العودة   حوار الخيمة العربية > القسم العام > الخيمة الفـكـــريـة

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: الطبع في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الصفق فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الولدان المخلدون (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الخمار فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الحجاب في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: رقص و قذارة سفيرة (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: الخنق في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الغلمة في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: السجل فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: حكم تارك الصلاة فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 28-09-2009, 11:46 AM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الثاني: المجتمع المدني والجماعة المسيحية

يذكر الكاتب في بداية هذا الفصل، أن انهيار الإمبراطورية الرومانية والذي عزاه (Edward Gibbon) الى النصر الذي حققته البربرية والمسيحية، أدى الى ضعف الفهم الكلاسيكي للمجتمع المدني باعتباره جماعة منظمة سياسياً. وأنتج تفسخاً سياسيا، أصبح بعده من المستحيل ولمئات السنين التنظير في السياسة على الطريقة القديمة التي سبقت هذا التغيير.

كان اليونانيون والرومان رغم وثنيتهم قبل اعتناقهم المسيحية، يخرج من بينهم من يتناول الجانب السياسي بأخلاقية عالية تدعو للفضيلة والعدل. وعندما تم اعتناق الإمبراطور (قسطنطين) للمسيحية، تحولت القبائل والدويلات المحيطة بمركز الإمبراطورية الرومانية الى ما يشبه (الأمة المسيحية)، وأصبح التنظير في السياسة من قبل القصر مقرونا باعتقاد ديني مسيحي.


لم تكن المسيحية في بداياتها تهتم بأمور الدولة، باعتبارها قضايا دنيوية عابرة ستزول، هذا أدى الى تدفق النشاط القبائلي لقبائل الجرمان وغيرها من القبائل للتسابق على احتلال مكان قريب من المركز المسيحي، مما دفع برجال اللاهوت أن يبدءوا التفكير بالتنظير للدولة لإقامة مملكة (الرب) على الأرض.

الغرور، والإيمان، والدولة

(1)

في بداية القرن الخامس الميلادي، بدا الضعف يظهر على الإمبراطورية الرومانية، وتم اجتياح (القوطيين بقيادة ألارك) لروما. شاعت في تلك الفترة مقولات تحمل الديانة المسيحية باعتبارها مُستوْرَدٍ (شرقي) المسئولية عن هبوط الأداء السياسي وضعف الإمبراطورية. وظهر بعدها الحنين لفكر أرسطو وغيره.

ظهر بعد ثلاث سنوات من الاجتياح أي في عام 413م كتاب مصنف شهير لا زال يترك بصماته واضحة في العقائد الغربية السياسية، وهو (مدينة الله The City of God ) وقد كان من تأليف (أوغسطين) ولمن لا يعرف هذا الرجل، فقد كان أفلاطونياً محدثاً، وأسقفاً في نفس الوقت، وعالم لاهوت وقاضيا وجدلياً، وقد فكر في مسألة الروح والجسد، ورغم انبهاره بالأداء الإمبراطوري قبل المسيح عليه السلام أو قبل اعتبار الديانة المسيحية ديانة الدولة، فقد انبرى مدافعا عن المسيحية دون أن ينكر انبهاره بالتنظيم السياسي للدولة ما قبلها.

(2)

رد أوغسطين على القائلين بأن الكوارث التي حلت بروما نجمت عن الاستخفاف بالطقوس القديمة، بقوله: إن المسيحية لم تكن مسئولة عن سقوط روما، بل أن ضعف الإمبراطورية المتنصرة حديثاً جاء نتيجة تسامحها مع الوثنية والهرطقة والفسوق.

البشرية عند (أوغسطين) فاسدة فساداً كبيراً بحيث لا تستطيع أن تختط لنفسها قيما أخلاقية، وأن الجمال والأخلاق والفضائل كلها مستمدة من سجل حضور الله في الشؤون البشرية، وفهم المجتمع المدني الخاطئ يأتي من تمجيد الناس للعقل البشري وإمكانياته وابتعادهم عن الإيمان بالله.

كان لدى الإغريق والرومان فكرة مفادها أن أرضية السعادة البشرية تأسست بفعل القدرة على الكلام والتدبر، والعمل في المجتمع المدني المنظم سياسياً. أما أوغسطين فيقترح أن الإيمان والكتاب المقدس والكنيسة والمبادئ المسيحية هي الوحيدة التي يمكنها برأيه أن تضع أساساً للسياسة وتنظيم المجتمع المدني.

(3)

عند حديث أوغسطين عن روما، فإنه يقول: إن الله جعلها إمبراطورية جبارة (لعلةٍ ما!). وأن إنجازات أهلها لأنهم (أحبوا المجد بحماسة متوقدة، ورغبوا في العيش من أجله، ومن أجله لم يتوانوا عن التضحية بأنفسهم. وكانت كل رغبة مقموعة بشدة ولعهم بالمجد وحده دون سواه) كانت تلك اللهفة للثناء والرغبة في المجد إذاً، هما اللتين أنجزتا تلك المآثر العديدة الجديرة بالثناء*1

كانت الدنيوية الوثنية تتناقض بشكل صارخ مع الإمكانات التي فتحها حضور المسيح عليه السلام. بل يذهب أوغسطين الى أبعد من ذلك عندما اعتبر أن الشر والخير ابتدأتا مع ابني آدم (قابيل وهابيل). ومن هنا فقد انقسمت المدن الى مدن خير ومدن شر وبشكل سرمدي. فمدينة الشر تقوم بخدمة إبليس وشياطينه ومدينة الخير بخدمة الله وملائكته.

وفي مكان آخر من كتابه (مدينة الله) يقول أوجستين: (طبقاً لذلك، تأسست مدينتان بنوعين من الحب: المدينة الأرضية بحب الذات، حتى وإن كانت بمعصية الله، والمدينة السماوية، حتى وإن كانت باحتقار الذات، وبكلمة تمجد الأولى ذاتها، وتمجد الأخرى وتعظم الله، الشاهد على الضمير وتناجيه: [إلهي أنت مجدي، ورافع رأسي]، في الأولى يحكم الأمراء والأمم التي تخضع لهم بشهوة السلطان، وفي الثانية يخدم الأمراء والرعايا بعضهم بعضاً بالمحبة الخالصة)*2

(4)

سدد أوجستين ضربة الى صميم النزعة التفاؤلية (الفلسفية) الإغريقية والرومانية، في أن قوانينهم التي كانوا يزعمون أنها تحقق العدالة، قد أصابتهم بالغرور بأنهم حققوا مجدهم، فقادهم هذا الغرور الى العجز والانحطاط، وكان عليهم وعلى من يبكي على مجدهم المفقود أن يعلموا أن الخير والمجد هو من الله وحده، فحيث تكون هناك عبادة تليق بالرب تكون هناك أمة وبشر ومجتمع مدني حقيقي.

يقول أوجستين: (إني أقر بأنه كانت هناك جمهورية من نوع ما، وكان يديرها الرومان القدماء القدماء بصورة أفضل بكثير من النواب الرومان المحدثين [في العهد المسيحي]. غير أن الواقع هو أن العدالة الحق لن يكون لها وجود إلا في تلك الجمهورية التي يكون المسيح مؤسسها وحاكمها إذا ما اختار أي كان أن يدعوها جمهورية، وفي الحقيقة لا يمكننا إنكار أنها تمثل مصلحة البشر... كيف يتسنى للبشر أن يحققوا العدالة إذا كانوا يخدمون الشياطين الدنسة والأرواح الشريرة)*3

(5)

لقد شبه أوجستين الملوك والأمراء باللصوص، فقال: (ما الممالك، حين تغيب العدالة، غير سرقات كبرى؟ والعصابة نفسها ما هي إلا زمرة من البشر محكومة بسلطة أمير، وهي متكاتفة بموجب اتفاقية اتحاد، وأما الغنائم فيجري تقسيمها بموجب قانون تضعه العصابة نفسها)*4

استعان أوجستين بقصة تاريخية عن الإسكندر الكبير ، عندما قبض على قرصان وسأله عن دوافعه بالقرصنة واستيلائه على سفن الغير، أجابه القرصان بعجرفة (ما عنيته أنت بالاستيلاء على الأرض كلها؟ ولكني لأني أنفذ ذلك بسفينة صغيرة، أُسَمَى لصاً، بينما تنفذه أنت بأسطول ضخم، فتلقب إمبراطوراً).

(6)

بالنسبة للعقوبات والردع، انشغل أوجستين بوضع علاقة واضحة بين العقوبة ومن ينفذها ومن يشرعها ومدى فائدتها، فاعتبر أن العقوبة هي رحمة على المذنبين لكي يقابلوا ربهم يوم القيامة وهم طاهرين من كل ذنوبهم التي عاقبهم عليها من في الأرض من الذين انتدبهم الرب لذلك.

لكن من هم هؤلاء؟ إن أوجستين يطالب المؤمنين بالله من منظمات المجتمع المدني أن تلتف حول الكنيسة لتفرض قانون الله على الأرض بواسطة الدولة التي باركتها الكنيسة نفسها.

يتبع



هوامش: (من تهميش المؤلف)
Saint Augustine, The City of God, Translated by Marcus*1 Dods (New York: Random,1950) صفحة 159
*2ـ المصدر السابق ص 477
*3ـ نفس المصدر صفحة 699
*4ـ المصدر نفسه ص 112
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-10-2009, 02:27 PM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الجماعة المسيحية

(1)

كان مسعى (أوغسطين) لتحويل بابوية القيصر (Caesaropapism)، التي دمجت الدولة والكنيسة، الى أداة لخدمة الله، بات بحاجة الى تطوير دقيق بسبب اقتران تنصير الإمبراطورية بتفككها، ودمج الدولة بالكنيسة من أجل طاعة الله، ذلك أن تنصير الإمبراطورية صاحب تفتتها.

وإن التطور البطيء للعالم المسيحي بوصفه عالم (الدولة ـ الكنيسة) الموحد شجع مفكري العصور الوسطى الأوائل على تطوير بنية شاملة تتيح لهم أن يستوعبوا ضمن حدودها علاقات الشعوب والميادين المختلفة. إن تقسيم العمل بين (البنية الكنسية) الرسمية و(البنية المدنية) للإمبراطورية والمملكة وَسَمَ مسارات السلطة المتحولة بين ميادين يكمل بعضها بعضا في أمة مسيحية واحدة.

(2)

انتقل الى العصور الوسطى، ما كان أُسس في العهود الأولى للإمبراطورية المسيحية على يد (Gelasius جيلاسيوس الأول) وأطلق عليه نظرية (السيفين Two Swords) والتي قصد بهما (سيف الله) و (سيف الدولة أو الملك) وهما مندمجان متوحدان لا يفصل بينهما شيء، وليس هناك سلطة أعلى من سلطة، وإذا تصادم السيفان فالكلمة العليا لسيف الرب (الكنيسة).

وكانت السياسة والاقتصاد والفن والعلوم والأخلاق، تتبع مباشرة لسلطة الكنيسة، وكان تنصيب شارلمان سنة 800م [ وهو المعاصر لهرون الرشيد] على يدي البابا (ليو Leo) يرمز الى صهر الكنيسة والدولة معا.

ملحوظة: ليلاحظ القارئ الكريم، أن الأوروبيين كانوا يستشعرون أو يستلهمون ما كان يجري في الشرق (الإسلامي) ويحاولوا تقليده من باب المناددة.

(3)

تعاظم دور البابا شيئاً فشيئاً، فشرع انفصاله عن جسم دولة (أي دولة) وأصبح ينصب الملوك والأمراء، وأصبح يبارك الجماعات المدنية ويتصل بإدارات الجامعات والمصالح التجارية وكبار الفلاحين أو كبار مالكي الأراضي، حتى تكونت في البلاد الأوروبية ممالك عديدة أو الأجدر أن تسمى بالإمارات أو الإقطاعيات، وأصبح البابا وكأنه الإقطاعي الأكبر. وكان المقصود بذلك هو إنشاء إمبراطورية مسيحية كبرى مكونة من دويلات يباركها البابا ويكون مقاتلو تلك الدويلات في خدمة أهداف البابا.

حدث تململٌ صامت في منظمات المجتمع المدني، (جامعات مؤسسات، مصانع) وكان الغرض من ذلك التململ هو الحصول على استقلالية معينة من سلطة الكنيسة، أو بالذات عن (البابا)، فتم اقتراح انتخاب المجلس البابوي الذي ينتخب البابا، وحدث خلاف على من يحق له تعيين أعضاء المجلس البابوي، فكان الأمراء أو الملوك يسمون مندوبيهم ليكونوا قادرين على تنصيب البابا أو عزله، فانتبه البابا لذلك ومنع تسمية المندوبين من الحكام السياسيين.

الى أن جاء الصدام بين إمبراطور ألمانيا (هنري) والبابا (غريغوري)، حيث اتهم البابا الإمبراطور بأنه ملك متمرد على سلطة البابا وبالتالي فهو متمرد على الله، وتحالف الأمراء (الملوك الأضعف) مع البابا ضد الإمبراطور (هنري)، مما حدا بإمبراطور ألمانيا ببعث رسالة شهيرة يعزل فيها البابا جاء فيها: (من هنري الملك، لا بالاغتصاب، بل بقضاء إلهي ورع، الى (هلدبراند) الذي لم يعد الآن البابا، بل راهب مزيف).

ورغم أن أساقفة (ألمانيا) اصطفوا الى جانب ملكهم، إلا أن الانتصار أخيرا كان لصالح البابا الذي هددهم بالحرمان المسيحي، فذهب الإمبراطور (هنري) حافي القدمين وبقي يقف بالثلج ثلاثة أيام في كانون الثاني/يناير من عام 1077م، قرب مقر البابا في (كانوسا Canossa) فجاء غفران البابا له.

إن انتصار البابا (غريغوري) هيأ لروما أن تكون سيدة العالم المسيحي كله، وترعى المجتمع المدني من زاوية نظر بابوية بحتة.

(4)

لقد حدث انعطافٌ في القرن الثالث عشر، عندما وصل (توما الأكويني) الى باريس عام 1245م، حيث كانت العلوم العربية والفلسفة اليونانية المعاد صياغتها على أيدي الفلاسفة العرب، الى العودة لقراءة ما كتبه اليونانيون ونقله (العرب). فافترض (توما الأكويني) أن الكنيسة لا تختلف عن المؤسسات الدنيوية الأخرى، فالكنيسة ومنظمات المجتمع المدني الأخرى هي وحدات تشكل نظاما أخلاقيا يوحده حب الله وتسير على هدي هدفها المشترك في تحقيق الخلاص.

وقد استخلص (توما الأكويني) أنه ما دام يجب على العقل الإنساني ألا ينظم فقط الأشياء التي يستعملها البشر، وإنما أيضا البشر أنفسهم. ويضرب مثلا لموضوع استخدام العقل فيقول: أن الإنسان يتبع مسارا من البسيط الى المعقد: ففي حال الأشياء التي يستعملها البشر عندما يبني هؤلاء مثلا، سفينة من (الخشب)، وبيتا من (الخشب والحجر) وفي حال البشر أنفسهم عندما تنظم مثلا، مجموعة منهم لتكون جماعة معينة والجماعات لها تراتب ومنازل، وأن المرتبة العليا هي مرتبة المدينة التي تنظم الكثير من حاجات البشر.

(5)

الكل له الأسبقية الطبيعية على الأجزاء، حتى لو كانت الأجزاء أسبق من حيث النشوء. لكن الأفراد من البشر مرتبطون بالمدينة ككل مثلما ترتبط أعضاء الإنسان بالإنسان.

والآن لو حدث أن أحدهم كان غير قادر على المشاركة في المجتمع المدني بسبب من انحراف يعانيه، فإنه يكون أسوأ من الإنسان، بل هو وحش إن جاز التعبير. ومن جهة أخرى، إذا كان غير محتاج لأي كان وهو مكتف بذاته إذا جاز التعبير، فإنه أفضل من الإنسان لأنه إله، إذا جاز التعبير. ولذلك يظل صحيحا استنادا الى العقل، أن المدينة لها الأسبقية على الفرد الواحد.

لقد حاول (توما الأكويني) أن يكون قريبا من فكر (أرسطو المنقول له عربياً) لكنه كان (لاهوتياً) فابتعد عنه في النهاية، وأرجع علاقات الناس مع بعضهم ضمن منظمات المجتمع المدني يجب أن يكون مشروطاً برضا الله وتوفيقه.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-11-2009, 08:36 AM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الانشقاقات المبكرة

على الرغم من المساومة غير الكاملة التي طرحها (توما الأكويني)، استمر النزوع الى تحويل السيادة السياسية (Regnum) من فرع للجماعة المسيحية الى هيئة جماعية مستقلة للدولة، وبقي هذا النزوع يجد عداءً مستحكماً في دعاوى (البابوات) بأنهم يجب أن يشرفوا على الجماعة بكاملها.

كانت أطروحة (مارسيليوس) التي رأت أن مصالح المجتمع كلها يمكن حصرها داخل حدود الدولة الدنيوية، هي المفجر الذي قلب الموازين من سلطة الكنيسة الى المصالحة مع الكنيسة ثم أخيرا الاستغناء عن الكنيسة.

لقد اقتنص (دانتي أليجيري Dante Alighieri) فكرة من مارسيليوس مفادها: وجوب استعادة السلام المدني الذي عطلته الكنيسة بتطفلها في الشؤون الإيطالية، وادعاء البابوات بالحصانة الكنسية إزاء سلطة الدولة. فقد اعتبر هذه التعديات على واجبات الميدان السياسي مسئولة عن تقويض التوازن الذي رسم حدود مجتمع مدني مسالم على نحو معقول.

(1)

لقد ركز (دانتي) على مسألة واحدة، اعتبرها أساساً لفكرة الحكم السياسي (الأرضي)، وهي حاجة الناس للسلام والسكينة والأمن. فإن تحقق لهم ذلك فإن عطائهم وإنتاجهم وحركتهم نحو التقدم ستزيد، وبعكسه فإنهم يبقون في حالة خوف وعدم اطمئنان على مشاريعهم وأموالهم وحياتهم.

لكن، من سيقدم لهم العون في تحقيق ذلك؟ يجيب دانتي: إنها الحكومة الواحدة (حكومة عالمية واحدة!) التي يجب أن تكون مفهومة، بمعنى أنها تحكم البشرية على أساس ما نشترك فيه جميعاً وأنها تقود الجميع نحو السلام بقانون عام.*1

وإن وجود إرادة واحدة توجه الجميع هو الشيء الوحيد الذي يضفي معنى على تنوع الغايات البشرية. ف (الملِك) يخدم الله لأنه هو فقط من يستطيع (حمل البشر على الخضوع لنظام واحد من القبول والرفض).

ما دام الإمبراطور والبابا يمثلان (نوعين مختلفين من السلطة) التي لا يمكن المساس بها، فإن السلطة الزمنية للإمبراطور تتنزل مباشرة من الله دون توسط الكنيسة*2.

لكن دانتي كان على معرفة بحدود محاججته، فهو يعلم أن الإمبراطور الكلي للعالم لا يستطيع الإلمام بكل تفاصيل الحياة في مختلف الأقاليم، فقال: (إنه ليس من الخطأ القول إن كل تنظيم لكل مدينة لا يمكن أن يأتي من الحكومة العالمية مباشرة، لأنه حتى القوانين البلدية تكون أحياناً قاصرة وبحاجة الى تعديلات مستمرة.

(2)

كان لدانتي خصوم ألداء، فقد واصل البابا (إنوسنت الثالث Innocent III) و (إنوسنت الرابع Innocent IV) الإعلاء من مقام السلطة البابوية وادعاء السلطة على مجالات الحياة الدنيوية.

لكن (المرسوم البابوي Unam Sanctum) الشهير الذي أصدره البابا (بونيفيس الثامن Boniface VIII) عام 1302م دفع بالنزاع الى أشد مراحله تطرفاً بالنسبة للسلطة البابوية. وكرد فعل على سعي (إدوارد الأول Edward I) ملك إنجلترا و (فيليب الجميل ملك فرنسا) لفرض ضريبة على أملاك الكنيسة، فأعلن البابا، أنه لا سلطة فوق الكنيسة إلا سلطة الله.

لم تمنع الاحتجاجات الكنسية، الملك الفرنسي (فيليب الجميل) من إرسال جنوده للقبض على البابا بونيفيس الثامن، ولكن الموت سبقهم إليه.

(3)

انتقل الصراع الى (الكرادلة) الذين انتخبوا بابا على الفور، وواصلوا صراعهم مع السلطة ليبدأ قرن من الزمان سمي ب (الأسر البابلي 1309ـ 1378)، وضعت خلالها نظريات من قبل الكنيسة انشق عليها الراهب الدومنيكاني (جون الباريسي Dominican John of Paris) الذي دافع عن السلطة المستقلة للإمبراطور.

حُسم النزاع أخيراً لصالح الدولة القومية، بسبب التطورات الاقتصادية والسياسية، التي أنحى (مارسيليوس البادوي) باللائمة على البابوية بسبب الفساد والحزازات الفئوية والعنف المستشري في شمال إيطاليا، وقال أن الكنيسة أضعف من أنها تستطيع التماشي مع تلك التطورات وتساهم في تنظيم المسائل الدنيوية الأخرى. وتوقع (مارسيليوس البادوي) نهاية تقاليد العصور الوسطى برمتها.

وقد ساهم كتاب (مدافع عن السلمDefensor Pacis )*3 الذي ألفه (مارسيليوس البادوي) في معالجة الشرور الناجمة عن تعديات البابوية في الميدانين الروحي والزمني، وعواقبها السيئة على السلم المدني.

وبدأ مارسيليوس البادوي بالحاجات الإنسانية الأهم وتطلع الى أن تنظم الدولة المجتمع المدني حتى يتمكن الناس من العيش المشترك بسلام.

(4)

مما جاء بكتاب (مدافع عن السلم): (( لا يمكن للمجتمعات المدنية بوصفها مجتمعات ذات روابط منظمة سياسياً وأكثر سعة من العائلة أن تصبح مجتمعات كاملة ومكتفية ذاتيا كما أرادها الله من دون وجود السلام. فالبشر يحيون نوعين من (الحيوات) الخيرة: الحياة الزمنية والكونية والحياة الأبدية السماوية والمجتمع المدني هو منزل الحياة الأولى، وهو يشمل المدى التام لحياتنا على الأرض. ولكونه وجد أصلاً من أجل الحياة، فإنه يتشكل من الفصل في النزاعات وحبس المخالفين ومعاقبتهم، وحماية ما هو مشترك، والإعلاء من قيمة عبادة الله وتمجيده. أما حياة الكنيسة فمتضمنة ومحددة بالمؤسسات السياسية لمجتمع مدني دنيوي)).

رفض (مارسيليوس البادوي) لوجود أي صلة بين عمل الدولة وعمل الكنيسة، ودعا الكنيسة الى الانشغال بالدراسات اللاهوتية، وترك الشأن السياسي والدنيوي لسلطة الحكومة.

انتهى الفصل الثاني (الصفحات 73ـ 119)


هوامش
*1ـ ليلاحظ القارئ الكريم، أن تلك الأرضية الفلسفية كانت ولا زالت تغلف الخطابات السياسية والأيديولوجية التي توجه الإمبراطوريات في توسعها، زاعمة أنها وحدها القادرة على القيام بذلك.. فالمعارك الإغريقية والرومانية والفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية وحروب نابليون بونابرت وهتلر وبوش كلها تندرج تحت هذا المعنى.

*2ـ تعتبر هذه أول إشارة لتحدي (الهرمسية) التي سادت ردحا من الزمن ولا زالت جذورها قائمة في العالم. وهذه الظاهرة تكونت بعد موت نبي الله (إدريس) عليه السلام، حيث حار الناس بمن يكون إدريس(هرمس): هل هو الله أم ملك من الملائكة؟ فتم الاتفاق على أنه وكيل الله في الأرض، فكان شكل البابا في الفاتيكان أو في الكنيسة الأرثوذكسية أو القبطية ممثلاً لله في الأرض، وقد كان للمراجع الدينية (الشيعية) شكلاً قريباً من ذلك.

*3ـ كتاب فيلسوف إيطاليا (مارسيليوس البادوي)، وهو أحد الكتب الأساسية في النظرية السياسية خلال العصور الوسطى. كُتب في باريس بين عامي 1320 و 1324م انتقد فيه السياسة البابوية وبعد أن ذاعت شهرته هرب الى بافاريا الى بلاط الملك لويس الرابع. [ هذا من تهميش المؤلف].
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-12-2009, 10:32 AM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الثالث:

المجتمع المدني والانتقال الى الحداثة

الفضيلة والسلطة

إن الحقب الانتقالية ليست يسيرة على الإطلاق، والانتقال الى الحداثة ليس استثناء. فلقد أسفر انحلال الحياة الدينية، والسياسية، والاقتصادية في القرون الوسطى الى استشراء قدر عظيم من الفوضى والاضطراب، حال دون بلورة نظرية متسقة عن المجتمع المدني.

كان من الواضح أن المقولات القديمة لم تكن وافية، ولم تكن المقولات الجديدة قد برزت بعد، ولم يعد بالإمكان فهم المجتمع المدني بوصفه جماعة سياسية ودينية شاملة، ولكن البنى الاقتصادية والسياسية الحديثة كانت لا تزال في طفولتها الأولى. وكانت السلطة النامية للأسواق القومية والدول القومية تَطحَن لبعض الوقت بُنى الإقطاع التراتبية للمكانة والرتب والطبقات الاجتماعية قبل الهجوم المدمر الذي شنه عصر النهضة وحركة الإصلاح.

(1)

كانت مرحلة التحول تلك مشوبة بفسادٍ سياسي، جعلت من المفكرين في ذلك العصر أن يشغلوا عقلهم في الخلاص مما كانت الدولة تمر فيه، فقاد هذا الوضع (نيكولاي مكيافيللي) الى حسم العلاقة بين ما هو دنيوي وما هو ديني، ولكنه لم يستطع الخروج عن المقولات الجمهورية المألوفة.

إن اقتصاد السلطة الدنيوية الذي جاء به مكيافيللي، وحرية الضمير التي نادت بها حركة الإصلاح المدني استبقت نشوء مجتمع مدني منظم على أساس المصالح الخاصة. وأعلن (توماس هوبز) ميلاد فرد مصلحي جديد ينشط في مجتمع مدني تنظمه سلطة الدولة. وإن هي إلا مدة قصيرة حتى انهارت محاولة العصور الوسطى لفهم (الكنيسة والدولة) بوصفهما سلطتين تشريعيتين متكاملتين لجماعة مسيحية واحدة.

انتقد مكيافيللي تمركز السلطة في كل من الكنيسة والاستبداد الملكي على حساب نظام مركب من المؤسسات الوسيطة والأديرة والبرلمانات والمدن والأصناف الحرفية والطبقات الاجتماعية التي ميزت مشهد النظام الإقطاعي في أواخر عهده.

(2)

ركَزَ مؤلف الكتاب (جون إهرنبرغ) على أبرز ما تناوله كتاب (الأمير) لمكيافيللي، ومن يتمعن بالنقاط التي ركز عليها المؤلف، سيتعرف على حِراكٍ كان قائماً في تلك المجتمعات الآخذة بالتحول، لتقود في حراكها التوجهات السياسية لدى النُخب الأوروبية لما آلت إليه العلاقة بين الدين والدولة.

يقول مكيافيللي: إن النظام السياسي المتين يستند الى رضا السكان، ويستلزم احترام عاداتهم، واحترام أسس النظام الاجتماعي القائم. فالأمير (يجب أن لا يغير قوانينهم ولا ضرائبهم) وأن يحذر من التصرف غير المحتشم مع النساء، ويحاول أن يحكم المدن المفتوحة من خلال مواطنيها ومؤسساتها هي بالذات. وقبل هذا وذاك، من الضروري ألا يغفل الأمير أبداً عن العنصر الأهم المتمثل في أملاك رعاياه الخاصة، فعلى الأمير (أن يمنع نفسه بممتلكات الآخرين، لأن الرجال ينسون موت آبائهم أسرع من نسيان ضَيَاع ممتلكاتهم)

تعليق:

كان الأمراء في أوروبا في تلك الحقبة، إذا ما رأوا بستاناً ذا حدائق غناء أمر رجاله بطرد أصحابه وضمه لممتلكاته، وإذا ما رأى فتاة أو امرأة جميلة، أمرهم بإحضارها وقتل من يريد الدفاع عنها (زوجها، أو والدها). هذا الأمر ظهر بكتابات (مونتسكيو) عندما طالب أنه لا يجوز قتل شخص إلا بقانون، ولا يجوز الاستيلاء على أرض إلا بقانون، ولا يجوز سن قانون إلا بموافقة ممثلي الشعب، وكانت تلك النواة الأولى لفكرة الديمقراطية الحديثة.

ولو عدنا في منطقتنا العربية، الى بداية القرن العشرين، لرأينا تصرفات الإقطاعيين لا تختلف كثيراً عن تلك التصرفات، فكان الإقطاعي يعبث بعفاف نساء الفلاحين لديه، وله زبانيته الذين يصدون من يعترض، من خلال حظوات اكتسبها الإقطاع في الفترات التي سبقت انهيار الإمبراطورية العثمانية. وما أن أخذت الدولة العربية بالتكون، حتى شاهدنا من فقدوا امتيازاتهم الإقطاعية يهرعون للوقوف ضد التغيير، تارة بالتباكي على زوال (دولة الخلافة!) وتارة بزعمهم معاداة التقليد الغربي. وهم بالحقيقة لا يهمهم سوى ما فقدوه من امتيازات، ولا زالت تلك الفئات وما شابهها تشكل عائقاً كبيراً أمام الانتهاء من تشكيل الدولة العربية الحديثة التي تخلو من لوائح الاستثناءات والمستثنيين.

(3)

يقول مكيافيللي: ( إذا كان الأمير هو الذي يبني سلطته اعتماداً على الشعب، وكان رجلاً قادراً على القيادة وشجاعاً، غير آيسٍ في ساعات المحنة، وغير هياب من اتخاذ التدابير، حائزاً الولاء بفضل المؤسسات التي شادها، وبما له من صفات شخصية، إذا كان الأمير كذلك فلن يخذله الشعب مطلقاً، وسيكون قد شاد سلطته بإحكام)

ويقول في مكان آخر: (على الأمير أن يشجع الرجال المقتدرين، ويُكرم المتفوقين في أعمالهم. وعليه أن يوفر الأسباب ليمضي المزارعون والصناعيون والتجار بأعمالهم بسلام، فعلى المرء ألا يخشى من تحسين ممتلكاته مخافةً أن تُسلب) و (عليه أن يُدخل البهجة في أوقات مناسبة من السنة في قلوب الناس من خلال الاستعراضات والمهرجانات).

وما دام أن مجتمع المدينة مقسم الى أصنافٍ حرفية وعائلية فيجب أن يحظى كل صنف برعاية تحسسه بمواطنته وعضويته في حلقة أو دائرة في المجتمع المدني.

(4)

إن في كل جمهورية نزعتين مختلفتين: نزعة العامة ونزعة الطبقة العليا، أما التشريع الملائم للحرية فيتحقق نتيجة الفهم للصراع بينهما. لا يمكن إزالة الصراع الاجتماعي، ولكن يمكن جعله صراعاً مدنياً من خلال مؤسسات مناسبة، وحياة عامة نشطة، وقيادة خلاقة.

تسقط الدول عندما ينحط الصراع الاجتماعي الى مستوى نزاعٍ سياسي. بيد أن مكيافيللي كان واثقاً من أن مثل هذا الصراع يمكن أن يعزز الحرية إن تمكنت المؤسسات السياسية من حل الجدالات الحتمية التي تنشأ عن الصراع الطبقي أو عن المصالح الشخصية.

عندما يتم تعيين أو انتخاب المدافعين عن العامة فإن النظم المستبدة الملكية ستتحول الى دول أرستقراطية ثم تواصل طريقها للتحول الديمقراطي.

(5)

تحمل كل الدول بشكل طبيعي جرثومة الانحطاط، فالقوة والثروة الزائدة مع غياب المؤسسات التي تصون الدولة، تسحبان الدولة الى الفساد رغم وجود تألق ثقافي.

وأحياناً يكون ضغط العامة لإيجاد وظائف لمدافعين عنهم، تجعل هؤلاء المدافعين يدخلون في نزاع أو تفاوض مع النبلاء وعلية القوم (في الدولة التي لم تصل بعد الى الديمقراطية) لتقاسم الألقاب والامتيازات. وهذا سيقود الى إجهاض حالة الصعود في تشكيل الدولة الصلبة.

إذا كان العامة يرغبون في قبول فقرهم لأنهم حظوا بالتمثيل السياسي (فالفضيلة كانت تُلتمس مهما يكن البيت الذي تقيم فيه. فجعلت طريقة الحياة هذه من الثروات أقل جاذبية). ولكن تبين أن ضغط طبقة النبلاء المتواصل، واشتداد قلاقل العامة، وفشل المؤسسات السياسية، هي توليفة قاتلة.

(6)

من هنا تأسست فكرة ضرورة إيجاد المجتمع المدني بمؤسساته الفاعلة، فالبرلماني الذي لا ينتمي الى هيئة اجتماعية تساعده في تكوين رأيه واتخاذ موقفه المنسجم مع موقف الدائرة الاجتماعية التي أوصلته للبرلمان، وتحاسبه إذا ما انحرف، سيكون منشغلاً منذ اليوم الأول في تحقيق مكاسبه الشخصية على حساب مصالح المؤسسة المدنية (مؤسسة المجتمع المدني) التي انتخبته. وهذا ما يجعل من الانتخابات البرلمانية المنقوصة في كثير من البلدان، عبئاً إضافيا على المجتمع ودولته وميزانيته، ويقود الى الفساد وخراب الدولة.

يتبع
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 22-12-2009, 11:49 PM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

المجتمع المدني والضمير المتحرر

لقد كانت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا تدور حول فكرة (مارتن لوثر) بأن هناك دوراً مركزياً للتجربة الباطنية للإنسان، التي تقلل تماما من قيمة الخدمات الظاهرية التي يؤديها رجال الدين. وكان لهذا الدفاع عن ميدان الحياة الشخصية الذي لا يمكن النفاذ إليه أثره العميق في مفاهيم المجتمع المدني الحديثة.

دخل مارتن لوثر في صراع مع الكنيسة من خلال طرحه لتساؤلات هامة فتحت الأبواب لجذب الأتباع مثل: (لماذا يناصر الله الباطل؟ [باعتبار سلوك الكنيسة في زمنه وحسب رأيه باطلاً] و (الله لا تسترضيه الأفعال الظاهرية). أدار مارتن لوثر ظهره لعالم مسيحي استند الى تراتبية وسلطة كنسيتين.

(1)

لا يمكن معالجة مفهوم النعمة الإلهية باعتبارها ثمرةً لصفقة تنال فيها الكائنات البشرية رضا الله بموجب أفعال ظاهرية. فلا البابوات ولا القرابين المقدسة ولا القوانين ولا القساوسة ضروريون لأجل الخلاص. فالتعبد، والطقوس، والشعائر الدالة على الخضوع الظاهر لم تكن بدائل مقبولة عن طهارة القلب والعقل.

يقول لوثر: إن الضمير هو مركز الإيمان، (( فلا البابا ولا الأسقف ولا أي كائن آخر له الحق في فرض أمر واجب على الإنسان المسيحي من دون رضاه)).

لم يتنكر مارتن لوثر للقول المسيحي القديم القائل بأن المرء يعيش حياته من أجل الآخرين، ولكنه اعتبر أن الأعمال التي لا تنبع من الإيمان بالله ونيل رضاه، لن تكون أعمال خير حتى وإن بدت كذلك، فالصالح بإيمانه يأتي بأعمالٍ صالحة والطالح يأتي بأعمالٍ طالحة. وهذا كله يعود لنقاء الضمير.

(2)

كان لوثر يأمل في أن تقوم الكنيسة بإصلاح نفسها، ولكنه اكتشف أنه لا يمكن أن تقبل الكنيسة بأدوار صغيرة، فلجأ حينها بالاستعانة بالسلطة الدنيوية لمعالجة وضع الكنيسة، لكنه أدرك فيما بعد أن مسائل الإيمان لا تقع ضمن مسئوليات الأمراء، وأن المجمع الكنسي هو فقط من يستطيع تناول المسائل اللاهوتية، فانحرف باتجاه أن مسئولية المجتمع المدني (المواطنين بهيئاتهم) هي من مسئولية الأمراء، وطالما أن هذا المجتمع يتعرض لحيف من الكنيسة، فعلى الأمراء التصدي للكنيسة من أجل إصلاحها.

سرعان ما جابه لوثر المواقف الثلاثة الجوهرية السائدة في زمنه وهي: أولوية السلطة الروحية على السلطة الدنيوية، والحق البابوي في تأويل الكتاب المقدس، والسيادة البابوية على المجمع الكنسي العام. فشرع في تهديم كل واحد من هذه الجدران الثلاثة على التعاقب.

(3)

رفض لوثر المزاعم القائلة بأولوية السلطة الروحية على السلطة الدنيوية، وعمل على إقامة أساس لاهوتي للفصل بين الكنيسة والدولة، وهذه الخطوة الأولى الحيوية نحو قيام نظرية حديثة عن المجتمع المدني. وأعلن أن للمسيحيين مهمات مختلفة في العالم ولكنهم جميعا أعضاء متساوون في الكنيسة وإن التقسيم الاجتماعي للعمل لا ينطوي على تراتبية متفاوتة في الشرف أو الخلاص.

إن جميع المسيحيين ـ القساوسة والحدادين والمزارعين والأساقفة والإسكافيين والأمراء سواء بسواء ـ مسؤولون الواحد عن الآخر وعن المجتمع ككل. إن تمايزات المجتمع المدني المميز لا تمس البتة في مساواة المؤمنين. وإن النظام الدنيوي ضروري للروحي.

كان لوثر بكلامه هذا، يبرر مسبقاً للأمراء بأن يتدخلوا في شؤون الكنيسة كون القساوسة رعايا مثلهم مثل بقية المواطنين.

وعند الجدار الثاني: أي تأويل الكتاب المقدس وحصره بالبابا، فقد قال أن مفاتيح الفهم قدمت لجميع المؤمنين فكل المؤمنين قساوسة وكلهم بابوات.

أما الجدار الثالث، وهو سيادة البابا على المجمع الكنسي العام، فقد استنبط لوثر منفذاً يسمح للمؤمنين بمحاكمة المجمع الكنسي إذا ما لعب به الشيطان، وهنا يكون للأمراء ـ كونهم من المؤمنين ـ الحق في محاكمة المجمع الكنسي وليس البابا وحده.

(4)

عندما أحرزت حركة لوثر زخما قويا، ذهب الى أبعد من ذلك، فطالب الأمراء بوقف (البهرجة) في طقوس الرهبان وملابسهم، ودعا الأمراء الى إجبار القساوسة على الزواج، وطالبهم برفع أيديهم عن تنظيم التجارة والصناعة، كان هذا في مسودة قدمها عام 1520.

إن فكرة المساواة والضمير، فتحت الأبواب أمام الفلاحين والأجراء ليقوموا بثورتهم عام 1524ـ 1525، فقاد لوثر (المستعين بالأمراء) الى الوقوف ضد تلك الثورات، مبررا أن تساوي الأرواح لا يعني تساوي الأجساد، ويخطب بالعبيد والفلاحين: ألم يكن للأنبياء عبيداً وخدماً؟

يجوز للعبد والمريض والسجين أن يكون مسيحيا ولكنه ليس حراً!

على المسيحيين أن يطيعوا السلطات الدنيوية لضمان الاستقرار ولأن السلطة تمنع تسلل اللاأخلاقيين وتمنع الشرور، اعبدوا الله بضمائركم وأطيعوا السلطات. هذا موقف لوثر.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-01-2010, 10:55 AM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

السيادة، والمصلحة، والمجتمع المدني

كان ظهور كتاب (اللوياثان Leviathan) في العام 1651 البرهان البالغ الأهمية الذي قدمه (هوبز) على أن المجتمع المدني لا تقوم له قائمة من دون سلطة الدولة. فجهده القوي لإظهار "قلب" و "أعصاب" و"مفاصل" الجسم السياسي انتهى الى نتيجة مؤداها أنه يجب دمج هذه الأعضاء في مصدر مهيمن واحد، إذا كان يُراد للمجتمع المدني أن ينتظم، وللسلم المحلي أن يتوحد.

إن إيجاد (كائن مصطنع Artificial Man) تُنفخ فيه (روح سيادة مصطنعة Artificial Soul of Sovereignty) هو وحده الذي يستطيع أن يُنزل نِعَم الحضارة للأفراد الذين تتأتى أخطارهم الجماعية من مساواتهم ورغباتهم. لقد بحث (هوبز) المذعور من الثورة الإنجليزية، عن ملاذٍ في إقامة دولة ذات حدود مشتركة مع المجتمع المدني، ومؤسسة لهذا المجتمع الذي يُفهم، بحسب التعبير الحديث، ميداناً يمور بنشاط المصلحة الشخصية.

(1)

إن مخطط نظرية هوبز العامة معروف بما فيه الكفاية (القول للمؤلف). فانعدام الأمن المستشري الذي يقدم له المجتمع المدني علاجاً هو النتيجة الحتمية لرغبة الإنسان الدائمة في حيازة السلطة لغرض حماية نفسه. ونتيجة انعدام الأمن هذا، فإن جوع الإنسان الى مراكمة السلطة ـ " وسائله الحالية للظفر بخير مستقبلي ظاهر *1 " ينتقل به من شيء الى آخر، وإحرازه لشيء ما هو إلا مجرد حافز لإحراز شيء آخر أيضاً.

إن الفرد الجديد الذي يحسب حساب المصلحة (Calculating Individual) يحدد لنفسه أهدافه الشخصية في غياب " الخير الأعظم " الذي سوف يقصده الناس كافة طواعيةً.

إن الإنسان يأمل في الحصول على لذةٍ أكبر مما كان قد حصل عليه، أو أنه لا يستطيع الاقتناع بسلطة معتدلة. إن الحاجة الى مراكمة المزيد من السلطة أمر ملازم لجوهر الشرط الإنساني.

إن هذه "الرغبة في حيازة سلطة إثر سلطة " يشكل تهديداً عارما باندلاع حرب بلا نهاية ما لم توضع هذه الرغبة تحت السيطرة. والمفارقة العظيمة في حياتنا الإنسانية هي أن رغبتنا البسيطة في الأمن، وقابلياتنا المتساوية في العدوان، يسفران معاً عن وضعٍ لا يُطاق.

عندما يرغب الناس في الأشياء نفسها و (لا توجد سلطة قادرة على إرهاب الجميع) فإن الاضطراب المتساوي والقابليات المتساوية والرغبات المتساوية تنتج حالة حرب دائمة.

في ظرف كهذا لن تكون ثمة صناعة؛ لأن ثمارها غير مؤكدة، ولا حراثة للأرض؛ ولا ملاحة للبحر، ولا فائدة مرجوة من استيراد البضائع عبر البحار، ولا عملية بناء واسعة، ولا وسائل للنقل، أو لرفع تلك الأشياء التي تحتاج الى قوة؛ ولا معرفة لنا بوجه البسيطة؛ ولا تقدير للزمن؛ ولا فنون؛ ولا آداب؛ ولا مجتمع، لن يكون هناك سوى الأسوأ: خوف دائم وتحسب من خطر الموت العنيف؛ وحياة يقضيها الإنسان منعزلاً وبائساً ومقرفاً ومتوحشاً وفظاً، حياة قصيرة*2

(2)

من المستحيل قيام المجتمع المدني من دون (سلطة عامة)، ولسوف تجعل فوضى الشرط الطبيعي الإنساني من الحياة نفسها أمراً مستحيلاً. والمفارقة العميقة هي أن كل فرد يعتمد على عقله الشخصي ينتهي سريعاً الى وضع لا يُطاق بالنسبة للجميع.

ليس بوسع الناس العيش بسلام ما لم يرغبوا في التخلي عن (حقهم في الأشياء كلها)، ويقنعوا بدرجة محدودة من الحرية. ينتج عن هذا التخلي عن حساب مصلحي معين، مفاده أن منافع السلم تفوق ما يخسره الناس حين لا يعولون على فطنتهم أو لا يكونون هم من يبت في المسائل التي تهمهم.

لا تقوم للمجتمع المدني قائمة ما لم تُنفذ العهود وتُحترم الاتفاقيات. فإذا ما وثق الناس بأن الآخرين قادرون على السيطرة على أنفسهم، يكون بوسعهم العيش معاً بقدر كبير من الاطمئنان.

يجب أن تكون هناك سلطة قسرية تجبر الناس، سواءً بسواءٍ، على تنفيذ مواثيقهم من خلال رادع العقاب الذي يكون أعظم بكثير من المنفعة التي يتوقعونها من نقضهم للميثاق*3

(3)

إن العنصر المهم في المجتمع المدني لدى (هوبز) يعود الى الجماعة المنظمة سياسياً، ويعني ذلك صهر الدولة (المجتمع الحاكم) مع المجتمع (الكلي)، بتأسيس طوعي واتفاق دائم بين الطرفين لإتاحة حرية التعبير لمنظمات المجتمع المدني في معاونة الدولة (الحكومة) وردعها بحالة انحرافها، فهذا يصنع عقلاً عاما يحمي المجتمع.

إن الطريقة الوحيدة لإقامة سلطة عمومية كهذه، سلطة قادرة على الدفاع عنهم بوجه غزو أجنبي، وبوجه المظالم التي يسببونها بعضهم لبعض، وبذلك يحيون في طمأنينة عندما ينالون قوت يومهم بنفس راضية بمعونة الصناعة أو غلال الأرض، هي نقل سلطتهم كلها الى شخص واحد قوي أو الى مجلس من الرجال يصهر إراداتهم كلها من خلال تعددية الأصوات في إرادة واحدة، فيقر كل واحد من أبناء المجتمع بما يفعله أو يقرره ذلك الرجل.

إن العمل السياسي هو الذي يؤسس المجتمع المدني، وليس ثمة اختلاف بين القانون والأخلاقية، وتوضع السلطة كلها في يد صاحب السيادة، أما القوة فهي التي تشكل الدولة والمجتمع المدني بالطريقة نفسها.

خاتمة لهذا الفصل

لم تحظ أفكار هوبز تلك بإعجاب عام في وقتها، أي في القرن السابع عشر، لأنه حصر السلطة في فرد ينال شرعيته من وسائل تحددها منظمات المجتمع المدني المنصهرة مع الدولة (الحكومة) من خلال لوائح داخلية تستند الى دستور ينظم علاقة الجميع.

لكننا في الوقت الحاضر ومن خلال تصفحنا للكتابات السياسية والفكرية التي صدرت في القرن الماضي (العشرين) وما يصدر من كتابات في هذا القرن، فإننا لا نستطيع تجاهل نظريات ذلك المفكر والفيلسوف وتأثيره على المفكرين الحاليين في مختلف أنحاء العالم.

يتبع



هوامش من تهميش المؤلف

*1ـ Thomas Hobbes, Leviathan, Edited by C.B. MacPherson (New York: Penguin 1985, p150.
*2ـ المصدر نفسه صفحة 186.
*3ـ المصدر نفسه صفحة 202


__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-01-2010, 01:42 PM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

القسم الثاني: المجتمع المدني والحداثة

الفصل الرابع: نشوء (الإنسان الاقتصادي)

عندما أخضع نيكولاي مكيافيللي الإيمان لمصالح الأمير والجمهورية المدنية، أحدث قطيعة مع العصور الوسطى. وأفرَد تشديد مارتن لوثر على حرية الضمير الفردي قوة كبيرة للسلطات السياسية التي كانت مسئولة عن تنظيم المجتمع المدني حول الحاجات الظاهرية لمجتمع مؤمن. والكثير من هذا يصدق على إعلان (هوبز) أن المجتمع وُجِدَ بسبب فاعلية قوة السلطة التي يتمتع بها صاحب السيادة وحده. ما من شخصية من هذه الشخصيات الانتقالية الثلاث السابقة قد عول على القوى السماوية لتطبيق المعايير العامة التي تمكن من تعيين الأهداف الجزئية والسعي وراءها.

الحقوق، والقانون، والميادين المحمية

(1)

في دفاع (جون لوك) عن (الثورة المجيدة) في إنجلترا، لم يبدأ بمهاجمة (هوبز) بل هاجم حجة البلاط القائلة أن السيادة شكلٌ للملكية يمكن أن يورث من ملك الى ملك، وهي حجة كانت أسرة ملوك ستيوارت (1603ـ1688) تسوقها لحقبة طويلة لدعم مزاعمها بالسلطة المطلقة.

جادل (جون لوك) بأن سلطة الدولة اللامحدودة سوف تقوض الأمن الذي صُممت هذه السلطة لحمايته أصلاً، وسوف تجعل من قيام المجتمع المدني أمراً مستحيلاً. كان (هوبز) قد فشل في مسألة أن الحفاظ على الذات لم يعد بحاجة الى سلطة صاحب السيادة، السياسية الآمرة، فالحفاظ على الذات يمكن أن يندمج الآن مع حماية الملكية.

إن الأرض وُهبت في الأصل لجميع بني البشر كي ينعموا بطيباتها، ولكل فرد الحق في أن ينال رزقه من هبات الطبيعة. يقول (لوك): (لكني سأحاول أن أبين كيف تسنى للناس أن يتملكوا بضعة أجزاء مما وهبه الله للبشر جميعاً، ومن دون أي اتفاق صريح بين عامة الناس)!

تعليق مبكر:

حاول لوك أن يبين في الفقرات التي ذكرها مؤلف الكتاب عن الكيفية التي يمكن للفرد أن يتملك بها، فذكر الجهد وحماية الدولة لملكية الفرد، ولم يتطرق لهبات الدولة للأفراد أو استغلال أصحاب المال لحاجات الناس للتخلي عن أراضيهم مقابل بعض المال الذي تحدده الحاجة، ولم يتطرق للأراضي التي تنتقل للإفراد عن طريق الإرث بغض النظر عن الطريقة التي حصل عليها الآباء والأجداد.

وهذه مسائل دار ويدور حولها النقاش الاقتصادي في مدارس الفكر السياسي المختلفة من اشتراكية ورأسمالية وغيرها.

(2)

المجتمع المدني الذي وفر الفعل السياسي فرصة قيامه، وأسسته حاجات المِلكية الخاصة، لم يخلق أي حقٍ جديد، بل سجل فقط نقل السلطة التي كانت بيد الأفراد لحماية أنفسهم في حال الفطرة الى سلطة عامة شرعية. فالناس شكلوا المجتمع المدني لأن قوة مصالحهم الجزئية جعلت من الصعوبة بمكان تنظيم سلطة عامة (لغرض تنظيم المِلكية الخاصة وحفظها).

أراد (لوك) أن يقول: أن الغاية الرئيسية للرابطة الإنسانية، في المجتمع المدني، كما هي الحال قبل التفكير فيه، كانت حماية المِلكية الخاصة، فعندما كان الإنسان العاقل يثق بقدراته للدفاع عن مِلكيته الخاصة لم يفكر في تأسيس تقليد جديد يتم فيه التعاون مع الأفراد الآخرين للدفاع عن تلك المِلكية، وعندما أحس بعقله أنه لم يعد باستطاعته الدفاع عن تلك المِلكية، دون التعاون والتنسيق مع الآخرين، فكر بموضوع المجتمع المدني.

يتدرج لوك في تفكيره لشرح موضوع المجتمع المدني انطلاقاً من (الحفاظ على المِلكية فيقول: (السلطة التي يملكها كل إنسان في حال الفِطرة (الطبيعة) ويتخلى عنها للمجتمع ومن ثم للحكام الذين نصبهم المجتمع عليه بثقة صريحة أو ضمنية، لتستخدم من أجل صالحهم، وحفظ ملكيتهم).

(إن الغاية العظيمة والرئيسية للناس المتحدين في جماعات سياسية، يضعون أنفسهم تحت قيادة حكومة، هي المحافظة على ملكيتهم)

(إن أولئك المتحدين في هيئة واحدة، ولديهم قانون ونظام قضائي راسخان وعموميان يمكنهم أن يحتكموا إليهما، ويتمتعون بسلطة للفصل في النزاعات التي تنشب بينهم، ومعاقبة المعتدين، أقول إن أولئك إنما يعيشون في مجتمع مدني: أما أولئك الذين يفتقرون الى مرجعية في هذا العالم يحتكمون إليها فما زالوا في حال الفطرة. فكل واحد منهم، بمعزل عن الآخرين، يحكم وينفذ لنفسه بنفسه).

(3)

لقد كان لتركيز (لوك) على المِلكية الخاصة، والحقوق التي يجب حمايتها من قبل الدولة، أثرٌ بل آثار في تشكيل الليبرالية الحديثة، حيث أصبحت النظرة الأساسية في هذا النمط من التفكير، هو خلق الثروة ومراكمتها.

لقد راق للمفكرين خلال قرن من الزمان فصل بين (جون لوك) الذي فَصَل في كتابه (رسالة ثانية في الحكم) وبين كتاب (آدم سميث) المدوي (ثروة الأمم)، لقد راق لهم فكرة أن المِلكية مستمدة من الطبيعة وليس من العرف أو الامتياز، فنشط المفكرون خلال قرن كامل والذي يسمى بقرن أو عصر (التنوير) في استخدام الحق الطبيعي لتقويض السلطة القائمة على خرافة التفويض الإلهي للحاكم المفوض بموجب مباركة الكنيسة.

وافق جميع المفكرين تقريباً على أن الملكية الخاصة شرط ضروري للاستقلال الخلقي. فبقدر ما يكون الفرد حائزاً على ممتلكات، يكون حُراً في إعمال عقله ومقاومة الخوف والخنوع.

بيد أن النزعة الفردية لم تفضِ بسهولة الى نشوء نظرية متماسكة عن الواجب السياسي، وكان مفكرو عصر التنوير الأوائل عُرضة لاتهام مفاده أن استقلالية الشخص العقلاني تهدد التكافل والمجتمع. فجاءت محاولة (آدم سميث) الشهيرة في نهاية هذا العصر للتوفيق بين الرغبة الخاصة والفضيلة العامة.

هوامش:
* جون لوك: فيلسوف إنجليزي تجريبي ولد في 29/8/1632 في إقليم سمرست، مارس الطب، كان ناصحاً لأنتوني آشلي (وزير العدل الإنجليزي) بعد أن أجرى له عملية جراحية، ففتحت صداقته معه عيونه للانصراف للفلسفة وأمور الدولة، كان معروفاً بأنه الفيلسوف المعادي للفطرية[ من موسوعة الفلسفة/ عبد الرحمن بدوي/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت ط1/1984 صفحة 375 من الجزء الثاني].
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .