العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: القضاء في القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرد على مقال هل الجن والشياطين يسكنون البحار ؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرد على مقال محمد اسم لرسالة وليس اسمًا لشخص بيولوجي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الذرية فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطرف في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الثالوث فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطبع في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الصفق فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الولدان المخلدون (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الخمار فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 26-10-2010, 08:36 AM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

قطز.. قهر المغول وطعنه الرفاق

(في ذكرى وفاته: 16 من ذي القعدة 658هـ)


كان المشهد الأخير من قصة بطل معركة عين جالوت حزينا مثيرا للشجن والتأمل، فبينما كان السلطان المظفر سيف الدين قطز في طريقه إلى القاهرة التي كانت تنتظره بالزينات وتستعد لاستقباله بما يليق، كان القدر يخفي له مؤامرة نفذها شركاؤه في النصر الذين استكثروا عليه أن يرى نشوة النصر في عيون مستقبليه، ويستشعر عظمة ما صنع لأمّته، فلقي حتفه على يد بيبرس في الصالحية في (16 من ذي القعدة 658هـ = 23 من أكتوبر 1260م). ويبدو للناظر في حوليات التاريخ التي احتفظت بتفاصيل حياة هذا البطل أنه قد جاء لأداء مهمة عظيمة ومحددة، فما إن أداها على خير وجه حتى توارى عن مسرح التاريخ بعد أن خطف الأبصار وجذب الانتباه إليه على قِصر دوره التاريخي، لكنه كان عظيما وباقيا، فاحتل مكانته بين كبار القادة وأصحاب المعارك الكبرى.

والتاريخ لا يعتد بحساب الأزمان والأيام، وإنما يعتد بحجم التأثير الذي يتركه الرجل وإن كانت حياته قصيرة؛ فكثير من خلفاء المسلمين وحكامهم أمضوا عشرات السنين دون أن يلتفت إليهم التاريخ أو ترتبط حياتهم بوجدان الناس ومشاعرهم، والدليل على ذلك أن عمر بن عبد العزيز تبوأ مكانته المعروفة في التاريخ بسنتين ونصف قضاهما في الحكم، وبقي ذكره حيا في القلوب، وعنوانا للعدل والإنصاف.

من الرق إلى الإمارة

تروي المصادر التاريخية أن الاسم الأصلي لسيف الدين قطز هو "محمود بن ممدود"، وأنه ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه الذي تصدى بعد أبيه لهجمات المغول، وحقق عدة انتصارات عليهم، واسترد منهم بعض المدن التي استولوا عليها، لكنه لم يجد عونًا من الدولة العباسية، فتركته يصارعهم دون أن تمد إليه يدًا، حتى نجحت جحافل المغول سنة (628هـ = 1231م) في القضاء على دولته التي كانت تقع في إقليم كرمان الحالي في جنوبي إيران، ثم لقي حتفه وحيدًا شريدًا على يد أحد الأكراد.

كان قطز من بين الأطفال الذين حملهم المغول إلى دمشق وباعوهم إلى تجار الرقيق، ومضت حياته مثل غيره من آلاف المماليك الذين حملت مواهب بعضهم إلى القمة وتولي السلطة، أو قد تقصر مواهبهم فتبلغ بهم إلى أمير خمسة، أو تعلو قليلاً فيصبح أمير طبلخانة.

وتقص علينا المصادر التاريخية أن قطز كان مملوكًا في "دمشق" ضمن مماليك ابن الزعيم، ثم انتقل إلى القاهرة، وأصبح من جملة مماليك عز الدين أيبك التركماني، وترقى عنده حتى صار أكبر مماليكه وأحبهم إليه وأقربهم إلى قلبه.

ظهوره على مسرح الأحداث

بعد نهاية الحكم الأيوبي في مصر اتفقت كلمة المماليك على اختيار شجرة الدر سلطانة للبلاد، في سابقة لم تحدث في التاريخ الإسلامي إلا نادرًا، غير أن الظروف لم تكن مواتية لاستمرارها في السلطنة، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شؤون الدولة، فلم تجد بُدًّا من التنازل عن الحكم للأمير "عز الدين أيبك" أتابك العسكر الذي تزوجته وتلقب باسم الملك المعز.

ولم تسلس القيادة للسلطان الجديد في ظل ازدياد نفوذ زعيمهم "أقطاي" الذي تمادى في الاستخفاف بالملك المعز، ولا يظهر في مكان إلا وحوله رجاله ومماليكه في أبهة عظيمة كأنه ملك متوج، وبالغ في تحقيره للسلطان فلا يسميه إلا "أيبك"، وتطلعت نفسه إلى السلطنة، فاستشعر السلطان الخوف على عرشه بعد أن اشتد بغي أقطاي وكثرت مظالمه واستهانته بالرعية، فعزم على التخلص منه، وأعد خطة لذلك اشترك في تنفيذها أكبر مماليكه (قطز)، فكان ذلك أول ظهور له على صفحات التاريخ. ومن تلك اللحظة بدأ يشق طريقه نحو المقدمة.

الطريق إلى السلطنة

هيأت الأقدار الطريق لقطز لكي يصل إلى الحكم، فلم يكد يهنأ الملك المعز بالتخلص من غريمه أيبك ويقبض على بعض المماليك البحرية ويجبر بعضهم على الفرار من مصر، حتى دب صراع بينه وبين زوجته شجرة الدر، انتهى بمقتلهما، وتولى "نور الدين علي بن المعز أيبك" السلطنة، لكنه كان صبيًا يلهو ولا يصلح لمباشرة الحكم وتحمل المسئولية. وأصبحت مقاليد البلاد في يد "سيف الدين قطز" الذي بدأ نجمه في الظهور، وقام بنشر الأمن في البلاد والقضاء على المحاولات الفاشلة للأيوبيين لاسترداد مصر من أيدي المماليك، فزاد ذلك من قوة إحكامه على البلاد.

ثم جاءت اللحظة الحاسمة ليقوم قطز بما ادخره له القدر من الشرف العظيم وتخليد اسمه بين كبار القادة والفاتحين، فكانت الأخبار السيئة تتوالى على القاهرة بسقوط بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله، وتحرك جحافل المغول نحو الشام التي تساقطت مدنها الكبرى في يد هولاكو. كانت هذه الأنباء تزيد القلق في مصر التي كانت تخشى عاقبة مصير الشام، في الوقت الذي كان فيه السلطان الصبي غافلاً، يقضي وقته في ركوب الحمير والتنزه في القلعة، ويلعب بالحمام مع الخدم!.

الاجتماع المصيري

أفاق الملك الناصر صاحب حلب ودمشق على الحقيقة المرة، وأدرك أهداف المغول، وهو الذي راسلهم ليضع يده في أيديهم ليساعدوه في استرداد مصر، فبعث بـ"ابن العديم" المؤرخ المعروف إلى مصر ليستنجد بعساكرها. فلما قدم إلى القاهرة عقد مجلسًا بالقلعة حضره السلطان الصبي وكبار أهل الرأي من الفقهاء والقضاة وفي مقدمتهم الشيخ "العز بن عبد السلام"، فسأله الحاضرون من الأمراء عن أخذ الأموال من الناس لإنفاقها على الجنود، فأجابهم بقوله: "إذ لم يبق شيء في بيت المال، وأنفقتم ما عندكم من الذهب والنفائس، وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها – ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء"، واتفق الحاضرون على ضرورة المقاومة والجهاد.

لم يعد أمام قطز بعد أن ازداد خطر المغول، وأصبحوا على مقربة من مصر سوى خلع السلطان الصبي، فانتهز فرصة خروج الأمراء إلى الصيد في منطقة العباسية بالشرقية، وقبض على الملك المنصور واعتقله بالقلعة هو وأسرته في (24 من ذي القعدة 657هـ = 12 من نوفمبر 1259م)، وأعلن نفسه سلطانًا، وبدأ في ترتيب أوضاع السلطنة، واسترضى كبار الأمراء بأنه لم يقدم على خلع السلطان الصبي إلا لقتال المغول؛ لأن هذا الأمر لا يصلح بغير سلطان قوي، ومنّاهم بأن الأمر لهم يختارون من يشاءون بعد تحقيق النصر على العدو، وبدأ في اختيار أركان دولته وتوطيد دعائم حكمه استعدادًا للقاء المغول.

قتل رسل المغول

وبعد توليه السلطنة بقليل جاء رسل المغول يحملون رسائل التهديد والوعيد، ولم يكن أمام قطز: إما التسليم -مثلما فعل غيره من حكام الشام- أو النهوض بمسئوليته التاريخية تجاه هذا الخطر الداهم الذي ألقى الفزع والهلع في القلوب، فجمع قطز الأمراء وشاورهم في الأمر فاتفقوا على قتل رسل المغول؛ قطعًا لتردد البعض في الخروج للقتال، وإشعارا للعدو بالقوة والتصميم على القتال، وبعد قتل الرسل بدأ السلطان في تحليف الأمراء الذين اختارهم، وأمر بأن يخرج الجيش إلى الصالحية، ونودي في القاهرة وسائر إقليم مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام.

وفي هذه الأثناء كان الأمير بيبرس البندقداري قد قدم إلى مصر بعد أن طلب الأمان من الملك المظفر قطز، ووضع نفسه تحت تصرفه في جهاده ضد المغول، فأنزله السلطان بدار الوزارة، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها.

اللقاء الحاسم في عين جالوت

سار السلطان قطز بجيوشه بعد أن هيأها للجهاد، وبذل الأرواح في سبيل نصرة الله؛ فوصل غزة، ثم اتخذ طريق الساحل متجهًا نحو بحيرة طبرية، والتقى بالمغول، وكانوا تحت قيادة "كيتوبوقا" (كتبغا) في معركة فاصلة في صباح يوم الجمعة الموافق (25 من رمضان 658هـ = 3 من سبتمبر 1260) عند عين جالوت من أرض فلسطين بين بيسان ونابلس، وانتصر المسلمون انتصارا هائلاً بعد أن تردد النصر بين الفريقين، لكن صيحة السلطان التي عمت أرجاء المكان "وا إسلاماه" كان لها فعل السحر، فثبتت القلوب وصبر الرجال، حتى جاء النصر وزهق الباطل.

وأعاد هذا الظفر الثقة في نفوس المسلمين بعدما ضاعت تحت سنابك الخيل، وظن الناس أن المغول قوم لا يُقهرون، وكان نقطة تحول في الصراع المغولي الإسلامي، فلأول مرة منذ وقت طويل يلقى المغول هزيمة ساحقة أوقفت زحفهم، وأنقذت العالم الإسلامي والحضارة الإنسانية من خطر محقق.

وكان من شأن هذا النصر أن فر المغول من دمشق وبقية بلاد الشام إلى ما وراء نهر الفرات، ودخل السلطان قطز دمشق في آخر شهر رمضان وأقام بقلعتها، وفي غضون أسابيع قليلة تمكن من السيطرة على سائر بلاد الشام، وأقيمت له الخطبة في مساجد المدن الكبرى حتى حلب ومدن الفرات في أعالي بلاد الشام، وتمكن من إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد، وبعد أن اطمأن إلى ما فعل قرر العودة إلى مصر في (26 من شوال 658هـ = 4 من أكتوبر 1260م).

النهاية الأليمة

ولما بلغ السلطان قطز إلى بلدة "القصير" من أرض الشرقية بمصر بقي بها مع بعض خواصه، على حين رحل بقية الجيش إلى الصالحية، وضربت للسلطان خيمته، وهناك دبرت مؤامرة لقتله نفذها شركاؤه في النصر، وكان الأمير بيبرس قد بدأ يتنكر للسلطان ويضمر له السوء، وأشعل زملاؤه نار الحقد في قلبه، فعزم على قتل السلطان، ووجد منهم عونًا ومؤازرة، فانتهزوا فرصة تعقب السلطان لأرنب يريد صيده، فابتعد عن حرسه ورجاله، فتعقبه المتآمرون حتى لم يبق معه غيرهم، وعندئذ تقدم بيبرس ليطلب من السلطان امرأة من سبى المغول فأجابه إلى ما طلب، ثم تقدم بيبرس ليقبل يد السلطان شاكرًا فضله، وكان ذلك إشارة بينه وبين الأمراء، ولم يكد السلطان قطز يمد يده حتى قبض عليها بيبرس بشدة ليحول بينه وبين الحركة، في حين هوى عليه بقية الأمراء بسيوفهم حتى أجهزوا عليه، وانتهت بذلك حياة بطل عين جالوت.

وذكر المؤرخون أسبابًا متعددة لإقدام الأمير بيبرس وزملائه على هذه الفعلة الشنعاء، فيقولون: إن بيبرس طلب من السلطان قطز أن يوليه نيابة حلب فلم يوافق، فأضمر ذلك في نفسه. ويذهب بعضهم إلى أن وعيد السلطان لهم وتهديدهم بعد أن حقق النصر وثبّت أقدامه في السلطة كان سببًا في إضمارهم السوء له وعزمهم على التخلص منه قبل أن يتخلص هو منهم، وأيًا ما كانت الأسباب فإن السلطان لقي حتفه بيد الغدر والاغتيال، وقُتل وهو يحمل فوق رأسه أكاليل النصر.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 26-10-2010, 08:37 AM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

بيبرس.. القائد الفذ

(ذكرى توليه الحكم: 17 من ذي القعدة 658هـ)



بعد مقتل السلطان " قطز" اتفق الأمراء المماليك على اختيار بيبرس سلطانًا على مصر، فدخل القاهرة، وجلس في إيوان القلعة في (17 من ذي القعدة 658هـ= 24 من أكتوبر 1260م) فكان ذلك إيذانًا ببدء فترة التأسيس والاستقرار لدولة المماليك البحرية بعد فترة التحول التي شهدتها، بعد قضائها على الحكم الأيوبي، وكانت فترة قلقة شهدت حكم خمس سلاطين قبل أن يلي بيبرس الحكم، وكان عليه أن يبدأ عهدًا جديدًا من الثبات والاستقرار بعد أن أصبح بيده مقاليد الأمور في مصر والشام.

وقبل أن يلي بيبرس السلطنة كانت له صفحة بيضاء في معركة المنصورة المعروفة حيث كان من أبطالها ومن صانعي النصر فيها، وكانت له يد لا تنسى في معركة عين جالوت، فتولى السلطنة وسجله حافل بالبطولات والأمجاد.

وبيبرس من أصل تركي ولد في صحراء القبجاق سنة (620هـ= 1223م) ووقع في أسر المغول وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبيع في أسوق الرقيق بدمشق، فاشتراه الأمير علاء الدين إيدكين الصالحي البُنْدقداري، فسمي "بيبرس البندقداري" نسبة إليه، ثم انتقل إلى خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأعتقه وجعله من جملة مماليكه، ثم ولاه رئاسة إحدى فرق حرسه الخاصة، ثم رقاه قائدًا لفرقة المماليك لما رأى من شجاعته وفروسيته.

ولما تخلص الملك عز الدين أيبك من غريمة ومنافسه "فارس الدين أقطاي" زعيم المماليك البحرية، فر بيبرس ومن معه من المماليك بلاد الشام، وظل متنقلا بين دمشق والكرك حتى تولى سيف الدين قطز الحكم سنة (658هـ-1260م) فبعث إليه يطلب منه الأمان والعودة إلى مصر، فأجابه إلى طلبه، وأحسن استقباله وأنزله دار الوزارة وأقطعه قليوب وما حولها. واشترك مع قطز في معركة عين جالوت سنة (658هـ= 1260م) وأبلى فيها بلاء حسنًا، وكان من أبطالها المعدودين.

وبدلا من أن تسمو روح الجهاد بنفسه وتصبغ قلبه بالسماحة واللطف، تطلعت نفسه إلى السلطة والميل إلى الثأر، فامتلأ فؤاده بالحقد من صديقه القديم السلطان سيف الدين قطز، وحمل في نفسه رفض قطز إعطاءه ولاية حلب وعد ذلك انتقاصًا من قدره وهضمًا لدوره في عين جالوت، ووجد من زملائه من يزيده اشتعالا فدبر معهم مؤامرة للتخلص من السلطان وهو في طريقه إلى القاهرة، وكان لهم ما أرادوا وجلس القاتل على عرش مصر قبل أن يجف دم السلطان المقتول، ودون أن يجد أحد من أمراء المماليك غضاضة في ذلك، وتلقب السلطان الجديد بالملك الظاهر.

تولي بيبرس السلطنة

ولم يكد بيبرس يستقر في السلطنة حتى بدأ عهدا جديدًا وصفحة مشرقة في تاريخ مصر، وبدأ في التقرب إلى الخاصة والعامة، فقرب إليه كبار الأمراء ورجال الدولة، ومنحهم الألقاب والإقطاعيات الواسعة، ووجه عنايته إلى ترتيب شئون الدولة، وتخفيف الأعباء على الأهالي، فأعفاهم من الضرائب، وأطلق المحبوسين من السجون، وجدّ في استرضاء رعيته، وأرسل إلى الأقطار المختلفة ليقرّ التابعون لدولته بسيادته وحكمه.

غير أن الأمور لم تتم لبيبرس بسهولة ويسر، فتدعيم سلطان الدول يحتاج إلى مزيد من العمل، وقيادة تجمع بين السياسة والشدة والحزم واللين، وأعداء الدولة في الخارج يتربصون بها الدوائر، وحُكمه يحتاج إلى سند شرعي يستند إليه.

بناء الجبهة الداخلية


بدأ بيبرس عهده بالعناية بدولته وترسيخ دعائمها والقضاء على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، ففي السنة الأولى من حكمه نشبت ثورتان عارمتان، إحداهما بدمشق والأخرى بالقاهرة، أما الأولى فقام بها الأمير "علم الدين سنجر الحلبي" نائب دمشق احتجاجًا على مقتل سيف الدين قطز، ورفضا للإقرار بسلطنة بيبرس، ولم يكتف بالتمرد والعصيان بل أعلن نفسه سلطانًا وحاول استمالة بعض أمراء الشام إلى جانبه، لكنه لم يجد معاونًا، ولجأ بيبرس معه إلى الإقناع والمسالمة للدخول في طاعته وترك العصيان، فلما لم تفلح معه الطرق السلمية جرد إليه جيشًا أتى به إلى القاهرة مقرنًا في الأصفاد في (16 من صفر 659هـ= 1260م).

أما الثورة الثانية فقادها رجل شيعي يعرف بالكوراني أظهر الورع والزهد، وسكن قبة جبل المقطم، واستمال بعض الشيعة من السودان، وحرّضهم على التمرد على السلطة الجديدة؛ فثاروا في شوارع القاهرة في أواخر سنة ( 658هـ= 1260م)، واستولوا على السلاح من حوانيت السيوفيين، واقتحموا إسطبلات الجنود، وأخذوا منها الخيول، لكن بيبرس أخمد الثورة بمنتهى السرعة والحزم، وأمر بصلب الكوراني وغيره من زعماء الفتنة.

إحياء الخلافة العباسية

وكانت الخطوة الثانية التي خطاها بيبرس بعد أن استتب له الأمن في البلاد، وفرض سلطته، هي إحياء الخلافة العباسية التي سقطت مع سقوط بغداد في يد هولاكو في ( 4 من صفر 656هـ= 10 من فبراير 1258م) ولم يكن سقوطها أمرًا هينًا على المسلمين، وخيل لهم أن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية عما قريب، وذلك لهول المصيبة التي وقعت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).

ونجح بيبرس في استقدام أحد الناجين من أسرة العباسيين هو "أبو العباس أحمد"، وعقد في القلعة مجلسًا عامًا في (9 من المحرم 661هـ= 22 من نوفمبر 1262م) حضره قاضي القضاة وكبار رجال الدولة، وقرئ نسب الخليفة على الحاضرين بعدما ثبت عند القاضي، ولقب بالحاكم بأمر الله، وبايعه بيبرس على العمل بكتاب الله وسنة رسوله. ولما تمت البيعة أقبل الخليفة على بيبرس وقلّده أمور البلاد والعباد، وبذلك أصبح هو صاحب السلطة واليد المطلقة في إدارة شئون البلاد. ولم يكن للخليفة العباسي حول ولا قوة، بل صار واجهة دينية شرعية للسلطان المملوكي، ليس له سوى الدعاء على المنابر في صلاة الجمعة.. وبإقامة الخلافة العباسية في القاهرة يكون بيبرس قد تقدم خطوات واسعة في سبيل تأسيس الدولة المملوكية.

وأتبع بيبرس هذه الخطوة بأن مد نفوذه وسلطانه إلى الحجاز حيث يوجد الحرمان الشريفان، وتخلص من الملك "المغيث عمر بن العادل الأيوبي" حاكم الكرك، الذي كان يناوئ السلطان بيبرس، ويرى في المماليك دخلاء اغتصبوا العرش الأيوبي في مصر والشام دون وجه حق، فعمل على منازعتهم، وتطور الأمر إلى به الحد أن راسل هولاكو زعيم المغول الإيلخانيين وحرضه على غزو مصر، لكن بيبرس حين علم بهذه المكاتبات قبض عليه وقتله في سنة (622هـ= 1263م) واستولى على الكرك، وعين بها واليًا من قبله.

الجهاد في جبهتين


وبعد أن اطمأن بيبرس إلى تماسك جبهته الداخلية ولم يعد هناك ما يعكر صفو دولته اتجه ببصره إلى القوى الخارجية المتربصة بدولته، وتطلع إلى أن ينهض بمسئوليته في الدفاع عن الإسلام، ولم يكن هناك أشد خطرًا عليه من المغول والصليبيين، وقبل أن ينهض لعمله أعد العدة لذلك، فعقد معاهدات واتفاقيات مع القوى الدولية المعاصرة له، حيث سعى إلى التحالف مع الإمبراطورية البيزنطية، وعقد معاهدات مع "مانفرد بن فردريك الثاني" إمبراطور الدولة الرومانية، وأقام علاقات ودية مع "ألفونسو العاشر" ملك قشتالة الإسباني، حتى يضمن حياد هذه القوى حين يشن غاراته على الإمارات الصليبية في الشام، ويسترد ما في أيديهم من أراضي المسلمين.

واتبع بيبرس أيضا هذه السياسة في الجبهة الأخرى: جبهة المغول؛ حيث تحالف مع "بركة خان" زعيم القبيلة الذهبية المغولية وكان قد اعتنق الإسلام، وامتدت بلاده من تركستان شرقًا حتى شمال البحر الأسود غربًا، وهي التي تعرف ببلاد القفجاق. ولكي يزيد من قوة الرابطة بينه وبين بركة خان أمر بالدعاء له على منابر دولته، وتزوج من ابنته، وكان هذا الحلف موجهًا إلى عدوهما المشترك المتمثل في "دولة إيلخانات فارس" التي كان يحكمها هولاكو وأولاده، وكانت تشمل العراق وفارس.

وفي الوقت نفسه أعد لتحقيق هدفه جيشًا قويًا، وأسطولاً ضخمًا، وأعاد تحصين القلاع والحصون، ومدها بالذخيرة والأقوات، وأقام سلسلة من نقاط المراقبة لرصد نشاط العدو عرفت باسم المنائر، وأفسد الطرق والوديان المؤدية إلى الشام؛ كي لا يجد المغول في أثناء زحفهم ما يحتاجون إليه من أقوات أو أعلاف لدوابهم.

وأثمرت هذه السياسة الحازمة عن تحقيق انتصارات باهرة على الصليبيين، منذ أن بدأت حملاته الظافرة في سنة (663هـ = 1265م)، ففتح قيسارية، وأرسوف، وقلعة صفد، ويافا، ثم توج جهوده بفتح "إنطاكية" المدينة الحصينة التي ظلت رهينة الأسر الصليبي أكثر من قرن ونصف من الزمان، وذلك في (5 من رمضان 666هـ = 19 من مايو 1268م)، وكان سقوطها أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين منذ معركة حطين سنة (583هـ = 1187م)، وسبق لنا أن تناولنا أحداث هذا الفتح العظيم في (5 من رمضان).

وعلى الجبهة الأخرى نجح السلطان بيبرس في الدفاع عن بلاده أمام هجمات المغول المتتالية، وفي تحقيق عدة انتصارات عليهم في "البيرة" و"حران". وعلى الرغم من إخفاق مغول فارس في توسيع دولتهم على حساب دولة المماليك فإنهم كانوا يعاودون الهجوم، حتى ألحق بهم بيبرس هزيمة ساحقة عند بلدة "أبلستين" بآسيا الصغرى سنة (675هـ = 1277م) وبذلك أمّن بيبرس حدود دولته من الجبهتين الشرقية والشمالية.

رجل الدولة والإصلاح

لم تشغل بيبرس حملاته الحربية الناجحة عن عنايته بتنظيم الأمور الإدارية، والقيام بكثير من الإصلاحات الداخلية، واستحداث بعض الوظائف الإدارية، والعناية بديوان الإنشاء عناية فائقة وكان يقوم بمثل ما تقوم به وزارة الخارجية الآن، وأنفق عليه الأموال الطائلة، وبلغ من دقته أن أخبار الشام كانت تصله مرتين في الأسبوع، وصار على علم بما يدور في دولته المترامية دون بطء أو تراخٍ.

وأدخل بيبرس تعديلات على النظام القضائي في مصر، حيث عين أربعة قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، وأعاد الجامع الأزهر إلى ما كان عليه، وقام بترميمه وتعميره بعد الإهمال الذي لحقه في العصر الأيوبي.

وأقام بيبرس عددًا من المؤسسات التعليمية، فأنشأ المدرسة الظاهرية بالقاهرة سنة (660هـ = 1262م)، واستغرق بناؤها عامين، وجعل بها خزانة كتب كبيرة، وألحق بها مكتبًا لتعليم أيتام المسلمين القرآن، وأنشأ بدمشق مدرسة عرفت باسمه، وشرع في بنائها سنة (676هـ = 1277م)، ولا تزال هذه المدرسة قائمة في دمشق حتى الآن، وتضم مكتبة ضخمة تُعرف بالمكتبة الظاهرية.

وأنشأ في القاهرة جامعًا عظيمًا عرف باسم جامع الظاهر بيبرس سنة (665هـ = 1267م) ولا يزال قائمًا حتى اليوم، لكنه تعرض لإهمال شديد وبخاصة في فترة الاحتلال البريطاني لمصر، وكأن فتحه يثير في نفوس المصريين ذكرى البطولة والشجاعة التي كان عليها منشئ المسجد، فآثر الإنجليز السلامة وأغلقوا المسجد. وقد سُمي الحي الذي حوله بـ"حي الظاهر" نسبة إليه.

وأولى بيبرس عنايته بالزراعة فأنشأ مقاييس للنيل، وأقام الجسور، وحفر الترع، وأنشأ القناطر، واهتم بالصناعة وبخاصة ما يحتاج إليه الجيش من الملابس والآلات الحربية.

وامتدت يده إلى الحجاز، فأقام عدة إصلاحات بالحرم النبوي، وبنى بالمدينة مستشفى لأهلها، وجدد في الشام مسجد إبراهيم عليه السلام وقبة الصخرة وبيت المقدس.

ويذكر له أنه كان أول من جلس للمظالم من سلاطين المماليك، فأقام دار العدل سنة (661هـ = 1263م)، وخصص يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع يجلس فيهما للفصل في القضايا الكبيرة يحيط به قضاة المذاهب الأربعة، وكبار الموظفين.

وبعد حياة طويلة في الحكم دامت سبعة عشر عامًا توفي الظاهر بيبرس بعد أن تجاوز الخمسين في (28 من المحرم 676هـ = 2 من مايو 1277م) بعد أن أرسى دعائم دولة، وأقام حضارة ونظمًا، وخاض معارك كبرى للدفاع عن الإسلام، وتبوأ مكانة رفيعة في نفوس شعبه حتى نسج الخيال الشعبي سيرة عظيمة له عُرفت بسيرة الظاهر بيبرس جمعت بين الحقيقة والخيال، والواقع والأسطورة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-10-2010, 06:16 PM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

كشمير.. مأساة تغذيها الأطماع

(ذكرى حكومة كشمير: 19 من ذي القعدة 1366هـ)



تظل قضية كشمير العقبة الكئود في العلاقات الباكستانية ـ الهندية، والعامل الرئيسي في تفجير الصراع بين الدولتين الجارتين النوويتين، فهي قضية معقدة خلَّفها الاستعمار، وغذتها الأطماع الإقليمية، وكلما ازداد مرور الزمن عليها ازدادت تعقيدًا حتى ليخيل للدارس للعلاقات والتفاعلات السياسية في منطقة شبه القارة الهندية أن قضية كشمير تشبه إلى حد كبير مأساة فلسطين.

ولقضية كشمير على الساحة السياسية العالمية أهمية خاصة، حيث كانت سببا رئيسيا في توتر العلاقات بين الهند وباكستان، ووقعت بينهما اشتباكات حدودية، وما زالت الأزمة مشتعلة، والمخاوف والهواجس من حدوث مواجهة نووية ما زالت موجودة، أما حل القضية الكشميرية، وإنهاء تلك المأساة فما زال غائبًا، وهذا يدعونا إلى التعرف على جذور المشكلة.

جامو وكشمير

تتميز جامو وكشمير بجمال الطبيعية وسحرها، فهي مناطق جبلية غزيرة الأمطار تبلغ مساحتها حوالي (84471) ميلا مربعًا وتحدها الصين من الشرق والشمال الشرقي ، وباكستان من الغرب والجنوب الغربي، والهند من الجنوب، بالإضافة إلى اشتراكها في بعض الحدود مع روسيا في أفغانستان، وتوجد بها جبال قرقوم التي ترتفع أكثر من ثمانية آلاف متر، وجبال هيمالايا التي ترتفع أكثر من خمسة آلاف متر، وتمتد في الشمال الغربي منها جبال هندكوش، ونظرًا لجمال الطبيعة بها أُطلق عليها جنة الأرض، بل إن الإمبراطور المغولي "أكبر" قال عنها: "إنها جنة الأحلام.. ستكون حديقتي الخاصة"؛ لذلك بقيت كشمير هدفًا للغزاة من التتار والمقدونيين والمغول والهنود.

الإسلام

عرفت كشمير الإسلام في وقت متأخر عن غيرها من المناطق في شبة القارة الهندية، فبدأ دخول الإسلام إليها في القرن الخامس الهجري، عن طريق العلماء والدعاة من البلدان المجاورة، حيث حالت وعورة الطريق دون فتح السلطان محمود الغزنوي لها رغم أنه تغلب على كثير من أراضي الهند خلال فتوحاته.

وكانت البداية الحقيقية للوجود الإسلامي في كشمير في القرن الرابع عشر الميلادي عن طريق الداعية الشيخ "عبد الرحمن شرف الدين المعروف" بـ "بلبل شاه" الذي أمكنه إقناع إمبراطور كشمير "جياليورين تشان" البوذي من اعتناق الإسلام، فكان أول حاكم لكشمير ينضم إلى الإسلام مع جميع أسرته وأقربائه، وترتب على ذلك أن دخل في الإسلام أعداد كبيرة من الشعب، وتسمّى هذا الإمبراطور بصدر الدين، وصار المسلمون أغلبية في تلك المناطق، وأصبحت كشمير جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية في الهند على مدى قرنين من الزمان، ثم حكمها الولاة الذين كانوا يعينون من قبل حكومة أفغانستان.

بريطانيا وأمريتسار

استمر حكم المسلمين لكشمير حتى عام (1255 هـ= 1839م) عندما استطاعت شركة الهند الشرقية الاستعمارية البريطانية من الدخول إلى تلك المنطقة والاستيلاء عليها، وعقدت صفقة غريبة في التاريخ مع أسرة "الدواغرا" الهندوسية عرفت باسم اتفاقية "أمريتسار"، باعت فيها بريطانيا تلك الولاية إلى تلك الأسرة لمدة مائة عامة مقابل (7.5) ملايين روبية، أي ما يعادل مليون ونصف المليون دولار، وكان مدة هذه الاتفاقية تنتهي عام (1366هـ= 1946م)؛ لذلك كان المفكر الكبير العلامة "أبو الأعلى المودودي" يقول: "إن رجال السياسة البريطانيين هم الذين أوجدوا قضية كشمير".

وتولى حكم الولاية المهراجا الهندوكي "غولاب سينغ"، وكانت تلك المرة الأولى التي تدخل فيها أغلبية مسلمة تحت حكم أقلية غير مسلمة منذ دخول الإسلام إلى الهند، وظل المسلمون طوال قرن من الزمان يتعرضون لصنوف شتى من الاضطهاد والظلم، فلم يسمح لهم بتولي الوظائف المدنية أو العسكرية، وفُرضت عليهم الضرائب الباهظة وفرضت عليهم قيود شديدة في أداء العبادات.

ويذكر التاريخ أن ذبح الأبقار كانت عقوبته الإعدام، واستمر هذا القانون مفروضًا حتى خفف سنة (1353هـ= 1934م) إلى السجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة وحرم على المسلمين حمل السلاح، كما أن الهندوكي إذا أسلم صودرت أملاكه على عكس المسلم إذا ارتد فإنه يجد فرصة ذهبية لحياة رغدة، ويذكر التاريخ أنه خلال القرن الذي حكمت فيه أسرة الدواغرا كشمير تولت الحكم فيها (28) حكومة لم يكن فيها مسلم واحد.

عودة الوعي

وهكذا عاش 80% من الشعب المسلم مضطهدًا من قلة حاكمة لا تزيد على 20%، وكان لهذا الأمر أثر بالغ في إحساس المسلمين بالمرارة والظلم؛ فأدى ذلك إلى ظهور انتفاضات للمسلمين في تلك المناطق، والمعروف أن المسلمين والهندوس في القارة الهندية تحالفوا معًا في معركة الاستقلال عن بريطانيا رغم التنافر والتناقض الديني، وبرزت الدعوات بتشكيل دولة للمسلمين في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، وتأسست عام (1324هـ= 1906م) الجامعة الإسلامية التي أخذت تطالب باستقلال الهند بالتعاون مع حزب المؤتمر الهندي الذي كان يتزعمه غاندي، ومع التعصب الهندوسي بدأ حزب الجامعة الإسلامية يتبنى فكرة قيام دولة مستقلة منفصلة للمسلمين.

وفي كشمير اشتد اضطهاد الهنادكة للمسلمين، الذين اجتمعوا وأسسوا حزبًا عُرف باسم "المؤتمر الوطني الإسلامي" تحت زعامة محمد عبد الله، وضم الحزب بين صفوفه بعض الهندوس، وحضر جلسته الأولى سنة (1351هـ= 1932م) أربعون ألف شخص، غير أن هذا الحزب اعتبر فرعًا لحزب المؤتمر الهندي، وتم تشكيل حزب آخر عُرف باسم حزب "المؤتمر الإسلامي الكشميري" بزعامة "شودري غلام عباس"، الذي دعا من أول يوم عقد فيه اجتماع للحزب إلى إنقاذ كشمير من براثن المهراجا الهندوسي "هري سنغ"، وانضمامها إلى دولة باكستان (الأرض الطاهرة) عندما تنشأ.

ولما رأى الهندوس النجاح الذي حققه حزب المؤتمر الإسلامي والتجاوب الواسع له بين سكان الولاية، عملوا على تأسيس فروع لحزب المؤتمر الهندي في كشمير، وذلك بالتفاهم مع المهراجا "هري سينغ"، وذلك عام (1358هـ= 1939م)، وكان هدف هذا الحزب ضم الولاية إلى الهند.

كما عمل الهندوس على الوقيعة بين الحزبين الرئيسين للمسلمين، وهما: حزب المؤتمر الإسلامي، وحزب المؤتمر الوطني، وهو ما دفع الزعيم الكبير لمسلمي الهند ومؤسس دولة باكستان "محمد علي جناح" أن يقوم بزيارة لكشمير سنة (1363هـ= 1943م) لرأب الصدع بين هذين الحزبين والعمل على ضمهما معًا في حزب واحد كبير يشمل مسلمي كشمير، إلا أنه لم يتمكن من ذلك لرفض محمد عبد الله هذا الأمر، وكانت الحكومة الكشميرية تضطهد رجال حزب المؤتمر الإسلامي؛ فاعتقلت كثيرًا منهم، ورفضت نتائج الانتخابات التي أجريت عام (1347هـ= 1928م) في الولاية التي حصل فيها الحزب على أغلبية المقاعد، بل رفضت أوراق ترشيح أعضاء ذلك الحزب.

وفي عام (1365هـ= 1944م) قام المسلمون بثورة، وقاطع الحزبان الكبيران في الولاية المهراجا، فقبض على محمد عبد الله، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، فأرسل له الزعيم الهندي نهرو محاميًا ليدافع عنه.

التقسيم والمذابح

وبعد مرور قرن على اتفاقية "أمريتسار" التي باعت فيها بريطانيا ولاية كشمير، أصدر البرلمان البريطاني قانون استقلال الهند، والمعروف أن الهند كانت تتقسم إبان الاحتلال البريطاني لها إلى قسمين أساسيين هما الإمارات والأقاليم، وكانت الأقاليم تخضع للحكم المباشر من البريطانيين، وعندما صدر إعلان تقسيم الهند إلى دولتين إحداهما مسلمة والأخرى غير مسلمة في (27 من رمضان 1366هـ=14 من أغسطس 1947م) أصبح محمد علي جناح أول رئيس للدولة الإسلامية الجديدة التي حملت اسم باكستان.

وأعطى قرار التقسيم الإمارات الحرية في أن تظل مستقلة أو تختار الانضمام إلى الهند أو باكستان، مع مراعاة الوضع الجغرافي والعوامل الاقتصادية والإستراتيجية، ثم رغبات الشعب، غير أن تطبيق هذا الأمر في الواقع كانت له بعض الاستثناءات الخطيرة، فمثلا ولايتا حيدر آباد وجوناكاد الواقعتان بالقرب من باكستان، كانتا ذات أغلبية هندوسية وإن كان حاكماهما من المسلمين، إلا أن أخطر هذه الاستثناءات كان إقليم كشمير الذي كان يسكنه في ذلك الوقت أربعة ملايين نسمة غالبيتهم من المسلمين وحاكمهم هندوسي.

واتفق البريطانيون مع حزب المؤتمر الهندي على أن تضم كشمير للهند، وكان الهدف من وراء ذلك أن تصبح كشمير بؤرة الصراع المزمن بين الهند وباكستان، وبالتالي لن تصبح هناك دولة قوية كبرى في شبه القارة الهندية تشكل تحديًا للمصالح التجارية والإستراتيجية للإنجليز في المنطقة.

وشهدت كشمير قبل صدور قرار التقسيم حركة مقاومة عنيفة نظمها المسلمون ضد الممارسات الطائفية للحاكم الهندوسي، وقرر المؤتمر الإسلامي قبل صدور قرار التقسيم بأقل من شهر ضرورة الانضمام لباكستان، وقرر الشبان المسلمون أن يقوموا بحركة جهاد لتحرير الولاية وضمها إلى باكستان.

وأمام هذا الوضع وقع المهراجا اتفاقًا مع باكستان بأن يبقى الوضع على ما هو عليه مع التعاون بين الولاية وباكستان؛ وذلك لأن كشمير كانت تتبع قبل التقسيم السلطات المحلية الموجودة في مدينة لاهور التي انضمت إلى باكستان، وبذلك أصبحت باكستان مسؤولة عن الدفاع عن كشمير وعن شؤونها الخارجية باعتبارها جزءًا منها، وفي نفس الوقت ألَّف المهراجا عصابات وسمح لعصابات إرهابية هندوكية تسمى "آر. سي. سي" و"الجان سينغ" و"الهندو مهاسابها" بممارسة عمليات إرهابية بشعة ضد المسلمين قتل خلالها عشرات الآلاف من المسلمين.

فقامت مظاهرات عنيفة من جانب المسلمين بقيادة "جودري حميد الله خان" في (19 شوال 1366هـ= 5 سبتمبر 1947م) ردًا على هذه الاعتداءات؛ فتصدت لها الشرطة بالرصاص؛ فسقط كثير من القتلى، وهم يطالبون بالانضمام إلى باكستان.

مؤتمر الفلاحين

وفي (1 من ذي القعدة 1366هـ= 16 من سبتمبر 1947م) عُقد مؤتمر الفلاحين الكشميريين، وطالب بانضمام الولاية إلى باكستان، لكن المهراجا رفض هذا الطلب، وقام بتوزيع الأسلحة على الهنادكة؛ فسارع رجال القبائل من باكستان لنجدة إخوانهم الكشميريين، ولما رأى محمد عبد الله الذي أفرج عنه المهراجا تأزم الأوضاع خشي من انفلات الأمور فأعلن وقوفه بجانب المهراجا، وتسلم رئاسة الحكومة وقتل يومها من المسلمين حوالي (62) ألفًا، وفي هذه الأثناء فر المهراجا سنغ إلى الهند، واستقر في دلهي العاصمة تاركًا كشمير تغرق في بحار الدماء.

واستطاع المسلمون الكشميريون تحرير جزء من الولاية، وقام المجاهد محمد إبراهيم (19 من ذي القعدة 1366هـ= 4 أكتوبر 1947م) بتشكيل حكومة كشمير الحرة "آزاد كشمير"، وتأليف الجيش الكشميري الذي استطاع أن يسيطر على كثير من المناطق ويقيم حكومة، وعندما وجد المهراجا أن الأمور خرجت عن سيطرته وقدرته أراد أن يضرب ضربته الأخيرة ضد المسلمين الكشميريين، فعقد مع الهند أثناء وجوده في دلهي اتفاقية في (12 من ذي الحجة= 27 من أكتوبر] تتضمن انضمام الولاية إلى الهند ورغم أن هذه الاتفاقية المجحفة لا يوافق عليها أغلبية الشعب، وتتناقض مع اتفاقيته السابقة مع باكستان، بالإضافة إلى عدم تمتعه بالشرعية لانتهاء المائة عام من الحماية التي نصت عليها اتفاقية أمريتسار لأسرته، فإنه أعلن انضمامه للهند لتبدأ فصول مأساة جديدة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-10-2010, 06:17 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

مأساة جديدة

وعندما حققت قوات الثوار المسلمين انتصارات في كشمير، واقتربت من مدينة سرينجار عاصمة الإقليم، أرسلت الهند قواتها المحملة جوًا لوقف تقدم الكشميريين، وكان برفقة هذه القوات المهراجا، ووقعت اشتباكات بين الجانبين، وأكد الزعيم الهندي نهرو في برقية بعث بها إلى حكومة باكستان أن الهند تتعهد بسحب قواتها العسكرية من كشمير بعد عودة السلام إليها، وتعهد أن يترك لمواطنيها الحرية في حق تقرير المصير.

وأعنت الحكومة المؤيدة للمهراجا في كشمير أن من يرغب في الهجرة إلى باكستان فسوف تسهل له الحكومة الهجرة وتقدم له المساعدة، وأن على راغبي الهجرة أن يجتمعوا في مكان واحد، فظن الكشميريون أن الحكومة جادة في إعلانها، فاحتشد المسلمون فأُطلقت عليهم النيران بكثافة وسقط آلاف القتلى، وهتكت أعراض آلاف الشابات الكشميريات، ومن ضمنهن ابنة شودري غلام عباس مؤسس حركة تحرير كشمير، وصدرت الأوامر إلى الجيش الباكستاني للمشاركة في المعارك ضد الجيش الهندي.

وعندما تطور الأمر إلى احتمال حدوث صراع مسلح بين الدولتين رفعت الهند القضية إلى الأمم المتحدة التي تدخلت واتخذت قرارًا بوقف إطلاق النار في (1369 هـ = 1949م]، وأن يتم إجراء استفتاء حر في الإقليم تحت إشراف الأمم المتحدة، وانتشرت قوات حفظ السلام على جانبي خط وقف إطلاق النار، ولم تنفذ بقية البنود، واستمرت هذه القوات حتى عام (1392هـ = 1972م) عندما طالبت الهند بانسحابها فانسحبت من الجانب الهندي.

وأصبح الجزء الشمالي من كشمير يخضع لسيطرة باكستان، ويعرف باسم "آزاد كشمير"، أما باقي كشمير فتحت السيطرة الهندية، ويشمل ثلثي الإقليم، وأكثر من 60% من السكان غالبيتهم من المسلمين، ومنذ ذلك الوقت لم تهدأ حركات المقاومة والجهاد الكشميري ضد الاحتلال الهندي، وأصبحت تلك القضية موضوعًا لقرارات عديدة من الأمم المتحدة، جرى تجاهلها جميعًا، خاصة قرار سنة (1369هـ 1949م) الذي تتمسك به باكستان، وينص على إجراء استفتاء حر في الإقليم تحت إشراف الأمم المتحدة.

أما الهند فقد رفضت كافة المقترحات التي تقدم بها وسطاء الأمم المتحدة، وتبنت موقفًا مؤداه أن كشمير انضمت إلى الهند برغبتها، وأن الحل الوحيد المقبول لحل القضية هو انسحاب القوات الباكستانية منها، وعندما رفع الأمر إلى مجلس الأمن عام (1377هـ=1957م) وجدت الهند نفسها في عزلة دولية حتى من حلفائها؛ فأصرت على رفض أي دور للأمم المتحدة في تسوية المشكلة؛ لأنها تمثل مشكلة داخلية ليس للمنظمة الدولية اختصاص بها، ثم أعلنت في عام (1383هـ = 1963م) أن جامو وكشمير ولاية هندية مع وضعية تتساوى فيها مع غيرها من الولايات الهندية، وأن هذا الضم نهائي.

وبدأت الهند في مخطط مدروس لتغيير الطبيعة السكانية في الإقليم، فدفعت بموجات كبيرة من الهندوس خاصة ممن خدموا في الجيش الهندي إلى الاستقرار في الإقليم ومنحتهم الوظائف المختلفة، وأغلقت مئات المدارس الإسلامية، وصادرت كثيرًا من الممتلكات، وأغلقت (200) معهد إسلامي، وغيّرت المناهج نحو التعليم الهندوسي، وبدأت في عمليات قمع رهيبة ضد المسلمين، وكان نتيجة هذه الإجراءات الهندية العنيفة نشوب صدامات مسلحة بين باكستان والهند بسبب القضية الكشميرية، أبرزها الحرب الثانية بين البلدين عام (1385هـ=1965م)، وقامت حركات الجهاد الكشميرية التي تدعمها باكستان.

وما زالت القضية الكشميرية تتمتع بتأثير كبير في السياسة الداخلية في الهند وباكستان، وتشكل قيدًا قويًّا على صانع القرار في الدولتين، وما زالت عاملاً مفجرًا للصراع بين الدولتين.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 29-10-2010, 10:23 AM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ابن النفيس.. الكاشف والمكشوف

(بمناسبة ذكرى وفاته: 21 من ذي القعدة 687هـ)



لم يأخذ الطبيب العربي "علاء الدين بن النفيس" حقه من الذيوع والشهرة مثل غيره من أطباء المسلمين النابهين، حتى جاء "محيي الدين التطاوي" وهو طبيب مصري كان يدرس في ألمانيا، فكشف عن جهود ابن النفيس في أطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه سنة (1343هـ = 1924) بعنوان: "الدموية الرئوية وفقًا للقرشي". وكان هذا الطبيب النابه قد اطّلع على المخطوطات العربية بمكتبة برلين، فعثر على مخطوطة لابن النفيس بعنوان: "شرح تشريح القانون" أي قانون ابن سينا، فعني بدراسة المخطوطة جيدًا، وبصاحبها، وكتب رسالته العلمية وقدمها لجامعة "فرايبورج" بألمانيا.

غير أن أساتذته والمشرفين على الرسالة أصابتهم الدهشة حين اطلعوا على ما فيها، ولم يصدقوا ما كتبه عن ثقة ويقين، فأرسلوا نسخة من الرسالة إلى الدكتور "مايرهوف" الطبيب المستشرق الألماني الذي كان إذ ذاك بالقاهرة، وطلبوا رأيه فيما كتبه هذا الباحث النابه، فلما قرأ الرسالة أيّد ما فيها، وأبلغ حقيقة ما كشفه من جهود ابن النفيس إلى المؤرخ "جورج سارتون" فنشر هذه الحقيقة في آخر جزء من كتابه المعروف "تاريخ العلم"، ثم بادر مايرهوف إلى البحث عن مخطوطات أخرى لابن النفيس وعن تراجم له، ونشر نتيجة بحوثه في عدة مقالات، ومنذ ذلك الحين بدأ الاهتمام بهذا العالم الكبير وإعادة اكتشافه.

ويعد علاء الدين واحدا من أعظم الأطباء الذين ظهروا على امتداد تاريخ الطب العربي الإسلامي، مثل أبي بكر الرازي، وابن سينا، والزهراوي. وهو صاحب كتاب "الشامل في الصناعة الطبية"، وهو أضخم موسوعة طبية يكتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني.

حياة ابن النفيس


في قرية "قَرْش" بالقرب من دمشق ولد "علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي" سنة (607هـ = 1210م) وبدأ تعليمه مثل غيره من المتعلمين؛ فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. وقرأ شيئًا من النحو واللغة والفقه والحديث، قبل أن ينصرف إلى دراسة الطب التي اتجه إليها سنة (629هـ = 1231م) وهو في الثانية والعشرين من عمره بعد أزمة صحية ألمّت به. ويقول هو عنها: "قد عرض لنا حميات مختلفة، وكانت سنّنا في ذلك الزمان قريبة من اثنتين وعشرين سنة. ومن حين عوفينا من تلك المرضة حَمَلنا سوء ظننا بأولئك الأطباء (الذين عالجوه) على الاشتغال بصناعة الطب لننفع بها الناس".

وتذكر المصادر التاريخية أنه تعلم قبل ذلك التاريخ على "المهذب الدّخوار" أحد كبار الأطباء في التاريخ الإسلامي، ودرس عليه الطب، وكان رئيسا للأطباء في عصره ويعمل في البيمارستان النوري بدمشق، وتوفي سنة (628هـ = 1230م).

وكانت دمشق في تلك الفترة تحت حكم الأيوبيين الذين كان يعنون بالعلم عامة وبالطب خاصة عناية كبيرة، وجعلوا من دمشق حاضرة للعلوم والفنون، وكانت تضم فيما تضم مكتبة عظيمة تحوي نفائس الكتب، وبيمارستانا عظيما أنشأه نور الدين محمود، واجتذب أمهر أطباء العصر، توافدوا عليه من كل مكان. وفي هذا المعهد العتيد درس ابن النفيس الطب على يد الدخوار، وعمران الإسرائيلي المتوفى سنة (637هـ = 1239م)؛ وكان طبيبًا فذًا وصفه "ابن أبي أصيبعة" الذي زامل ابن النفيس في التلمذة والتدريب على يديه بقوله: "وقد عالج أمراضا كثيرة مزمنة كان أصحابها قد سئموا الحياة، ويئس الأطباء من برئهم، فبرئوا على يديه بأدوية غريبة يصفها أو معالجات بديعة يعرفها".

في القاهرة

وفي سنة (633هـ = 1236م) نزح ابن النفيس إلى القاهرة، والتحق بالبيمارستان الناصري، واستطاع بجدّه واجتهاده أن يصير رئيسًا له، وعميدا للمدرسة الطبية الملتحقة به، ثم انتقل بعد ذلك بسنوات إلى "بيمارستان قلاوون" على إثر اكتمال إنشائه سنة (680هـ = 1281م).

وعاش في القاهرة في بحبوحة من العيش في دار أنيقة، وكان له مجلس يتردد عليه العلماء والأعيان وطلاب العلم يطرحون مسائل الطب والفقه والأدب. ووصفه معاصروه بأنه كان كريم النفس، حسن الخلق، صريح الرأي، متدينًا على المذهب الشافعي؛ ولذلك أفرد له السبكي ترجمة في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" باعتباره فقيهًا شافعيًا. وأوقف قبل وفاته كل ما يملكه من مال وعقار على البيمارستان المنصوري.

ابن النفيس والدورة الدموية

اقترن اسم ابن النفيس باكتشافه الدورة الدموية الصغرى التي سجلها في كتابه "شرح تشريح القانون"، غير أن هذه الحقيقة ظلت مختفية قرونًا طويلة، ونسبت وهمًا إلى الطبيب الإنجليزي "هارفي" المتوفى سنة (1068هـ = 1657م) الذي بحث في دورة الدم بعد ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف من وفاة ابن النفيس. وظل الناس يتداولون هذا الوهم حتى أبان عن الحقيقة الدكتور محيي الدين التطاوي في رسالته العلمية.

وكان الطبيب الإيطالي "ألباجو" قد ترجم في سنة (954هـ= 1547م) أقسامًا من كتاب ابن النفيس "شرح تشريح القانون" إلى اللاتينية، وهذا الطبيب أقام ما يقرب من ثلاثين عاما في "الرها" وأتقن اللغة العربية لينقل منها إلى اللاتينية. وكان القسم المتعلق بالدورة الدموية في الرئة ضمن ما ترجمه من أقسام الكتاب، غير أن هذه الترجمة فُقدت، واتفق أن عالما إسبانيًا ليس من رجال الطب كان يدعى "سيرفيتوس" كان يدرس في جامعة باريس اطلع على ما ترجمه "ألباجو" من كتاب ابن النفيس. ونظرًا لاتهام سيرفيتوس في عقيدته، فقد طرد من الجامعة، وتشرد بين المدن، وانتهى به الحال إلى الإعدام حرقًا هو وأكثر كتبه في سنة (1065هـ = 1553م) على أن من عدل الأقدار أن بقيت بعض كتبه دون حرق، كان من بينها ما نقله عن ترجمة ألباجو عن ابن النفيس فيما يخص الدورة الدموية، واعتقد الباحثون أن فضل اكتشافها يعود إلى هذا العالم الإسباني ومن بعده هارفي حتى سنة (1343 = 1924م) حين صحح الطبيب المصري هذا الوهم، وأعاد الحق إلى صاحبه.

وقد أثار ما كتبه الطبيب التطاوي اهتمام الباحثين، وفي مقدمتهم "مايرهوف" المستشرق الألماني الذي كتب في أحد بحوثه عن ابن النفيس: "إن ما أذهلني هو مشابهة، لا بل مماثلة بعض الجمل الأساسية في كلمات سيرفيتوس لأقوال ابن النفيس التي تُرجمت ترجمة حرفية". ولما اطلع "الدوميلي" على المتنين قال: "إن لابن النفيس وصفا للدوران الصغير تطابق كلماته كلمات سيرفيتوس تمامًا، وهكذا فمن الحق الصريح أن يعزى كشف الدوران الرئيس إلى ابن النفيس لا إلى سيرفيتوس أو هارفي".

غير أن اكتشاف الدورة الدموية الصغرى هي واحدة من إسهاماته العديدة فالرجل حسب ما تحدثنا البحوث الجديدة التي كتبت عنه قد اكتشف الدورتين الصغر والكبرى للدورة الدموية، ووضع نظرية باهرة في الإبصار والرؤية،وكشف العديد م الحقائق التشريحي، وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره، وقدم للعلم قواعد للبحث العلمي وتصورات للمنهج العلمي التجريبي.

مؤلفات ابن النفيس


لابن النفيس مؤلفات كثيرة نشر بعضها وما يزال بعضها الآخر حبيس رفوف المخطوطات لم ير النور بعد، من هذه المؤلفات:

- شرح فصول أبقراط، وطبع في بيروت بتحقيق ماهر عبد القادر ويوسف زيدان سنة (1409هـ = 1988م).

- والمهذب في الكحل المجرب، ونشر بتحقيق ظافر الوفائي ومحمد رواس قلعة جي في الرباط سنة (1407هـ = 1986م).

- الموجز في الطب، ونشر عدة مرات، منها مرة بتحقيق عبد المنعم محمد عمر في القاهرة سنة (1406هـ = 1985)، وسبقتها نشرة ماكس مايرهوف ويوسف شاخت ضمن منشورات أكسفورد سنة(1388هـ = 1968م).

- والمختصر في أصول علم الحديث، ونشر بتحقيق يوسف زيدان بالقاهرة سنة (1412هـ = 1991م).

- شرح تشريح القانون، ونشر بتحقيق الدكتور سلمان قطابة بالقاهرة سنة (1408هـ= 1988م) وهو من أهم كتب، وتبرز قيمته في وصفه للدورة الدموية الصغرى، واكتشافه أن عضلات القلب تتغذى من الأوعية المبثوثة في داخلها لا من الدم الموجود في جوفه. ويظهر في الكتاب ثقة ابن النفيس في علمه؛ حيث نقض كلام أعظم طبيبين عرفهما العرب في ذلك الوقت، وهما: جالينوس، وابن سينا.

-غير أن أعظم مؤلفاته تتمثل في موسوعته الكبيرة المعروفة بـ"الشامل في الصناعة الطبية". وقد نهضت إليها همة الدكتور يوسف زيدان في مصر ونجح في جمع أجزاء الكتاب المخطوطة. وتطلع المجمع الثقافي في أبو ظبي إلى هذا العمل، فأخذ على عاتقه نشره محققا، فخرج إلى النور أول أجزاء هذا العمل في سنة (1422هـ = 2001م)، وينتظر توالي خروج الكتاب في أجزاء متتابعة.

وكان ابن النفيس قد وضع مسودات موسوعته في ثلاثمائة مجلد، بيّض منها ثمانين، وهي تمثل صياغة علمية للجهود العلمية للمسلمين في الطب والصيدلة لخمسة قرون من العمل المتواصل. وقد وضعها ابن النفيس لتكون نبراسًا ودليلاً لمن يشتغل بالعلوم الطبية.

وفاته

كان ابن النفيس إلى جانب نبوغه في الطب فيلسوفًا وعالمًا بالتاريخ وفقيها ولغويًا له مؤلفات في اللغة والنحو، حتى كان ابن النحاس العالم اللغوي المعروف لا يرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو غير كلام ابن النفيس، وكان يقضي معظم وقته في عمله أو في التأليف والتصنيف أو تعليم طلابه.

وفي أيامه الأخيرة بعدما بلغ الثمانين مرض ستة أيام مرضًا شديدًا، وحاول الأطباء أن يعالجوه بالخمر فدفعها عن فمه وهو يقاسي عذاب المرض قائلا: "لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيء من الخمر"، ولم يطل به المرض؛ فقد توفي في سَحَر يوم الجمعة الموافق (21 من ذي القعدة 687هـ = 17 من ديسمبر 1288م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 4 (0 عضو و 4 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .