احبابى فى الله اكمل معكم الجزء الباقى اللى وقفت عنده وهو
طلاقة القدرة في قصة زكريا عليه السلام تتجلى في أن الله تعالى استجاب لدعاء زكريا في أن يرزقه الولد . قال تعالى :
{ذكر رحمة ربك عبده زكريا "2"}
(سورة مريم)
أي: رحمه الله ، لكن متى كانت هذه الرحمة؟
يقول الحق تبارك وتعالى :
(إذ نادى ربه نداء خفيا "3")
أي : في الوقت الذي نادى فيه ربه نداء خفيا .
والنداء لون من ألوان الأساليب الكلامية ، والبلاغيون يقسمون الكلام إلى خبر ، وهو أن تطلب شيئا من عندك ، فلو قلت : يا محمد فأنت تريد أن تنشئ إقبالا عليك ، فالنداء إذن طلب الإقبال عليك ، لكن هل يصح أن يكون النداء من الله تعالى بهذا المعنى؟ إنك لا تنادى إلا البعيد عنك الذي تريد أن تستدنية منك .
فكيف تنادى ربك تبارك وتعالى وهو أقرب إليك من حبل الوريد ؟ وكيف تناديه سبحانه وهو يسمعك حتى قبل أن تتكلم ؟ فإذا كان إقباله عليك موجودا في كل وقت ، فما الغرض من النداء هنا ؟
نقول : الغرض من النداء : الدعاء .
ووصف النداء هنا بأنه :
{نداء خفيا "3"}
(سورة مريم)
لأنه ليس كنداء الخلق للخلق ، يحتاج إلى رفع الصوت حتى يسمع ، إنه نداء لله تبارك وتعالى الذى يستوى عنده السر والجهر ، وهو القائل :
{وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور "13"}
(سورة الملك)
ومن أدب الدعاء أن ندعوه سبحانه كما أمرنا :
{ادعوا ربكم تضرعا وخفية .. "55"}
(سورة الأعراف)
وهو سبحانه:
{فإنه يعلم السر وأخفي "7"}
(سورة طه)
أي : وما هو أخفي من السر ؛ لأنه سبحانه قبل أن يكون سرا ، علم انه سيكون سرا . لذلك ، جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي ؛ لأن الإنسان قد يدعو ربه بشيء ، إن سمعه غيره رنما استنقصه ، فجعل الدعاء خفيا بين العبد وربه حتى لا يفتضح أمره عند الناس .
أما الحق سبحانه فهو ستار يحب الستر حتى على العاصين، وكذلك ليدعو العبد ربه بما يستحي أن يذكره أمام الناس ، وليكون طليقا في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء ؛ لأنه ربه ووليه الذي يفزع إليه .
وإن كان الناس يحزنون ويتضجرون أن سألتهم أدنى شئ ،
فإن الله تعالى يفرح بك أن سألته .
لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه ؟
دعا زكريا ربه أن يرزقه الولد ، ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتيا وامرأته عاقر ؟
فكأن الأسباب الموجودة جميعها معطلة عنده ؛
لذلك توجه إلى الله بالدعاء : يا رب لا ملجأ لي إلا أنت فأنت وحدك القادر على خرق الناموس والقانون ، وهذا مطلب من زكريا جاء في غير وقته .
أخفاه أيضا ؛ لأنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده ، إلا أنه لم يأتمنهم على منهج الله ؛ لأن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج ، فكيف يأتمنهم على منهج الله وهم غير مؤتمنين على أنفسهم ؟ فإذا دعا زكريا ربه أن يرزقه الولد ليرث النبوة من بعده ، فسوف يغضب هؤلاء من دعاء زكريا ويعادونه ؛ لذلك جاء دعاؤه خفيا يسره بينه وبين ربه تعالى . لقد أوضح زكريا عليه السلام العلة في ذلك في الآيات القادمة فقال :
{يرثني ويرث من آل يعقوب .. "6" }
(سورة مريم)
إذن :
فالعلة في طلب الولد دينية محضة ، لا يطلب لمغنم دنيوي ، إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن القوم من بعده على منهج الله وحمايته من الإفساد .
لذلك قوله : ( يرثني ) هنا لا يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض ؛ أن الأنبياء لا يورثون ،
<كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه ">
وبذلك يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم.فالمسألة مع الأنبياء خالصة كلها لوجه الله تعالى ؛ لذلك قال بعدها :
{ويرث من آل يعقوب .. "6"}
(سورة مريم)
أي : النبوة التي تناقلوها . فلا يستقيم هنا أبدا أن نفهم الميراث على انه ميراث المال أو متاع الدنيا الفاني . ومن ذلك قوله تعالى:
{وورث سليمان داود .. "16" }
(سورة النمل)
ففي أي شئ ورثه في النبوة والملك ، فالمسألة بعيدة كل البعد عن الميراث المادي.