العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: النطفة فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: انطلاق ثورة كردية ضد الاحزاب الحاكمه شمال العراق (آخر رد :اقبـال)       :: الرد على مقال لماذا الاسم الحقيقي لأبو الهول هو مقام إبراهيم؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الدراية في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الاول من كانون الاول يوم الشهيد العراقي (آخر رد :اقبـال)       :: العوج فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: السودان زوجة (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: الدرك في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: المد في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 23-03-2010, 02:19 PM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الأشرف برسباي.. فاتح قبرص

(في ذكرى توليته: 8 ربيع الآخر 825هـ)


اصطلح المؤرخون على تقسيم تاريخ دولة المماليك التي حكمت مصر والشام والحجاز إلى عصرين: عصر دولة المماليك البحرية (648- 784هـ = 1250- 1381م) نسبة إلى بحر النيل؛ حيث اختار السلطان الصالح "نجم الدين أيوب" جزيرة الروضة في وسط النيل لتكون مقرا لمماليكه، أما العصر الآخر؛ فأُطلق عليه "عصر دولة المماليك الجراكسة" أو المماليك البرجية (784- 922هـ = 1382- 1517م) نسبة إلى بلاد الجراكسة التي جُلبوا منها إلى مصر، أو نسبة إلى برج قلعة القاهرة، حيث كانوا يقيمون في ثكنات حوله.

وقد اتسمت الفترة الثانية بأن بلغت دولة المماليك أقصى اتساع لها في القرن التاسع الهجري، فأضافت إلى رقعتها جزيرة قبرص، وكانت تمثل خطرا داهما على نفوذها، وحاولت أن تضم "رودس" حتى تقضي على الحروب الصليبية تماما، بعد أن انتقل نشاطها من الشام إلى البحر المتوسط، لكنها لم تفلح في ضم رودس، كما بسطت نفوذها على أعالي الفرات، وأطراف آسيا الصغرى، وهو ما جعلها تتبوأ مكانة رفيعة في العالم الإسلامي.

ولاية برسباي



دولة المماليك بعهد الأشرف برسباي (باللون الأحمر)


بدأ "برسباي" حياته مثل آلاف المماليك الذين يُجلبون إلى مصر، ويتلقون تعليما شرعيا وتربية خاصة في فنون الحرب والقتال، ثم يلتحقون بخدمة السلاطين، وكبار الأمراء، وترتقي ببعضهم مواهبهم وملكاتهم إلى المناصب القيادية في الدولة، وقد تسعدهم الأقدار فيصعدون إلى سدة الحكم والسلطنة، فيصبحون ملء الأسماع والأبصار، وتتطلع إليهم الأفئدة والقلوب، بعد أن كانوا مجهولي النسب، مغموري الأصل، ولكن رفعتهم همتهم أو ذكاؤهم وحيلتهم.

كان برسباي مملوكا للأمير "دقماق المحمدي" نائب "ملطية"، الذي اشتراه من أحد تجار الرقيق، ومكث في خدمته زمنا، ولقب بالدقماق نسبة إليه، فأصبح يعرف ببرسباي الدقماقي، ثم أهداه سيده إلى السلطان الظاهر "برقوق" سلطان مصر، فأعتقه، وجعله من جملة مماليكه وأمرائه، وبعد وفاة السلطان برقوق تقلّب في مناصب متعددة في عهد من خلفه من السلاطين، حتى نجح في اعتلاء عرش السلطنة في (8 من ربيع الآخر 825هـ = 1 من إبريل 1422م)، وهو السلطان الثامن في ترتيب سلاطين دولة المماليك الجركسية، والثاني والثلاثون في الترتيب العام لسلاطين دولة المماليك.

وقد نجح السلطان برسباي في الفترة التي قضاها في الحكم -وهي نحو سبعة عشر عاما- في إشاعة الأمن والاستقرار، والقضاء على الثورات والفتن، التي شبت في البلاد، والضرب على أيدي الخارجين على النظام، كما فعل مع ثورة طائفة المماليك الأجلاب، وهم الذين جاءوا إلى مصر كبارًا، وكانوا قد عاثوا في الأرض فسادًا لتأخر رواتبهم في عامي (835هـ = 1431م)، (838هـ = 1434م)، وقد مكّنه ذلك الاستقرار الذي نعمت به البلاد من القيام بغزو جزيرة قبرص.

فتح قبرص




اتخذ القبارصة من جزيرتهم مركزًا للوثوب على الموانئ الإسلامية في شرق البحر المتوسط وتهديد تجارة المسلمين، فقام "بطرس الأول لوزجنان" ملك قبرص بحملته الصليبية على الإسكندرية في سنة (767هـ = 1365م)، وأحرق الحوانيت والخانات والفنادق، ودنس المساجد وعلق القبارصة عليها الصلبان، واغتصبوا النساء، وقتلوا الأطفال والشيوخ، ومكثوا بالمدينة ثلاثة أيام يعيثون فيها فسادا، ثم غادروها إلى جزيرتهم، وتكررت مثل هذه الحملة على طرابلس الشام في سنة (796هـ = 1393م).

وظلت غارات القبارصة لا تنقطع على الموانئ الإسلامية، ولم تفلح محاولات سلاطين المماليك في دفع هذا الخطر والقضاء عليه، وبلغ استهانة القبارصة بهيبة دولة المماليك واغترارهم بقوتهم أن اعتدى بعض قراصنتهم على سفينة مصرية سنة (826هـ = 1423م)، وأسروا من فيها، ولم تفلح محاولات السلطان برسباي في عقد معاهدة مع "جانوس" ملك قبرص، تَضْمن عدم التعدي على تجار المسلمين.

وتمادى القبارصة في غرورهم، فاستولوا على سفينتين تجاريتين، قرب ميناء دمياط، وأسروا من فيهما، وكانوا يزيدون على مائة رجل، ثم تجاوزوا ذلك فاستولوا على سفينة محملة بالهدايا كان قد أرسلها السلطان برسباي إلى السلطان العثماني "مراد الثاني"، عند ذلك لم يكن أمام برسباي سوى التحرك لدفع هذا الخطر، والرد على هذه الإهانات التي يواظب القبارصة على توجيهها لدولة المماليك، واشتعلت في نفسه نوازع الجهاد، والشعور بالمسئولية، فأعد ثلاث حملات لغزو قبرص، وذلك في ثلاث سنوات متتالية.

الحملات الثلاث

خرجت الحملة الأولى في سنة (827هـ = 1424م)، وكانت حملة صغيرة نزلت قبرص، وهاجمت ميناء "ليماسول"، وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد للقرصنة، وغنموا غنائم كثيرة، ثم عادت الحملة إلى القاهرة.

شجع هذا الظفر أن يبادر برسباي بإعداد حملة أعظم قوة من سابقتها لغزو قبرص، فخرجت الحملة الثانية في رجب (828هـ = مايو 1425م) مكونة من أربعين سفينة، واتجهت إلى الشام، ومنها إلى قبرص، حيث نجحت في تدمير قلعة ليماسول، وقُتل نحو خمسة آلاف قبرصي، وعادت إلى القاهرة تحمل بين يديها ألف أسير، فضلاً عن الغنائم التي حُملت على الجمال والبغال.

وفي الحملة الثالثة استهدف برسباي فتح الجزيرة وإخضاعها لسلطانه، فأعد حملة أعظم من سابقتيها وأكثر عددا وعُدة، فأبحرت مائة وثمانون سفينة من رشيد في (829هـ = 1426م)، واتجهت إلى ليماسول، فلم تلبث أن استسلمت للقوات المصرية في (26 من شعبان 829هـ = 2من يوليو 1426م)، وتحركت الحملة شمالا في جزيرة قبرص، وحاول ملك الجزيرة أن يدفع القوات المصرية، لكنه فشل وسقط أسيرا، واستولت القوات المصرية على العاصمة "نيقوسيا"، وبذا دخلت الجزيرة في طاعة دولة المماليك.

واحتفلت القاهرة برجوع الحملة الظافرة التي تحمل أكاليل النصر، وشقّت الحملة شوارع القاهرة التي احتشد أهلها لاستقبال الأبطال في (8 من شوال 829هـ = 14 من أغسطس 1426م)، وكانت جموع الأسرى البالغة 3700 أسير تسير خلف الموكب، وكان من بينها الملك جانوس وأمراؤه.

استقبل برسباي بالقلعة ملك قبرص، وكان بحضرته وفود من أماكن مختلفة، مثل: شريف مكة، ورسل من آل عثمان، وملك تونس، وبعض أمراء التركمان، فقبّل جانوس الأرض بين يدي برسباي، واستعطفه في أن يطلق سراحه، فوافق السلطان على أن يدفع مائتي ألف دينار فدية، مع التعهد بأن تظل قبرص تابعة لسلطان المماليك، وأن يكون هو نائبا عنه في حكمها، وأن يدفع جزية سنوية، واستمرت جزيرة قبرص منذ ذلك الوقت تابعة لمصر، حتى سنة (923هـ = 1517م) التي سقطت فيها دولة المماليك على يد السلطان العثماني "سليم الأول".

العلاقات مع الدول المجاورة

ارتبطت مصر في عهد برسباي بعلاقات ودية مع الدولة العثمانية، وتبادل التهنئة، فأرسل مراد الثاني بعثة في سنة (827هـ = 1423م) إلى القاهرة لتهنئة برسباي بالسلطنة، كما بعث إليه ببعثة مماثلة حين حقق برسباي انتصاره التاريخي على القبارصة، وقضى على خطرهم، وقد شهدت هذه البعثة الاحتفالات التي أقيمت في القاهرة ابتهاجا بعودة الجيش الظافر، وحضرت مقابلة السلطان برسباي في القلعة لجانوس وهو في أغلاله بعد هزيمته المنكرة وسقوط جزيرته.

وفي عهد السلطان برسباي تأزمت العلاقات بينه وبين الدولة التيمورية في فارس، وكان "شاه رخ" قد بعث إلى السلطان المملوكي يطلب منه إرسال بعض المؤلفات لعلماء مصر البارزين، مثل: فتح الباري لابن حجر، وتاريخ المقريزي، وأن يسمح له بكسوة الكعبة المعظمة، غير أن السلطان رفض، بل ولم يرسل له الكتب التي طلبها، ولم ييئس الشاه من الرفض فعاود الطلب والرجاء، وكان برسباي يرى أن كسوة الكعبة حق لسلاطين مصر لا يشاركهم في هذا الشرف أحد.

وكان من شأن هذا التوتر أن ساءت العلاقات بين السلطانين، واستعد كل منهما للآخر، وهنا يُذكر لعلماء مصر موقفهم الشجاع من برسباي حين أراد فرض ضرائب على الناس للإعداد للحملة الحربية؛ إذ رفضوا تصرفه، وانتقدوا إسرافه، وقالوا له: لا يجوز للسلطان أن يفرض الأموال على المسلمين، وزوجته تلبس في يوم ختان ابنها ثوبا يساوي ثلاثين ألف دينار.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 23-03-2010, 02:22 PM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الحياة الاقتصادية

اعتمدت الحياة الاقتصادية في العصر المملوكي على التجارة والصناعة والزراعة، غير أن التجارة استأثرت بالنصيب الأكبر في الاقتصاد المملوكي؛ حيث كانت التجارة العالمية تمر عبر حدود الدولة المملوكية، وقصد التجار الأوروبيون موانئها للشراء والبيع، الأمر الذي عاد على الدولة بالخير الوفير.

واتخذ السلطان برسباي عدة إجراءات لتنشيط حركة التجارة وترغيب التجار بشتى الطرق للنزول في الموانئ التابعة لدولته، فخفض الرسوم المفروضة على التجار في بعض الموانئ كميناء جدة، وأسبغ حمايته على التجار، وأمّن بضاعتهم من السلب والنهب، ودعّم علاقاته مع دول أوروبا ومدنها، فعقد معهم الاتفاقيات التجارية التي أسهمت في انتعاش حركة التجارة معهم.

وضرب السلطان الدينار الأشرفي ليكون أساس التعامل التجاري، وأبطل التعامل بالنقد البندقي والفلورنسي، وشجع الناس على استعمال نقوده التي سكّها بأن رفع سعرها ليكون لها قوة شرائية كبيرة تدفع إلى التعامل بها.

غير أن السلطان احتكر تجارة بعض السلع: كالسكر، والفلفل، والأقمشة الواردة من الموصل وبعلبك، وهو ما أدى إلى ارتفاع سعرها ومعاناة الناس في شرائها.

وامتدت همة السلطان برسباي إلى العناية بالزراعة، فأمر بحفر الخليج الناصري بعد أن كاد يطمر، وعُني ببناء الجسور، وإقامة القناطر، وإصلاح ما تهدم منها، ونظرا لهذه الرعاية، فلم تتعرض المحاصيل للهلاك بسبب نقصان المياه طوال المدة التي قضاها في الحكم.

النواحي الحضارية



لم يتلقَّ السلطان تعليما منظما مثل كثير من المماليك في القلعة، وإنما كان تعليمه محدودا، لكنه استكمل هذا النقص بأن اتخذ العالم الفقيه المؤرخ "بدر الدين العيني" مُعلما ومربيا، فكان يسامره ليقرأ له التاريخ، ثم يفسره له بالتركية، وكان الشيخ ضليعا فيها، كما كان يعلمه أمور الدين، حتى إن السلطان كان يقول: لولا العيني لكان في إسلامنا شيء.

وعُني السلطان ببناء ثلاث مدارس إحداها بالخانكة التابعة لمحافظة القليوبية، وقد بالغ في بنائها وزخرفتها، والثانية بالقاهرة بشارع "المعز لدين الله"، وهي المعروفة بالأشرفية نسبة إلى لقب صاحبها، وتمت عمارتها سنة (829هـ = 1425م)، وهي السنة التي فتح فيها قبرص، والثالثة بالصحراء خارج القاهرة، وهي التي دُفن فيها، كما عُني بشئون الحجاج، فأمر بحفر الآبار على طول الطريق من مصر إلى الحجاز.

لم يكتف السلطان بما شيد من مبانٍ ومنشآت، فشملت عنايته المدارس والخانقاوات التي بنيت قبله بعد أن أهملها مباشروها ونُظّار أوقافها، فشكل مجلسا من القضاة يتولون النظر في أوقاف هذه المدارس ومراجعة شروطها للتحقق من التزام النظار بهذه الشروط، وأسند رئاسة هذه المدارس إلى شيخ الإسلام "ابن حجر العسقلاني".

وكان من شأن هذه المدارس أن نشّطت الحركة العلمية، وازدهرت العلوم والفنون، وحسبك أن يكون من أعلام عصر السلطان برسباي الحافظ "ابن حجر العسقلاني" صاحب "فتح الباري" و"الدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، و"الإصابة"، والحافظ "بدر الدين العيني" صاحب "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"، و"عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان"، والمؤرخ العظيم المقريزي صاحب كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك" و"اتعاظ الحنفا"، و"الخطط المقريزية".

وفاة السلطان

وبعد أن قضى السلطان برسباي في الحكم نحو سبعة عشر عاما، تُوفي في (ذي الحجة 841هـ = مايو 1437م)، بعد أن ارتبط اسمه بالجهاد ضد الصليبيين، وأضاف إلى دولته جزيرة قبرص، وهو ما أضفى على سلطنته رونقًا وشهرة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 26-03-2010, 06:59 AM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

جيوش محمد على أبواب إستانبول

(في ذكرى معركة نصيبين: 11 ربيع الآخر 1255هـ)

اجتاحت جيوش "إبراهيم باشا بن محمد علي" بلاد الشام عام (1247هـ=1931م)، وتساقطت مدنه واحدة تلو الأخرى دون مقاومة تُذكر، حتى مدينة عكا التي استعصت على نابليون بونابرت ولم يفلح في اقتحامها، نجح إبراهيم باشا في فتحها، وكان لسقوطها دوي عظيم، ونال فاتحها ما يستحقه من تقدير وإعجاب.

ومضى الفاتح في طريقه حتى بلغ "قونيه"، وكان العثمانيون قد هجروها حين ترامت الأنباء بقدوم إبراهيم باشا وجنوده، ولم يبق بها سوى الجيش العثماني بقيادة رشيد باشا، وكان قائدًا ماهرًا يثق فيه السلطان العثماني ويطمئن إلى قدرته وكفاءته، ولم يكن هناك مفر من القتال، فدارت رحى الحرب بين الفريقين في (27 من جمادى الآخرة 1248هـ= 21 من نوفمبر 1832م) عند قونيه، ولقي العثمانيون هزيمة كبيرة، وأُسر القائد العثماني، وأصبح الطريق مفتوحًا إلى القسطنطينية.

أسباب الحملة على الشام



كان السبب المعلن لقيام محمد علي بحملته الظافرة على الشام هو اشتعال النزاع بينه وبين عبد الله باشا والي عكا، الذي رفض إمداد محمد علي بالأخشاب اللازمة لبناء أسطوله، وآوى عنده بعض المصريين الفارين من الخدمة العسكرية ودفع الضرائب، ورفض إعادتهم إلى مصر، وكان الخليفة العثماني "محمود الثاني" يقف وراء النزاع، ويُعضِّد والي عكا في معارضته محمد علي، ولم تكن العلاقة بين الخليفة العثماني وواليه في مصر على ما يرام.

غير أن الذي جعل محمد علي يقدم على هذه الخطوة هو أنه كان يرى أن سوريا جزء متمّم لمصر، ولا يتحقق الأمن بمصر ويأمن غائلة العدو إلا إذا كانت سوريا تحت سيطرته وسلطانه، وأن حدود مصر الطبيعية في جهة الشرق هي جبال طوروس، وليست صحراء العرب، ومن ثم كان يتحين الفرصة لتحقيق هدفه، حتى إذا ما لاحت انتهزها، وجرّد حملته إلى الشام.

اتفاقية كوتاهية

فزع السلطان محمود الثاني من الانتصارات التي حققها إبراهيم باشا فلجأ إلى الدول الأوروبية لمساعدته والوقوف إلى جانبه، لكنها لم تُجبه؛ لانشغالها بأحوالها الداخلية، ورأت في النزاع القائم مسألة داخلية يحلها السلطان وواليه، عند ذلك لجأ السلطان إلى روسيا –العدو اللدود للدولة العثمانية- لتسانده وتساعده، فاستجابت على الفور، ولم تتلكأ، ووجدت في محنة الدولة فرصة لزيادة نفوذها في منطقة المضايق، فأرسلت قوة بحرية رست في البسفور، وهو ما أقلق فرنسا وإنجلترا، وتوجستا من تدخل روسيا وانفرادها بالعمل، والتظاهر بحماية الدولة العثمانية، وكانت الدولتان تتمسكان بالمحافظة على كيان الدولة العثمانية؛ خشية من روسيا التي لم تكن تُخفي أطماعها في جارتها المسلمة.

تحركت الدولتان لفض النزاع وإعادة الأمن بين الخليفة وواليه الطموح، ولم يكن أمام السلطان العثماني سوى الرضوخ لشروط محمد علي في الصلح، فلا فائدة من حرب نتائجها غير مضمونة لصالحه، في الوقت الذي يسيطر فيه إبراهيم باشا على الشام، ويلقى ترحيبًا وتأييدًا من أهله.

عُقد الصلح في كوتاهية في (18 من ذي القعدة 1249هـ= 8 من إبريل 1833م)، واتفق الطرفان على أن تتخلى الدولة العثمانية لمحمد علي عن سوريا وإقليم أدنة مع تثبيته على مصر وجزيرة كريت والحجاز، في مقابل جلاء الجيش المصري عن باقي بلاد الأناضول.

اشتعال الثورة في الشام

لم يكن صلح كوتاهية بين الطرفين سوى هدنة مسلحة قبلته الدولة العثمانية على مضض، وأُكرهت على قبوله؛ ولذا كانت تعد العدة لنقض الصلح وتنتظر الفرصة السانحة لاسترداد ما أخذه محمد علي منها قسرا وكرها دون رضى واتفاق، وإنما أملاه السيف وفرضته آلة الحرب.

وسنحت الفرصة للسلطان العثماني في سنة (1250هـ=1834م) حين قامت الثورة في سوريا على إثر ما أدخله إبراهيم باشا من النظم الجديدة في إدارة شئون البلاد للنهوض بها ولم يكن للناس عهد بها، وزاد من ثورة الناس ضد الحكم المصري ما فرضه على الناس من ضرائب، وإجبار الناس على الالتحاق بالجيش ونزع السلاح من أيدي الأهالي.

وعلى الرغم من أن سوريا شهدت نشاطًا في التجارة، وازدهارًا في الصناعة واستتبابًا في الأمن بفضل المشروعات التي أدخلها إبراهيم باشا في البلاد، فإن ذلك لم يكن كافيا لنَيل رضى الناس؛ إذ صاحبه استبداد وقهر.

لم تكن أصابع السلطان العثماني بعيدة عن إشعال الثورة، وتأجيج الغضب في القلوب، فشبّت الفتنة في أماكن عديدة، وبذل إبراهيم باشا جهودًا خارقة في إخماد الفتنة وقمع الثورة، واستنفد ذلك أموالاً طائلة ونفوسًا كثيرة.

الحملة الثانية على الشام

فشلت المفاوضات بين الدولة العثمانية ومصر في تسوية النزاع بينهما بطريقة ودية، فأعلن محمد علي عن عزمه في قطع العلائق التي تربط مصر بدولة الخلافة العثمانية، وقد كان يعينه على ذلك تنامي قوته وازدياد نفوذه، وعجزت الدول الأوروبية أن تثنيه عن عزمه، ولم يكن يرضيها ظهور قوة إسلامية فتية، ربما يشاء لها القدر أن تبثّ الحياة في جسد الخلافة الواهن، فيهب من رقدته، ويسترد بعضا من عافيته، فيعيد إلى الأذهان جلال هيبته، وعظمة قوته.

كان السلطان العثماني قد أعد العدة لاسترداد سوريا من محمد علي، فحشد قواته على الحدود، ولما أتم العثمانيون استعدادهم بدءوا في زحفهم، فعبروا نهر الفرات وواصلوا زحفهم حتى اجتازت طلائعهم الحدود المرسومة السورية - التركية التي حددتها اتفاقية كوتاهية، فأرسل إبراهيم باشا إلى أبيه يخبره بالأمر، وفي الوقت نفسه لم ينتظر رد أبيه، بل تحرك بجيشه الذي كان يقيم بحلب؛ حيث أجلى العثمانيين عن مواقعهم، وفي أثناء ذلك جاء الرد من محمد علي إلى ابنه بألا يكتفي بصد هجوم العثمانيين وأن يعبر الحدود إذا اقتضى الأمر ذلك لسحق الجيش العثماني.

معركة نزيب (نصيبين)



اتجه إبراهيم باشا بجيشه الذي يبلغ أربعين ألف مقاتل إلى حيث يعسكر الجيش العثماني، ويحتل مواقعه الحصينة في بلدة نزيب التي تقع بالقرب من الحدود التركية - السورية، وكان الجيش العثماني يبلغ تعداده أربعين ألف مقاتل، وقد أُعِدّ إعدادًا حسنا، وعلى كفاءة عالية في فنون القتال.

وفي (11 من ربيع الآخر 1255هـ = 24 من نوفمبر 1839م) التقى الفريقان عند قرية نزيب في معركة هائلة حسمها إبراهيم باشا لصالحه، وألحق بالعثمانيين هزيمة مدوية، وكان ثمن النصر باهظا؛ حيث سقط أربعة آلاف جندي مصري بين قتيل وجريح.

وقبل أن تصل أنباء هذه الكارثة إلى عاصمة الخلافة العثمانية كان السلطان محمود الثاني قد قضى نحبه في (17 من ربيع الآخر 1255هـ= 30 من يونيو 1839م)، وخلفه ابنه عبد الحميد، وكان شابا لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، تسلّم قيادة الدولة العثمانية في ظروف بالغة الصعوبة، فأراد أن يحسم الخلاف مع محمد علي؛ حقنًا لدماء المسلمين، ومنعًا للتدخل الأجنبي، وبعث برسول إليه للتفاوض في أمر الصلح، ونقاط الخلاف بين الطرفين.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-03-2010, 10:22 AM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

وفاة الخليفة العباسي المستنجد بالله

9 ربيع الثاني 566 هـ/ 7 نيسان/أبريل 1161م

الصحوة المتأخرة للعباسيين

في بداية القرن السادس الهجري بلغت مظاهر البذخ في دار الخلافة ما بلغته، ففي سنة 502 هـ مثلاً تزوج الخليفة المستظهر بالخاتون بنت ملكشاه أخت السلطان محمد على صداق قدره مائة ألف دينار، وفي الزفاف نثر الذهب في الشوارع، في حين كانت طرابلس/لبنان تسقط بيد الصليبيين، وعندما وصلت بغداد كانت حوائجها محملة على 167 بعيرا و27 بغلا.

ومع ذلك، كان أهل بغداد ينظمون حملات التطوع للجهاد ضد الصليبيين عندما اقتربوا من احتلال صيدا، وكان ينظم تلك الحملات الفقهاء ومن بينهم (ابن الذاغوني). [ مصدر تلك المعلومات ـ ابن كثير/البداية والنهاية].

كما كثر في ذلك العصر، اغتيالات وقتل الرموز الصالحة من رجال دولة وفقهاء، على أيدي الباطنيين.

وقد بدأ عصر الصحوة عندما ساءت العلاقة بين الخليفة الراشد، والسلاطين، إثر نكثه بعهد على إيفاء آسري والده الخليفة (المسترشد)، مبلغاً اتفق عليه لفك أسره من السلطان، وقيمته 400 ألف دينار، وقال لهم: السيف بيننا وبينكم. فدخل السلطان (داود) بغداد في حين فر الخليفة الى عماد الدين زنكي في الموصل، فأخذ السلطان كل خيول وبغال وخزائن الخليفة من بغداد وقفل راجعاً. وعندها تخلى الخليفة عن الخلافة للمقتفي، وقيل أن ذلك تم من خلال مشاورة أهل الفقه في بغداد، لكي يتم تجاوز مظاهر الضعف والانتباه الى أمور الدولة.

تولي المقتفي وبدء عصر الصحوة

يعتبر عصر المقتفي من أفضل عصور الخلفاء العباسيين المتأخرين، وهو الخليفة الحادي والثلاثون، وقد حكم 25 عاماً، أزاح عن العباد المكوس، ولاحق مظاهر الفساد، وشجع العلم، وتخاطب مع الزنكيين للتنسيق في الحروب ضد الصليبيين.

وسبب تسميته بالمقتفي، أنه رأى في منامه رسول الله صلوات الله عليه، وأخبره بأنه سيكون له الحكم ويقتفي فيه آثار الأولين من الخلفاء العادلين. وتوفي عن عمر 66 عاماً، بعدما استقر الوضع في أمور الخلافة وتخلصت من هيمنة السلاطين. وقد خضع سلاطين الإمارات له.

تولي المستنجد بالله الخلافة

هو الخليفة الثاني والثلاثون في ترتيب خلفاء بني العباس، واسمه أبو المظفر يوسف المستنجد بالله بن الخليفة المقتفي لأمر الله، تولى الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 555هـ، وهو معدود من خيرة بني العباس، ذلك لأنه كان شديد الكراهية للظلم والمكوس، فأخذ في إسقاطها الواحدة تلو الأخرى حتى لم يترك منها شيئًا، وكان شديدًا على أهل العبث والفساد ويبغض السعاية بالناس لشدة شرها وإفسادها للأمة المسلمة، ومن أهم أعماله هي حله للمقاطعات وأعادها إلى الخراج بعد أن تعطل هذا المورد لخزينة بيت المال منذ عهود بعيدة، كما أن ملك السلاجقة في عهده «أرسلان شاه» لم يكن له سلطان على بلاد العراق، بل هي خالصة لسلطان الخليفة، وكان الخليفة المستنجد بالله على علاقة وثيقة بالملك العادل نور الدين محمود الشهيد، وهو الذي أمره بإسقاط الخلافة الفاطمية العبيدية في مصر، وقد توفي المستنجد في 9 ربيع الآخر سنة 566هـ

قال ابن الجوزي: وكان المستنجد موصوفاً بالفهم الثاقب والرأي الصائب والذكاء الغالب والفضل الباهر له نظم بديع ونثر بليغ ومعرفة بعمل آلات الفلك والإسطرلاب وغير ذلك.


ومن شعره:

عيرتني بالشيب وهو وقار
ليتها عيرت بما هو عار

إن تكن شابت الذوائب مني
فالليالي تزينها الأقمار


__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 01-04-2010, 06:26 AM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

استشهاد الخليفة الموحدي على أسوار شنترين

(في ذكرى استشهاد عبد المؤمن الكومي: 17 ربيع الآخر 580هـ)



نجح "عبد المؤمن علي" في تأسيس دولة الموحدين بالمغرب، واستكمال ما بدأه أستاذه الشيخ "محمد بن تومرت" الذي بدأ دعوته الإصلاحية في القرن السادس الهجري، ودعا إلى إنشاء دولة تلتزم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتستهدف إقامة خلافة إسلامية، تستلهم عصور الراشدين، وتعيد ما كان عليه السلف الصالح من تقوى وعدل، وكان من شأن هذه الدعوة أن اجتذبت الأتباع، والتفّ حولها الأعوان والأنصار، حتى إذا اشتد عودها؛ نظمت من أتباعها جيشًا ناوش الدولة القائمة، وكانت دولة المرابطين، فلم تأخذ الأمر على نحوٍ من الجدية والاهتمام في بادئ الأمر، ثم تنبهت إلى خطورة هذه الدعوة عليها، وكان لا بد من الصدام معها، وهذا ما حدث.

ولما توفي ابن تومرت في سنة (524هـ= 1130م) خلفه عبد المؤمن علي، وتحمل أعباء الدعوة، ومتابعة تنظيم أعوانها، والإعداد لمجابهة دولة المرابطين، فدخل معها في صراع عسكري، دام أكثر من خمسة عشر عامًا، حتى كلل جهوده بإحكام قبضته على المغرب الأقصى، ودخول مراكش عاصمة المرابطين في سنة (541 هـ= 1146م) معلنًا قيام دولة الموحدين، وتابع عبد المؤمن جهوده في بسط نفوذه، فبعث بحملاته حتى وصلت طرابلس، محققًا الوحدة السياسية للمغرب الإسلامي، وتلقب بلقب خليفة، ونجح في ضم بلاد الأندلس إلى دولته وتنظيم شئونها، وتحصين دفاعاتها أمام هجمات النصارى، وبعد وفاته سنة (588 هـ= 1163م) خلفه ابنه يوسف.

ولاية يوسف بن علي

لما توفي عبد المؤمن بن علي في (27 جمادى الآخرة سنة 558 هـ= 2 من يونيو 1163م) خلفه محمد ابنه الأكبر، وبايعه الناس، فتولى الخلافة شهرًا ونصفًا، ثم عُزل عنها لأمور أُخذت عليه، وأقام شيوخ الموحدين أخاه أبا يعقوب يوسف، وكان في الثلاثين من عمره عندما تولى الأمر، وكان قد قضى سنوات طويلة في الأندلس، واليًا على إشبيلية من قبل أبيه، فتدرب على قيادة الأمور، وتدبير شئون الدولة، وعُرف بثقافته الواسعة ودراسته على كثير من علماء الأندلس، وبحبه للجهاد في سبيل الله.

صعوبات واجهت "يوسف"

كانت دولة الموحدين تحكم أقاليم شاسعة لم يسبق دخولها في لواء واحد مثل الأندلس والمغرب الأقصى والمغرب الأوسط وإفريقية، وكانت مهمة مَن يتولى الأمر في مثل هذه الدولة المترامية الأطراف، المتفاوتة في الثقافة ومستوى الحياة -أن يحافظ عليها كتلة واحدة دون أن ينفصل منها جزء، أو ينتزع منها عدوٌ شيئا، فما بالك والثورات لا تهدأ في إفريقية، والنصارى القشتاليون لا يفتئون يهددون المسلمين في الأندلس؛ ولذا كانت مهمة أبي يعقوب يوسف في غاية الصعوبة؛ حتى تسلس له قيادة الدولة، ويعم الهدوء والأمن ربوع البلاد.

وما إن استقر أبو يعقوب في عاصمته حتى هبّت في وجهة ثورة عارمة في جبال "غمارة" يقودها واحد من زعماء صنهاجة التي تابعته في الثورة، فأرسل إليها قائده أبا حفص، لكنه لم ينجح في إخمادها، فاضطر الخليفة إلى الخروج بنفسه لقتالهم، فهزمهم، وقمع الفتنة في مهدها.

ولم يكد يمضي عامان على حكمه حتى قامت فتنة كبيرة في الأندلس، أشعل جذوتها "محمد بن سعد بن مردانيش" في شرقي الأندلس يريد الاستقلال بما تحت يديه، واستعان بالنصارى القشتاليين والأرغونيين، وأغار على قرطبة، فسير له أبو يعقوب جيوشًا ضخمة يقودها أخواه: أبو سعيد، وأبو حفص، وتمكنا من إلحاق الهزيمة بابن مردانيش الذي فرّ هاربًا، وعاد القائدان إلى مراكش سنة (561 هـ= 1166م).

حملة شنترين



بلغ الخليفةَ أبا يعقوب أن الملكين: فرديناند ملك ليون، وألفونسو أنريكي ملك البرتغال المسيحيين، يوسّعان حدودهما على حساب أملاك المسلمين في الأندلس، فعزم الخليفة الموحدي على استتباب الأمن في الأندلس، والقضاء تمامًا على خطر ابن مردانيش الذي يلقى دعمًا من النصارى هناك.

خرج الخليفة الموحدي إلى الأندلس سنة (566هـ= 1171 م) ومعه جيوشه الجرارة، ونزل بإشبيلية عاصمة دولته في الأندلس، وأرسل جيوشه للقضاء على ابن مردانيش الذي كان يتحصن في "مرسية" فحاصرته جموع الموحدين، وتوفي وهو محاصَر في (رجب 567 هـ= مارس 1173)، وقام ابنه بالدخول في طاعة الموحدين، وسلّم لهم الحصون التي كانت تابعة لأبيه، مثل حصون بلنسية ومرسية وشاطبة ودانية ولورقة.

وظل أبو يعقوب في إشبيلية بالأندلس أربع سنوات، نظم خلالها عدة حملات ضد البرتغاليين والقشتاليين، ثم عاد إلى "مراكش" في سنة (571 هـ= 1177م)، غير أن الأحوال لم تلبث أن ساءت في الأندلس من جديد، وعاد الملكان المسيحيان إلى سيرتهما الأولى في التهام بلاد الأندلس.

وكان الملك البرتغالي قد اشتد خطره بعد أن تحالف مع ألفونسو الثامن الذي تولى عرش ليون وقشتالة خلفًا لفرناندو الثاني، ولم يكن أمام الخليفة الموحدي سوى العبور بجيش عظيم لإيقاف الخطر البرتغالي الداهم، والحفاظ على ما بقي من دولة الإسلام في الأندلس التي لم تزل تتناقص رقعتها سنة بعد أخرى أمام هجمات النصارى هناك.

سار الجيش الموحدي نحو "شنترين" كبرى قواعد غربي الأندلس، وكانت قد سقطت في أيدي البرتغاليين سنة (541 هـ= 1146م) وحاصرها حصارًا شديد، وكان ألفونسو أنريكي قد ترامت إليه أنباء هذه الحملة فزاد في تحصين شنترين، وشحنها بالمؤن وآلات الحرب، واستعد للحصار.

لم تفلح هجمات الموحدين في اقتحام المدينة الحصينة، ولم يترك أبو يعقوب وسيلة يضيق بها على المدينة إلا اتبعها من قطع المؤن والعتاد عن الوصول إليها، فما زاد ذلك أهلها إلا صمودًا واستبسالا في الدفاع، وجلدًا في تحمل مشاق الحصار.

وفي أثناء الحصار أصدر الخليفة أمرًا برفع الحصار عن المدينة المنهكَة في (1 من ربيع الأول= 2 من يوليو 1184م)، ويختلف المؤرخون في السبب الذي جعل الخليفة يصدر قراره المفاجئ، فيذهب بعضهم إلى خشية الموحدين من هجوم البرد؛ إذ كان الوقت آخر فصل الخريف، وخافوا أن يفيض النهر فلا يستطيعون عبوره، وتنقطع عنهم الإمدادات، فأشاروا على الخليفة الموحدي بفك الحصار والرجوع إلى إشبيلية.

وذهب بعضهم إلى أن الخليفة أمر بانتقال الجيش إلى موضع آخر، وكلف ابنه بالاستعداد للرحيل من تلك الليلة لغزو مدينة أشبونة، ففهم خطأ، وظن أنه أمره بالرحيل في جوف الليل إلى إشبيلية.

وتذهب رواية أخرى أن الخليفة الموحدي علم بسير ملك ليون وقشتالة بجنوده لنجدة المدينة المحاصرة، فخشي الخليفة أن يعمل القشتاليون على إعاقة عبوره النهر إلى الضفة اليسرى، فعجّل بالرحيل.

وأيًا ما كان السبب الذي حمل الخليفة على اتخاذ قراره المفاجئ، فإن عملية ارتداد الجيش الضخم كانت تتسم بالفوضى وتتم على عجل، ولم يكن هناك ما يدعو إلى الارتباك.

استشهاد الخليفة

فُهم قرار الخليفة خطأ، وسارع قادته بتنفيذ قراره على وجه السرعة، فعبر معظم الجيش في جوف الليل إلى الضفة الأخرى، فلما أسفر الصباح فوجئ الخليفة بالحقيقة المروعة ولم يبق حول الخليفة سوى قوات قليلة، فانحدر الخليفة نحو النهر، وبقي ابنه في نفر من جنوده لحماية انسحاب الجيش، لكن نصارى شنترين أدركوا ما حدث في معسكر المسلمين، فبادروا بالخروج من المدينة، وهجموا على القوات المنسحبة، فسقط عدد كبير، وأصيب الخليفة بسهم مسموم، وتدارك الناس حين سمعوا صرخات الخليفة، فاقبلوا مسرعين، وتراجع البرتغاليون إلى شنترين، بينما حمل الجنود خليفتهم جريحًا في محفّة، ثم لم يلبث أن لقي ربه شهيدا في (ربيع الآخر 580 هـ = يوليو 1184م).

أبو يعقوب في التاريخ

كان الخليفة أبو يعقوب يوسف من أعظم خلفاء دولة الموحدين، وإذا كان لم يحقق نتائج عظيمة في ميادين الحرب مثلما حقق أبوه الخليفة عبد المؤمن بن علي، أو ابنه الخليفة يعقوب المنصور، فإنه حقق شيئًا عظيمًا في النواحي الإدارية والعمرانية.

اتسم الخليفة أبو يعقوب بالحزم، وتحري العدل، وقمع الظلم والبغي، يدفعه إلى ذلك تقواه وورعه وتبحره في علوم الشريعة، وله في ذلك رسالة بديعة كتبها إلى أخيه والي قرطبة وإلى سائر الولاة بالأندلس بشأن تحري الدقة والأمانة في عقد الأحكام وتوقيع العقوبات، وبلغ من حرصه في ذلك أنه أمر بألا يُقضى بحكم الإعدام على شخص إلا بعد أن تُرفع النازلة (القضية) إليه، مشفوعة بالأسباب التي دفعت القاضي إلى الحكم، وأقوال الشهود ونحوها.

وكان الخليفة شغوفًا بالعلم يجلّ أهله ويقربهم إلى مجلسه، وكان هو عالمًا بارعًا في الفقه، يحفظ صحيح البخاري، ملمًا بعلوم العربية، وكان في مدة إقامته بالأندلس يزين مجلسه بقادة الفكر وزعماء الرأي من أمثال أبي بكر بن طفيل، وابن رشد الفيلسوف، وأبي بكر بن عبد الملك بن زهر الطبيب العبقري، واستأثر ابن طفيل بحب الخليفة وعنايته، فكان لا يفارق مجلسه، ولا يصبر على بعده، وكان رسوله إلى العلماء يدعوهم لحضور مجلسه.

وللخليفة مشاركة علمية بسيطة تكشف عن براعته في علم الحديث والعلوم الشرعية، فله كتاب "الجهاد" يحمل اسمه، وقد أُلحق هذا الكتاب بكتاب "أعزّ ما يُطلب" للمهدي ابن تومرت.

وكان الخليفة محبًا للعمران، كلفًا بإقامة العمائر، فشيد طائفة منها، رفعت اسمه بين ملوك المغرب قاطبة، وحسبك ما قام به في أثناء إقامته بإشبيلية حاضرة الأندلس من المنشآت العظيمة، مثل: مسجد إشبيلية الجامع، وصومعته العظيمة التي أتمّها ولده يعقوب المنصور، ومشروع إمداد إشبيلية بالماء وتجديد أسوارها التي خربتها السيل، وإنشاء القصور والبساتين في إشبيلية .
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-04-2010, 10:22 AM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

فتح مصر.. أرض الكنانة

(في ذكري سقوط حصن بابليون : 18 ربيع الآخر 20 هـ)


لم يمنع تأخر إسلام عمرو بن العاص من أن يتبوأ مكانة رفيعة بين أبطال الإسلام، تقدمه مواهبه، وتزكيه أعماله، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) ليغفل عن ذلك؛ فلم يجعل تأخر سابقته في الإسلام تحول دون النفع منه، وكان شأن عمرو بن العاص في ذلك شأن خالد بن الوليد ارتفعت بهما أقدارهما إلى ما يستحقان من تقدير وإعجاب.

وقدر النبي (صلى الله عليه وسلم) في عمرو كفايته وحزمة، فجعله قائدًا لبعض سراياه، مثل سرية ذات السلاسل لإخضاع قبيلة قضاعة، فتم له النصر، ورأى فيه عقلاً ومهارة، وسياسة وحكمة، فاختاره صلى الله عليه وسلم سفيرًا يحمل كتابه إلى ملكي عمان، يدعوهما إلى الإسلام، فنجح في مهمته، وأسلم الملكان وتبعهما خلق كثير، ثم ولاه النبي صلى الله عليه وسلم صدقة عمان، وظل في منصبه ما يقرب من سنتين حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد إلى المدينة.

لقاء الجابية

لما تم للمسلمين فتح بلاد الشام وفلسطين اتجهت أنظارهم إلى مصر، وقد لمعت هذه الفكرة في ذهن عمرو بن العاص أحد قادة فتوح الشام، فعرضها على الخليفة عمر بن الخطاب حين قدم "الجابية" من أعمال دمشق سنة (18هـ = 639م) وكان الخليفة العادل قد غادر المدينة إلى بلاد الشام ليتسلم مدينة القدس صلحًا، بعد أن أصر بطريرك المدينة المقدسة على حضور الخليفة ليتسلمها بنفسه.

وكان فتح مصر ودخولها تحت سلطان المسلمين ضرورة ملحة، تفرضها دواعي الاستقرار واستتباب الأمن والسلام في الشام، بعد أن رأى عمرو أن سواحل سورية وفلسطين لن تكون في مأمن أبدًا ما دام أسطول الروم يعتمد في قواعده على مصر.

تردد الخليفة في قبول هذه الفكرة في بادئ الأمر، وكان عمر يكره أن يبتعد عنه جيشه أو يفصل بينه وبينهم بحار ومفاوز، فيصعب عليه أن يتابعهم، ويتتبع أخبارهم، كما أنه كان ضنينًا بجنوده حريصًا على حياتهم لا يوردهم مورد الهلاك، ولا يدفع بهم إلا حيثما تتحقق الثمرة وترجى الفائدة، غير أن عمرو لم يزل به يقنعه ويضمن له أسباب النجاح والظفر، والبعد عن مكامن الخطر، حتى رضي الخليفة العادل وأذن له بالفتح.

مقدمات الفتح


خرج عمرو بن العاص من "قيسارية" بالشام على رأس قوة صغيرة تبلغ نحو أربعة آلاف جندي في أواخر سنة (18هـ = 639م)، مخترقًا رمال سيناء حتى وصل العريش في (ذي الحجة 18هـ = ديسمبر 639م)، وقضى بها عيد الأضحى، بعد أن فتحها من غير مقاومة، فلم تكن بها حامية للدفاع عنها، ثم غادرها غربًا سالكًا طريقًا بعيدًا عن البحر، وهو طريق كان يسلكه الفاتحون والمهاجرون والسائحون منذ أقدم العصور، حتى وصل إلى مدينة "الفرما" وهي مدينة قديمة، ذات حصون قوية شرقي مدينة بورسعيد الحالية، وكان لها ميناء يطل على البحر، ويصل إليها جدول ماء من النيل. وقد اضطر المسلمون إلى حصارها شهرًا أو أقل من ذلك، أبلوا خلالها بلاءً حسنًا، حتى فتحت المدينة في (أول المحرم 19هـ = 2 من يناير 640م) وأجمع المؤرخون أن للقبط يدًا في هذا النصر، إذ كانوا أعوانًا للفاتح الشجاع.

الطريق إلى بابليون




تقدم عمرو حتى وصل إلى "بُلْبَيْس" في (15 من المحرم سنة 19هـ=16 من يناير 640م) فحاصرها شهرًا حتى تمكن من فتحها بعد قتال شديد مع الروم، واستشهد من المسلمين عدد غير قليل في حين خسر الروم ألف قتيل، ووقع في الأسر نحو ثلاثة آلاف، وأصبح الطريق ممهدًا لعمرو لكي يصل إلى رأس الدلتا وحصن بابليون.

وواصل عمرو سيره حتى بلغ قرية "أم دنين"، وهي قرية كانت تقع على النيل شمال حصن بابليون، وموقعها الحالي في قلب القاهرة عند الحديقة التي تشغلها حديقة الأزبكية وما حولها، وكان النيل يومئذ يمر بهذا المكان.

عمرو يطلب المدد

تنبه الروم على خطورة موقفهم، بعد أن أصبح المسلمون في وسط البلاد، فانحدر الروم إلى حصن بابليون لتنظيم الدفاع، ونشب قتال بين الفريقين، لكنه لم يكن حاسمًا، وكان الروم يستغلون اتصال حصن بابليون بحامية "أم دنين" عن طريق النيل فيشنون غارات سريعة على المسلمين، ولم تكن قواتهم من الضخامة بحيث تتحمل خسائر متلاحقة تصيبهم من الروم، فاضطر عمرو إلى طلب النجدة، حتى يكمل مسيرته، ويعوض ما فقده خلال غزوته، فبعث إليه عمر بن الخطاب بأربعة آلاف مقاتل، وبكتاب يقول فيه: "قد أمددتك بأربعة آلاف، فيهم أربعة رجال، الواحد منهم بألف رجل"، وكان هؤلاء الأربعة هم: الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، والمقداد بن الأسود، وكلهم من شجعان الرجال وأبطال الحرب.

معركة هليوبوليس

ولما وصل المدد إلى عمرو بن العاص في (جمادى الآخرة سنة 19هـ=يونيو سنة 640م) سار بجيشه إلى مدينة عين شمس (هليوبوليس)، وقامت خطته على أن يجتذب إليه جند الروم لينازلهم خارج الحصن، ولم تكن للعرب وقتئذ خبرة تامة باقتحام الحصون والاستيلاء عليها.

وخرجت جيوش الروم لملاقاة المسلمين في السهل الواقع بين الحصن ومدينة عين شمس وكانت عيون عمرو قد نقلت إليه أخبار هذا التحرك، فأعد خطة ماهرة، واستعد بقلب جيشه عند عين شمس، وأرسل في جنح الليل كمينًا من جيشه استقر غربًا في قرية أم دنين، وآخر اختبأ عند جبل المقطم.

ولما بدأت المعركة وكانت في (رجب سنة 19هـ = يوليو 640م)، واشتد القتال، انقضت الكتيبة المختبئة عند الجبل بقيادة خارجة بن خدافة على مؤخرة الروم، وأعملت فيهم السيف، فأخذتهم المفاجأة، وتملكهم الفزع والرعب، فولوا هاربين نحو قرية "أم دنين" وكان في انتظارهم الكتيبة الأخرى، فأحاطت بهم وأمعنت فيهم قتلاً وضربًا، وفر الباقون إلى حصن بابليون.

حصار حصن بابليون

مكن هذا النصر معسكرات المسلمين من أن تشرف على حصن بابليون مباشرة من جهته الشمالية والشرقية، ولا تزال بقايا هذا الحصن موجودة في حي مصر القديمة، وكانت أسوار هذا الحصن تضم مساحة تزيد عن الستين فدانًا.

ضرب المسلمون حصارًا قويًا على الحصن المنيع، غير عابئين بمجانيق الروم، تدفعهم حماستهم وحب الجهد ونيل الشهادة في مهاجمة الحصن، والقيام بسلسلة من المناوشات التي كانت نتائجها تضعف معنويات المحاصرين، ولم يكد يمضي على الحصار شهر حتى دب اليأس في نفس "المقوقس" حاكم مصر، فأرسل في طلب المفاوضة والصلح، فبعث عمرو بن العاص وفدًا من المفاوضين على رأسه عبادة بن الصامت الذي كلف بألا يتجاوز في مفاوضته أمورًا ثلاثة يختار الروم واحدة منها، وهي: الدخول في الإسلام، أو قبول دفع الجزية للمسلمين، أو الاحتكام إلى القتال، فلم يقبل الروم العرضين الأولين، وأصروا على مواصلة القتال.

وحاول المقوقس أن يعقد صلحًا مع عمرو بعد أن تيقن أنه لا قبل له بمواجهة المسلمين، وآثر الصلح وحقن الدماء، واختار أن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب شروط الصلح، وأرسلها إلى هرقل إمبراطور الروم للموافقة عليها، وأسرع إلى الإسكندرية مغادرًا الحصن، وأردف شروط الصلح برسالة إلى هرقل يعتذر فيها لسيده عما أقدم عليه من الصلح مع السلمين، فما كان من هرقل إلا أن أرسل إليه وإلى قادة الروم يعنفهم على تخاذلهم وتهاونهم إزاء المسلمين، ولم يكن لهذا معنى سوى رفض شروط الصلح.

استأنف المسلمون القتال وشددوا الحصار بعد فشل الصلح، وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بوفاة هرقل ففتّ ذلك في عضد الجنود داخل الحصن، وزادهم يأسًا على يأس، في الوقت الذي صحت فيه عزائم المسلمين، وقويت معنوياتهم، وقدموا أروع أمثلة الشجاعة والفداء، وفي غمرة الحصار تطوَّع الزبير بن العوام بتسلق سور الحصن في ظلام الليل، وتمكن بواسطة سلم وضع له أن يصعد إلى أعلى السور، ولم يشعر الروم إلا بتكبيرة الزبير، تهزُّ سكون الليل، ولم يلبث أن تبعه المسلمون يتسابقون على الصعود، تسبقهم تكبيراتهم المدوية فتنخلع لها أفئدة الروم التي ملأها اليأس، فكانت تلك التكبيرات أمضى من كل سلاح قابلهم، ولم تكد تشرق شمس يوم (18 من ربيع الآخر سنة 20 هـ=16 من إبريل 641م) حتى كان قائد الحصن يعرض الصلاح على عمرو ومغادرة الحصن، فكان ذلك إيذانًا بعهد جديد تسلكه مصر، ولا تزال تحمل رايته حتى يومنا هذا.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 04-04-2010, 06:52 AM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

غرناطة وأمل البقاء

(في ذكرى معركة ألبيرة: 20 ربيع الآخر 718هـ)




انحصرت دولة الإسلام في الأندلس منذ مطلع القرن السابع الهجري في مملكة غرناطة التي شغلت الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الأندلسية، وكانت تضم ثلاث ولايات كبيرة هي: غرناطة، وألمرية، ومالقة، وحملت هذه الدولة الصغيرة مهمة المحافظة على الإسلام في هذه البقعة، والتمسك به في ظل عدو ماكر يتربص بها الدوائر، وينقضّ كل فترة ليلتهمَ جزءا من أراضيها.

ونجحت هذه المملكة في أن تبقى، على الرغم من المحن التي أطبقت عليها من كل جانب، وظلت تدفع الأخطار عن نفسها بالجهاد والمقاومة تارة، وبالحيلة والمصانعة تارة أخرى، وطال عمرها أكثر من قرنين ونصف من الزمان، وهي تقاوم عوادي الزمن وضعف الهمم، وخور العزائم، إلى أن لقيت مصرعها في (2 من ربيع الأول 897 هـ = 2 من يناير 1492م) في مأساة مروعة من المآسي التي شهدها العالم الإسلامي في تاريخه.

وقد نجح بنو الأحمر ملوك غرناطة في أن يقيموا دولة قوية وحضارة زاهرة لا يزال ما بقي منها شاهدًا على عصر راق، وفترة زاهية، وحضارة مزدهرة، ولو لقيت هذه المملكة عونًا مستمرًا من العالم الإسلامي، ودعمًا قويًا، لما سقطت، ولقاومت عدوها الغادر، ولربما استردت ما سُلب من المسلمين، ولأعادت للأندلس وحدته.

ولاية إسماعيل بن الأحمر

تولى السلطان "أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر" عرش مملكة غرناطة في (713 هـ = 1313م)، وكان سلطانًا قويًا، محبًا للعدل، اشتهر بإقامة الحدود، وتطبيق الشرع، وكانت دولته في عنفوان قوتها وفتوة شبابها، فأحيا الجهاد، وردّ هجمات النصارى عن بلاده، ودفع غوائلهم، وأظهر قوته وبأسه.

وفي بداية عهده قام القشتاليون كعادتهم بغزو غرناطة، واستولوا على عدد من القواعد والحصون، والتقوا مع المسلمين في وادي "فرتونة" سنة (716هـ = 1317م) لقي المسلمون فيها هزيمة شديدة.

ولما رأى القشتاليون نجاح غزوتهم غرّهم ظفرهم وفوزهم، وعزموا على الاستيلاء على الجزيرة الخضراء ليحولوا دون وصول الإمداد إلى المسلمين من عدوة المغرب، لكن السلطان إسماعيل بادر إلى تحصينها، وجهز الأساطيل لحمايتها من البحر.

معركة ألبيرة

عدل القشتاليون عن مشروعهم، وعولوا على مهاجمة غرناطة، ولم يكن أمام السلطان إسماعيل سوى طلب النجدة من سلطان المغرب، لكنه لم يمد له يد العون والمساعدة، وتركه يلقى عدوه دون مؤازرة وتأييد، وزحف القشتاليون بجيشهم الجرار على غرناطة تؤازرهم فرقة متطوعة من الإنجليز يقودها أمير إنجليزي.

لم يكن أمام المسلمين سوى الاعتصام بالله ، والتمسك بالصبر والثبات، وحسن الإعداد، وكان جيشهم لا يتجاوز سبعة آلاف جندي، لكنهم صفوة مختارة، وأبطال صناديد، يقودهم شيخ الغزاة "أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء" وهو ممن توافرت له الشجاعة والجرأة، وحسن القيادة، وحكمة التصرف، فلم يهلع لكثرة جيش عدوه، أو يهتز فؤاده.

تقدم فرسان المسلمين فالتقوا بطلائع النصارى في (20 من ربيع الآخر سنة 718 هـ = 21 من يونيو 1318م) وما هي إلى ساعة حتى ردوهم بخسائر فادحة، ثم زحف أبو سعيد بجنده البواسل، ونشبت معركة حامية الوطيس، ثبت فيها المسلمون، وأيدهم الله بجند من عنده، وانكشف غبار المعركة عن فوز مستحق للمسلمين، وقُتل عدد كبير من القشتاليين، من بينهم قادتهم وأمراؤهم، وأُسر منهم بضعة آلاف، ومن نجا من المعركة منهم تكفل النهر بهلاكه عند محاولته الهرب والفرار. وخرج أهل غرناطة وهم لا يصدقون ما أسفرت عنه المعركة، يجمعون الأسلاب والغنائم.

تجديد معاهدة الصلح مع أراجون

كانت قوة الدولة دافعًا إلى قيام ملك أراجون "خايمي الثاني" بتجديد معاهدة الصلح مع السلطان إسماعيل؛ رغبة منه في الصلح وإقرار الأمن لمدة خمسة أعوام، وذلك في سنة (721هـ = 1321م)، ونصت المعاهدة على تأمين أراضي الطرفين تأمينًا تمامًا، فلا يعتدي طرف منهما على الآخر، ويتعهد كل منهما بمعاداة من يعادي الآخر، وألا يؤوي له عدوًا أو يحميه، وأن تكون سفن كل منهما وشواطئه ومراسيه آمنة.

التحول إلى الهجوم

ساءت أحوال مملكة قشتالة في هذه الفترة، وشحت مواردها، وقلّ رجالها، بسبب الحروب التي كانت تشتعل بين أمرائها من حين إلى آخر، وكانت الإدارة المالية في حالة يرثى لها من الاستغلال والفساد واغتصاب الأموال، فضلا عن فساد القضاء، وسوء استعمال السلطة.

كانت هذه الأحوال فرصة لأن يسترد المسلمون بعضًا مما فقدوه من مدن وقلاع، وجاء انتصار ألبيرة، لكي يسترد المسلمون ثقتهم في أنفسهم، فتعاقبت غزوات المسلمين في أراضي النصارى، وعادت الدولة الإسلامية في الأندلس فتية ناهضة، بعد أن ظن الناس أنها شارفت طور الفناء، فزحف السلطان إسماعيل إلى مدينة "بياسة"، وحاصرها حصارًا شديدًا، ورماها المسلمون بالآت تشبه المدافع كانت تقذف عليهم الحديد والنار، حتى استسلمت سنة (724 هـ = 1324م)، وفي العام التالي (725 هـ = 1325) سار إسماعيل إلى "مرتش" واستولى عليها عَنْوَة، وكانت غزوة موفقة، غنم المسلمون فيها غنائم وفيرة، وعاد السلطان إلى غرناطة مكللا بالنصر.

وفاة مفاجئة

ولم تمض على عودة إسماعيل بن الأحمر ثلاثة أيام حتى قتلته يد الغدر على باب قصره، وكان قاتله ابن عمه، حقد عليه لأنه ظفر بجارية حسناء في معركة مرتش التي حقق فيها نصرًا عظيمًا.. ولقي إسماعيل ربه في (26 من رجب 725هـ = 8 من يوليو 1325م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .