العودة   حوار الخيمة العربية > القسم العام > الخيمة الفـكـــريـة

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: الثالوث فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطبع في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الصفق فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الولدان المخلدون (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الخمار فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الحجاب في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: رقص و قذارة سفيرة (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: الخنق في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الغلمة في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: السجل فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 14-06-2010, 12:45 PM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل السادس: المجتمع المدني والتنظيمات الوسيطة

الجمهورية الأرستقراطية

يربط المؤلف (جون إهرنبرغ) وحدات كتابه بعناية فائقة، متجولاً بين مفكري أوروبا بشكل متتابع لكل مفكر ومتجادل مع من سبقه، ليصل في نهاية كتابه الى رسالته التي أراد الوصول إليها من خلال كتابه.

يتحدث المؤلف في هذا الباب من هذا الفصل، عن (شارل لوي دي سيكوندا: المعروف باسم مونتسكيو) والمولود في جنوب غرب فرنسا قرب (بوردو) عام 1689، والذي يُعتبر أول داعية بوضوح لمسألة (فصل السلطات)

(1)

كان مونتسكيو ابن القاضي، ورئيس المحكمة البرلمانية، مثقفاً ساخراً، يميل للتورية في كتاباته، فهو ابن عائلة برجوازية قريبة من البلاط الفرنسي. كان يريد تقديم النصح للملك الفرنسي، ولكن بطريقة غير مباشرة، وكان معجباً بالنتائج التي أسفرت عنها الثورة الإنجليزية، حاله حال كثير من فلاسفة عصر التنوير.

بدا لمونتسكيو أن النظام الاجتماعي المتسامح والمرن في إنجلترا قد أنهى قرناً صاخباً من دون السقوط في مهاوي التطرف والاستبداد أو الفوضى. فقد تأسس في إنجلترا مجتمعٌ مقسمٌ الى ثلاث طبقات: الملك والنبلاء والعامة، وكلها تتبع لمؤسسات العرش: مجلس اللوردات ومجلس العموم. وهذا قد جسَد بضم الواحد، والقلة، والكثرة في دستور سعيد وحكيم. كانت الدولة والمجتمع واحداً؛ والنشاط الاقتصادي والسلطة السياسية يحددان بعضهما بعضاً، على نحو متبادل، ففقدت الأرستقراطية دورها المهيمن ولكنها لم تتعرض للتدمير.

لقد برَّرت الأرستقراطية، على الدوام، احتكارها الأرض بالقول إنه ما دامت سلطتها وملكيتها مستقلتين عن كل من إرادة الملك وانفعالات الرعاع، فإنها الطبقة الوحيدة القادرة على التوسط بينهما.

(2)

مَيَّز مونتسكيو بين ثلاثة أشكال من الحكومات: الحكومة الجمهورية التي يمسك زمام السلطة فيها جميع الناس (الديمقراطية)، أو أن عوائل معينة (أرستقراطية) تمسك بسلطة السيادة؛ أو الحكومة الملكية التي يمسك فيها الأمير بزمام السلطة، ولكنه يمارسها طِبقاً لقوانين راسخة؛ وحكومة الاستبداد وهي فساد النظام الملكي الذي لا يحكمه قانون، إنما أهواء الأمير ونزواته هي التي تسيره.

وأفضل وصف للاستبداد هو أنه مَلَكية من دون الهيئات الوسيطة للأرستقراطية؛ (إذا أنت ألغيت صلاحيات اللوردات، ورجال الدين، والنبلاء، والبلدات في نظام ملكي، فسرعان ما سيكون لك دولة شعبية، أو دولة استبدادية)*1

وإن الحرية تقتضي تقسيم السلطة وتوزيعها عن طريق مؤسسات جمهورية أرستقراطية: (تشكل السلطات الوسيطة، والخاضعة، والتابعة، طبيعة أي حكومة ملكية، أي طبيعة الحكومة التي يحكم فيها واحد أوحَد اعتماداً على قوانين أساسية. وأقول سلطات وسيطة، وتابعة؛ لكن الواقع أن الأمير، في نظام ملكي، يكون مصدر السلطة السياسية والمدنية بأسرها.)

(إن السلطة الطبيعية، الوسيطة، الخاضعة، هي سلطة النبلاء. فطبقة النبلاء تمثل، بطريقة ما، جوهر النظام الملكي، الذي تقول بديهيته الأساسية: لا ملكية من دون نبلاء، ولا نبلاء من دون ملكية، فمن غير ذلك سيكون هناك مستبد أوحد)*2

(3)

رأى مونتسكيو أن الأنظمة الملكية أكثر استقراراً من أنظمة الاستبداد؛ وذلك لأن هيئاتها الوسيطة تمكنها من تشكيل علاقات منفعة متبادلة بين الملك والنبلاء. ويقتضي هذا توزيع السلطة السياسية طبقا للمكانة الاجتماعية والثروة.

لن يشعر المستبد دائما بالرضا، لكن ملكاً حكيماً يتفهم أن الحفاظ على الامتياز المحلي والتفاوتات الاجتماعية هو أمر جوهري لسلامة الدولة برمتها.

المستبد هو الرجل الخاص الذي ارتقى الى سدة القيادة العامة؛ وهو لا يستطيع أن يحكم مملكة مستقرة لأنه لا يعرف غير رغباته الخاصة، ولا يمكن أن يسمح بقيام مراكز أخرى للسلطة. أما المَلِك، الذي يعرف كل مقاطعة من مقاطعاته، فيمكن أن يضع قوانين متنوعة، وأن يجيز أعرافاً مختلفة.

إن الاستبداد الذي يسوِّي الجميع في مرتبة واحدة خصم لدود للتحرر والاستقرار، لأنه يهاجم التراتبيات التي تسند قاعدة الحكم المعتدل والمسئول.

وهكذا عندما يجعل الإنسان من نفسه مستبداً بلا حدود، تكون فكرته الأولى أن يبسط القوانين. وفي هذه الدول، ينشغل المستبد بإقامة العوائق الجزئية أكثر من انشغاله بحرية رعاياه*3

(4)

البشر متساوون في الحكومة الجمهورية؛ وهم متساوون لدى الحكومات المستبدة؛ في الأولى لأنهم كل شيء، وفي الثانية لأنهم لا شيء.

يطرح مونتسكيو فكرة (مجتمع المجتمعات) أي إقامة فدرالية الهيئات الوسيطة التي تستطيع أن تخدم التحرر بتقييد كل من السلطة التنفيذية وعنف الدهماء. والدولة المختلطة المتشكلة على هذا النحو ستجمع الفضيلة المدنية للنظام الجمهوري مع السلطة الخارجية للنظام الملكي، وهي تقاوم التحلل الداخلي والغزو الأجنبي.

ويميل بل ينحاز مونتسكيو في التنظيمات الوسيطة الى تأسيس مجلسين تشريعيين: (هناك دائماً، في دولة معينة، بعض الناس يتميزون بقوتهم أو ثروتهم أو شرفهم، لكنهم إذا اختلطوا بين الناس، وإذا كان لهم صوت واحد مثل الآخرين، فإن الحرية العامة ستكون استعباداً لهم، ولن تكون لهم مصلحة في الدفاع عنها، ذلك أن أغلب القرارات ستكون ضدهم. ولذلك، فإن دورهم في التشريع يلزم أن يكون بمقدار ما لهم من ميزات، وهو أمرٌ سيحدث إذا ما شكلوا هيئة لها حق في فحص مشروعات الشعب، مثلما أن للشعب الحق في فحص مشروعاتهم.

من الواضح أن لتلك الأفكار أهميتها حتى في عصرنا الحاضر، فمجلس الشيوخ في أمريكا مع مجلس النواب ومجلس الأعيان (في الأردن مثلاً) محاذي لمجلس النواب، وفي كل البلدان التي لها تجارب ديمقراطية معينة، والأصل في تسمية الشيوخ والأعيان و (التشريعي في مصر) كان اسمها (مجلس الملك). حيث عندما أُعطي الحق للشعب في اختيار ممثليه فإن للملك الحق في اختيار ممثليه باعتباره (مؤسسة العرش أو الحكم).




هوامش من تهميش المؤلف

*1ـ روح الشرائع/ مونتسكيو/ كمبردج 1989 ص 18( التهميش مُتَرْجَم).
*2ـ المصدر نفسه.
*3ـ نفس المصدر صفحة 74.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-07-2010, 03:23 PM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


المجتمع المدني والجماعة

(1)

أقام جان جاك روسو نظريته الأخلاقية عن المجتمع المدني ماداً جذورها في مفهوم الجماعة (Community)، في محاولة لتكييف الفضيلة الرومانية والنزعة الجمهورية المكيافيللية مع متطلبات انتشار الأسواق، وترسخ سلطة الأرستقراطيين والملوك. كانت نظرته للعالم بكليتها تستمد حيويتها من قضية بسيطة، ولكن معقدة، مفادها: (الإنسان خَيِّر بطبيعته، والسبب في تحوله شريراً إنما هي مؤسساته).

ربط روسو حال الفطرة بأفراد منعزلين لا أخلاقيين، وكانت لامبالاتهم بعضهم ببعض تعني أنهم لا يضرون ولا ينفعون. فالناس في حال الفطرة عاشوا لأنفسهم، ورغبوا في ما هو ضروري لحفظ ذواتهم الفردية. وإن افتقارهم الى الصلات الاجتماعية أدى بطريقة عجيبة، الى إنقاذهم.

(كان الإنسان البدائي يمشي مطوّفا في الغابات، بلا صناعة، ولا كلام، ولا مسكن، بلا حرب ولا صلات، وبلا حاجة لأقران، وبلا رغبة أيضاً في إلحاق الأذى بهم، وربما لا يدرك أبداً فردانية أي آخر، خاضعاً لانفعالاته واكتفائه الذاتي، ولتوافق مشاعره وذكائه مع حال الفطرة التي هو فيها، لم يكن يشعر بغير حاجاته الحقيقية، ولم يرَ إلا ما اعتقد بأن له مصلحة في رؤيته، ولم يحقق ذكاؤه تقدماً أكثر من خيلائه. وإذا حقق اكتشافاً ما مصادفةً، فإنه لم يكن قادراً على إيصاله، لأنه لا يميز حتى أطفاله. فمهاراته تموت بموته. لم يكن ثمة تربية ولا تقدم؛ والأجيال تتكاثر بلا نفع؛ وكل واحد يبدأ دوماً من النقطة نفسها...)*1

(2)

قال روسو قوله الشهير (يولد الإنسان حُرَاً وهو مقيد بالأغلال في كل مكان). (إذ ليس كافياً توحيد الأفراد بالقسر وبالتهديد بالقوة الغالبة... يتشكل المجتمع المدني على يد أفراد هم أحرار بالطبيعة وأخلاقيون بالقوة)*2

(سيكون هناك دوماً اختلاف كبير بين إخضاع حشود الناس وحكم مجتمع ما. وإذا استعبد فرد واحد بشراً متفرقين، مهما كثُر عددهم، فإني لا أرى غير سيِّدٍ وعبيد، ولا أرى بشراً وقائدهم. إنهم جَمْعٌ، إن شئت، وليس رابطة متحدة. ليس لهذا الجمع صالح عام، ولا هيئة سياسية. وليس ذلك الرجل، حتى لو استعبد نصف العالم، سوى فرد خاص. وليست مصلحته، المنفصلة عن مصالح الآخرين، غير مصلحة خاصة. ولو مات هذا الرجل، لغدت إمبراطوريته، منذ لحظة موته، وبلا روابط)

أراد (روسو) تقديم إجابات عن بعض المفاهيم التي انتشرت في عصر التنوير، بشكل مختلف. فلم يرضَ بمصطلح (صاحب السيادة) عند (هوبز) ولم يرض بمفهوم (الحقوق الطبيعية) عند (لوك)، ولم يقبل بأحقية (طبقة النبلاء) عند (مونتسكيو).

لقد لخص روسو موضوع الترابط الاجتماعي ب (التنازل الكلي لكل شريك، بكل ما له من حقوق الى الجماعة ككل). وعن الحرية يقول: (الشخصية الحرة لا يمكنها أن توجد إلا قرب الآخرين). فالحر يمنح نفسه طوعا (لا قسرا) للسلطة الأخلاقية.

عندما يمنح كل فردٍ نفسه للجميع، فإنه لا يمنح نفسه لأحد؛ وما دام لا يوجد امتياز لفرد على آخر، لأن الفرد يعطي الحق ذاته على نفسه وعلى الآخر، فإنه يكتسب معادل كل ما يفقده.

(3)

يناقش روسو مفهوم (الإرادة العامة General Will)، مبتعداً عن مفهوم (المصلحة العامة) و لا (حكم الأغلبية) و لا (السلطة الملكية) وكلها دلالات عن الصالح العام، لكن الإرادة العامة هي توفر الصلة الأخلاقية بين الفرد والجماعة.

ليس هدف العقد الاجتماعي لدى روسو أن يحافظ على الإنسان الطبيعي، بل كان يتوخى أن ينتزعه من حال الفطرة ليجعله بشراً كامل الإنسانية. ويستلزم (العقد الاجتماعي) وجود جماعة تنظمها الإرادة العامة؛ لأن صالح الكل يتيح لكل فرد أن يحقق أعمق أهدافه وأصدقها. والتوجه الشامل هو وحده الكفيل بتمكين الأفراد من تنظيم مصالحهم الخاصة المتقلبة. وإن الإرادة العامة تحمي الأفراد والجماعة من التدمير المحدود الذي ينجم عن النزعة الجزئية وسوء الظن، والتعصب، والتحامل، والإقصاء.

يهجم روسو على المصلحة الشخصية، وعلى الاستثناءات في تطبيق القوانين. (ليس من المناسب لمن يسن القوانين أن يكون هو من ينفذها، وليس مناسباً لمجموعة من البشر أن يصرفوا انتباههم عن الاعتبارات العامة ويعنون بأشياء الجزئية).

(4)

يقول روسو (كلما تشكلت الدولة على نحو أفضل، طغت الشؤون العامة على الشؤون الخاصة في عقول المواطنين. وفي مدينة حسنة الإدارة، يسارع كل شخص بالذهاب الى الجمعيات العامة. أما في ظل حكومات فاسدة، فلا أحد يرغب في أن يخطو خطوة واحدة نحوها، إذ لا مصلحة له في ما يجري فيها... إن القوانين السليمة تؤدي الى سن قوانين أفضل، أما القوانين السقيمة فتولد القوانين الأسوأ. وحالما يقول المرء ما لي وشؤون الدولة؟ تكون الدولة قد ضاعت).

في القول السابق، يرسم روسو العلاقة أو الخطوط بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني. فعندما تعتبر الدولة (مؤسسة الحكم) أن منظمات المجتمع المدني هي منظمات تابعة لها، فإن النفاق والمداهنة ستكون هي السائدة، وسيعزف الأحرار عن ارتياد تلك المؤسسات.

وعن شرذمة الأحزاب وكثرتها ومؤسسات المجتمع المدني وكثرتها، دون أن يوحدها (إرادة عامة)، ستصبح الإرادة العامة عند كل منها محصورة في حدود تلك الكيانات، وستصبح الإرادة العامة لعموم الوطن ذات معطى ثانوي وهامشي.

كان روسو عدواً لتراتبية النظام القديم، وأعرافه وظلاميته، وكان ناقداً لتعويل زملائه، بصورة أحادية على العقل والمصلحة الفردية.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 05-08-2010, 12:37 PM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أعراف المجتمع المدني

من يستعرض ما تقدم من الكتاب لحد هذه الساعة، سيرى أن الأفكار والنظريات التي وُضعت حول المجتمع المدني، كانت تنضوي تحت مفهومين: مفهوم المساواة المطلقة، ومفهوم التسليم بالتراتبية.

إذا كان جان جاك روسو هو أحد أركان النظريات التي تدعو الى المساواة المطلقة، فإن (إدموند بورك) كان من ألد أعداءها. و(إدموند بورك) هذا إيرلندي ولد في دبلن عام 1729 وتوفي في عام 1797، وهو رجل دولة ومؤلف وخطيب ومنظر سياسي وفيلسوف. خدم مدة طويلة في مجلس العموم البريطاني. ومعروف بدعمه للمستعمرات الأمريكية في كفاحها ضد الملك (جورج الثالث)، الذي أدى الى الثورة الأمريكية، كما أنه معروف بمعارضته للثورة الفرنسية، وقد كتب في ذلك خلاصة الموقف الأوروبي من الثورة في كتابه (تأملات في الثورة الفرنسية).

(1)

المساواة والمساواتية (المساواتية Leveling: هي إلغاء المراتب الاجتماعية، وامتيازاتها، و(المساواة Equality): هي التمتع بحقوق واحدة أمام القانون. وهما في نظر (إدموند بورك) لا يساعدان إلا على تدمير المجتمع المدني.

لقد أرجع (بورك) عنف الثورة الفرنسية الى تمسكها بالحلم الأخلاقي غير الواقعي في المساواتية، لأنها في نظره تتعدى على القدرة الإبداعية والتجديدية للمجتمع المدني. إن أفضل النوايا في العالم لا يمكنها أن تكون نظاماً جديداً. وحالما جرف الطيشُ الفرنسيين وراء الحدود التاريخية والعرفية للإصلاح المعتدل، لم يبق أمامهم من خيار سوى الانسياق وراء الهجوم على الحضارة نفسها. وعلى العكس من ذلك فإن البريطانيين فهموا سلطة ((العرف)) والتاريخ، فاحترمت الثورة الإنجليزية المجيدة الأعراف، والممارسات، والمؤسسات التقليدية التي تنبع منها كل حرية.

التاريخ والعرف يؤسسان توازناً دقيقاً بين عناصر أي دستور، ومن الحكمة ألا نعبث فيها. (إن ميثاق المجتمع والتزامه، الذي يطلق عليه عموماً اسم الدستور، يمنع مثل هذا الإقحام أو هذا الاستسلام. إن الأقسام المكونة لدولةٍ ما ملزمة بالتمسك بإيمانها المشترك بعضها ببعض، وبأولئك الذين يتحصلون على أي مصلحة جدية تجري بفضل التزاماتهم، بمقدار ما تلتزم الدولة كلها بإيمانها بالجماعات المنفصلة. وإلا فسرعان ما يصيب الوهن السلطة والكفاءة، ولا يعود ثمة قانون، بل إرادة القوة المتغلبة)*1

(2)

إن تشديد (بورك) على قوة العرف الموحدة يبين سبب عدم قلقه من الحزبية، أو حتى النزاع. فالسلم الاجتماعي يقتضي الحفاظ على مراكز السلطة الموجودة.

في استعراضنا السابق لرؤى (مونتسكيو) وجدناه قد لام الفرنسيين لتخليهم عن المؤسسات الأرستقراطية التي كانت أداة لاحتواء الجماهير، وكابحاً للنظام الملكي. وكان لِزاماً عليهم أن يتعظوا بالأحداث الإنجليزية، وأن يقيموا البناء على الأسس التي تركها أسلافهم.

كان ممكن لبعض التعديلات البسيطة (حسب مونتسكيو) على النظام الملكي أن تضمن الحريات العامة وفي نفس الوقت أن يبقى نفوذ النظام الملكي على الكل دون انحراف الأقسام المختلفة*2

إن المجتمع المدني يتشكل على أساس علاقات تكاملية بين الفئات الاجتماعية التي يكون لانسجامها المتبادل جذور تاريخية عميقة، ولا خير يُرتجى من طموحٍ في غير محله. ولا يمكن إهمال التاريخ، أو إعادة كتابته باسم أي أيديولوجيا. فالاستقرار والنظام والتقاليد والأعراف والملكية الخاصة والدين كلها تشكل أسس أي مجتمع مدني مستقر. وهي ركائز دمرتها الثورة الفرنسية (برأي بورك).

(3)

في عام 1215 صدر ما يُسمى ب (الميثاق الأعظم) أو (الوثيقة العظمى للحريات)، وكانت مناسبة صدور تلك الوثيقة خلافات نشبت بين (جون) ملك إنجلترا والبابا (إنو سينت الثالث) والبارونات حول حدود سلطة الملك. وأقرت هذه الوثيقة أن إرادة الملك مقيدة بالقانون. فصارت فعلاً أعظم وثيقة في تاريخ الديمقراطية.

وفي عام 1689 صدر في إنجلترا إعلان حقوق الإنسان، حصل بموجبه الشعب، المُمَثَل بالبرلمان على حريته وحقوقه، فضلاً عن بنود أخرى عديدة.

يُذَكِر (بورك) الأوروبيين والفرنسيين بالذات، بالمسيرة التي كانت بين التاريخين، وتأصيل المسيرة الديمقراطية الإنجليزية التي راعت التاريخ والأعراف. ويقول: (لدينا تاج متوارث، وطبقة نبلاء متوارثة، ومجلس عموم وبَشرٌ يرثون الامتيازات، والحقوق الدستورية والحريات المتحدرة من شجرة ممتدة من الأجداد.

ثم يخاطب الفرنسيين: (كان لديكم كل هذه المنافع في دولكم القديمة، ولكنكم شئتم التصرف كما لو أن لديكم كل شيء لتبدأوا من جديد. لقد بدأتم بداية كريهة، لأنكم احتقرتم كل شيء كان ينتمي إليكم.

لقد هاجم المساواتية الفرنسية فيقول أنها تؤدي الى حماية الشعب، صحيح، وتجعله مطيعاً أيضا صحيح، ولكنها تجعله مكتفاً وغير سوي. فالمجتمع المدني تشكله اللامساواة.



هوامش من تهميش المؤلف
*1ـEdmund Burke, Reflections on the Revolution in France, Edited by Thomas H.D. Mahoney (New York: Macmillan 1955. صفحة 23.
*2ـ نفس المصدر صفحة 40

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-09-2010, 01:45 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


الدروس الأمريكية

في عام 1835 أصدر الأرستقراطي الفرنسي (ألكسي دي توكفيل 1805ـ 1859) كتابه ( الديمقراطية في أمريكا). وهو الذي سافر الى أمريكا وهو في عمر 25 عاماً، لوضع دراسة عن السجون الأمريكية، ولكنه فوجئ بمادة مختلفة للدراسة، جعلته يضع مؤلفه (الديمقراطية في أمريكا) من مجلدين وهو من أهم الكتب التي صدرت عن هذا الموضوع في الحقبة نفسها، ليعود بإصدار مجلده الثاني في عام 1940.

(1)

كتب توكفيل (( من بين الأشياء الغريبة التي لفتت انتباهي، خلال إقامتي في الولايات المتحدة، لم يستوقفني شيءٌ بهذه القوة أكثر من المساواة العامة في الظروف القائمة بين الناس)).

كان توكفيل يخاطب الأوروبيين وبالذات الفرنسيين، يدعوهم لدفن الماضي، وإدراك الفرص والمخاطر التي طرحتها المساواة الاقتصادية على السياسة والمجتمع المدني على حد سواء.

كان ضعف الدولة (في أمريكا) أول شيء يستوقف توكفيل. فجاء تفسيره ليرسي أول التمييزات بين أمريكا ( المجتمع القوي، والدولة الضعيفة)، وأوروبا (الدولة القوية، والمجتمع الضعيف)، وهو التمييز الذي ترك تأثيراً فاعلاً في التنظير المعاصر. إن الافتقار الى التراث الإقطاعي الراسخ، وما صاحبه من غياب ( للنظام القديم)، وندرة المدن الكبيرة وما ترتب عليه من تزايد أهمية من تزايد أهمية المجالس المحلية، والغياب النسبي للبيروقراطية، وهو غياب مقرون بتقاليد اللامركزية، والعزلة الجغرافية، وغياب جيش كبير دائم، كل هذه العوامل، لا سيما عندما تُضَمُ الى المساواة الاجتماعية الواسعة، وثقافة الاعتماد على الذات، ومستوى منخفض من صراعات الطبقات، تُبين لماذا لم يكن لأمريكا تقاليد الدولة القوية التي ميزت التاريخ الأوروبي.

(لا شيء يستوقف المسافر الأوروبي في الولايات المتحدة أكثر ما نسميه نحن بالحكومة، أو الإدارة. ثمة قوانين مدونة في أمريكا، ويرى المرء التنفيذ اليومي لها، ولكن على الرغم من تحرك كل شيء بانتظام، لا يمكن اكتشاف المحرك في أي مكان. واليد التي توجه الماكنة الاجتماعية غير مرئية)*1

(2)

يذكر مؤلف الكتاب الذي بين يدينا (جون إهرنبرغ)، الكيفية التي يستدعي فيها (توكفيل) نماذجه لإحداث التأثير في نفسية من يخاطبهم.

فهو في حديثه عن نمط الإدارة والدور الشعبي في الولايات المتحدة يقول (كان تدخل الناس في الشؤون العامة، والتصويت الحر على الضرائب، ومسئولية ممثلي السلطة، والحرية الشخصية، والقضاء المستند الى هيئة المحلفين في حين أن الأشياء كانت تمارس بشكل منقوص في أوروبا وبالذات في إنجلترا الجديدة فالقوانين هي من وضع الدولة)*2

في إنجلترا الجديدة، تشكلت دوائر البلديات (Township) تشكلاً تاما ومؤكداً منذ بواكير العام (1650). وكانت استقلالية البلدات النواة التي تلتقي حولها المصالح والأهواء والحقوق والواجبات وتتشبث به. فهي وفرت سَعَةً في نشاط الحياة السياسية الحقيقية بشقيها الديمقراطي والجمهوري. وكانت المستعمرات ما زالت تعترف بسيادة البلد الأم.

عينت البلدات في إنجلترا الجديدة حكامها على اختلاف أنواعهم، وخمنت مقدار ما عندها، وفرضت على نفسها الضرائب. وفي أي بلدة من بلدات إنجلترا، لم يجرِ قانون التمثيل؛ بل كانت شؤون المجتمع تبحث في الساحات العامة كما في أثينا.

ليلاحظ القارئ الكريم، أن توكفيل شأنه شأن (مونتسيكيو) من المعجبين بصدارة إنجلترا في التجربة الديمقراطية، ولكنه زاد عليه في دمجها أو دمج ما يبشر به من أفكار مع التجربة الأمريكية.

وعندما يعرج (توكفيل) على التجربة الفرنسية ـ رغم ثورتها ـ فإنه يصفها بالسلطة (الممركزة حول الثورة) والتي لن تلاءم الحياة في أمريكا ( مهما تكن السلطة المركزية متنورة وبارعة، فلا يمكنها بنفسها أن تستوعب كل تفصيلات حياة أمة عظيمة. فمثل هذه اليقظة تتجاوز قوى البشر. فقوة هذه السلطة تخذلها عندما يُراد تحريك المجتمع على نحو عميق، أو تسريع تقدمه، وإذا ما صار تعاون المواطنين الخصوصيين أمراً ضروريا لتعزيز تدابيرها يفتضح سر عجزها)*3

وعلى الجانب الأمريكي فإن النقاط المناقضة للنزعة المركزية للدولة الفرنسية تتمثل في المؤسسات المحلية القوية المدعومة بثقافة (فردانية) ومحلية ضيقة تذود عن الحرية من خلال تقييد سلطة الدولة، وجعل الناس أقرب الى أداء مهمات القيادة في مواطنهم.

إن الحكم الذاتي المحلي كان ملائما تماما للثقافة الأمريكية المتمثلة في الاعتماد على الذات؛ فكل شخص هو أفضل من يُقَيم ما يخصه، وهو أنسب شخص يوفر لنفسه ما يحتاجه. أما البلدة والمقاطعة فإنهما كفيلان بالعناية بمصالحهما الخاصة، والدولة تمارس الحكم، لكنها لا تنفذ القوانين.

(3)

(يشكل الأمريكيون، من كل الأعمار، والمراتب والميول، تجمعات طوعية. فهم لا يملكون فقط الشركات التجارية والصناعية، التي يساهم فيها الجميع، بل يشكلون أيضاً تجمعات من ألف نوع ونوع؛ دينية وأخلاقية، جادة وعابثة، جليلة أو مقيدة، صغيرة أو ضخمة. والأمريكيون يكونون التجمعات للاستمتاع، ولتأسيس المدار، وبناء النُزُل، وإقامة الكنائس، ونشر الكتب، وإرسال المبشرين الى جهات المعمورة، وبهذه الطريقة أسسوا المستشفيات والسجون والمدارس... إنهم يؤلفون جمعية طوعية، ترأس ما تدير بعكس فرنسا التي ترأس فيها الحكومة أي مشروع)*4

يقول توكفيل ( أن المجتمع المدني سيخدم التحرر عن طريق التخفيف من وطأة تأثير أي مصلحة مفردة، وإضعاف الأغلبية، والاحتراس من تجاوزات الديمقراطية نفسها التي حفزت على ظهور هذه الأمور)*5

وعندما يشير بطرف خفي لخطورة التسلط تحت أي مسمى فإن توكفيل يؤكد (لا أرى ثمة وقاية ضد الطغيان الأشد إثارة للسخط؛ وربما يمكن لفئة صغيرة أو فرد واحد، يطوق نفسه بحصانة لا يطولها القانون، أن يقمع شعباً كبيراً)*6

(4)

بعد هذا التغزل الطويل من توكفيل بالنموذج الأمريكي، فإنه يتساءل متخوفاً من مصير هذا النموذج فيقول: ( عندما تكون الظروف الاجتماعية متساوية، يميل كل إنسان للعيش بمعزل عن الآخرين، ويتمحور حول نفسه متناسياً البشر حوله)*7

هو يريد توازناً دقيقاً ومدروساً، ولا يحقق هذا التوازن إلا مجتمع مدني حر وقوي ومؤمن بما يفعل، لأنه حسب رأيه (فالديمقراطية لا تجعل من كل إنسان متنكراً لأسلافه فحسب، بل هي تطمس أصله وتفصل معاصريه عنه. وترده فريسة لذاته ووحيداً. وتهدد في الأخير بحبسه في عزلة مشاعره القلبية الفردية)

وهنا يتوجه بنصيحة لتواصل الفرد بالمجموع لتعزيز قيمته أمام الآخرين (قد يكسبك إنجازٌ رائع رضا الناس بضربة واحدة؛ ولكن لكي تحظى بحب واحترام السكان الذين يحيون حولك، سيتوجب عليك أن تثابر في تقديم الخدمات الصغيرة المتصلة، والأعمال الخيرية الخفية، وأن تتطبع على العطف الدائم، وأن تكون معروفاً بالنزاهة)

وفي التحذير من تغول الدولة ( كلما حلت السلطة محل التجمعات الطوعية، فقد الأفراد فكرة الاتحاد معاً، وزادت حاجتهم الى مساعدة الدولة)


هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Alexis de Tocqueville, Democracy in America, 2 vols. (New York: Random House, 1990, vol1 صفحة 70.
*2ـ صفحة 39 من المجلد الأول.
*3ـ صفحة 90 من المجلد الأول.
*4ـ صفحة 106 من المجلد الثاني.
*5ـ صفحة 191 من المجلد الأول.
*6ـ صفحة 195 من المجلد الأول.
*7ـ صفحة 256 من المجلد الأول.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-10-2010, 03:22 PM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

القسم الثالث: المجتمع المدني في الحياة المعاصرة

الفصل السابع: المجتمع المدني والشيوعية

(الصفحات 327 وما بعدها من الكتاب)

(1)

تكمن جذور الاهتمام المعاصر بالمجتمع المدني في قناعة ـ سادت لدى بعض المثقفين الغربيين الأوروبيين في عقد الثمانينات من القرن العشرين ـ مفادها أن تسارع أزمة الشيوعية كان (ثورة المجتمع المدني ضد الدولة). فتشكل ببطء أدبٌ منشقٌ، مناوئ تماماً لدعاوى الأحزاب الحاكمة التي تصف نفسها بالطليعية، ومناوئ لفهمها البيروقراطي للسياسة، وهو أدب رأى أن الاشتراكية القائمة، ما هي إلا دولة مسيطرة ومندسَّة في ثنايا كل شيء، دولة تقترن بتخطيط مركزي عالٍ لإنتاج الصناعات الثقيلة، وبقمعٍ شاملٍ مانعٍ لكل مبادرة اجتماعية تقع خارج سيطرة الدولة ـ الحزب.

لقد بلور المحللون الأوائل، استناداً الى النزعة الدستورية الليبرالية، والى (توكفيل)، والأدبيات الغربية حول (النزعات الشمولية أو التوتاليتارية)، نقداً قوياً لما اعتبروه افتقار الماركسية للحدود، ونزعتها في تسييس كل شيء، وخيانتها للديمقراطية، ورغبتها في توجيه أو استيعاب كلّ فاعلية عفوية تنشأ عن المجتمع المدني.

نتيجةً لتجذرِ هذا النقد في الرغبة الشعبية الواسعة في نيل الديمقراطية السياسية، فإنه تجاهل تماماً المسائل الاقتصادية، وقدم نفسه ابتداءً باعتباره تجديداً للفكر الاشتراكي. ما من شك في أن أحكام هذا النقد لم تكن جديدة، غير أن الأزمة الاقتصادية الخانقة وانتصار اليمين السياسي في إنجلترا والولايات المتحدة قدَّما إليها دعماً جديراً بالاعتبار. فكان ما كان في تحالف العوامل الداخلية والخارجية لانهيار الشيوعية.

(2)

لما كانت (الاشتراكية: النظم السياسية السابقة) تتطور بوصفها إستراتيجية دولة تدير النمو الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي [ استناداً لأقوال ماركس وهو يسمي نفسه: ديمقراطياً اجتماعياً]، انجذب النقد المُنشَّق نحو النظريات الليبرالية بصدد المجتمع المدني التي تركزت على الحد من سلطة الدولة القسرية.

استندت الاشتراكية الحديثة، توأم الليبرالية في (عصر التنوير)، الى توسيع الديمقراطية لكي تشمل المجال الاقتصادي؛ وهذا في الواقع هو السبب الذي حدا بماركس أن يصف نفسه بالديمقراطي الاجتماعي في المقام الأول.

إن فهم المجتمع المدني بوصفه كياناً ذاتي التنظيم بكل بساطة جَنَحَ الى رؤية الدولة عائقاً أساسياً أمام الديمقراطية، والى عدم إقامة الاعتبار للاقتصاد. ولكن إذا كانت النظرية تصور المجتمع المدني بوصفه ميداناً لفوضى الإنتاج، والمصلحة الخاصة، واللامساواة، فإن ديناميكية الاقتصاد الداخلية يمكن أن تخضع للضبط. ويكمن هذا التوجه في جوهر النظريات الاشتراكية كلها عن المجتمع المدني.

فمن سياسات إعادة التوزيع المعتدلة التي دافع عنها البعض الآخر، بدت المساواة والديمقراطية بحاجة الى استعمال سلطة الدولة للتدخل في الملكية الخاصة ومنطق التسليع.

يفسر صاحب الكتاب (جون إهرنبرغ) سر انجذاب العالم الى الشيوعية نظرياً وعملياً في الفترة التي عقبت الحرب العالمية الثانية وما أصاب العالم من خراب ودمار احتاج قسوة في تطبيق العدالة لإعادة إعماره، وحماية المتضررين من الحرب من استغلال متصيدي الفرص!

تعليق

رغم الحرص على تقديم الكتاب كما يراه المؤلف، والذي بذل جهداً كبيراً في تقديم تفسيرات تساعد المثقف والقارئ في كل أنحاء العالم للاستدلال على مراحل التطور في تكوين المجتمع المدني وما رافقها من نظريات سياسية واقتصادية، بالرغم من كل هذا، فإن المؤلف، شأنه في ذلك شأن مؤلفي صراع الحضارات ونهاية التاريخ الكتابين اللذين سبق وقدمنا لهما قراءات وعرض، لا يفتأ في التبشير بالليبرالية الحديثة، وسيرى القارئ فيما تبقى من فصول هذا الكتاب.

فإن كانت الشيوعية والماركسية بنظره تسم من يتبناها من أنظمة بالدكتاتورية والقمع ونكران الدين الخ، فهي بنظر أصحابها تزعم نشر العدالة وتبشر ما بشر بها أصحاب الأديان السماوية وغير السماوية، فهي تزعم القدرة على معرفة كيفية تحقيق العدل والمساواة بين الناس، حتى ولو بالقوة، وقد يكون نهجها قد ألحق الأذى بالإبداع الفردي المتعلق بالملكية الفردية وحمايتها.

لكن من زاوية أخرى، فإن الليبرالية والديمقراطية الغربية، وإن بدت للمراقب الساذج أنها متاحة بعدالة ومساواة كاملة لتناقل السلطة ومواقع القيادة بين كل الناس بالتساوي، فهذه النظرة كاذبة كل الكذب، فالمرشح للرئاسة والبرلمان يركض من مكان لمكان ومن لوبي لآخر ليسترضيه حتى يُسمى مرشحاً لحزب أو غيره، وقد انتقلت تلك العدوى للدول التي تدور بفلك الدول الليبرالية الغربية، فلن ينجح بترشيح من لا يتلاءم مع فكر أعوان هؤلاء. والعراق ومصر واليابان وأوروبا كلها أمثلة صارخة، فأي اختلاف بين ديكتاتورية شمولية وديكتاتورية ليبرالية تدعي أنها متاحة للجميع؟
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 18-11-2010, 02:00 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

النزعة الشمولية (التوتاليتارية)

(1)

كان المشروع العظيم لكارل ماركس هو تحليله النقدي للمجتمع المدني البرجوازي. لقد قضى وقتاً قصيراً نسبياً في وصف فكرته عن طريقة تنظيم الشيوعية. ولكنه قدم مخططاً متماسكاً تماماً للانتقال الى الاشتراكية. وتصور ماركس أن الاستيلاء على السلطة سوف يسبق المجتمع المدني ويجعل تغييره ممكناً، وتوقع ماركس بيقين أن مشروعه سيحظى بدعمٍ فاعل من أغلبية الجماهير.

تبين لفلاديمير لينين بأن تحويل المجتمع المدني أصعب بكثير من الاستيلاء على سلطة الدولة. فأجل ذلك للتغلب على الثورة المضادة وتصفية جيوبها المعيقة لتحويل المجتمع الى مجتمع اشتراكي شيوعي. وكانت ظروف الاتحاد السوفييتي كافية لإعاقة بناء مجتمعٍ مدني راقٍ، فكيف وقد جاءت الحرب العالمية الأولى بنتائجها وثقلها؟

تراجعت أفكار الشيوعيين التي كانت تريد مجتمعاً بلا دولة، تقوده سوفياتات محلية من العمال والفلاحين، وتُرك هذا الموضوع جانباً، لتقوم مكانه دولة حديدية هي من يفرز منظمات المجتمع المدني وتسخرها لتكون رديفة للدولة نفسها.

أدرك لينين أن صهر الدولة بالحزب وتحييد القوى المعارضة سيكون خطراً كبيراً بالاعتماد على الدولة والحزب وحدهما، وحذر زملاءه مراراً وتكراراً من أن سيطرة العمال وإشرافهم هو الأمر الوحيد الذي سوف يحول مركزية الثورة الحتمية لصالح الاشتراكية. وأقر بصعوبة تفادي البيروقراطية، لكنه اعتقد بإمكان تحجيم آثارها السيئة من خلال إشراف الطبقة العمالية، وفي نهاية حياته أدرك بأسى أن قول ذلك نظرياً أسهل من تحقيقه على أرض الواقع.

(2)

لم يقدم موت لينين عام 1924 الكثير لحل التناقضات المتأصلة في استعمال الدولة لتحويل المجتمع المدني. لقد بدا أن كل هدف من أهداف الثورة بحاجة الى تقوية سلطة الدولة المتعاظمة، وتقوية قيادة الحزب للتعبئة الاجتماعية العامة والتحديث الاقتصادي. فجرت مناقشات التصنيع المهمة في أواخر العشرينات في سياق إجماع القيادة السوفييتية الواسع على أن الرأسمال اللازم لبناء الصناعة سوف يأتي من الفلاحين. وكان السؤال الوحيد هو مدى سرعة استخلاص هذا الرأسمال.

ضَخمَت الحرب العالمية الثانية والمواجهة اللاحقة مع الولايات المتحدة من دور الدولة في الصناعة الثقيلة، ومن كونها في حال طوارئ مستديمة، وغدت الضرورة العسكرية هي ما يميز الاشتراكية السوفييتية، سار الاقتصاد السوفييتي منذ البداية على الاستعداد للحرب، واعتمد على التخطيط المركزي، والسيطرة الصارمة، وإحكام القبضة على قوى السوق.

انتشرت عدوى النموذج السوفييتي لعقود طويلة في القرن العشرين، واستلهمتها كثير من الدول المتخلفة في العالم، فاتسم هذا النمط من الإدارة الى حتمية الهجوم على المجتمع المدني وصبغه بصبغة نظام الحكم القائم، تحت ما يُسمى بالصالح العام ومقتضيات ظروف الثورة أو المعركة.

(3)

وصف المفكرون السياسيون، منذ أرسطو، الحكم المطلق بأنه تشكيل سياسي يتسم بالتعسف واللامسئولية وانعدام الحدود. فالنزعة الشمولية بما تتميز به من رغبة شديدة في فرض الوحدة الأيديولوجية، وإزالة الاختلافات الاجتماعية، وتنظيم مستويات عالية من المشاركة الجماهيرية والتلاعب بها، هي جذور النزعة الشمولية في محاولتها إخضاع دوافع المجتمع المدني التلقائية لغايات محددة سلفاً.

إن قدرة الدولة الشمولية غير المسبوقة على الإقناع والعقاب تساعدها على تنظيم (سيطرة وتوجيه مركزيين للاقتصاد برمته من خلال التنسيق البيروقراطي للكيانات التعاونية والمستقلة سابقاً.

وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الأنظمة الشمولية لتحطيم وجود الكيانات المنفصلة عنها، تظل في هذه الأنظمة الديكتاتورية، بعض المجموعات تعمل على مقاومة السلطة الشمولية. فالعائلة والكنائس والجامعات ومراكز أخرى للمعرفة التقنية، والكُتَّاب والفنانون، كلٌ حسب تقديره لوجوده باعتباره كائناً عاقلاً، يتعين عليهم، إن أرادوا البقاء، مقاومة مطالب الأنظمة الشمولية.

ستواجه النُظم الشمولية والتي على شاكلتها جماهيرها بنفس الصيغة التي يتعامل معها المحتلون (فرق تَسُد). ويكون قيام الحركات الشمولية ممكناً حيثما توجد جماهير تجنح لسبب أو لآخر الى التنظيم السياسي. فالجماهير لا تأتلف معاً بداعي الوعي بالمصلحة المشتركة، فهي تفتقر للوضوح الطبقي الخاص الذي يتم التعبير عنه في أهداف مقررة ومحدودة وُضعت لهم دون مشاركتهم الفعالة في فهم مفرداتها.

خاتمة تلك المقالة

إن الدولة الاشتراكية العاجزة عن نبذ شكوكها في المجتمع المدني، اندفعت الى (تمزيق كل الصلات والروابط الاجتماعية وغير الرسمية التي تقع خارج نطاق العائلة). فالمجتمع السياسي ـ عندها ـ يعني أولوية الدولة السياسية على الحياة الاجتماعية ككل، وأن المجتمع ملحق بالدولة الكلية القدرة أكثر منه كياناً مستقلاً. وهنا يتم شَّل الأفراد عن تبيين حاجاتهم، ويتحولوا الى كيانات فردية خالية من الإبداع الحقيقي.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 11-12-2010, 01:12 AM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الثورة (المحدودة ذاتياً)

(1)

كانت النزعة الشديدة المناهضة للدولة، التي وسمت أدبيات المجتمع المدني المبكرة، ردَّ فعلٍ مفهوماً تماماً على ما تتصف به (الاشتراكية القائمة) من روتينية وبيروقراطية. وبنهاية السبعينات من القرن العشرين، كانت تصور المجتمع المدني في أوروبا الشرقية على أنه (ميداناً للنشاط الاجتماعي المستقل واللاسياسي ظاهرياً) الذي لا يسعى الى تحدي سيطرة الدولة على زمام السلطة الرئيسة، وقد حقق هذا عقداً ضمنياً بين تلك المنظمات وسلطات دولة الحزب الحاكم.

إن الفكرة القائلة إن نقابات العمال المستقلة، والحركات الاجتماعية الجديدة، والمنتديات المدنية، ومنظمات حقوق الإنسان، والدوائر الأخرى (للمجتمع المدني الاشتراكي) يمكن أن تصل الى تسوية مع الدولة هو قول يدل ضمناً الى إمكانية التفكير في المجتمع المدني بمعزل عن سلطة الدولة المباشرة، ويقر بأن مراكز السلطة المستقلة كانت تتطور في مجتمعات اشتراكية (ناضجة).

كانت الفائدة المجتناة من (النزعة الشمولية) قد أصبحت في الحقيقة إشكالية متزايدة. فمع غروب عقد الستينات، تعرضت قضيتان مركزيتان طرحهما منظرو النزعة الشمولية الى هجوم كاسح، تتمثل الأولى في أن العلاقات الاجتماعية الفردية تمت تذريتها (Atomized) بشكل يتعذر إصلاحه، والثانية هي أن الحياة الاجتماعية والسياسية المستقلة أمرٌ مُحَال.

وأن الفكرة المُبسطة القائلة إن المصالح المُستقلة لا يُمكن أن تُنَظَم في المجتمعات الاشتراكية، نُبذت تلك الفكرة حتى أن معاينة نماذج متسامحة كان ممكن أن يراها المراقب حتى في العهد الستاليني. وبعد مجيء (نيكيتا خروتشيف) وإتباعه لسياسة (شيوعية الغولاش) [وهي كناية للشوربة الهنغارية، وترمز الى غض النظر الذي اتبعه السوفييت والتهاون في مضايقة المجر بعد أحداث 1956، والتي قمعت فيها القوات السوفييتية ثورة المجر، فأُريد من تلك السياسة عدم تكرار ما حدث.]

(2)

بعد تلك الأحداث، لم تعد السياسة تدخل من الباب الأمامي لمنزل المواطن، واختفى دور المُحرض السياسي الذي كان الشيوعيون يرسلونه ويسمى (قارع الأبواب). وحل محله شاشة التلفزيون. ولكن التسييس الشمولي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولم يعد هناك مناقشات سياسية في العمل، فساعات العمل للعمل فقط، وبإمكان المواطن أن يفعل ما يريد في أوقات فراغه.

بدت الأحداث التي جرت في بولندا مصداقاً للمقاربة التعددية، وتوكيداً للتخمينات المبكرة حول تجذر مجتمع التنظيمات الوسيطة المدني. فحركة الاحتجاج الفاعلة في بولندا حفزت التطورات المبكرة، وكثفتها في نظرية المجتمع المدني الأولى في أوروبا الشرقية.

كان الناطقون باسم المعارضة البولندية، الذين لم يدفعوا الأمور الى أقصى حد، حريصين على عدم الظهور بمظهر التخريب السياسي. فبدلاً من مهاجمة سلطة الدولة مباشرة، نشد التنظيم الذاتي للمجتمع تقييد تجاوز دولة الحزب حدود ميدانها الخاص. فالمنظمون أولوا عنايتهم لنقابات العمال، وفِرق الطلبة، والجمعيات الثقافية، ولجان العمال، ومنشورات الأدب السرِّي [ نوع من النشاط ظهر بعد موت ستالين 1953]. وغيرها من النشاطات التي أصبحت مؤثرة فيما بعد.

(3)

أطلق (آدم مشنيك)*1 ما دعاه بالمعارضة (المحدودة ذاتياً) وتتلخص فكرته في تحسين تنظيم المجتمع في منظمات طوعية ليس لها علاقة بالدولة، وعدم الاصطدام بالدولة مباشرة، بل على العكس كان يطلب مساعدة الدولة، ولكن فكرته وأسلوبه هذا لم يأتي بنتائج ملموسة.

لكنه في جانب آخر نجح في التأكيد أن تطور المعارضة يجب أن يكون من خلال توجهها للرأي العام وليس للسلطات.

استطاعت نقابة تضامن البولندية من انتزاع اعتراف الدولة بها، حتى لو كان هذا الاعتراف مقترناً بتعهد من النقابات بأنها لا تسعى لانتزاع السلطة.

كانت تسود الفضاء الذهني أجواءٌ تشجع لتقدم مثل تلك النشاطات. فمقاومة الكنيسة للإلحاد الرسمي، ومقاومة القرى للتعاونيات، ومقاومة الطبقة المثقفة للرقابة، عبَّدت الطريق أمام العمال لتنظيم أنفسهم.

(4)

في بداية عهد (غورباتشوف) في الاتحاد السوفييتي، اعترفت جريدة (برافدا) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفييتي، بوجود أكثر من ثلاثين ألفاً من المنظمات الطوعية غير الرسمية في الاتحاد السوفييتي، وقد تصاعد نشاط تلك المنظمات مع الشعور بأن غورباتشوف قد أطلق حملة إصلاحات، تدعو الى اعتبار الديمقراطية السياسية خطوة أولى في التجديد الاشتراكي لا يمكن تمييزها من الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية.

كان غورباتشوف يدرك أن خططه لا يمكن أن تتم إلا بتخفيف الرقابة وإطلاق الحريات، حتى يصل لما سماه (الغلاسنوست: أي سياسة الشفافية) والتي يمكن أن تؤدي الى (البيروسترويكا: إعادة البناء)...

هكذا أدركت الشعوب وقياداتها محدودية نشاط منظمات المجتمع المدني في ظل النظام الاشتراكي، فسواء كان انتشارها يتم انتزاعاً أو من خلال إرادة رأس الحكم فالأمران سيان، لا مكان لمنظمات المجتمع المدني الحقيقية في ظل النظم الاشتراكية (هذا رأي المؤلف).

هوامش:
*1ـ [ آدم مشنيك هذا هو من كبار من أوحى لفاليسا صاحب فكرة نقابة تضامن، وهو أيضاً من أوحى للقيادة البولندية للاشتراك مع (بوش) في غزو العراق]
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .