العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة بـــوح الخــاطـــر > خيمة كتاب روائـع الخـواطر

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: الرواسى فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرغب في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: اسم فرعون بين القرآن والعهدين القديم والجديد (آخر رد :رضا البطاوى)       :: القضاء في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطمع في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الاستنباط في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: المواقيت فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: العفاف فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرد على مقال هل سورة يوسف من القرآن؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: التسنيم فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 30-11-2009, 05:32 PM   #1
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شظايا ذاكرة ..
(6)




الخامس من شباط 1961 (من أيام سعد ذابح )

كانوا يتجمعون حول (نقرة) تم حفرها في جزء من مكان جلوس كبير العائلة، ولم يكن كبير العائلة كبيرا للعائلة فحسب، بل كان كبيرا لعشيرته التي لم يلحظ أحد أنه خلصها من أي شر أحاط بها ذات يوم .. كان كرمه لا يقف عند حد فقد باع 150 هكتارا من أخصب الأراضي ليتلذذ بنعيم الدنيا، وقد كانت تلك الأراضي دية والده الذي قتل قبل ثلاثين عاما .. فقد كان يسافر لمصر ليسمع ما يغني سيد درويش، وكان هو الوحيد الذي يمتلك (مكوى فحم) يكوي به ملابسه ..

كان أبناء عمه الأربعة وابن أخته وهو ابن عم له قتل وهو يحاول أخذ الثأر بدم والده، لا يكنون له مشاعر ود، ولكنهم اعتادوا على الجلوس في ديوانه بانتظام، وكونهم استنزفوا ما لديهم من قصص، فقد كان الحديث المشروع والذي يبدو جديدا، هو الحديث عن الطقس (الحالة الجوية) .. فلا بأس أن يُعاد سرد أسباب تسمية أقسام (خمسينية الشتاء) الأربعة: سعد ذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الخبايا .. فالقصة الأسطورية تقول: أن أربعة من الأخوان قد سافروا ذات يوم في الشتاء وهم يركبون جمالهم .. ولكن البرد قد قتل ثلاثة منهم، ولم يبق إلا واحد اسمه (سعد)، فذبح (ناقته) وعمل من جلدها خيمة احتمى بداخلها، لمدة 12.5 يوم، وهي الفترة التي يطلق عليها بالتقويم (الفلاحي) اسم (سعد ذابح) والتي تبدأ من الأول من شباط/فبراير وتنتهي في منتصف الثالث عشر منه.

كان هناك من يذكر تلك القصة في جو مشبَع بدخان الحطب الرطب، فلا يكاد المرء أن يميز وجه أخيه وتعابيره، هل هو منشرح لتلك الأخبار أم مستاء .. وعلى أي حال لم يكن أحد ينتظر تزكية موضوعه إن كان جيدا أم رديئا.. فالصمت قاتل ولا بد لأحد أن يتطوع لكسر الصمت، بقصة أو حتى سعال، فليس هناك من يرفع يده معترضا (نقطة نظام!) ..

لكن كبير العائلة اعترض على السرد، وأخرج (مكتوبا) قد وصل من أخيه غير الشقيق من مصر، حيث كان لاجئا سياسيا، يقول في جزء منه: أنه يستطيع أن يرى رئيس الجزائر (بن بللا) وهو يجلس في القاهرة (وكان يقصد التلفزيون) ، فاعترض ابن عمه الثالث من حيث العمر، وكان الوحيد من العائلة الذي لم يستطع القراءة، قائلا : (ضبوا هالخاير ) أي اخفوا هذا المكتوب ولا تتحدثوا فيه فإن سمع الناس ما جاء فيه سيتهموننا بالكذب ويمكن أن يتهموننا بالجنون!


__________________
ابن حوران



__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 05:33 PM   #2
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شظايا ذاكرة ..
(7)




بداية خريف 1961

كان ابراهيم رحمه الله طفلا يافعا وجهه أصفر، لا يحب أن يسأله أحد عن اسمه، ولا يحب أن يوجه إليه المدرس أي سؤال .. وكان المدرس يعرف ذلك جيدا .. لأنه حتى لو كان السؤال عن كونه مستيقظا أم نائما .. فإن ابراهيم يدخل بنوبة بكاء وصراخ تزعج كل صفوف المدرسة ...

كان الطالب الذي يجلس بجانبه على المقعد، قد عرف عنه تلك الخصائص، فنذر نفسه للدفاع عنه ممن يريدون إحراجه ..

وفي ضحى ذلك اليوم، ودون أن يتوجه أحد بمضايقة ابراهيم بسؤاله عن أي شيء، صرخ ابراهيم باكيا، أثناء وجود المدرس (الوحيد طبعا لكل الدروس) .. فتوقف المعلم عن إعطاء الدرس، وتساءل عمن ضايقه، ولم تكن هناك إجابة، لأنه لم يكن هناك من ضايقه بالفعل ..

فاعتقد المعلم أن ابراهيم بحاجة أن يذهب للحمام .. فطلب منه الذهاب للحمام، فرفض ابراهيم وقد رفع من نبرة صراخه .. فاستعان المعلم بالتلميذ الذي بجانبه وهو صديق له (مع وقف التنفيذ) .. فأقنع التلميذ صديقه ابراهيم بأن ينهض الى الحمام ورافقه الى هناك .. لم يكن حماما بل كان غرفة مهدوما سقفها، وهي جزء من (خرابة) تجاور المدرسة ..

عندما دخل ابراهيم الغرفة اشتد صراخه .. وتناول حجرا وضرب به صديقه، ولكن صديقه لم يبتعد بل أصر على البقاء قربه، مع اعطاءه فرصة بالاختلاء بنفسه .. لكن ابراهيم استمر بالصراخ .. فاسترق صديقه نظرة ولكنه لم يجده في وضعية من يقضي حاجته، فعاد راكضا للمعلم ليبلغه .. فطلب منه المعلم أن يرافق ابراهيم لبيته .. ففعل ..

وفي البيت زاد نحيب ابراهيم .. الذي هرعت أمه لتنزع سرواله وتستعين بأداة من حديد لإبعاد (عربيدين ) من الإسكارس .. وهي ديدان بيضاء اللون طولها أكثر من قدم ..

لم يعد ابراهيم منذ ذلك الوقت الى المدرسة، وتلقى صديقه نبأ وفاته بحادث سيارة في لبنان في الثمانينات ..


__________________
ابن حوران



__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 05:35 PM   #3
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شظايا ذاكرة ..
(8)



صيف 1966

عندما فتح لها ابنها (محمود) باب السيارة، كان عليها أن تكيف طولها المتوسط، أصلا، وتنحني بشكل جانبي لتجلس في السيارة، ولكنها تمنعت في البداية و تمتمت ببعض الكلمات غير المفهومة، وكان تمنعها كتمنع (ناقة) عاشت في الصحراء، واشتراها أبناء ريف ليذبحوها في عيد الأضحى، فهي لم تتعود الدخول من خلال بوابات لها أضلاع ثلاثة لتحصر ما بينها من فضاء يعلو الأرض ..

لم تكن أم محمود ذات السبعين خريفا، قد قامت بمغامرة لركوب السيارة قبل ذلك، ولم تكن تغادر قريتها قبل ذلك التاريخ، وقد كانت عينة من ناس كثيرين، كانوا يتصوروا حدود الكرة الأرضية أو الأرض، على بعد ما ترى عيونهم فقط، فكانوا عندما يلمحون تلالا رمادية تلتقي مع الأفق، يتهيأ لهم أن هناك حافة حادة تفضي الى المجهول .. لم يشغلوا بالهم كثيرا عن موجودات ما وراء الحافة ..

بعدما تيقن محمود من جلوس والدته العجوز في الركن الأيمن من المقعد الخلفي، دار من الباب الأيسر، فجلس الى جانبها، وفسح مجالا ليجلس شاب يافع في الركن الأيسر من المقعد الخلفي. كان السائق، الذي يضع (حطة) بيضاء على رأسه وثبتها بعقال رفيع، يميل برأسه يمينا ويعود بعد قليل ليميل به الى اليسار، وكأنه يريد إخبار الآخرين أنه ليس نموذجا من نماذج متحف الشمع، ولا أظن أن ذلك قد خطر بباله، لأنه لم يكن على علم بمتاحف الشمع.

توقف عند الباب الأيمن للمقعد الأمامي شخصان، تبدو عليهما إمارات العز (في ذلك الوقت) .. فقد كانا يرتديان (بدلتين ) مكويتين مع ربطتي عنق، وقد صففا شعريهما بطريقة متقدمة عما كان منتشرا في ذلك الوقت، وقد يكونا موظفين أو رجلي أعمال، ينويان السفر للخارج، كان لون بدلة أحدهما زرقاء غامقة ولون بدلة الآخر خضراء زيتية. حاولا تكريم بعضهما في الدخول، وقد يكون التكريم ناتجا عن تبييت النية لدى كليهما بالحظوة بالجلوس الى جانب الشباك. كان العطر الذي يضعه أحدهما يتفوق على العطر الذي يضعه الثاني، لكن العطرين اتحدا في رسالة موحدة، اندمجت عند وصولها لأنوف من يجلس في السيارة.

انطلقت السيارة عندما أدار السائق مفتاح محركها، لتنشر للحظات، موجة من رائحة البنزين التي تداخلت مع رائحة عطر من في المقعد الأمامي.

حاول السيد (صاحب البدلة الخضراء) والذي يجلس في الوسط، أن يشغل مذياع السيارة، وعندما فتحه صدر صوت (خشخشة) واضح، فأغلقه ثم أعاد تشغيله مرة أخرى.. ولكن الصوت المشَوَش لم ينقطع .. فالتفت الى صاحب البدلة الزرقاء على يمينه، وقال، إن سبب الخشخشة ناتج عن عدم إحكام وضع جهاز الراديو في مكانه بشكل جيد.. لو كان لدينا مسمارا (شعاريا) ( والمسمار الشعاري مسمار صغير جدا بطول 1أو 2سم رفيع، كان يستخدمه مصلحو الأحذية [الإسكافي] في عملهم) .. صمت وسأل صاحبه: ألا أجد معك مسمارا شعاريا؟ .. تفقد صاحبه جيوبه فأخرج مسمارا (شعاريا) .. فتناوله صاحب البدلة الخضراء ووضعه حيث أراد، فزالت الخشخشة من الراديو .. انفجر الشاب اليافع الذي يجلس خلف السائق من الضحك.. فرمقه كل من في السيارة بنظرات استغراب..

صدر صوت من أم محمود (العجوز) .. صوت مع تلوي في حركاتها، كالحالة التي تمر فيها النساء الحوامل في فترة (الوحام).. رغبة في التقيؤ، أنين، مسك لأسفل البطن، وضع اليد على الفم ..ولكن أم محمود قد عبرت سن اليأس منذ عقدين على الأقل، هذا ما أدركه السائق، الذي هدأ من سرعة السيارة، واتخذ أقصى اليمين في نية التوقف.. ثم سأل ابنها: هل تشكي الوالدة من شيء؟ ..
أجابه محمود: كلا .. كلا .. لا عليك، انطلق، فهذه أول مرة تخرج أمي من القرية..
لم تكن المسافة التي قطعها السائق تزيد عن خمسة عشر كيلومترا بعد، وأمامهم من الطريق ما يساوي خمسة أضعاف ما قطعوه .. همهم السائق، الذي خشي أن تلوث العجوز فرش سيارته، إن تقيأت، ولم يمنع خشيته ما أبقاه من غطاء من (النايلون) تضعه الشركات الصانعة على الفرش..

كانت نوبات التقيؤ عند العجوز، هي ما تقمع نوبات الرغبة في الضحك عند الشاب اليافع الذي لا زال يستحضر روح النكتة من المسمار الشعاري .. فكلما صعدت السيارة جبلا، عاودت العجوز في مناوراتها التي كان ابنها (محمود) يتعامل معها بانحناءة تجاهها، واضعا كيسا أحضره معه لتلك الغاية، على ما يبدو!

تضايق السائق، فوجه ملاحظات استنكاره لمحمود، الذي اعتذر، مبررا ما يحدث بسبب أن هذه أول تجربة لسفر والدته بالسيارات.. فأجاب السائق بحدة: وهل من الضروري أن تكون التجربة معي و في سيارتي؟ ألم يكن بإمكانك أن تدربها على السفر الى قرى مجاورة و مدن أقرب، بدلا من تأخذها في أول مشوار للعاصمة؟

كان هذا الحوار سببا إضافيا لعودة نوبات الضحك الصامت، لدى الشاب اليافع، التي كانت تتحول الى دموع نتيجة خنقه لعدم وجود من يشاركه فيه!

رغم طول المدة التي فصلت بين تلك الواقعة وهذه الأيام، فإنه عندما يتذكرها لا يستطيع أن يمنع نفسه من الضحك ..فكيف يوجه رجل وقور يلبس ملابس أنيقة ( ويتابع الأخبار!) سؤالا لصاحبه (الأفندي) (هل أجد معك مسمارا شعاريا؟) .. إن السؤال وحده مثير للضحك.. ولكن رد صاحبه بالإيجاب كان أكثر إثارة للضحك..

__________________
ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 05:37 PM   #4
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شظايا ذاكرة ..
(9)




وقعت في الخمسينات من القرن الماضي .. لم يعد يذكر، هل شاهد القصة بأم عينه أم أنه سمعها في حينها ..

كان سالم الخلف يعمل بحياكة (الطواقي) (جمع طاقية ..غطاء للرأس) و(اللكاليك) وهي جوارب من صوف يلبسها الناس في أيام البرد .. وكانت امرأته (وطفة البركات) تقوم بمداواة الناس بطرق قديمة، باستعمال الأعشاب، أو مواد مستوردة من الحجاز والهند وعُمان مثل (العنزروت والمرمكة والسنامكة وغيرها) كانت تحتفظ بها بطيات غطاء رأسها (العصبة) التي لو فردتها لامتدت عدة أمتار.. كان الناس يتعرفون على وطفة دون أي يرونها من خلال الروائح النفاثة التي تنبثق من غطاء رأسها ومن على بعد عشرات الأمتار..

كانت لحيتها مدققة بوشم أقرب للون الأخضر بنقاط واسعة لكل ضربة وشم تتسع لاحتواء حبة عدس، وكانت تبدو لمن يراها كأنها مخلوق من العهد السومري نسيه الموت .. وفوق ذلك كانت تحمل معها علبة تحتفظ بها ببعض التبغ و دفتر لورق رقيق تصنع بواسطة أوراقه لفافات من التبغ تدخنها عندما تنزل في ضيافة ناس، أو تحل غصبا عنهم في ضيافتهم .. كانت قليلة المكوث في بيتها، وزوجها (سالم الخلف) لا تعجبه حالة غيابها عن البيت، فقد كانت تنسى في كثير من الأحيان أن تحضر له الطعام .. لكنه كان قليل التذمر والتبرم ونادرا ما كان يفاتحها بضرورة تصويب وضعها ..

في تلك الليلة، عادت (وطفة البركات) الى البيت، وكانت قد نسيت أن تأخذ مفتاح بوابة الدار معها.. وكان المفتاح عبارة عن قضيب مربع المقطع من خشب الجوز الذي اكتسب من كثرة استعماله وحمله، لونا بنيا متسخا، وأصبح سطحه مصقولا فوق صقل من صنعه.. وقد ثبت في رأسه قطع من معدن مصقول ومبروم .. فعندما يتم إدخال هذا المفتاح العجيب في مجرى بمغلاق الباب، فإن القطع المعدنية ستتلمس طريقها لتستقر في ثقوب تم عملها لتتلاءم وطريقة صف القطع المعدنية .. وتثبيتها بتلك الطرق العشوائية، هو ما يصعب استعمال مفتاح محل آخر ..

طرقت وطفة الباب منادية على سالم ولكنه لم ينهض ولم يفتح لها الباب، حركت قطعة في البوابة سمح لها تحريكها برؤية سالم يجلس قبالة البوابة ويحيك شيئا بيده .. فصاحت بأعلى صوتها: يا سالم .. يا سالم .. ولكن سالم لم يكلف نفسه بالرد عليها .. فأخذت تصيح ويعلو صوتها في كل مرة، حتى اجتمع حولها بعض الجيران، ورأوا بأعينهم ما رأت .. فصاحوا : يا سالم يا سالم .. ولكن سالم لم يحرك ساكنا .. فقرروا خلع الباب وكسره .. ففعلوا ..

وعندما دخلوا عليه، واستنكروا تجاهله لصياحهم .. قال لهم : أنتم تصيحون على سالم الخلف .. وسالم الخلف أخذ علبة التبغ وخرج ليسهر، أما أنا فلست إلا (وطفة البركات) .. علي الطلاق يا وطفة لن تعودي لي امرأة فطلقها في ساعتها ..


__________________
ابن حوران


__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 05:38 PM   #5
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شظايا ذاكرة ..
(10)



في أوائل الستينات بعد سنتين من سنين القحط

كان الناس في الأرياف، إذا ما تتابعت سنون القحط، يلجؤون الى تدابير صارمة في تقنين استهلاكهم للغذاء، الذي لم يكن موجودا أصلا، فمن كان لديه القليل من القمح أو الشعير، يطحن منه ويأكل هو وعياله باقتصاد شديد .. فالكل قد دخل في خطة (حرب البقاء) ..

ومن الطبيعي أن تظهر أعراض، لمثل تلك التدابير، قد تطال المواليد الصغار فيموتون لندرة الحليب في أثداء أمهاتهم. وقد تطال الكبار، فتظهر عليهم علامات الهزل، والضعف وارتباك السير أو الإنهاك المبكر من أي عمل بسيط، وقد تظهر عليهم علامات (العشى الليلي) وهي عدم القدرة على الإبصار في الظلام، أو حتى في النهار .. وهذا ما حدث لمسعود ..

ذهب مسعود الى جدته متلمسا طريقه، وحدثها بعدم قدرته على رؤية أي شيء، فهرعت الجدة الى ابن عمها (فرج) وكان شيخا قد مر عليه الكثير من تلك الحالات، وله بعض النوافل التي تشهد بحكمته الصحية، وحتى لو لم يكن له فالخيارات قليلة أمام من أراد أن يعالج حالة كحالة مسعود ..

ابتسم الشيخ (فرج) ومسد على لحيته البيضاء، وطمأن العجوز (ابنة عمه) .. أن الأمر مقدور عليه .. وهي عبارة يستبشر منها الخير كل من وقع بكرب.. قال الشيخ ائتوني بنصف رطل من (السمرة) وهي (كبد الجمل) .. وقطعوها (14) قطعة .. وضعوها في (صينية) وأدخلوها الفرن ولا تجعلوها تستوي كثيرا، بل نصف استواء ..

فعلت العجوز ما أمرها به (أبقراط) (فرج) .. ونادته وهو الجزء الأهم من وصفته التي لن تتم إذا لم تكن تحت إشرافه!

جلس الشيخ مرتكزا على عجزه، جامعا ساقيه بين يديه، وأمر مسعود أن يجلس كجلسته، مسندا ظهره الى ظهره، فأصبحا كأنهما تمثال حجري من العهد الكنعاني القديم .. فأمر بإحضار الصينية وما تحويه من كبد مشوي نصف شية، فأخذ يتناول قطعة من الكبد ويعطيها لمسعود، قائلا: هذه لك .. ويتناول قطعة ويضعها في فمه (هو) .. حتى انتهيا من أكل الكبد ..

عندما يتذكر مسعود تلك القصة، ويحلف: والله يا أخوان لم تمض نصف ساعة حتى أصبحت أشوف من على بعد كيلومترات .. ويصمت مسعود قليلا، ويقول: لكن ما لم أفهمه، هو ما علاقة أن يأكل الشيخ (فرج) نصف الصينية بموضوع شفائي مما كنت فيه!

__________________
ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 05:39 PM   #6
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شظايا ذاكرة ..
(11)



منتصف شهر تشرين الثاني نوفمبر 1970

لم يبدأ سنته الجامعية من أولها، بل أتى قبوله متأخرا في جامعة الموصل، وكان ذلك في رمضان، وكان عليه أن يذهب لتناول طعام الإفطار في مطعم (الزوراء) حيث يذهب زملاؤه من الطلبة العرب.. وقد لاحظ ازدحام الزبائن بشكل لم يلحظه من قبل .. لدرجة أن كان على بعضهم الانتظار حتى يكمل آخرون تناول طعام الإفطار ليفسحوا مجالا لغيرهم باستخدام المنضدة .. وقد يتأخر بعض الصائمين حوالي الساعة حتى يتسنى لهم تناول إفطارهم ..

كان (غانم) رئيس العمال في مطعم (الزوراء) هو من يسأل الزبائن عما يودون تناوله .. وكان مشغولا وهو يسرد ما عنده من أصناف الطعام في الانتباه للعمال الذين يحضرون الوجبات للزبائن .. فكان يخصص بعض ثواني لكل زبون ليعرف ما يريد، ويصيح بأعلى صوته عن الصنف الذي يجب على من في المطبخ أن يملأ به صينية الطلب، وبنفس الوقت ينتبه الى من يقف أمام المحاسب لدفع ثمن طعامه ويبلغ المحاسب بالمبلغ الواجب أخذه من الزبون .. كان (غانم) لا يطيل المكوث مع أي زبون يتأخر في إبلاغه عما يريد، فكان كالماسترو الذي يقود فرقة موسيقية، عليه الانتباه وتقنين الوقت بشكل جيد ..

عندما وقف (غانم) فوق رأسه يسأله عما يريد، حاول أن يتحذلق ويسأله بلهجة عراقية مكسرة وغير متقنة (شكو عدكم عيني؟) فأجاب غانم بسرعة البرق ( قزاطمة، دولمة، بتيتا جاب، كريم جاب، جلفراي، قوزي الشام، قوزي على تمن، يابسة، تبسي، قص على تمن) لم يفهم من كل تلك الأصناف أي واحد، ولكنه تذكر آخرها قص على تمن فطلبه .. فصاح غانم: وصار عندك ثلاث قص على تمن..

وفي اليوم الثاني تكررت المسألة، فسأله بنفس الطريقة السابقة فأجاب غانم بسرعة البرق كما في المرة السابقة ( قزاطمة، دولمة، بتيتا جاب، كريم جاب، جلفراي، قوزي الشام، قوزي على تمن، يابسة، تبسي، قص على تمن)، ويطلب قص على تمن ( وهو قطع من الشاورما توضع فوق طبق الرز ومعها صحن به مرق الطماطم) .. فيصيح غانم : وصار عندك أربعة قص على تمن .. حيث كان قبل آخر طلب ثلاث طلبات أخرى ..

وهكذا حدث في اليوم الثالث والرابع .. وصاحبنا كان بوده أن يتذوق الأصناف الأخرى، ولكن لضيق الوقت والخوف من أن يتجاهله غانم، كان عليه أن يسرع في الطلب ويطلب (قص على تمن) ..

لم يعد غانم يسأله في الأيام التالية عن طلبه، فعندما يلمحه قادما، ويكون لديه طلبان من (القص على تمن) فإنه يبادر لتبليغ من في المطبخ بصوت عال : وصار عندك ثلاثة قص على تمن ..

وهكذا أنهى رمضان بصنف واحد من الطعام وهو (القص على تمن) ..


__________________
ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 30-11-2009, 05:41 PM   #7
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شظايا ذاكرة ..
(12)



لا تاريخ محدد لتلك الشظية

يستحيل على أصدقاءه أو من تعرف عليه في مناسبة ما، أن لا يسرد كل ما سأسرده عن (نعمان) بتواصل .. ويستحيل على من يريد إعادة إنتاج صورته وهيئته، أن يتذكره إلا بأنف محمر لامع، وكأن الزكام لا يفارقه نهائيا، كان اللمعان والحمرة تتفشى على جوار أنفه وأسفل خديه، وأطراف ذقنه المحلوق بنعومة مستمرة ..

عندما ذهب لدراسة الهندسة في جامعة دمشق، رجع ببعض المشاهدات الغريبة. عندما كان يرويها بصوته الخافت والذي كانت تختلط الحروف فيه بفعل الرشح المزمن، كان الجميع يصغون لتمييز مخارج تلك الحروف، لينعموا على إثرها بحكاية لم يستطع ـ حتى من تعرف عليه بعمق ـ أن يتوقع نهايتها ..

قال: اشتكيت من ألم في بطني .. فراجعت طبيبا، فكان تشخيصه لي أنه يشك في وجود ديدان معوية تعيش في أحشائي.. يتوقف عندها .. ثم يضيف : كنت أذهب الى المطعم وأطلب طبقا من الرز والفاصوليا البيضاء، وعندما أتأكد من أن الدود قد شبع .. أطلب لنفسي طبقا من اللحم المشوي!

ويحكي قصة أخرى، يقول : كنت أذهب الى كازينو لبنان في بيروت، في نهايات الأشهر، وفي مرة من المرات كنت أجلس أتناول عشائي، فكلما رفعت رأسي لأنظر أمامي تصادف عيناي وجه رجل يبتسم لي، فأبادله الابتسامة، وأتساءل: من يكون هذا الرجل؟ قد يكون معلم في مدرستي الابتدائية ولم أتذكره. ثم أعاود إكمال تناول وجبتي وتتكرر الابتسامة من الرجل، فأقلب ذاكرتي .. من يكون؟ قد يكون رئيس بلدية قديم وقد نسيته .. وتكررت الابتسامات والتساؤلات واحتمالية من يكون .. حتى استعنت بمن كان يجلس جانبي، فسألته أتعرف ذاك الرجل؟ فأجاب على الفور: إنه فريد الأطرش!

كان المهندس(نعمان) لا يبذل جهدا هندسيا هائلا، فقد عمل بكل شيء عدا الهندسة، وكانت أرباحه من أعماله كبيرة جدا، فقد روى أنه ربح ما يقرب من العشرين ألف دولار من عمل لم يكلفه أكثر من خمسين دولارا، حيث نفذ مكانا لاستراحة من قصب البردي حرق أطرافها بخدعة (ديكورية) .. كما أنه عمل بالأطراف الصناعية وربح منها أرباحا طيبة .. كان لا يمكث بعمل بعينه طويلا، فما أن يكتشف أن هناك من أسس مصلحة عمل تشبه مصلحته حتى يترك تلك المصلحة وينتقل لعمل آخر، استطاع أن يبني (عمارة) من ستة طبقات في موقع هام، فأصبح دخله عاليا جدا، وقيمة العمارة زادت عن مليوني دولار .. ومع ذلك كان يردد لأصحابه بأنه رجل (تافه) لا أحد ينتظره حتى زوجته وأطفاله .. ويبالغ في القول : (لو أنني أتحلل وأصبح نفطا لما افتقدني أحد!)

من قصصه التي حفظها عنه أصدقائه، أنه عندما كان في قريته (قبل الكهرباء)، كان في القرية (كلب أحمر) عرفته القرية بشراسته وخاف منه الأطفال وحتى الكبار .. فيقول : بليلة خرجت من سهرة عند أصحابي، فداست قدمي بطن (الكلب الأحمر) الذي كان مستغرقا في نومه، فذعر الكلب هاربا وترك عادة إخافة الآخرين .. فلما رأيته بذعره هذه .. صحت فرحا .. أي أنا من زمان وأنا أشتهي أن أدوس بطن هذا الكلب!

وقصته الأخيرة التي حكاها لأصحابه: أن امرأته سمعت صوتا في الليل، فتأكدت أن لصا يحاول سرقة الملابس المغسولة والمنشورة على الحبل .. فأيقظت (نعمان) .. فأجابها أن تحضر بنطلونه والقميص الأبيض وربطة العنق الحمراء والجوارب الرمادية .. كانت امرأته تستغرب منه تلك الطلبات وتستنكرها عليه حاثة إياه على الإسراع بالخروج واللحاق باللص قبل أن يسرق كل شيء من على حبل الغسيل .. في حين ظل يصر هو على طلباته حتى تأكد أن اللص قد أخذ ما يريد وولى هاربا .. في صباح اليوم التالي اكتشف هو وجيرانه أن أحد جيرانه اعترض اللص في الليل، فضربه اللص بسكين كان يحملها في أسفل عنقه .. وأن جاره لا يزال في العناية الحثيثة .. يكمل حديثه بابتسامة كأنه نموذج عن (بابا نوئيل) ولكن بدون (لحية بيضاء) .. ويضيف (مو قلة عقل لو تصديت للص و شمطني سكينا من الخاصرة للخاصرة .. مشان شوية هدوم؟) ..


__________________
ابن حوران

__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 4 (0 عضو و 4 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .