العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: التراب فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الغرق في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرواسى فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرغب في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: اسم فرعون بين القرآن والعهدين القديم والجديد (آخر رد :رضا البطاوى)       :: القضاء في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطمع في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الاستنباط في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: المواقيت فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: العفاف فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 08-10-2008, 12:10 AM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(16)

تشكلت لجان ووضعت جداول لزيارات المواطنين لكسب تأييدهم، والتجول في القرى المحيطة بالقصبة. كان النظام الانتخابي يجيز انتخاب ثلاثة مرشحين بورقة اقتراع واحدة، لذا فإن المرشحين ومن يديرون حملاتهم الانتخابية كانوا منشغلين في عقد صفقات. والمرشح القوي كان محط أنظار المرشحين الآخرين لعقد الصفقات معه.

لم يهتم بمسألة تبادل الأصوات غير الذين يأخذون من اللعبة الانتخابية طريقا للتسلية والشهرة واختبارات توكيد الذات، فكما أن ألعاب الكمبيوتر بها مستويات كل مستوى جديد أعلى من سابقه يزيد تعقيدا عنه ويؤكد مهارة من يجتازه، فإن موضوع تبادل الأصوات يجعل من دائرة معارف من يقومون بالتوسط والتنسيق في عقد مثل تلك الصفقات أوسع، وتبقى شهرتهم ماثلة إذا نجح المرشحان لفترة طويلة فيستفيدون من مثل تلك النجاحات في التوسط في فض النزاعات العشائرية أو الحضور الاجتماعي وربما السياسي.

تناول الجمهور موضوع التبادل والزيارات لإدارات حملات المرشحين الآخرين بسخرية لاذعة، فمنهم من قال: أنهم يبيعون ويشترون بأصواتنا وكأننا عبيد لهم فلم يكتفوا بأن ينتزعوا منا مؤازرتنا لهم بالتخجيل والرجاء ولكنهم صاروا يساومون الغير على أصواتنا وكأنها أموال موجودة في رصيدهم بشكل مضمون.

(17)


في صالة النساء المخصصة لهن في مجلس عزاء، وبعد انتهاء موجة ولولة، وسرد تفاصيل اللحظات الأخيرة لموت المرحوم التي ترويها أرملته بين حين وآخر، وجدت النساء متسعا من الوقت لكي يتكلمن بموضوع الانتخابات.

قالت امرأة غانم (مرشح الإجماع) موجهة كلامها لزوجة الشيخ صالح عندما سألتها الأخيرة عن آخر أخبار الحملة الانتخابية: الحمد لله طالما أن الشيخ صالح يقف بجانب زوجها، فإن كل الأمور بخير، وأخذت زوجة المرشح تكيل المديح للشيخ صالح والحديث عن مناقبه، ولم تكن تعلم أنها كانت تغيض النسوة الجالسات اللواتي ينتظرن نصيب أزواجهن من المديح، دون جدوى. ولعل ما لم تستطع زوجة المرشح التنبؤ به هو تأثير حديثها السلبي على مواقف تلك النسوة، وربما مواقف أزواجهن أو حتى عشائرهن!

لم يكن (غانم) مصلحا اجتماعيا أو مخترعا أو قائدا عسكريا أو مرشح حزب سياسي تلتف القواعد حوله. إنه مجرد اسم من بين الأسماء وقف الحظ أو سياق التحرك الانتخابي بشكله معه، وأي خطوة لم تحسب جيدا قد تؤثر على النسوة وحتى الرجال.

كانت هناك امرأة تراقب انفعالات زوجة الشيخ صالح وهي تتلقى دفقات المديح من زوجة المرشح، فقد كانت زوجة الشيخ صالح تترنم على سماع مديح زوجها وتمثل دور التي لم تسمع جيدا ما قالته زوجة المرشح، فتطلب منها أن تعيد ما قالته، وقد استحت أن تطلب السكوت من النسوة للإصغاء لما تقوله زوجة المرشح، فكانت تهمهم بنشوة: "آخ لو تقول لهم واحدة يسكتوا.... آخ لو كان صوتها عالي شوي، ولا لو كانت تحكي في التلفزيون"
لكنها كانت ترغب بأن تتطوع إحدى النساء بالطلب من النسوة بالإصغاء،كرغبتها وتمنيها أنه لو كانت زوجة المرشح ذات صوت أعلى أو أنها تجلس خلف جهاز التحدث الآلي.

كانت المرأة التي تراقب زوجة الشيخ صالح، من إحدى قريباتها، لكن زوجها قد تزوج عليها أخت الشيخ صالح، فأخذت تفكر بالكيفية التي تشق موقف العشيرة نكاية بأخت الشيخ صالح (ضرتها) ونكاية بالشيخ صالح وزوجته، وليذهب غانم وفرصه للنجاح الى جهنم.

(18)

كان أبو محمد لا يخفي فرحته باستقبال (مقبل) و (يوسف) وأصحابهما، إذ كان يعتني بتحضير القهوة والشاي وتقديم بعض الحلويات، ومشاورة زواره بتحضير عشاء، وإن كانوا يزورونه يوميا بعد العشاء. ورغم أنه اعتاد النوم بعد العشاء بقليل، لكنه كان يستفيد من تردد هذه العينة من الناس، والتي من بينها الطبيب والمهندس والمحامي والكاتب المشهور في الصحف، وسياسيون تم استضافتهم بالمعتقلات. وكان يروق له الإحساس بأنه من يحركهم ويساهم في مجهودهم، وكان يبتسم فرحا عندما يأتي أحد أحفاده ويخبر الحاضرين عن (دوريات) المرشحين الآخرين ومرورها من جنب ديوان (أبي محمد) لمعرفة من يسهر عنده.

لم يكن أصحاب مقبل من صنف سياسي واحد، كان منهم من ينتظم بشكل دائم، ومنهم من لم يحضر اجتماعا حزبيا طيلة حياته، لكنه كان يحب أن يوهم كل الناس بأنه حزبي، أما المخابرات فكان مطمئن من جهتها لأنه بكل بساطة لم يكن حزبيا.

كان هؤلاء الرجال في معارك توكيد لذاتهم اجتماعيا، فيحبون أن تذكر أسماؤهم مع الأسماء الفاعلة في حملات الانتخابات، وكانوا يتبادلون المعلومات عن مواقف الناخبين، كونهم من عشائر مختلفة، لكن روح الفريق عندهم تتفوق على ولاءهم لعشائرهم، فلا يتورع أحدهم عن كشف موقف معاد يقوم به أحد أقاربه، وهذا ما يقوي روح المواءمة لديهم وظهورهم أمام الآخرين كفريق.

(19)

بينما كان أبو محمد منشغلا في تلقيم الشاي بالإبريق الرابض فوق الجمر أمامه، كان يدور حديث غير هام كثيرا بين ضيوفه الدائمين، بل كان يتناول ما يجري في الدوائر الانتخابية الأخرى.

ففي إحدى الدوائر الانتخابية كانت تضم مجموعة من القرى، لا تزيد أصوات القرية الواحدة عن ألف صوت في أحسن الأحوال، وليس هناك أمل في أن ينجح مرشح أي قرية من تلك القرى إلا بالتوافق مع القرى الأخرى، فكان المرشح يتم اختياره بعد ضرب القرعة على اسم القرية التي ستقدم مرشحا، وبعد أن يرسو الاختيار على تلك القرية يتم اختيار ذلك المرشح عن طريق قرعة أخرى.

وفي دائرة أخرى يتم وضع أدوار يلتزم بها أهل القرى والعشائر، فالدورة التي يتم فيها اختيار المرشح من قرية أو عشيرة لها الدور فإن القرى الأخرى أو العشائر الأخرى لا تتحرك إلا في حدود ما تطلبه منها تلك القرية أو العشيرة صاحبة (الحق أو الدور)!

ضحك يوسف وهو يستمع لمثل تلك الأحاديث، وقال أي مشرع سينتخب الناخبون دون أن يتعرفوا على قدراته الفكرية، كيف سيقوم بالتعامل مع القوانين والقضايا المطروحة عليه، وقد تم اختياره عن طريق (الحصوة) [كناية ساخرة عن ما تقوم به البصارة في رمي الودعٍٍٍ ]؟

تناول مقبل الحديث فقال: في اليابان لا يسمح للمتقدمين بالترشيح للبرلمان بقبولهم بقوائم المرشحين، إلا إذا أبرز شهادات تؤكد أنه كان عضوا في إدارة جمعية أو نقابة أو بلدية أو غيرها لخمس سنوات على الأقل. وفي بريطانيا تقدم الدولة للنائب مبنى خاصا به ومجموعة كبيرة من الموظفين يتابعون القضايا ويفرغون الإحصاءات ويعدون شكل المداخلة للنائب. إذ لا يعقل أن يلم المعلم (النائب بالبرلمان) بأمور الصحة والزراعة والرياضة دون مساعدة فريق متخصص.

ضحك الدكتور عبد القادر وقال: إذا أنتم تعرفون تلك المسائل لماذا تخوضون هذه التجربة السخيفة وتساعدون مرشحا لا لون ولا طعم ولا رائحة له؟

أحس يوسف بأنه بدأ حديثا كاد أن يزلزل فيه وحدة الجماعة فأراد أن يلطف الجو أو يحرف مسار الحديث فقال: لو فتشنا أدبيات البعثيين والشيوعيين والاخوان المسلمين لوجدنا أنهم يهاجمون الانتخابات بصفتها لعبة استعمارية وليبرالية وخادعة. ولكن إذا نجح لهم أحد المرشحين أو مجموعة من المرشحين لرأينا حديثهم وتقييمهم للتجربة يختلف. لا بد لتلك القوى من حسم لموقفها من موضوع الانتخابات والاستعداد لها واحتراف لعبتها إن أرادوها طريقا لتناقل السلطة.

انتبه أبو محمد الى حديث ضيوفه الذي لم يفهمه بشكل جيد ولم يستوعب ما تعنيه الكثير من المفردات التي قيلت فيه، لكنه فهم أن إيمان ضيوفه بموضوع الانتخابات لم يكن إيمانا راسخا، فتوجه الى أكثرهم شكوكا وهو الدكتور عبد القادر وقال: عمي يا عبد القادر.. إذا مررت على أناس يتقاسمون (البُراز) فقف وخذ حصتك..
رد الدكتور عبد القادر مشمئزا: لماذا تلك النصيحة المقززة؟
بصبر ودون تردد أجاب أبو محمد: يا ابني إن كانوا اليوم يتقاسمون البراز فغدا سيتقاسمون الذهب. أبقى أبو محمد عينيه مركزتين على وجه عبد القادر، ليتفقد أثر ما قاله له.
أُعجٍب مقبل بالطريقة التي عبر بها هذا الشيخ عن المواطنة!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 20-10-2008, 11:13 PM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


( 20)

ازدادت حركة الوفود الى المقر الانتخابي للمرشح (غانم)، وأصبح نشاط الإذاعة الداخلية للمقر مخصصا للإعلان عن البطاقات الانتخابية التي أعدتها اللجنة التنظيمية وكان يكتب عليها اسم الناخب أو الناخبة ومكان الاقتراع ورقم الصندوق وتسلسل الناخب بين جداول الناخبين، وذلك لتسهيل عملية لجان الاقتراع الحكومية ولكي لا تعيق عملية التصويت وما يؤثر ذلك على نفسيات المقترعين وعودتهم الى بيوتهم دون أن يدلوا بأصواتهم.

امتلأت البيوت المجاورة للمقر الانتخابي بلجان مختلفة، كون اليوم الذي يليه هو يوم الاقتراع. فمن تلك اللجان ما ترشد المندوبين الذين يشتركون بمراقبة عملية الاقتراع، حيث توزع عليهم قوائم المتوفين أو الطلاب خارج البلاد أو المسافرين، والتي تم استخراج أسمائهم من القوائم النهائية التي أعدتها الهيئة العليا للانتخابات بعد فترة الاعتراض على المرشحين.

في بيت آخر، كانت لجنة أخرى تنظم حركة السيارات والحافلات التي تنقل الناخبين، وكان كل سائق من السواق المتعاقد معهم يستلم نصف المبلغ المتفق عليه، واسم ضابط الارتباط الذي يوجه حركته.

كانت لجنة التنظيم توجه التعليمات للمندوبين الذين يراقبون فرز الأصوات، فكان من بين المرشحين من تتشابه أسماؤهم الأولى (محمد .. كذا) أو من يتشابهوا باسم العائلة، أو اللقب، كأن يثبت المرشح لقبه بأبي محمود، فكانت التعليمات للمندوبين أن يعترضوا بقوة على الأسماء المثيرة للبس لكي يحرموا الخصوم من الاستفادة من الأصوات الموجودة في ورقة الاقتراع.

في ردهات الساحة والشوارع القريبة من المقر، كان أشخاص يطلبون من المرشح أو بعض أعضاء الهيئة العليا التنظيمية تفسيرا للبطء الذي لم يحلّوا فيه مشكلة أحد الموقوفين للتوسط في الإفراج عنه، ويعرضون بعض المشاكل التي تحتاج بعض المال لحلها. لقد عرف هؤلاء، خصوصا إذا كانوا يملكون القدرة على حشد مجموعات من الناخبين، أن تلك الفرصة من أفضل الفرص لابتزاز المرشحين. كما أن منهم من كان يذكر أن بعض أقاربه قد التقى ببعض المرشحين الآخرين وعُرض عليه بعض الأموال للتصويت لصالح ذلك المرشح!

استغل بعض المخبولين تلك المناسبة، للدعاء للمرشح بالنجاح وكيل المديح الطريف له، وكانوا يحظون ببعض النقود لقاء (النِمرة) التي يقدمونها.

اصطف أكثر من مئة رجل في حلقة (جوفية) وهي حركات رقص بطيئة تعتمد على رتابة الخطوات، مع ترديد عبارات التبجيل والمديح بالمرشح، وتنتقل تلك العبارات للافتخار بهمة وقوة هذا الجمع الواسع.

يقوم عشرات الشباب بتوزيع الحلوى على كل الموجودين، وكان هذا الطقس يتم يوميا دون أن تدفع اللجنة المالية ثمن تلك الحلوى، بل كان بعض الوجهاء من المؤازرين هم من يشترونها لإثبات التفافهم حول المرشح بصدق.

(21)

في ديوان أبي محمد، وبعد أن خف التواجد بالمقر الرئيسي للمرشح، اجتمع أصدقاء أبي محمد (مقبل وجماعته)، وقد كانت تبدو على وجوههم علامات من المشاعر غير المصنفة بدقة، فلم يعودوا يعلموا إن كان فضلهم في هذا الالتفاف الجماهيري واضحا أم لا. فتكتّل الناس بهذا الشكل أخفى أثر القيادات المحركة للعمل الانتخابي.

ضحك أستاذ الرياضيات فجأة، فانتبه الجميع إليه، فكرر ضحكته، فشاركه الجميع بالضحك دون أن يعلموا ما هو دافع ضحكه المفاجئ.

بعد انتهاء نوبة الضحك، قال معلم الرياضيات: إن نجح غانم في تلك الانتخابات ستكون مصيبة، وإن رسب ستكون كارثة!

أدرك الجميع ما قصده معلم الرياضيات بما فيهم الشيخ (أبو محمد)، فعلّق مقبل على ذلك بقوله، إن نجح وهذا مؤكد حسب المؤشرات الظاهرة، فسنكون أحد أركان المجتمع المحلي التي لا يمكن تجاوزها في اتخاذ قرارات تعني بشؤون الانتخابات، وعندها نستطيع أن نثبت أقدامنا كقوة وطنية حقيقية مؤثرة في الساحة.

انتبه الدكتور عبد القادر لما قاله مقبل، وفكر بأنه ليس ممن يؤمنون بما يؤمن به مقبل، فلماذا يترك له تلك الفرصة ليجير ذلك الانتصار له، وبالأساس لماذا استمر بمجاراة تلك العصبة بما ذهبت إليه، بلع الدكتور عبد القادر أفكاره ولم يعلن عن ردة فعله، وإن كانت تبدو تعبيراتها على وجهه.

أطرق أبو محمد وعبث في جمرات النار أمامه، وقام بسكب القهوة السادة وناولها ليوسف الذي كان جنبه، فارتشف يوسف ما في الفنجال ثم ناوله الآخر ليناوله لمن في جنبه حتى شرب الجميع. كان أبو محمد بحركته تلك يداري عدم رضاه عما صرح به مقبل، فالشيخ لم يكن من المصنفين من المعارضين السياسيين، ولم يكن يخشى مساءلته عن صحبته مع تلك الجماعة، فسنّه وتعدد نشاطاته لا تجعله في دائرة الشبهات، لكنه لم يرغب أن يعتبره الغير (متراسا) ينفذون من ورائه خططهم!

(22)

صلى الشيوخ الفجر، وتوجهوا الى صناديق الاقتراع، يلبسون ملابسهم الثقيلة حيث إن صباحات نوفمبر/تشرين الثاني باردة جدا.

تفاجأ أعضاء اللجان التنظيمية عندما أفاقوا مبكرين على غير عادتهم أن الطوابير أمام المدارس (مراكز الاقتراع) يصل بعضها عدة مئات، وموعد بدء الاقتراع لا يزال أمامه حوالي الساعة.

دخل أعضاء اللجان مع المراقبين من قبل المرشحين واحتلوا مقاعدهم، فيما انتشر أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية ضمن الخطط الأمنية التي وضعت لهم.

تتابع الناخبون في الدخول الى الغرف المخصصة للاقتراع، يسأل رئيس اللجنة الناخب عن اسمه وإبراز بطاقته الشخصية. كان الناخبون مهيئين سلفا لمثل هذا الموقف، حيث يمسكون بطاقاتهم الشخصية والبطاقة التي استلموها من اللجان التنظيمية للمرشحين، لكي يسهلوا مهمة مساعدي رئيس اللجنة في إيجاد أسمائهم ضمن القائمة التي يحق لها الاقتراع في هذا الصندوق، فبدل من أن يفتش المساعد في خمس وثلاثين صفحة ليعثر على الاسم، فإن البطاقة الانتخابية سترشده بسرعة أفضل.

يبتسم أحد المراقبين المخصصين للمرشحين في وجه من يدخل، عله يتذكر مرشحه ويصوت له، وهو يعرف حق المعرفة أن كل ناخب يدخل الى قاعة الاقتراع وهو يعرف لمن سيعطي صوته.

دخل أحد الرجال، وبعد أن تم إيجاد اسمه، ناوله رئيس اللجنة بطاقة الاقتراع ليذهب الى (الخلوة) ويكتب من يريد بكل سرية، لكنه رفض وقال أنه لا يستطيع الكتابة فسأله رئيس اللجنة: هل أنت أمي؟ وقبل أن يجيب، اعترض أحد المندوبين لمرشح آخر وقال: "سيدي هذا جامعي كل البلد بتعرفه"، ولكن الناخب اعتذر فقال: أعاني من (خدر) في يدي فلا أستطيع الكتابة، قبل رئيس اللجنة العذر وطلب من المعترض السكوت. ذكر الجامعيّ من يريد انتخابهم بصوت عال، لكي يثبت للمرشح أنه انتخبه!

(23)

أغلقت قوات الأمن المداخل التي تفضي الى المدرسة التي سيجري فيها فرز الأصوات، ووصلت السيارات الحكومية تحمل الصناديق المجمعة من سبع وثلاثين قرية ومدينة، ومعها مرافقون من القضاء ومراقبون من أطراف المرشحين.

وزعت اللجنة العليا الصناديق والمندوبين على الغرف المعدة لفرز الأصوات، وكان رئيس اللجنة يذكر للجالسين من المراقبين لوائح الانضباط داخل قاعة الفرز، وبعد أن أكمل قراءته اللائحة، قلب الصندوق وأظهر الشمع الأحمر الذي ثبتته لجنة الاقتراع، استخرج منها تقرير اللجنة التي بيّنت أن عدد المقترعين كان 554 من أصل 682 مسجل كان له حق الانتخاب، وبعد تعداد الأوراق وضعها فوق بعض بنسق معين، حتى يطلع الموجودون على مطابقة العدد مع التقرير.

طلب رئيس اللجنة من الموجودين أن يتطوع منهم اثنان ليسجلوا ما تمليه عليهم اللجنة من أصوات، خرج شابان يتمتعان بطول كاف وقدرة على الانتباه والتقاط الاسم ووضع إشارة مائلة على كل صوت، فكلما أصبحت أربع الإشارات وضعت الخامسة بشكل يتقاطع مع الأربع.

كان بعض المندوبين، يضعون أمامهم علبتين من السجائر وورقة عريضة بها أسماء المرشحين كلهم معدة للتشطيب، وكانت آذانهم صاغية لسماع نطق رئيس اللجنة، ومتابعة تشطيب من يقف أمامهم على (السبورة)، فإن حدث سهو أو خطأ يُسمع اعتراض مفاجئ لكل الحضور، حتى يتم تعديله.

كان كل مندوب مهيأ لنجاح مرشحه إلا مندوب (مفضي) الذي كان يعرف أن مرشحه لن يرى النجاح، فكان لا يكتب ولا يتابع، بل يعلق تعليقات ساخرة، فيضحك الجميع من طرافته، حتى أن رئيس اللجنة كان متسامحا معه.

في أطراف المدرسة، كان يقف لا يقل عن ثمانية آلاف من الجماهير المترقبة للنتائج، كانوا يملؤون الفضاء بأهازيجهم. وما أن انتصف الليل، حتى قاموا بإشعال إطارات السيارات، فأضفوا على المشهد طقسا استثنائيا.

(24)

انتهى الفرز، وكان غانم قد حصل على أكثر من 14 ألف صوت ومن تحالف معه كان قد حصل على 11 ألف صوت، أما الفائز الثالث فحصل على سبعة آلاف صوت، ومن يليه كان ثلاثة أحسنهم حصل على خمسة آلاف صوت، في حين لم يحصل (مفضي) إلا على 250 صوت.

خرج بعض المندوبين قبل إعلان النتيجة الرسمية بحوالي ساعة، وذهبوا لكي يداروا خيبتهم، وأطفأ المرشحون المخفقون أنوار بيوتهم، في حين سارت مواكب السيارات للفائزين الثلاثة في الشوارع، وبقيت حتى بعد الفجر.

في مقر الانتخاب للفائز (الآن) غانم، حمل المحتفلون نائبهم على أكتافهم وهتفوا له، وامتلأت الأجواء بزغاريد النسوة.

لم يحضر واثق ولا مقبل ولا يوسف ولا الدكتور عبد القادر مهرجان النجاح، كما لم يترددوا على بيت النائب غانم طيلة الأربع سنوات التي أمضاها في مجلس النواب.

لكن الشيخ أبا محمد حضر الاحتفالات ووليمة الغداء الكبرى، وكان يتردد على منزل النائب، ويحكي لأصحابه (مقبل وجماعته) الذين لم ينقطعوا عن التواصل معه ما كان يسمع ويشاهد في منزل النائب.

كانت حكايات أبي محمد عما يراه في منزل النائب في مجملها ذات طابع تهكمي، فأحيانا يتندر بما أكل في القصر، وأحيانا يروي لزواره عن كيفية فرح النائب بهدية الرئيس الفلاني أثناء زيارة الوفد البرلماني لبلاده. ومن القصص التي كان أبو محمد ينقلها تلك التي تتناول طلبات الحضور من أقارب النائب، فأحدهم يريد أن يوظف ابنه حارسا في مدرسة والآخر قدم للتوسط بالإفراج عن ابنه الذي شتم القاضي فلان الخ.


انتهى القسم الأول
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 20-10-2008 الساعة 11:58 PM.
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 19-11-2008, 10:32 AM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الجزء الثاني

انتخابات البلدية

قال أحد الحكماء: لا تناقشوا نضالكم من أجل الحرية، بل ناقشوا ما ستفعلون بحريتكم عندما تحصلون عليها.

وقال آخر: إن الرابحين يتقاربون والخاسرين يتباعدون.

(1)

تأمل الدكتور عبد القادر الجموع الغفيرة التي تواجدت هذه المرة، دون دعوة وليمة كبرى كما جرت العادة، بل جاءت لأنها انتصرت بمعركة الانتخابات البرلمانية، فاستحلت طعم الانتصار، وراق لها فكرة الكلام من أجل الكلام الذي سينسب لمن يتكلم عندما يتحقق نصرٌ. ابتسم ابتسامة سخرية متسائلا بينه وبين نفسه: هل هؤلاء يعرفون عن تخطيط المدن؟ وهل هؤلاء يعرفون عن صفات القادة المحليين؟ وهل هؤلاء يقبلون إن جاءهم من يستطيع القيام بأعمال رئاسة أو عضوية المجلس البلدي بشكل يتناسب مع المعطيات الحضارية؟ أم أن لعبة الصوت وتوزيع (الكوتة) هي الأمور التي تقرر من هو المرشح للرئاسة ومن هم المرشحون لعضوية المجلس؟

نقر (مقبل) بأصابعه على (الحاكي) وأراد أن ينبه الحضور لوجوب الاستماع لما سيقول. وبعد أن قدم (ديباجة) افتتاحية كلمته قال: إن مدينتنا بها ما يزيد عن 600 حامل دكتوراه، وأكثر من خمسة آلاف حامل شهادة جامعية أولية وهي نسبة تزيد عما في (بلجيكا)، ودأبتم كل دورة انتخابات بلدية على تقديم وجهائكم الذين يفتقرون للدراية العلمية والثقافية، وقد علمتم أن إدارة المدن تحتاج الى المزيد من المعرفة والقدرة على التخطيط واستنبات مشاريع العمل لتستوعب أبناء مدينتكم.. إن توزيع تلك الشهادات الجامعية العليا لا يقتصر على عشيرة دون غيرها، لذا نهيب بالحضور الذين سيزكون مندوبي عشائرهم للترشح لعضوية المجلس البلدي أن يراعوا هذا الجانب، وليتنحى آباؤنا وأعمامنا من الوجهاء والذين نكن لهم خالص الاحترام عن مزاحمة أبنائهم ليجربوا القيام بتحديث عمل البلدية الذي بدأ منذ عام 1927.

تعالت صيحات الهتاف والتصفيق بالموافقة، فمن يتكلم هو من مَهَد لغانم أن يصل للبرلمان وكلامه في محله. وهناك من علق على ذلك بالقول: إن أول المتكلمين هو من يرسم خط بداية الانتخابات، ولو وقف أحد غير (مقبل) ورفع من شأن الوجهاء ورجاحة عقلهم لحظي بنفس القدر من الهتاف والتصفيق.

اتفق الجميع على تسمية لجنة لتستقبل أسماء المرشحين، وقسمت العشائر التي تزيد عن 50 عشيرة الى عشرة دوائر، تكون أعداد الناخبين في كل دائرة حوالي ألف وخمسمائة صوت. وقد روعي وضع أربع عشائر يزيد عدد الناخبين فيها عن ألف ليكون لهم مرشح دون مزاحمة أحد (دول كبرى!).

(2)

تعفف الكثير من الشيوخ عن قبول تسميتهم كمرشحين لدوائرهم، ويبدو أن كلمة مقبل قد تركت أثرا في نفوسهم. وقدم إلى اللجنة أسماء 14 مرشحا، كان من بينهم محامي و مهندس ورئيس لجنة نقابية عمالية وثلاثة عقداء متقاعدين من الجيش والشرطة، ومعلم متقاعد وموظف موانئ متقاعد (ينتمي لجماعة دينية) وسكرتير بلدية متقاعد، وشيخ كان عمره فوق الثمانين وهؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد القائمة (الشعبية) المعتمدة لهذا التجمع العشائري، فيما تم إقناع الأربعة الآخرين بالانسحاب.

أما في الجهة الأخرى، فكان هناك (فهمي) رئيس البلدية التي كانت قائمة، ومعه تسعة معظمهم من الشيوخ الذين تم انتقاءهم وفق (الكوتات) العشائرية القديمة.

كثرت الحلوى التي تقدم للمؤازرين الذين كانوا يأتون لخيمة الكتلة الشعبية، واستمرت اللجان في إعداد الخطط وأسماء المندوبين ومرافقي الحافلات التي ستنقل الناخبين والناخبات الى مراكز الاقتراع.

ودرّب المدربون الناخبات والناخبين على حفظ الأسماء، والألقاب المعتمدة في الفرز بالتنسيق مع اللجان الحكومية المشرفة على الانتخابات.

(3)

توجه الناخبون والناخبات الى صناديق الاقتراع، وانتهى الاقتراع في السابعة مساء، بعد أن وصلت نسبة المقترعين 78%.

توزع مندوبو فرز الأصوات على قاعات الفرز، وقام رؤساء اللجان بما يلزم لطمأنة المندوبين، فهذا الشمع الأحمر وهذا تقرير لجنة الاقتراع وأعداد من يحق لهم التصويت في الصندوق كذا وأعداد من صوت كذا، ثم قام بعد الأوراق الموجودة في الصندوق، ويستبعد البيضاء التي ليس فيها أسماء مرشحين. ثم طلب من الحضور أن ينتدبوا اثنين منهم للوقوف عند (الصبورة) ووضع إشارة لكل من يحصل على صوت.

أما البقية من المندوبين، فكانوا على استعداد لمتابعة الفرز، وانتبه كل منهم الى الصبورة والى الورقة التي أمامه وقد وضع عليها أسماء 26 مرشح، ينتسبون لثلاث كتل كتلتين رئيسيتين كل كتلة عشرة أسماء وكتلة للسياسيين الذين لم يستطيعوا إكمال كتلتهم وضمت ستة مرشحين. كانت تلك النماذج من الأوراق من توليف أحد المكتبات الذين لهم دراية في الانتخابات، يحضرونها ويصورونها ثم يعرضونها للبيع في مثل تلك المناسبات المتباعدة الحدوث.

كان من في القاعة يستطيع معرفة العشيرة التي ينتمي لها من كتب الورقة، حيث كان يبدأ بكتابة اسم مرشح عشيرته، ثم يذهب الى المرشحين الآخرين، وهو تكنيك لم تُفهم دوافعه حتى اليوم، فما الذي يجعل الناخب يضع اسمه أو اسم قريبه بالأول، هل كان يخشى أن تأتي أوامر بالتوقف عن الكتابة أو أنه سيصاب بسكتة قلبية قبل كتابة اسم قريبه؟ كان هذا النمط من التدوين يفضح العشائر، فعندما لا يكتب اسم مرشح في ورقة فإن المندوب للمرشح الذي حجب عنه الصوت سيعلم من أي عشيرة جاء الحجب، فيجمعها في الصندوق الذي يراقب فيه ويجمع المندوبون الآخرون مثل ذلك التصرف ويضعونها في وجه العشيرة التي مارست الحجب.

كانت معظم الأوراق تضم أسماء كتلة كاملة، وكان بعضها ينقصه اسم أو أكثر، وكان بعض الأوراق به بعض أسماء المرشحين من كتلة أخرى. وكان حظ فهمي رئيس البلدية المنتهي (دورته) أكثر الأسماء التي تظهر في قوائم الكتل الأخرى.

فازت الكتلة الشعبية بتسعة مقاعد، وفاز فهمي رئيس البلدية السابق بأعلى الأصوات، ولم يفز أحد آخر من كتلته ولا كتلة السياسيين، أما الكتلة الشعبية فقد أخفق منها أحد العقيدين المتقاعدين من الجيش، مما جعل ذويه أن يأتوا الى مكان احتفال مؤازري الكتلة وإفساد الاحتفال، متهمين الآخرين بالحجب
.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 18-12-2008, 12:50 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


(4)

تمنح الحركات المكررة، والأعمال المتراكمة في أي مجال، أصحابها مهارات يتميزون فيها عن غيرهم. وقد يتعب أحدنا نفسه في البحث عن تلك المهارات في بطون الكتب ولن يجدها، فالاصطفاف بحلقات (الدبكة) ومراسيم تحضير طعام شعبي، أو البداية في هتاف تشجيع أحد فريقي كرة قدم في مباراة، كلها مهارات من هذا النوع.

كذلك هي الحيل الشعبية في الانتخابات البلدية أو البرلمانية، لا تخضع لخطوات مكتوبة، ولم يناقشها السياسيون في كتبهم، حتى وإن فسروها بعد حدوثها، فإن التنبؤ بالكيفية التي ستسير عليها، يبقى مجالا لم تتناوله مثل تلك الدراسات المكتوبة.

كان أهل البلدة يعلمون أن من يُزاحم على رئاسة البلدية في الانتخابات سيكون عرضة لعدم النجاح لأن المتحالفين معه سيحجبون عنه الأصوات (هذا في الأنظمة التي تجعل من اتفاق الناجحين على تسمية أحدهم رئيسا كما هي حال البلدة موضوعة السرد). ولكي يتجاوزوا تلك العقبة، اتفقت جميع الأطراف لتسمية العقيد المتقاعد فؤاد مرشحا للرئاسة وكان له ذلك بعد نجاح تسعة من أعضاء كتلته.

(5)

بعد استقبال المهنئين وإتمام الاحتفالات، عقد المجلس البلدي أول اجتماعاته بغياب العضو (فهمي: الرئيس السابق).

كان أكثر من نصف أعضاء المجلس، يرغبون في الخدمة من أجل الخدمة، أو هكذا كانوا يعلنون، فبادر الرئيس المنتخب (فؤاد) بإحضار المصحف الشريف، وأقسم أنه لن يعود لترشيح نفسه مرة أخرى، وانتقل القرآن الى الأعضاء الآخرين فأقسموا عليه مثلما فعل رئيسهم.

انتقل المجلس لتوزيع مسميات العضوية، فابتدءوا بنائب الرئيس الذي تنافس عليه اثنان من الأعضاء، فوضعت ورقتان كتبا على كل منهما اسم مرشح، وتكريما لكبر سن الشيخ (مطيع) اتفق الجميع على أن يسحب ورقة من المغلف ليكون نائب الرئيس من كتب اسمه عليها، وتم ذلك دون أي خلاف.

تناوب معظم أعضاء المجلس على الحديث، فمنهم من قدم مشكلة التمويل على بقية المشاكل، ومنهم من قدم مشكلة مخالفات البناء على بقية المشاكل، ومنهم من اعتبر أن الكادر الوظيفي الذي يبلغ مائتان وخمسون موظفا وموظفة هم من أكبر المشاكل، حيث أن نسبة المعاقين بينهم تزيد عن الثلث، وعدم الكفاءة تسيطر على البقية، وأن هؤلاء الموظفين قد جيء بهم كترضية للمؤثرين في عمليات الانتخابات للتجديد لمن يسعى في توظيفهم، وقد تراكمت تلك العينات على المجالس البلدية فأصبح هذا الكادر يستحق لقب أسوأ جهاز وظيفي في تاريخ البلديات.

هنا، بادر المهندس (العضو المنتخب) وطلب إحضار القرآن ليقسم عليه الجميع، أن لا يسعوا بتوظيف أي مستخدم جديد، وأن يحاولوا تدريب الجهاز الوظيفي القائم قدر المستطاع، وأن من لم يتقدم في كفاءته أن يذهب لبيته وسيأتيه راتبه كل شهر، وأكد أن ذلك أقل ضررا على البلدية وعلى مصالح المواطنين، فهو لن يستهلك مياه ولن يهدر من القرطاسية ولن يقصر من عمر أثاث وبناء البلدية. ابتسم الجميع ووافقوا على ذلك.

استغل رئيس البلدية والذي يترأس الجلسة فرصة التقاط الأعضاء لأنفاسهم، وبلغهم بأن أحد وجهاء البلدة، ينتظرهم لتناول طعام الغداء. لم يعلق أحد على ذلك، فمنهم من اعتبر ذلك من مقتضيات العمل في مثل تلك المؤسسات، ومنهم من اعتبر ذلك تمهيدا لإثقال المجلس بتوسط لغض النظر عن مخالفة ما، ولكنه آثر السكوت، حتى لا تصل كلماته لصاحب الدعوة!

لكن المهندس، علق قائلا: لم يكن هذا الرجل يوجه لنا الدعوات لو لم نفز بانتخابات البلدية، إذن فهو يدعو شخصياتنا الاعتبارية، لا شخصياتنا المجردة، وإني أعلن أنني لن ألبي مثل تلك الدعوات لا هذه ولا ما سيتبعها من دعوات، وأنصحكم أن لا تستجيبوا لمثلها إن أردتم العمل النزيه. استجاب لطلب المهندس كل من نائب الرئيس والعضو (النقابي العمالي).

(6)

بعد مرور أسبوع، كان المجلس أو الأعضاء التسعة قد عقدوا خمسة اجتماعات في بيوتهم (بالتناوب) لبحث مسائل تتعلق بالسياسات الواجب إتباعها، فمنها ما كان يناقش عادات إطلاق الأعيرة النارية في الأعراس والاحتفالات، ومنها ما كان يناقش تعبيد 72 كم طولي من طرقات البلدة، وتقسيم هذه الخطة على أربعة سنوات (مدة الدورة الانتخابية) وكيفية التحايل على التمويل، ومنها ما كان يعني بتسرب التلاميذ من المدارس ومنها ما كان يتعلق بتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة بالاستعانة بالجامعتين القريبتين من البلدة، ومنها ما كان يتعلق بتشجيع الشعراء والكتاب والمبدعين وتنظيم مهرجان سنوي لهم في الملعب الرياضي.

في هذه الأثناء، وبعد أن ابتدأ الاجتماع الرسمي الثاني في مبنى البلدية، دخل الرجل صاحب دعوة الغداء، ومعه أحد أقاربه وكان في الستين من عمره، وقد كان يعمل في قطاع البناء قبل خمسة عشر عاما، فسلم على الجميع وقطع الجميع كلامهم، وأخذوا بمجاملات لا معنى لها معه، فانتبه نائب الرئيس أن ذلك مخالفا، ولكنه لم يشأ أن يكون فجاً ويطلب من صاحب الدعوة أن يخرج لأن المجلس في حالة اجتماع، فنبه الرئيس لوجوب العودة لجدول أعمال الاجتماع.

لكن صاحب الدعوة، التفت إليه، وعاتبه: (أنا زعلان منك)، فرد عليه النائب: لماذا؟ فقال: أطعامنا لا يؤكل؟ فاعتذر أنه كان مشغولا و أضاف (خيرك سابق) ..
أدرك الستة الذين لبوا الدعوة أن الممتنعين لتلبية الدعوة كانوا أكثر حكمة منهم.

قال صاحب الدعوة: أنا لا أريد أن أعطلكم عن اجتماعكم، ولكن حرصي على خدمة البلدية ومصالح المواطنين هو ما دفعني للحضور الى هذا الاجتماع، وأحال الحديث لمن معه، فقال: أعلم أن البلدية تهدر الكثير من الأموال لترميم القنوات والعبارات والأطاريف، وكلكم تعرفون أني خبير بأعمال البناء، وقد اعتزلت هذا العمل منذ مدة، ولكن إسهاما مني في خدمة بلديتكم التي هي بلديتنا والتي لم تحظ في يوم من الأيام بهذا القدر من الكفاءات الممثلة بهذه النخبة الشابة، قررت أن أعدل عن قراري في الاعتزال ووضع نفسي تحت خدمتكم!

قاطعه المهندس ضاحكا: من يسمعك سيقول أننا تحايلنا عليك كثيرا من أجل القبول بمثل هذا العمل. ثم جعل من لهجته أكثر صرامة وقال: أترى هؤلاء الأعضاء ؟ لقد أقسموا أيمانا غليظة على أن لا يوظفوا أحدا طيلة مدة دورتهم، أرح نفسك من تلك المهمة.

تجهم صاحب الدعوة، ونظر الى المهندس شزرا واستأذن وخرج.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-01-2009, 02:53 PM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(7)

لم يتذكر الشيخ مطيع بأنه ساهم خلال أكثر من سنة في أي حديث جاد، ولم يتذكر أنه تقدم بأي مقترح، ولكنه اكتفى بدور أنه سحب أوراق القرعة في الاجتماع الأول، وأصبح هذا الحدث أو الإنجاز لا يبعث له الشعور بالراحة، كان يحس ببعض الرضا عندما يبادر الجميع بتخصيص تحية رقيقة له كونه أكبر الأعضاء عمرا، ولكن هذا التخصيص أصبح موضع مضايقة نفسية له، فبعد أن يجيب عن الأسئلة المرافقة لتحيات الملاطفة عن أولاده وأحفاده وأولادهم، يتمتم ببعض كلمات الشكر المتزاحمة دون ترتيب، ثم يعدل من جلسته ويوازن موضع عقال رأسه، ويبلع ريقه، فهو لا يدخن، ولا يتحدث ويخجل أن يخرج (مسبحته) ليسبح بحمد الله في حضور الآخرين.

وإذا ما سأله رئيس المجلس عن رأيه، يوافق على رأي الذين سبقوه في إبداء رأي ما، وكان لا يعرف حتى إعادة تفاصيل ما تحدث به من سبقه، أو حتى أحيانا لا يستطيع التعبير عن الموضوع بإيجاز، فيقول: مثل ما تفضل (أبو فلان) ولم يخطر بباله أن أبا فلان لم يتحدث مطلقا، فعندما يصحح له أحدهم اسم ابن آخر من تحدث، يزداد حرجا وتحمر وجنتاه، ويتمنى ساعتها أنه لم يتقدم لمثل هذا المنصب الذي يسبب له الحرج.

(8)

استخرج رئيس اللجنة النقابية العمالية ورقة من جيبه، وطلب من رئيس المجلس أن يبدأ بطرح محتويات مقترحه والذي تم تثبيته بجدول الأعمال لتلك الجلسة، كان الموضوع يخص الاحتفال بعيد العمال العالمي والذي بقي عنه خمسة شهور، وتم تقديم المشروع ليكون هناك متسعا من الوقت للاستعداد اللائق لمثل ذلك الاحتفال.

كان المشتركون بالمشروع أربعة من أعضاء المجلس البلدي، فالغاية الأساسية منه هي نقل المعلومات التقنية الى المواطنين بصورة احتفالية، فاختاروا أول أيار/مايو ليكون موعدا لذلك.

تم الاتفاق على التحضير لتسمية العمال المبدعين من عمال البناء وعمال النظافة والنجارين المهرة والحدادين وتم تسمية أكثر من عشرين مسمى لهؤلاء المبدعين، مثل أفضل مربي للنحل، أفضل مزارع زيتون أوائل الطلبة، أفضل شاعر أفضل امرأة عاملة الخ.

كان على اللجنة أن تتصل بالبنوك والشركات التجارية للمساهمة في تخصيص جوائز قيمة للمكرمين، وكان على اللجنة أن تتصل بجامعتين حكوميتين وغرفة التجارة والنقابات المهنية للمشاركة في إنجاح هذا الاحتفال. وكان على اللجنة أن تتصل بفرق الفنون الشعبية لتأخذ وصلات بين الفقرات. وكان المكان الذي تم اقتراحه هو الملعب البلدي حيث يتسع لعشرات الآلاف من المواطنين.

كان رئيس المجلس البلدي يهز رأسه موافقا على ذلك، وكان الشيخ مطيع لا يخفي فرحه أن ينتسب لمثل ذلك الفريق.

استخرج المحامي ورقة من جيبه، وهي دراسة حالة المتسربين من المدارس، وكيفية التعاون مع مديرية التربية ومجالس الآباء والأمهات لمعالجة تلك الظاهرة الخطيرة.

اعتذر رئيس المجلس عن دراسة تلك الورقة ورحلها الى اجتماع قادم.

(9)

لاحظ بعض أعضاء المجلس البلدي أن هناك قطع (لوحات إعلانية) تخص شركة (كوكا كولا) وهي شركة مدرجة ضمن قوائم الشركات الواجب الالتزام بمقاطعتها من الجامعة العربية. قد انتصبت فوق بعض المحلات التجارية، فطلب من رئيس المجلس البلدي أن يضع تلك النقطة على جدول الأعمال.

عندما انعقدت الجلسة، بادر المحامي بالحديث عن وجود تلك اللوحات وخطوة ذلك، وكون المجلس البلدي يمثل القيادة الأدبية للمدينة، فلم تكلف جهة ما نفسها حتى بتبليغ المجلس البلدي بالسماح لتلك الشركة المشمولة بالمقاطعة العربية.

تجهم رئيس البلدية، وقال: ألا تعلمون من سمح لتلك الشركة بذلك؟ كان الجميع يعلم تفاصيل إعطاء بعض الرجال المهمين نسبة معينة، ولكن بعضهم أصر أنه لا يعرف ولا يريد أن يعرف، وطرح اقتراحا بإغلاق المحلات التجارية التي تتعامل مع تلك الشركة أو تضع لوحاتها الإعلانية.

تم طرح المشروع للتصويت، فلم يصوت لصالح إغلاق المحلات إلا اثنان، فسقط المشروع.

استطاع المحامي الالتفاف على القضية، بأن استخرج مادة تلزم الشركة المنتجة بدفع عشر دولارات عن كل متر مربع من اللوحات الإعلانية، وبعد موافقة المجلس على الاقتراح الجديد تم مخاطبة الشركة، فأرسلت (شيكا) بمبلغ 15 ألف دولار بدل لوحات الإعلانات للبلدية.

وبعدها بأسبوعين تم حل المجالس البلدية كافة دون حجة قوية

انتهى الجزء الثاني



__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 16-02-2009, 04:44 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

انتخابات نقابة مهنية

تختلف النقابات المهنية عن النقابات العمالية أو الحرفية، بأن النقابات المهنية تضم في صفوفها أصنافا من المهن الطبية (أطباء وأطباء أسنان) والهندسية والجيولوجية والممرضين والبياطرة والزراعيين والمحامين وأحيانا في بعض الدول العربية تشمل الصحافيين ومهن أخرى. في حين لا تشمل في مسماها عمال البناء والسكك وعمال الكهرباء والحلاقين وعمال المطاعم الخ.

النقابة بشكل عام مخترع لم يُستنبت في بيئتنا، بل نشأ مع بدايات النهضة الصناعية في أوروبا، وقد جاء لرفع جور أصحاب العمل عن العمال ولتكون النقابة ممثلا لجمهور العمال الذين يريدون رفع أجورهم أو يريدون تقليص ساعات العمل، أو أي مطلب آخر.

هناك من يقول أن النقابة مخترع عربي، ظهر في العصر العباسي، عندما كان لكل حرفة شيخ يرجع إليه المختلفون ليحكم بينهم، فهذا شيخ للوراقين، وهذا شيخ للتجار، يضع ما يشبه القوانين لإبطال صفقة بين اثنين، الخ. وهناك من يقول أن (القرامطة) هم من ابتكر فكرة تنظيم أصحاب المهنة، فقد ابتدءوا بساسة الخيول من (الزنج ) ليحرضونهم على الدولة العباسية!

على أي حال، لقد دخلت فكرة النقابات الحديثة على بلادنا، كما دخلت معها أشكال من المفاهيم المهجنة فهذه قومية وهذه اشتراكية وهذه حزبية، لقد دخلت الى منطقتنا دون ربط ماضيها بحاضرها ودون تهيئتها لتكون خادمة لتحقيق المستقبل الذي يحلم به أبناء الأمة، فكانت كاستيراد أبقار (الفريزيان والهولشتاين) تعطي حليبا في هولندا وألمانيا ثلاثة أضعاف ما تعطيه في بلادنا، علاوة على أنها حلت محل أصناف محلية عاشت مع شعوبنا منذ الأزل!

(1)

كان (قمر الدين) ابن الخمسين عاما، خريج الجامعات التركية، وصاحب شركة هندسية تهتم في تزويد المنشئات بنظم الري الحديثة، كان شخصا أنيقا يعرف كيف ينتقي ملابسه الفاخرة وعطوره الملائمة التي كأن من ابتكرها وضع أمامه ربطات عنق (قمر الدين) وأخذ يجرب أي العطور أكثر ملائمة لتلك الربطات.

استطاع قمر الدين أن يجمع أرقام هواتف مجموعة من المهندسين الذين يتوسم بهم أن يكونوا مؤثرين في مناطقهم، وكان عندما يرفع سماعة الهاتف ليتصل بأحدهم، يبادر بصوته الدافئ القريب من القلب ليشعر المستمع أن حدثا مهما سيظهر من تلك المكالمة، فبعد أن يشعره بافتقاده الطويل، ويسأل عن صحته وشأن معين تدرب على معرفة تفاصيله، يستنهض همته في موضوع الانتخابات المقبلة، ولا بد أن يذكر له مسألة يكره الذي على الطرف الآخر من أنها ستتحقق إذا لم يبادر للوثوب والاصطفاف من أجل منع تحقيقها.

بعد يومين من مكالمة قمر الدين بالأسماء التي أدرجها في قائمته، يقوم أصحاب تلك الأسماء بالاتصال ببعضهم البعض، فتكون حركتهم كحركة الدوامة في ماء نهر تلتف لتعود الى مركزها. والغريب أن أحدا من هؤلاء لم يستنكف عن الاستجابة لنداء (قمر الدين)، ليس لأنه قائد فذ، وليس لأنه ابن مبادئ وابن نضال، وليس لأنه ودودٌ مع رفاقه، فلم يكن لديه واحدة مما ذكر. بل لأن هؤلاء الأفراد لا يريدون تفويت فرصة يؤكدون فيها ذاتهم. فأحدهم يفرح عندما يُنسب عنه قول يعاتبه فيه آخر، ويفرح أكثر عندما (يقبل) أحد المرشحين رأسه طالبا منه المساعدة.

يتفق الجميع على حضور اجتماع موسع لأنصارهم في قاعة النقابة المركزية، ويحددون موعدا لذلك.

(2)

كان (عصام) ابن تنظيم إسلامي سياسي، وهو يقف على رأس جماعة تنافس الجماعة التي فيها (قمر الدين). كانت جماعته تتقن لعبة الصوت بطريقة أفضل من الطريقة التي تتبعها الجماعة الأخرى. فالجماعة الأخرى تعتمد أسلوب التحالف بين مكونات المعارضة الكلاسيكية، فهذا يمثل حزب كذا، وهذا يمثل حزب كذا، وهذا من الجبهة الفلانية، وهذا من المستقلين القوميين وذلك من اليساريين المنشقين وهكذا، في حين كان عصام وجماعته يطرحون أنفسهم كفصيل نقي خال من أي عنصر خارج عنه.

كان عصام شابا ذكيا ابن ثمانية وثلاثون عاما، له علاقات واسعة مع الكثير من المهندسين، وفوق ذلك، كان ابن تنظيم سياسي خبر لعبة الصوت بإتقان، كان يخابر بعض المهندسين الذين يتمتعون بسمعة جيدة وسلوك قويم، وقد تنقلوا في سنوات عملهم بأكثر من أربعة أو خمسة شركات كبرى، وكونهم كذلك فإنهم ولا بد قد تعرفوا أثناء خدمتهم على المئات من المهندسين، خصوصا عندما ينتقلون من مدينة لمدينة لعرض سلعهم وخدماتهم.

كانت تلك الجماعة، تبحث عن وجوه (نجيحة : أي قابلة للنجاح في الانتخابات)، وكانت صيغة المخاطبة لهؤلاء المهندسين، أن الجماعة قد وقع اختيارها عليك لأن تكون أحد أعضاء الكتلة الانتخابية للنقابة، كان من يُعرَض عليه هذا الأمر، يشعر بدفقة من الاعتزاز بالنفس، أن الجماعة الفلانية قد زكته على أنه رجل مستقيم ومحبوب، وهذه فرصة لأن يصبح أحد أعضاء مجلس النقابة وبالتالي فإن باب الأحلام سيفتح أمامه ليكون مستقبلا شخصية عامة يُنسب عنها أنها قالت كذا وقد يُنسب عنها أنها حاولت فعل كذا.

كانت الجماعة تكتفي بواحد أو اثنين من أعضاء المجلس من الملتزمين تنظيميا، وتختار بقية أعضاء المجلس من الوجوه القابلة للنجاح، وهي بفعلها هذا، تضمن كسب أصوات هؤلاء المرشحين غير المنظمين، وتهيئ هؤلاء المرشحين لينخرطوا تنظيميا في صفوفها المنضبطة.

كان كل مرشح من المستقلين الذين خاطبتهم جماعة عصام يعتقد أنه الوحيد الذي أضيف للكتلة من خارج التنظيم، فكان يحرص على موافقة رئيس الكتلة الذي ينقل توجهات تنظيمه. ولم يحدث أن اعترض أي من هؤلاء المستقلين على توجه الجماعة، لشعوره بأنه مدين لتلك الجماعة بمنحه (حظوة) أن يكون محسوبا عليها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-03-2009, 11:19 PM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(3)

حرص (رشيد) أن يصل الى بيت (قمر الدين) قبل غيره من المدعوين الأربعين، كان رشيد قد تخرج من الجامعة التركية التي تخرج منها قمر الدين، وبنفس السنة، لكنه اختار العمل في القطاع الحكومي، عكس زميله وصاحبه (قمر الدين).

كان كلاهما قد انتسبا الى حزب قومي أثناء وجودهما بالجامعة، ولكنهما انقطعا عن التنظيم منذ عشرين عاما، أي فور تخرجهما، ولم يعرف أحد إن كان ابتعادهما عن التنظيم تم بإرادتهما أم بفعل خارجي. كانا يتمتعان بنفس الصفات تقريبا، وهي الحرص على إيهام الآخرين أنهما لا زالا بالتنظيم، أما عن علاقاتهما مع الدوائر الأمنية، فلم يكن عليها أي شائبة، لأنهما بكل بساطة يعلمان أن الدوائر الأمنية تعلم عن عدم ارتباطهما بأي تنظيم!

حاول رشيد في حضوره المبكر لبيت صاحبه قمر الدين، أن يقنعه بضرورة ترشيح وكيل وزارة ـ لا زال على رأس عمله ـ وهو من نفس صنفهما أي ممن كان له ماضٍ سياسي بعيد، وحجة رشيد بذلك، هي أن وكيل الوزارة أقدر على كسب الأصوات بفعل موقعه بالوزارة، وما لذلك دور في التفاف العاملين بالوزارة من المهندسين حوله، وبالتالي فنجاحه مضمون، وتبقى مكانة قمر الدين ورشيد وأصحابهم محفوظة، واحتمالية ترقية قسم منهم ليكونوا مدراء عامين في الوزارة ستكون واردة.

لم يرتح قمر الدين لطرح صديقه رشيد، ولم يوافقه عليه بشكل فوري، ولكن دعاه لينتظر ما سيسفر عنه الاجتماع الذي كانت دعوة الإفطار في رمضان من أجله.

(4)

انقطع الحديث الثنائي بين الصديقين، بسبب توارد المدعوين الأربعين، فانشغل قمر الدين كونه صاحب الدعوة، باستقبال المدعوين ومصاحبتهم لمقاعدهم. ثم تحيتهم وسؤالهم عن أحوالهم، وتفقد حرارة استجابتهم للدعوة رغم بعد المسافة بين العاصمة ومدن أولئك المدعوين، والذين يُفترض أن تكون استجابتهم لمثل تلك الدعوات وفي شهر رمضان على وجه الخصوص.

كان من بين المدعوين أشخاص يلتزمون في هيكلية التنظيم، وكانوا يعرفون على وجه الدقة مَنْ مِن هؤلاء الحضور معهم بالتنظيم، ومن منهم خارج التنظيم، ولكن هؤلاء لم يريدوا طرح مثل تلك المسألة، بل بالعكس، فإنهم يقبلون بادعاء الذين خارج التنظيم أنهم داخله.

حضر أربعة وثلاثون رجلا من أصل أربعين، وكان أربعة منهم من المسيحيين، ومع ذلك ساد المكان جوُ من الأريحية والود كون هؤلاء الحضور يرتبطون وجدانيا بأكثر من رابط، إما اشتراكهم في الدراسة، أو اشتراكهم في التوجه السياسي، فكان كل واحد منهم يجد أكثر من موضوع (سؤال) يطرحه لمن ينتقيه من بين الحضور.

أحضر أحد الخدم، ماعونا به من التمر، كما أحضر آنية بها من اللبن، ووضع أكوابا، وأخذ يملأها من اللبن (المخيض)، ويوزعها على أركان مختلفة من الموائد المنضدة.

(5)

كان الحضور يتوقفون عن الكلام قليلا، علهم يسمعون صوت (مدفع الإفطار) أو صوت المؤذن ليعلن نهاية صيام ذلك اليوم.

بعد أن تيقن الجميع أنه حان وقت الإفطار، بادروا لتناول قليلا من اللبن والتمر الذي أمامهم، ثم اقترح أحدهم الذهاب لأداء صلاة المغرب، في مسجد قريب بجوار (بيت: فيلا) صاحب الدعوة، لكن صاحب الدعوة بادر للقول: من أراد الصلاة فليتفضل، وكان قد أعد إحدى صالات بيته لمثل ذلك الموقف، فانتقل قرابة ثلاثين شخص لأداء صلاة المغرب وراء (قمر الدين) الذي زكاه الحضور ليؤم بهم كونه صاحب البيت!

كان صوت قمر الدين واضحا وغير مهزوز في تلاوة الفاتحة والسورة القصيرة، لكنه كان يتلو القرآن كمن يتلو نشرة أخبار أو كبيان سياسي.

كان الأربعة من المسيحيين، يشعرون بالحرج من هذا الموقف، لكن وجود اثنين من المسلمين الذين لم يشاركا في أداء صلاة المغرب، قلل من حرجهما.

وبعد الانتهاء من الصلاة، حاول واحد من الاثنين الذين تخلفا عن أداة الصلاة أن يمازح صاحب الدعوة بالقول: هل أنتم متأكدون أننا لسنا في حضرة جماعة سلفية؟ لم يشأ المسيحيون أن يبدوا مشاركته بالابتسام، كما لم يعلق على ملاحظته أحد!

تناول الجميع إفطارهم، أو عشاءهم (للبعض القليل)، ثم تناولوا حلوياتهم التي أحضرت من مطعم مشهور، ليكمل قمر الدين واجب الضيافة.

(6)

لم يكن سعدون ليتوقع أن يقدمه الآخرون لافتتاح الاجتماع الذي عقب الدعوة، وعندما تطوع قمر الدين لتسميته لاستهلال الاجتماع، لم يعترض أحد من الحضور على تسميته. كان سعدون شخصا يلف نفسه بهالة من الغموض، فقد كان مجرد ذكر اسمه بين المهندسين، حتى يتصوروا أنه يملك جهازا وشبكة قادرة على جعل أي مرشح طامحا يخفق في الانتخابات يخفق في مهمته إن لم يباركه ذلك (السعدون). ولكن تلك القدرة غير كافية بالتأكيد على أن يجعل من يطمح يحقق نجاحا بشكل مضمون.

كان سعدون رجل تنظيم بارع، فهو يتابع أدق التفاصيل، وقد فهم رغبة قمر الدين، في ترشيح نفسه لمركز النقيب، ووافق على إعطاءه مثل تلك الفرصة، بعد التشاور مع تنظيمه، ولكنه لم يشأ أن يفصح عن رغبته تلك، في ذلك الاجتماع، لترك انطباع بين الحضور بأن مسألة الترشيح تأتي بالتشاور والتوافق مع كل القوى التي تحسب على ذلك التكتل.

كان نبرات صوت سعدون منخفضة، وكلماته غير متراصة، لكن كان لها عذوبة كعذوبة ابتسامة ثغر يكشف عن أسنان متباعدة قليلا. حاول سعدون ترتيب أفكاره ليجعل من الهدف المراد سببا وجيها للتعبئة في تلك الحملة، كان يتحاشى ذكر الولاء للدولة كسبب محفز لتلك الحملة، هو يعرف كيف يصور الآخر على أنه خصم جدير بهذا التكتل أن يهزمه، لكن كان يبتعد عن التفصيلات الدقيقة، خصوصا، عندما كانت تعليقات الحضور تفصح عن استعدادهم الكامل لخوض تلك المعركة الانتخابية.

كان يعرف ما يقول، فافترض أن من ينجح يحتاج الى خمسة آلاف صوت على الأقل، وبذلك يكون على كل واحد من الحاضرين أن يقنع عشرة من المهندسين ويعبئهم، وحتى لا يكون واحد أو أكثر من هؤلاء العشرة يشتركون في اهتمام أي من الآخرين، بادر لتشكيل أمانة عامة مكونة من عشرة أشخاص للتنسيق في إدراج جداول المهندسين الذين يتم التحرك عليهم.

وعندما يصبح العدد 340 يطلب من كل واحد أن يتحرك على خمسة من المهندسين، وبعدها يتم الطلب من هؤلاء التحرك على ثلاثة. ثم متابعة شؤون هؤلاء الناخبين، من تسديد اشتراكاتهم وترتيب نقلهم الخ.

قسم سعدون خطة العمل بما يتناسب مع الزمن، لتكون النتيجة واضحة للعيان بفوز المرشحين قبل أسبوعين أو ثلاثة قبل الموعد الرسمي للانتخابات.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .