ومن الممكن أن يتمرد الطفل، أن يرفض عمل أي شيء، ويصبح عدوانيًا، يفعل ضد كل ما يقولونه له، ويصبح عنيفًا جدًا، (عايزيني أذاكر، لأ مش هذاكر، عايزيني أنجح، لأ مش هنجح، عايزيني أبقى أخلاقي كويسة، لأ همشي مع أسوأ ناس واعمل كل اللي انتوا بتكرهوه)، لأن هناك صراع إرادات، إما أن أكسب أنا أو أنتم، وطالما لدي شيء أستطيع عمله، فسأقوم به، وسنرى في النهاية من سيكسب .. وتكون رحلة صراع مؤلمة وضارة للطرفين ويتراكم فيها مشاعر سلبية عند الطفل تجاه الأبوين، وعند الأبوين تجاه الطفل، ويدخل الجميع في أزمة، لا يستطيعون الخروج منها، إلا لو دخل طرف ثالث، يفك هذا الاشتباك، ويبدأ في إخراج هذه المشاعر السلبية التي تراكمت ومشاعر الصراع والعداء التي تكونت نتيجة لإصرار كل طرف على إلغاء إرادة الطرف الآخر .
وهناك أمثلة عظيمة جدًا من سلوك بعض الأنبياء في هذه المسألة لأن بعض الناس يظنون أحيانًا أن واجبهم الديني أن يحموا أولادهم من الخطأ, وهذا صحيح، قال تعالى: " ياأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا قُوْا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيْكُمْ نَارًَا وَقُوْدُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة" التحريم(6)، لابد من توعية الابن للشيء الذي يمكن أن يؤدي لهلاكه في الدنيا وفي الآخرة، وهذه وظيفة الأب بسبب خوفه على الابن، ولأنه أغلى شيء بالنسبة له, ووظيفة الأم أيضًا . لكن سنقول أن ما علينا هو هداية التبليغ، لكن هداية الفعل نترك أمرها لله سبحانه وتعالى، وندعو أن يوفق الله الابن لها، لأننا لا نملكها . فأنت أيها المربى تقوم بعمل ما عليك لكن في النهاية ستحترم إرادة الابن أو البنت واختيارهما، حتى لو كان هذا ضد اختيارك أو عكسه، الكثير من الناس لن يحتمل هذه الفكرة وسيدخلون في صراع مع الأبناء، سنعطي مثلاً لاثنين من الأنبياء الكرام
:
الأول: نوح عليه السلام، وابنه، نوح جهز السفينة، ويعرف بمجيء الطوفان، فنادى لابنه، ولم يكن ابنه على نفس الطريق، فقال: "يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الكَافِرِيْن" هود(42)، وهذه كانت إرادة نوح عليه السلام، ورؤيته، بناءً على خبرته ومعرفته والوحي الذي ينزل عليه، وهو نبي، ويخاف على ابنه، لكن تظهر إرادة الابن ورؤيته واختياره : "سَآوِيْ إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِيْ مِنَ الْمَاء"هود(43) ، فرد الأب : "لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ الله"هود(43)، اليوم مختلف عن كل الأيام السابقة، هذا خطر مختلف تمامًا، ربما كان من الممكن السماح في الاختيار قديمًا، لكن اختيار اليوم مهلك في الدنيا وفي الآخرة، ستموت على الكفر، ومع صعوبة الموقف، نوح يرى ابنه سيموت بعد لحظات على الكفر، يصر الابن على أن يأخذ هذا الموقف الرافض لموقف الأب، وكان متوقعًا أن سيدنا نوح لو كان يفكر مثلنا، لكان بإمكانه أن يرسل له أتباعه ليحضروه إلى السفينة بالقوة، لكن هذا لم يحدث، سيدنا نوح أدى البلاغ، وهو يعرف أن هداية الفعل بيد الله سبحانه وتعالى، ونجا الأب بما رأى وهلك الابن بما رأى وفعل , لكن الله خلق الإنسان بهذه الإرادة ولحكمته أراد لها أن تعمل، وكان هذا مثلاً في العصيان .
سنأخذ مثلاً آخر في الطاعة، ونرى أنه أيضًا في حالة الطاعة لا تلغى الإرادة عند الطفل أو عند الابن .
سيدنا إبراهيم، عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، وهو يعرف أن رؤيا الأنبياء حق، وأنها واجبة التنفيذ، المتوقع - حسب ما نفهم- أن أمر الله لابد من أن ينفذ، ويذبحه فورًا، لكن سيدنا إبراهيم لم يفعل هذا احترامًا لإرادة ابنه إسماعيل فذهب إليه بمنتهى المودة والرحمة والعطف: "يا بُنَيَّ إِنِّيْ أَرَى فِيْ الْمَنَامِ أَنِّيْ أّذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى"الصافات(102)، نرى كيف قال له سيدنا إبراهيم: "يَا بُنَيَّ"، و"إِنِّيْ أَرَى فِيْ الْمَنَامِ"، لأنه لو كان قال له إن الأمر من الله مباشرة، لما كان من الممكن أن يختار، لكنه أعطى فرصة لإسماعيل ليقول رأيه، مثلاً، هذا منام ويمكن تأجيله أو التفكير فيه، فانظر ماذا ترى؟، مع أن سيدنا إبراهيم يعرف أنه لا رأي هنالك، هذا أمر إلهي، يقول سيدنا إسماعيل عليه السلام: "يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِيْ إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الْصَابِرِيْن" الصافات(102)، هنا اختار وكان له فضل الاختيار يثاب عليه، ولم يذبحه مباشرة بدون اختيار، حتى لا يكون قد ذبح غدرًا، دون إرادة، ولكن ترك له فضل الاختيار.
وهذا درس يعلمنا أن الطفل له إرادة وأننا كآباء وأمهات ليست وظيفتنا أن نلغي هذه الإرادة عند الطفل، ولكن أن نوجه و نهذب، أن نقول ونبلغ ونوضح ونبين، لكن في النهاية، سنسلم، لأن هذا الطفل له إرادة وأن الله شاء بحكمته أن تكون هذه الإرادة موجودة .