهميته، وكذا الحال في درس الزراعة يمكننا ان نستثمر فكرة التعليم التكاملي في عدة أوجه ففي موضوع الزراعة: (العراق بلد زراعي) (انا أحب العراق لأنه وطني)... العراق بلدي، الطيور لها أعشاش، الانسان له وطن، الطيور تدافع عن أعشاشها... انا أدافع عن وطني... وطني أغلى شيء عندي... من يعيش في وطنه يسمى مواطناً... انا مواطن، أنت مواطن، انا وأنت مواطنان، نحن مواطنون، هي مواطنة... ونتعلم من هذا المدخل كل الضمائر في اللغة العربية سواء أكانت للمخاطب أم للمتكلم أم للغائب: محمد مواطن، هو مواطن... هما مواطنان مخلصان... ومن كلمة (مخلصان) نحصل على مدخل للتكلم عن الإخلاص وأهميته...ونفهم بعض المفردات العكسية لها: مخلص عكسها غير مخلص، صادق عكسها غير صادق، الله يحب الصادق... الله لا يحب غير الصادق... المعلم يحب الطالب الصادق، صادق طالب متعلم... لأن الناس يحبون الطفل الصادق فقد سموا أبناءهم بـ(صادق)... وهذا الربط بين الأشياء يحثنا على معرفة المزيد حيث نطلب من طلابنا ان يتذكروا الأسماء التي تبتدئ بحرف الصاد... والأسماء التي تنتهي بحرف القاف... سنعاونهم على تذكر: طارق، واثق... التي تنتهي بالقاف، وصابر، صاحب التي تبتدئ بالصاد... فلو أخطأ بعض الطلاب وقال لنا مثلاً صائم... نستثمر هذا الخطأ ونصححه ونجعله مدخلاً لمعلومة نطرحها... صائم ليس اسماً، لأنه لا يوجد شخص اسمه (صائم) ولكن (صائم) كلمة تطلق على كل قائم بالصيام فهو صائم... ونبدأ بشرح الصيام باعتباره احد الفروض التي فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده الصالحين... ومنها نعرف ايضاً بعضاً من أسماء الشهور.
ان موضوع التكامل المعرفي يشكل احد المشاريع التربوية الرائدة التي تساهم في نمو عملية التربية والتعليم ونجاحها وإيصالها الى الضفاف التي نريد لأبنائنا ان يصلوا إليها، هذا المشروع التربوي الرائد يحتاج الى مناهج دراسية أولية تعد اللبنات الأولى له وكذلك يحتاج الى عقد ندوات وحلقات دراسية وتدريبية لتدريب المعلمين القائمين بهذا المشروع ويحتاج ايضاً الى عينات من المدارس لكي يطبق عليها... حيث ستظهر نتائج التقبل بشكل سريع على هؤلاء الطلاب... وكيف ان نمو الأفق المعرفي والتعليمي لديهم سيكون أسرع من بقية الطلاب الذين يدرسون بالطريق القديمة.
إن طريقة التكامل المعرفي في التربية والتعليم نظرية جديدة وهذه النظرية تحتاج الى فلسفة ووضوح في الرؤيا وتحتاج أيضاً الى تقبل من المسئولين في القطاع التربوي، فهي أصلاً قائمة على مفهوم معرفة الكل من خلال الجزء، أو بمعنى آخر استثمار الجزء للوصول الى معرفة الكل وقد جرت تدريس هذه الطريقة على مجموعة من الطلاب ولقد رأيت فيهم تقبلاً كبيراً وازداد شوقهم الى الدراسة وتلهفهم الى معرفة المزيد… ثم المزيد، وتحولت انا شخصياً الى كتاب واسع وكبير يجد فيه طلابي كل شيء يحتاجونه…حيث كنت أواكبهم في حالة التكامل المعرفي وأسايرهم في ما يحتاجونه وكانوا يدونون ما نقول ونكتب… ونردد بصوتٍ عال ما توصلنا إليه، وفي اليوم التالي نعيد ما تعلمناه فرأيتهم قد ازدادوا إبداعا ومعرفة في مجمل المواضيع التي طرحت، لأنهم كانوا قد ناقشوا آباءهم وأمهاتهم وأصدقاءهم في ذلك وتبادلوا المعلومات والخبرات وحصلوا على المزيد منها. ان التكامل المعرفي طريقة إبداعية في التعليم تعتمد على الخيال وعلى استثمار كل القدرات المتاحة لتحقيق الغاية المطلوبة، وهي طريقة تربوية تعتمد على فكرة استثمار كل شيء، من أجل الشيء… وتنمية الشيء وتعميقه من اجل الوصول الى كل شيء... إضافة الى أنها طريقة تربوية تعتمد على الروح الجماعية في التعاون والتعلم وتعمل على جعل الفرد جزءاً من المجموع وجعل المجموع في خدمة الفرد… وهي طريقة تعليمية تنمي الذكاء المبدع الخلاق لدى المعلم والمتعلم للاستفادة مما لديهما من مخزون في شتى صنوف المعرفة، فالاحتكاك هو الذي يصقل موهبة الذكاء وينميها عند الفرد... إضافة الى تنمية الخيال وكل قدرات التصور في الذهن، وهذا المجال أيضاً له حسنات لا تعد ولا تحصى من حيث أثرها على ميدان التعليم والتربية، ففي طرق التعليم القديمة تقول المعلمة:
1+1= 2، ثم تتوقف بعد ذلك حيث يظهر التجريد والجمود وعدم الوضوح على مثالها، لكن في طريقة التكامل المعرفي من الممكن ان تقول المعلمة، أنت وردة واحدة… وصديقتك وردة واحدة…ولو وضعنا هاتين الوردتين في قدح فإنهما ستصبحان وردتين (ويقرن هذا المثال بوضع وردتين في قدح زجاجي مملوء بالماء) وتستمر في الحديث وتقول: هاتان الوردتان هما الشعب… وقدح الزجاج هذا هو الوطن وهذا الماء هو مياه نهري دجلة والفرات، الوردتان تمتصان الماء لتعيشا… الماء ضروري للحياة… ولا نستطيع العيش بدون الماء، الله أخبرنا في محكم كتابه المبين بأنه جعل من الماء كل شيء حيّ… الكرة الأرضية تتكون من ماء ويابسة… وتستمر المعلمة في درسها التكاملي ويدون الطلاب كل المعلومات. نكتفي بهذا القدر وللحديث صلة في أعداد لاحقة.
عزيزي جاسم :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد ،
أشكرك على هذا الموضوع الهام والذي يمس شغاف قلوبنا جميعًا معلمين وطلابًا،لاسيما وأني أحمد الله على أن أنعم عليّ بأن جعلني من جملة من يسمون"تربويين" لأني خريج كلية التربية ..
صحيح كل ما قلته وأكثر ما يهمني فيه هو أنه ليس مكلفًا ولا يحتاج إلى إمكانيات مادية الشماعة التي يعلق عليها الجميع أسباب الفشل والتدهور.الأمر هذا يقودنا إلى نقطة هامة وهي هل المعلمون الآن معدون إعدادًا تربويًا لا سيما وجدانيًا بشكل يجعلهم قادرين على تنفيذ هذه المخططات؟ حقيقة أنا أشك. ربما يرجع ذلك إلى أن كثيرًا من المعلمين يرون التعليم في ضوء المخرجات اللحظية لا المخرجات طويلة الأمد ، كما أن كثيرًا قد يفقد التفريق بين الغاية والوسيلة ، فيؤدي بهم ذلك إلى التداعي والاسترسال بما يؤدي إلى فقدان الخيط الأساسي للموضوع .
حقيقة هذا النوع من التعليم ينوّع الخبرات ويجعلها متكاملة وأنا أعجب كيف لمعلم رياضيات أن يعلم الطلاب 1+1=2 تلقينًا في مادة أساسًا تعتمد على الابتكار والتفكير المنفتح .
أخيرًا : أخشى ما أخشاه هو أن يتجه النظر لهذه النظريات أو تطبيقها بعيون حولاء مما يترتب عليه نتائج مفادها : ما نعرفه خير مما لا نعرفه .
إن مقاومة التجديد ومخاوف ما يراه البعض مغامرة تجعلهم محجمين عن السير في هذا المجال .. ومن يتهيب صعود الجبال ِ
يعش أبد الدهر بين الحفر ْ
حفر التعليم التقليدي .. بئس الحفر بل الحفرة ..
أحسنت وجزاك الله خيرًا .. وفي انتظار المزيد بإذن الله
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال
التكامل المعرفي في التربية والتعليم- (نحو نظرية جديدة في التعليم التراب
النمط الخطي
