يعلو الصف ضجيج عارم بعد انتهاء حصة الرياضيات التي حبست أنفاس كل الطلبة، أستغل الفرصة لتصفح نص المسرحية، فلطالما اعتدت على قراءة نصوص المسرحيات التي سوف أشارك في تمثيلها مرارا وتكرارا لكي أندمج مع بيئتها ومع الشخصية التي سوف أمثلها، بدأت أفكر في محتواها وشرد دهني في تفاصيلها وبدأت أتصور نفسي "جميلة بوحيرد" المناضلة الجزائرية وهي ترتدي "حايكا" وتحمل قفة فيها قنبلة يدوية، كنت أحس بتسارع دقات قلبها حين تمر على الحواجز الأمنية الفرنسية وحدة نظرات الكره في عينيها التي تكاد تلتهم الجنود الفرنسيين ، وكيف تدخل حي القصبة بطرقاته الضيقة التي لا تخلوا من الأولاد الصغار والنسوة المتقابلة في النوافذ تحكي همومها ومشاغلها، عشت المشهد وكأنه حقيقة لدرجة أنني لم ألحظ توقف الضجيج الذي كان يسود الصف .
اخترقت حواسي رائحة عطر أيقظتني من قصة جميلة وأدخلتني إلى عالم آخر، كانت هذه الرائحة تعني لي شيئا ولكنني لم أدركه، وانتشرت ببراعة في هوائي فلم أعد أتنفس سواها، بين الحدة والانتعاش بين الصفاء والغموض رحت أمتع نفسي باستنشاقها، حتى لمحت طيف شاب يقف أمامي توقعت أن يكون من حمل هذه الرائحة في جسده.
كان الشاب وسيما جدا، نظر الوجه، طويل القامة، خمري البشرة، له عيونا ملائكية يتخللها بريق ساحر ورموش سوداء طويلة تحوم حول العيون العسلية الرائعة، تعلو خديه حمرة خفيفة، نظيف الهندام، يرتدي قميصا ناصع البياض وسروالا أسود .
يتقدم بخطوات ثقيلة يكاد لا يصدر أي صوت في مشيه وكأن الأرض تمشي به لا يمشي عليها، تمثلت لي صورته رائعة، لم أفهم هل تخدرت بحدة عطره فرأيتها بهذا الجمال والسحر، أم أنه كان فعلا ساحرا إلى هذا الحد، بل وكأنه أمير في ثياب أنيقة يتقدم في بهو قصره نحو فتاة أحلامه لكي يراقصها، استمر شرودي لبضع دقائق ولم أفق إلا بعدما ابتسم لي قائلا:
- لقد بدأنا الدرس يا آنسة.